الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوسطية، والدِّين يُسر
!
إنَّ مِن أعجَب ما يَستدل به الْمُعارِضُون للهَجْرِ هو أنَّ الدِّين وَسَطٌ ويُسْر، وكأنَّ الوَسَطَ واليُسْر غير الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، وغير الذي أوْصى بالتمسُّكِ به.
وقد كتبتُ قديماً في هذا الموضوع ما سَوف أضيفه هنا لأهَمِّيتِهِ (1):
فتأمل الآن الوَسَط ما هُوَ وانظُرْ فهومَ الْمُتبعين أهواءَهم، قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (2)؛ (أُمَّةً وَسَطًا) أيْ عُدُولاً كمَا فَسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والمطلوب هنا أنْ نُبيِّن أنَّ كثيراً من الناس إذا رأى أو سَمِع شيئاً من الدِّين مخالفاً لعادته وهواه، ولو كان حقاً أنكره بقوله:" الدين وسط "، أو قال:" خير الأمور أوسَاطها "(3)،
(1) أنظر كتابنا: «الوعيد على أهل الغلو والتشديد» ، ص (19 - 29).
(2)
سورة البقرة، آية:143.
(3)
أخرج البيهقي في «الشُّعَب» برقم (6601)، وابن سَعد في «طبقاته» (7/ 142)، وابن عساكر في «تاريخه» (58/ 304) عن مُطرِّف بن الشخير رحمه الله أنه قال:(خَير الأموُرِ أوسَاطها)؛ وقد نسَبه أبو نُعَيم في «الْحِلية» (2/ 286) لأبي قلابة رحمه الله؛ ولا تصح نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللفائدة أنظر:«كشف الخفاء» للعجلوني (1/ 469) ورقم (1247).
فالجاهل إذا سَمِعَه ظنَّ ذلك مُنكَراً بِحُجَّة أنَّ الدِّين وسَط، فيرمي الْمُتدين بكل بَلِيَّة لأنه تاركٌ للوَسَطِ زائدٌ عليه بِزَعْمِهِ.
والكلام في هذا أنَّ هؤلاء يقولون ألفاظاً مُجْمَلة لَا تدل على مقصودهم الذي هو الطعن على الْمُتدين والتشنيع عليه.
فَيُقَال: نَعَم، إنَّ الدِّينَ وسَط، وخير الأمور أوساطها، ولا ننازع في ذلك فنحن نقوله ونأمر به، ونعوذ بالله أن نُجادل عمَّن غَلَا في الدين وتعدى الوسَط، لكن الشأن في هذا الوسَط ما هو؟!؛ هل هو ما يقتضيه العقل أوْ ما عليه أهل الزمان؟!.
فالدِّينُ الوَسَط وخير الأموُرِ هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهو فِعْل مَا أمرَ به واجْتِنَاب ما نَهَى عنه؛ فهذا هو الوسَط وهو الذي أُمِرْنَا بِهِ بِلَا زيادةٍ ولا نُقْصَان.
أمَّا إذا زَعَمْتَ أنَّ الوَسَط هو مَا تَهْواه نفْسُك، وما تعوَّدْتَه أنتَ وأهلُ وقتك، فأنتَ مُشَرِّعٌ في الدِّين ما لَم يأذَن به الله!، كذلك فأنتَ قَادِحٌ بِمَا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومَن تَبِعَهم بإحسَانٍ حيثُ لَمْ يكُن دِينهم وَسَطًا - كمَا تزْعُم - وإِنَّما جِئْتَ أنتَ تُبين للناسِ الوَسَط!، فَهَذا مِن جِنْسِ الضَّلال بتجديدِ الدِّين والخطابِ الدِّيني - وقد تقدَّم بيانُ ذلك وللهِ الحمْد -.
وَلَمَّا قِيلَ لِوَاحِدٍ من هؤلاء الْمُفَرِّطِين - وكان يَقُصُّ لِحْيَتَه وَيَدَع منها شيئاً قليلاً -: " هذا لا يَحِلُّ لك " قال: " خير الأمور أوسَاطها "!،
فانظُرْ كيف يَحتج؟!، فقد أتى بكلام حق، لكن مُرَاده باطل، فهو رأى حالِقَ لِحْيَته ومُعْفِيها فأخذ طريقاً متوسِّطاً بينهما - أيْ مُتَوسِّطاً بين توفير شَعْر اللحية كله وبين إزالته كله - وقال له شيطانه:" هذا خير الأمور، وهو الوسَط "!، فَصَار فِعْلُ المأمور وهو إعفاء اللِّحْية ليس هو الوَسَط!.
فهذا وَزَنَ أمورَ الشَّرع بِعَقله القاصر وفهمه الخاسر!، ولو أقرَّ بمعصيته ولَم يستدل بهذا الكلام لكان خيراً له، لأنَّ معناه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ومَن أطاعه فِي توفير لِحْيَتِه ليسُوا على خير الأمور الذي هو أوساطها، ولو كان ميزان الشَّرع هكذا بعقول الناس لضاع الدِّين!.
وَيُقَال لِهَذا الأحْمَقِ: إنَّ إنساناً رأى مَن لا يَصُوم " رَمَضانَ " كُلَّه، ورأى مَن يصومَه كلَّه، فصَام هو نِصْفه فقط وقال:" خير الأمور أوساطها " فماذا تقول؟!؛ سيقول: " هذا لَا يَجُوز " فيقال له: ولِمَ؟!؛ فسيقول: " لِأنَّ الرسولَ أمرَ بِصِيَام شهرِ رمضانَ كلِّه "؛ فيقال له: وكذلك اللحية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعفائِهَا كُلِّها، وليس خير الأمور وأوساطها ما تَخَيَّلته، بل خير الأمور وأوساطها هو إعفاؤك لِحْيَتَك كُلَّها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل وبه يأمر، كذلك الشأن في صيام رمضان فخير الأمور أوساطها بصيامهِ كلِّه.
ذلك لأنَّ ما كانَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما أمر به هو خير الأمور وأوساطها، فمَا زادَ عن ذلك فهو غُلُوٌّ، وَمَا نَقَص عنه فهو تَفْرِيطٌ!؛ فهذا هو الميزان الضَّابط لِهَذه الأمور وغيرها وليس عقلك وهواك!.
ولذلك فقد تبين أنَّ لفظَ الغلوِّ والتشديد، وكذلك الوسَط ونحو ذلك مِمَّا يقوله الْمُبْطِلُون ويقصُدون به دفعَ الْحَقِّ وردَّه والتلبيس على الجهلة له قيودٌ وموازين خِلَاف ما يَهْوَوْن.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ولكن كثير من الناس يزعم أنَّ لِظَاهر الآية معنى إمَّا معنى يعتقده، وإمَّا معنىً باطلاً فيحتاج إلَى تأويله، ويكون ما قاله باطِلاً لا تدل الآية على معتقده، ولا على المعنى الباطل، وهذا كثير جِدًّا!) انتهى (1).
كذلك فإنَّ هؤلاء يبحثون عن آيةٍ أو حديثٍ يَرَدُّونَ بذلك الحقَّ ويصدون به الخلْقَ وَيُوهِمُون أنَّ ذلك يَدُل على مُرَادِهِم وليس كذلك:
وَقُلْ لِلْعُيُونِ العُمْيِ لِلشَّمْسِ أعْيُنٌ
…
سِوَاكِ تَرَاهَا فِي مَغِيبٍ وَمَطْلَعِ
وَسَامِحْ نُفُوساً أطْفَأَ اللَّهُ نُورَهَا
…
بِأَهْوَائِهَا لَا تَسْتَفِيقُ وَلَا تَعِي!
فالواجِبُ رَدُّ مَا يَتَكَلَّم الناس فيه إلَى الكِتَابِ والسُّنَّةِ، لأنَّ هذا
(1)«مجموع الفتاوى» ، (17/ 401).
هو الأصل، وهو الْمِيزَانُ لِمَعرفَةِ الْحَقِّ والبَاطل.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فالواجب أنْ يُجعل ما أنزلَ الله من الكتاب والحكمة أصْلاً في جَمِيعِ هذه الأمور، ثم يُردُّ ما تكلم فيه الناس إلى ذلك، ويُبيِّن ما في الألفاظ المجملة من المعاني الْمُوَافقةِ للكتاب والسُّنَّةِ فَتُقْبَل، وما فيها من المعانِي المخالفة للكتاب والسُّنَّة فتُرَدُّ) انتهى (1).
وهكذا فَعَلْنا - وللهِ الْحَمْد - على مقتضى هذا الكلام الذي قاله شيخ الإسلام رحمه الله، أمَّا الظَّن واتباع الهوى فإنه لا يغني من الحق شيئاً!.
ومن ذلك أيضاً احتجاج أهل الباطِل بأنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وليس مرادهم ما أراد الله ورسوله بذلك، وإنَّمَا يَحْتَجُّون بهذا على ما يَرتكبونَ من الْمُحَرَّمَاتِ ويتركونه من الواجبات، فإذَا أنكر عليهم مُنْكِرٌ قالوا:" الدِّين يُسْر "!.
فَيُقَال لَهُمْ: صحيحٌ أنَّ الدينَ يُسْر، فقد أباح الله لك أكلَ الْمَيْتَةِ إنْ خِفْتَ على نَفْسِك الهلاكَ، وكذلك إذا لَم تَجِد الماءَ للطهارةِ فقد أباح الله لك التيمُّمَ، وإذا لَم تستطع أنْ تُصَلِّي قائماً فعَلَى حَسَبِ استطاعتك تُصَلِّي؛ بل أعظم من هذا كلِّه فقد أباح الله لك أن تقولَ كَلِمَةَ الكُفْر بِشَرط اطمئنان قَلْبِك بالإِيِمَان إذا خِفْتَ على نَفْسِك
(1)«مجموع الفتاوى» ، (17/ 306).
الهلاكَ!؛ فهذا من اليسْرِ - والحمد لله على تيسيره.
وبالْجُملة فالدِّين كلُّه يُسْر حتى الذي جعلته أنتَ عُسْراً هو يُسْر، ولكنَّك لَمْ تَعْرِفه على حقيقته - كما سيتَّضِح ذلك إن شاء الله تعالى -.
ثم يُقال: ماذا تريد بالدِّين الذي هو يُسْر؟!، فهل هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله، أم تريد به دينَ الناس على حسَبِ أهوائهم وأزمانهم؟!.
فإنْ قال: " أقصد الدِّينَ الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله ".
فيقال له: أتريد باليسْر أنه يُجَاري الناسَ ورغباتهم وانحرافاتهم بحيث إذا اعترضَ طريقَهُم أمْرٌ مُنْكَر في الدِّين قالوا: " الدِّين يُسْر " وفعلوا ما شاءوا؟!، فهذا خِلَاف الدِّينِ الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حذَّرنا صلى الله عليه وسلم من التغيير والتبديل والزيادة والنقص عما كان عليه، وأدلة ذلك أكثر من أنْ تُحْصَر، وهي معروفةٌ مَشهورةٌ.
وإنْ قال: " أقصد الدِّينَ الذي عليه الناس "، يُبيَّن لَه - كمَا تَقَدَّم - أنه ليس لنا أنْ نُغيِّر في الدين لأجل أهواء الناس، وليس الدين الحق إذا أُطلق هو ما عليه الناس في كل زمَان، بل هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
والعجيب أنَّ مُدَّعي العُسْر والشِّدَّة للأمر الذي يخالف هواه من الدين هو الذي وقع في العُسْر والتشديد من حيث لا يَشْعر، وهذا
من آيات الله الدَّالَّةِ على رحمته بعباده وإحسانه إليهم وعلى الثواب والعقاب، فقد ذَكَر أهلُ العلمِ أنَّ الذنوبَ والمعاصي يَجِد لَهَا الإنسان لذَّة، وهذا مَحْسُوس، وَيَصِفُون ذلك بلذَّةِ حَكِّ الْجَرَبِ ونحوه، وأكلُ الجائعِ الطعامَ الشهيَّ المسْمُوم (1).
فتأمَّلْ عاقبةَ ذلك، فَحَكُّ الْجَرَبِ ونحوه فيه لَذَّة، ولولَا إحساس المصاب به بلذته لَمَا فَعَلَهُ، غير أنَّ الألَمَ يتضاعف ويزيد وإنْ سَكَن في تلك الساعة، أمَّا الطعام المسموم فعاقبةُ أكْلِهِ ظَاهِرَة مع أنه شَهِيٌّ لذيذ.
وقد يقول بعض الناس: " أنَا لَا أجِد هذه الآثار الْمُترتبة على الذُّنوب ".
فيقال له: هذه الآثار السَّيئة الْمُؤْلِمَة موجودة، ولكن غَرَقَكَ في لذَّاتك وشهواتك يُواريها عنك، وإلَاّ فهي موجودة وتعمل عَمَلَها، وإنْ شِئْتَ أنْ تعرف بعضَ ذلك فانظر عندما تفقِدْ مَا تَعَلَّقَه قلبك من هواك مِمَّا هو غير مُرْضٍ لربِّك فَسَتَعْرِف ما كُنتَ فيه!، أمَّا إذا تركته من خَوفِ اللهِ فالله عز وجل أكرم مِن أنْ يُعَذِّب قلبك به، بل يُبْدِلَك بذلك سُروراً وَفَرَحاً؛ فيعَوِّضَك بِخَيرٍ مِمَّا تَرَكْتَه مِن أجْلِهِ.
وأعظم ما تَظْهَرُ هذهِ الآلامُ عِندَ مُفَارقة الْحَيَاةِ، وما بعد ذلك
(1) أنظر للفائدة: «مجموع الفتاوى» (1/ 24)، و «طريق الهجرتين» ص (100؛ 106)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 30).
حينما يفارق الإنسان شهواته وملذَّاتِه، ويستقبل عقوبات ذلك وتبعاته، قال تعالى:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} (1).
وعليه، فَقد تبيَّن أن الذي يَفِرُّ مِمَّا زَعم أنه عُسْر وشدَّة قَد وقَع فيما لَا يَخْطُرُ على بَالِهِ من الشِّدة والعُسْر، وكُلٌّ بِحَسَبِهِ.
وَإِنَّمَا يتضِحُ ذلك بِمَعرفة الأمر والنهي الشرعي، هل هو مُجَرَّد تكليفٍ، أم أنه رَحْمَةٌ وإحسانٌ، وموافقته لروح الإنسانِ وَقلْبِهِ أعظم مِنْ موافقةِ الأغذية الطَّيِّبَةِ لِبَدَنِهِ؟!.
فمَن أراد معرفةَ هذا فلينظر في " الجزء الثاني " مِن «مفتاح دار السعادة» و «مدارج السالكين» ، ومواضع كثيرة من كتب ابن القيِّم رحمه الله حيث يبيِّن فيها هذا الأصل العظيم أحسَن بيانٍ، وهو أنَّ سَعادةَ الإنسانِ في الدنيا - وقبل الآخرة - وسُروره وانشراح صَدره هو بالتزامِ مَا أمرَ الله به واجتناب ما نَهَى عنه، كما قال في معنى قوله تعالى:{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (2) أنه في الدنيا وفي البرزخ ويوم القيامة (3)؛ فهذا النعيم في الدنيا إنما حصل لَهم لِمُوافقة طاعة ربِّهم ورسوله لقلوبهم خِلَاف ما يَظُنُّ الْمُنحَرِفوُنَ أنه عُسْرٌ وتشديد وَيَدْعُونَ إِلَى مَا يُسمُّونه بالاعتدال - أيْ مُجَاراة كل حادثة بإلباسها لباس الدين لتصير غصبًا: «إسلامية» -!.
(1) سورة سبأ، من الآية:54.
(2)
سورة الانفطار، آية:13.
(3)
أنظر: «مدارج السالكين» ، (1/ 423).
وقد وَصَف ابنُ القيم رحمه الله محبةَ العبدِ لربه: أنها للقلْبِ مثل النور الباصِرِ للعَين (1)، فالعين إذا فقَدَت هذا النورَ تألَّمَت، وهذا تَمْثيل وإلَاّ فإنَّ الأمرَ أجلُّ من ذلك وأعظم، لأن القلب إنَِّما خُلِقَ لِهَذه الْمَحبة، فإذا فَقَدَهَا فهو مُعَذَّبٌ!.
وإذا فَهِمْنَا هذا كَمَا يَنبغي اتضحَ لنا فَهْمُ العُسْرِ واليسْرِ في الدِّين وأنه كما في المثل: " على نفْسِها تَجْنِي بَراقش "!.
كذلك يتضح لنا فَهْمُ اليسْرِ وأنه ما جاء به الرَّسُول صلى الله عليه وسلم دون تغيير ولَا زِيادةٍ ولا نُقصَانٍ، وذلك في كلِّ زمَانٍ ومَكَانٍ.
وَلَمَّا ثَقُلَ على أكثر الناس الهجْرُ الديني والتغليظ على العُصَاةِ لأنَّ الجميعَ وَقَعَ في المخَالَفَات، فَمُقِلٌّ وَمُسْتكْثِرٌ لَجَئُوا إلى حِيَلٍ يَحتالونها على هذا الأمر العظيم لِيضْعِفُوه ويُوهِنوا جَانِبَه، بَل وليبلطوه بالكلية، فأحياناً يَنْسبون الغِلْظَةَ على العُصَاةِ لِلْغُلُوِّ والتشديد، وأحيانا لِطَبِيعَةِ الشخص ومزاجه وجهله، كذلك يستدلون بأدِلَّةٍ ليس لهم فيها حجة، ولا تدل على مقصودهم، ولَا تخدم أغراضَهُم مثل قِصَّةِ الأعرابِي الذي بَالَ في المسجد (2)، أو قِصَّة الصَّحَابِي الذي تكلَّم في الصلاة (3)، أو اليهودي الذي زاره
(1) أنظر: «مدارج السالكين» ، (1/ 92).
(2)
أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5679)، ومسلم في «صحيحه» برقم (284) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (931)، وابن خزيمة في «صحيحه» برقم (859) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.
النبي صلى الله عليه وسلم (1)، وأمثال ذلك يستدِلُّونَ به على إبطالِ الغضَبِ لله تعالى، والتغليظ على العصاة المخالفين لأمر الله عز وجل.
وَيَتنَاَسون ويتجاهلون غَضَبَ النبي صلى الله عليه وسلم إذا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ الله وأنه لَا يقومُ لِغَضَبِه شَيءٌ (2)، وكذلك هَجْرَهُ لبعض أصحابه مثل الثلاثة الذين تَخَلَّفُوا عن غزوةِ تَبوُك (3)، وهجْرَه بعضَ زَوْجَاتِهِ (4)، وَتَلَوُّنُ وَجْهِهِ وَغَضَبه لَمَّا رأى السِّترَ الذي فيه الصُّوَر (5)؛ وغير
(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (1290) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (مَا ضَرَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قَطُّ بِيَدِهِ ولَا امْرَأة ولا خادِماً إلَاّ أنْ يُجَاهد في سبيل الله، ومَا نِيلَ منه شيءٌ قَطُّ فَينْتَقِمُ من صَاحبِهِ إلَاّ أنْ يُنتَهَك شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ فينتقم لِلَّهِ عز وجل) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (6461)، ومسلم برقم (2328) واللفظ له.
(3)
وقد تقدمت الإشارة لذلك مرات عِدَّة في هذا الكتاب، وقصة هجره صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وهم (كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع العمري رضي الله عنهم) قصة مشهورة معروفة أخرجها البخاري في «صحيحه» برقم (4156) ومسلم في «صحيحه» برقم (2769) وغيرهم.
(4)
كَهَجْره مَثَلاً لزوجته " زينب بنت جحش " رضي الله عنها حينما نالت من زوجته الأخرى " صفية بن حُيَيٍّ " رضي الله عنها، وقد أخرج ذلك أبو داود في «سننه» برقم (4602)، وأحمد في «مسنده» برقم (25046)، والطبراني في «المعجم الأوسط» برقم (2609)؛ وقال الهيثمي في «مُجمع الزوائد» (4/ 323):(رواه أبو داود باختصار، ورواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه " سُمَيَّة " روى لَهَا أبو داود وغيره، ولَم يَجرحها أحد، وبقية رجاله ثقات) انتهى.
(5)
كما في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دَخَل عَلَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة، فتلوَّن وجهه ثم تناول السِّتر فهتكَه ثم قال:(إنَّ مِن أشدِّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بِخَلق الله) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5758) ومسلم برقم (2107).
ذلك مِمَّا هو مِثله لَا يَذكُرونه ولَا يَعتبرون بِهِ لأنه يُخَالِفُ الْهَوى!.
وَحتَّى هذا الذي يَحتجون به على عدم التغليظِ على العُصَاة وعدم الْهَجْر لَا يدل على مُرادهم، فالأعرابي الذي بال في المسجد ولم يُغلِّظ عليه النبي صلى الله عليه وسلم كان لَا يَعرف المسجد ولَا الصَّلاة حتى يُنتهَر ويُغلَّظ عليه، كذلك قد يتضرر بانتهارِه وَيُلَوِّث مساحةً أكبر من المسجد، فَحَسُنَ هنا الرفقُ به، ولتأليفه على الإسلام - أيضاً - لأنَّ الإسلام في أوله، فهو لا يعرف للمسجد حُرْمَة ولَا فَرْقَ عنده بينه وبين معاطن الإبل!، لكن لو فعل هذا الفعل أحد اليوم هل يُعَامَل بِمِثْل هذا الذي عامله به النبي صلى الله عليه وسلم؟!؛ هذا قياس فاسِد لأنه لا يَخفى على أحدٍ ما للمسجد من الْحُرْمَة والتطهير والتنْزِيه عمَّا هو دون ذلك وأنَّ مِثل هذا الفعل عظيم بخلاف حال ذلك الأعرابي للأسباب التي ذَكَرْنا، ومَن يفعل كفِعلَتِهِ فإنه يُتْرك حتى يَفْرغ لئلا يُلَوِّث مكاناً أكبر من المسجد، ثُمَّ يُردَع وَيُغلَّظ عليه وَيُعَزَّر، وهل يفعل هذا اليوم إلَاّ مُجْرم أو مجنون!؛ وهل ذلك إلَاّ تسهيلاً لانتهاك محارم الله وفتح أبواب الاستهانة بها بحجة أنَّ أعرابياً بال في مسجد رسول الله ولَمْ يُغَلَّظ عليه، وهل الاحتجاج بذلك إلَاّ تَمييعاً للدين وتهويناً لشأنه!.
أمَا أوْحى الله إلى يوشع بن نون أني مُهْلِك من قومك أربعينَ ألْفاً من خِيَارِهم وَسِتِّين ألفاً من شِرَارِهم، فقال:" يا رَبُّ؛ هؤلاء الأشرَار، فمَا بالُ الأخيَار؟! "، قال:(إنَّهُمْ لَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي، وَكَانوُا يُواكِلُونَهُمْ وَيُشَارِبُونَهُمْ)؟! (1).
فالْمَطلوبُ أنْ نُفَرِّق بين أول الإسلام وَخَفَاء أحكامه على كثير من الناس، وكذلك تأليفهم على الإسلام وبين اليوم، ولأنَّ مَن لا يدري ليس كمَن يدري، فالْمُخَالفات اليوم تُرتكب على عِلْمٍ وبإصْرار!؛ ويُوضح ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَزَل إماماً لأجل بُصَاقِهِ في القِبْلة وقال لأهل المسجد:(لَا تُصَلُّوا خَلْفَهُ)، فَجاء إلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله .. أنتَ نَهَيتهم أنْ يُصَلُّوا خَلْفي؟!؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نَعَمْ، إِنكَ قَدْ آذَيْتَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ!)(2).
فانظُرْ كيف غَلَّظ عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنواعٍ من التغليظِ الشديد، فإنه عَزَله عن الإمامة، ونَهَى أهلَ المسجدِ أنْ يُصلُّوا خَلْفَه، وأعظم من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(نَعَمْ إِنكَ قَدْ آذَيْتَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ!)؛ وهذا كله
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» برقم (75).
(2)
أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (481)، وابن حبان في «صحيحه» برقم (1636)؛ وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 162):(إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربَهما)، وقال العراقي في «طرح التثريب» (2/ 381):(إسناده جيِّد).
لأجْلِ بُصاقٍ فِي جِهَةِ القِبلة (1)!؛ لكن أهل وقتنا لا يُرِيدون مثل هذا لأنه لا يُناسبهم، ونحن ليس لنا أنْ نُغَيِّر الدِّينَ على مُقتضى الأهواءِ والآراءِ والأزمان، كذلك نَعُوذُ باللهِ أنْ ندعو إلى الشِّدَّةِ، ونلتمس الأدلةَ التي تدل على ذلك لنَشُد بِها ما نقول؛ فنكون نحن ومَن يَسْتدلون على التساهل كَطَرَفَيْ نقيض، بل مُرادنا الحق وأن نبيِّن فسادَ دعاويهم الباطلة وفسادَ استدلالهم بالأدلة التي يُوهِمُون أنَّهَا تُسَاعِدُهم؛ فَلِلْغِلْظَةِ مَقامٌ لا يَصلح فيه اللين، كذلك اللِّين له مقامٌ لا تصلح فيه الغِلْظَة، ومَن دَعَا إلى أحدهما وتَرَك الآخرَ فَهُوَ مُبْطِلٌ.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ذاتَ مرَّةٍ على ظَهْرِ دَابته، وأمَرَ مَن معه أنْ يُصلوا على ظهور دوابهم فوثَب رَجُلٌ عن ظهر دابته فصَلَّى على الأرض فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(مُخَالِفٌ خَالَفَ اللَّهُ بِهِ) فلم يَمُتْ حتى ارتدَّ عن الإسلام (2)؛ فتأمَّل هذا التغليظَ مع أنَّ الرَّجُلَ فَعَلَ فِعْلَا مَشروعاً لكنه في غير موضعه وَأَوَانِه مع مُخالفته نَبيه وهو برأيه هذا يريد الْمُبالَغة بالتعبُّد فَصَار مُخَالَفَةً عظيمةً في هذا الموضِعِ والوقتِ، ونحن لا نَخَافُ مِن شَيء وكأنَّ النجاةَ مضمونةٌ لَنا!.
(1) كيف لو رأى صلى الله عليه وسلم ما يُدخل في المساجد اليوم من ميكرفونات وصور وآلات تصوير وجوالات، حتى أن الموسيقى تعزف بالجوال في المسجد وأحيانًا تعزف وهم يصلون فيسمع مزامير الشيطان كل المصلين!، وهذه واللهِ فِتَنٌ وعظائم!.
(2)
أورده شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» ، (25/ 276).
كذلك رَفْعُ البصَرِ في الصلاة، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(مَا بَالُ أقوامٍ يَرْفَعُونَ أبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاتِهِمْ) فاشْتَدَّ قوله في ذلك حتى قال: (لينتَهُنَّ عَنْ ذلك أوْ لَتُخْطَفَنَّ أبصَارُهُمْ)(1).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ أَوْ لا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ)(2)؛ هذا إخلال في الصلاة، وهو في نظر كثير من الناس يسير!، ولكنْ تأمَّل التغليظ، فمَا بَالك بِمَنْ لَا يُصَلِّي بالكُلِّية؟!.
فَمِن اتباع الْهَوى وإفساد الدين أنْ ينظر الإنسان من جانب ويدع الجانب الآخر، بل يتهجَّم على مَن عَمِل بِمُقتضاه وَيَصِفُه بأشنع الأوصاف، ويحتجون أيضاً على التساهل بالصَّحَابِي الذي تكلَّم بالصلاة (3).
فالصَّحابي الذي تكلم في الصلاة هو كذلك لا يدري أنه لا يَحِل الكلام فيها، لأنهم كانوا يتكلَّمُون فيها في أول الأمر حتى نُهُوا عن
(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (717) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ومسلم برقم (482) من حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (650)، ومسلم برقم (427) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (931)، وابن خزيمة في «صحيحه» برقم (859) من حديث معاوية بن الْحَكَمٍ السلمي رضي الله عنه.
ذلك ولَمْ يَبلُغْه النهي، فَحَسُنَ تعليمه برِفْق، فلو تكلم اليوم إنسان في الصلاة، هل يكون مثل هذا، فلا ينتهر ولا يغلظ عليه؟ فلابد من معرفة تباين الأحوال لتغاير صور مثل هذه الأحكام.
أما اليهودي الذي زاره النبي صلى الله عليه وسلم (1)، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاءَ إليه يَدْعُوه إلى الإسلام، ومن استدل بِهَذا على مداهنة العصاة ومجالستهم وموادَّتِهم فَضْلاً عن الكفار فقد قال أعظم الفرية على الدين، وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان اليهودي في النَّزْع، فدعاه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسْلَم، وكان هذا عمله صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين وأهل الكتاب، ويدعوهم إلى الله تعالى، وليس هو يُوَادهم ويأنس بِمُجَالَسَتِهم!؛ هذا لا يقوله مُسلم، كيف وقد أنزل الله تعالى عليه:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2).
وَلِمُفْتَرٍ أنْ يقول: " إنَّ مُوسَى زَارَ فِرعَون " - لَمَّا ذَهب إليه يدعوه إِلى رَبِّه - فهي مِثْل ذَهاب النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي ودَعْوَتِه إلى الله تعالى!.
(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (1290) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
سورة المجادلة، آية:22.
وإنَّ أمر الناس في هذا الزمان عجيبٌ! حيث إنَّ كلَّ أحدٍ من المتميعين يذكر بول الأعرابي في الْمَسْجِد!، وكلٌّ منهم يذكر زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي!، هكذا يسمونها زيارة، ولا يَذكرُونَ الداعي لذلك، فهم يفهمون فُهُوماً تتناسب مع انحرافهم!، بل يُكيِّفُون أفهامَهُم على ذلك!، ولا يُطيقون البغضَ في الله والمعاداةَ فيه، فيذكرون هذه القصص دفعاً للحقِّ، لأنهم هم بأنفسهم مستحقين من الْمَلامة بقدر انحرافهم؛ هذا هو السِّرُّ!، ولذلك يُحاولون إبعادَ هذا الجانب من الدِّين وَثَلْب مَن عَمِل به!.
ولو أرَدْنَا أنْ نذكُرَ كلامَ النبي صلى الله عليه وسلم وكلامَ الصحابةِ والعلماء بعدهم وأفعالهم مع الكفار والعصاة من المسلمين من البغض والهجر لَطَال الْمَقام!، وذلك - ولله الحمد - مشهور ومعروف ولكنهم يتعامَوْنَ عنه!، فالله المستعان.
ولتعلم أنه مُفْتَرٍ وَكَاذِب مَن جَعَل التغليظ والهجر إنَّمَا يَحصُل نتيجة الجهل بالدِّين أو لاختلاف طبائع الناس وأمزجتهم.
نعَم، إذَا ثَبَتَ أنَّ أحداً يَزيد في البغْضِ عَن الحدِّ الشرعي مِثْل أنْ يهجر المسلمُ أخاه المسلم فوق ثلاث هَجْراً غير دِينِيٍّ كأنْ يكون بينه وبينه شيء مِمَّا يكون بين الناس؛ فهذا مَنْهِيٌّ عنه لأنَّ هذا في أمور خاصة ودنيوية ليست حقاً لله تعالَى، وقد تقدَّمَ بَيَانُ ذلك، وهو المقصود بنهي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بقوله: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ
فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) (1).
والحقيقةُ أنَّ زمَانَنَا هذا زمان المداهنة والمصانعة والْمُلَاينة، والسبب كما يُقال:(افْتَضَحُوا فَاصْطَلَحُوا)!.
وقد قال ابن القيم رحمه الله: (وليس الدِّين مجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله، وأكثر الدَّينين لا يعبئون منها إلَاّ بِمَا شَارَكَهُم فيه عمومُ الناس.
وأما الْجِهَاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن الْمُنكَر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونُصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ فهذه الواجبات لا تَخْطُر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها وفضلاً عن أن يفعلوها.
وأقل الناس دِيناً وأمقتهم عند الله مَن تَرَك هذه الواجبات وإنْ زَهِد في الدنيا جميعِهَا!؛ وقَلَّ أنْ ترى منهم مَن يَحمَرَّ وجهه ويُمَعِّره لله ويغضب لِحُرُماته ويبذل عرضه في نَصْرِ دِينه، وأصحاب الكبائر أحسَن حالاً عند الله مِن هؤلاء!) انتهى (2).
انظر قوله: (يَحْمَر وَجْهه ويتمعر في الله ويغضب لحرماته)؛ فهذا عند أكثر أهل وقتنا تشنُّجاً وَمَرضاً نفسِيًّا!؛
(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5727)، ومسلم برقم (2560) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
(2)
«عدة الصابرين» ، ص (121).
{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (1).
قال الشيخُ حمد بن عتيق بعد أنْ ذَكَر كلامَ ابن القيم هذا؛ قال رحمه الله: (فلو قُدِّر أنَّ رَجُلاً يصوم النهار، ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلِّها، وهو مع هذا لا يغضب لله، ولا يتمَعَرُّ وجهُه ولا يحمرُّ، فلا يَأمر بالمعروف، ولَا ينهى عن المنكَر؛ فهذا الرَّجُل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم دِيناً، وأصحابُ الكبائر أحسن عند الله منه!).
ثم قال الشيخ حَمَد رحمه الله: (وقد حدَّثني مَن لَا أتَّهِم عن شيخ الإسلام - إمام المسلمين وَمُجَدِّد القرن الثاني عشر - «محمد بن عبد الوهاب» رحمه الله أنه قال مَرَّةً: [أرى أُناساً يَجْلِسُون في المساجد على مصاحفهم يقرؤون ويبكون فإذا رأوْا المعروف لَمْ يأمروا به وإذا رأوْا المنكر لَم يَنْهَوْا عنه، وأشوف أناساً يعكُفُون عِندهم يقولون: " هؤلاء لِحَىً غَوَانمِ " وأنا أقول: إنهم لِحَى فَوَايِن]؛ فقال السَّامِع: " أنا ما أقدر أقول: إنهم لِحَى فواين " (2)، فقال الشيخ:[إنهم من الصُّمِّ البُكْم]؛ ويشهد لِهَذا ما جاء عن بعض السَّلفِ أنَّ الساكت عن الحقِّ شيطان أخرس والمتكلم بالباطل شيطان ناطق) إلى آخره (3).
(1) سورة الأنبياء، من الآية:112.
(2)
(فواين): كلمة عامية، وتعني: الذلة والْهَوان والخسران.
(3)
أنظر: «الدرر السنية» (8/ 77)، و «التحذير عن السفر إلى بلاد المشركين» ص (13 - 14).
تأمَّلْ كلامَ ابن القيم الْمُتقدِّم، وأيضاً كلام الشيخ حمد بن عتيق، ثم كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله أجمعين - لِتَعلم قدْرَ ما نحن فيه من الإدبار عن الدِّين!.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ومن عُرِفَ منه التظاهر بترك الواجبات، أو فِعْل المحرمات، فإنه يستحق أنْ يُهجر، ولَا يُسَلَّم عليه تعزيرًا له على ذلك حتى يتوب!) انتهى (1).
وَلَمَّا تَرك غالب الْخَلْق اليوم هذا الجانب العظيم من الدِّين، وَدَخَلوا مداخلَ لَا تُرضي الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، استخدمهم الشيطان في مقاومةِ ذلك، ودَفْعِه وإبطاله وتهجين مَن تَمَسَّك به على حَسَبِه، وَرَمْيه بالْجَهَالة والضلالة والشِّدَّة وغير ذلك!، فالله المستعان.
وحتى أقاربِ الإنسان وَرَحِمِه إذا كانوا كُفاراً أو فُجَّاراً - أيْ مسلمين عُصَاة -، فإنه يُقيم أمرَ الله عليهم من البغْضِ والْهَجْر، وقد تقدَّم بيانُ ذلك ولله الحمدُ والْمِنَّة.
فتأمَّل كلامَ أهلِ العِلْم الصادقينَ وخُذْ به، {ولا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} (2)، واحذَرْ كلَّ الْحَذَر مِمَّن يتكلَّم في الدِّين برأيه
(1)«مجموع الفتاوى» ، (23/ 252).
(2)
سورة الروم، من الآية:60.
وهواه فإنه فتنةٌ لكل مفتون!، وما أكثرهم في هذا الزمانِ الدجَّالِي!.
ولَا تَعْجَبْ من معاداةِ الناس لأهلِ الْحَقِّ، وتنفيرهم عنهم، وتشنيعهم عليهم؛ فقد قال ابنُ القيم رحمه الله:(ولَا يذوقُ العبدُ حلاوةَ الإِيِمان، وطَعْمَ الصِّدق واليقين حتى تَخْرُج الجاهليةُ كُلُّها مِن قَلبه، واللهِ لو تَحَقَّق الناسُ في هذا الزمانِ ذلك مِن قَلْبِ رَجُلٍ لَرَمَوْه عن قوس واحدة، وقالوا " مُبْتَدِع، وَمِن دُعَاة البِدَع "، فإلى الله المشتكى، وهو المسئول الصبر والثبات فلَابُدَّ مِن لقائه؛ {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} (1)، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (2)) انتهى (3).
تأمَّل قسَمَ «ابن القيم» في زَمَانِه وعلى أيِّ شيءٍ أقسَمَ رحمه الله!.
والحقيقةُ أنَّ (المعروفَ) عند أكثرَ أهلِ وَقْتِنَا هو ما تعارف عليه أمثالهم من الناس وَقَبِلُوه، و (الْمُنكَر) هو مَا أنكروه وردوه.
وأمَّا الميزانُ الشرعي الدِّيني فالذي يلتفتُ إليه منهم لا يقبله إلَاّ مِمَّن يُقلِّدهم من الْمُحرِّفين له على مقتضى الأهواء!، فالله المستعان.
(1) سورة طه، الآية:61.
(2)
سورة الشعراء، الآية:227.
(3)
«مدارج السالكين» ، (2/ 370).