المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقصود بالهجر إنَّ في الْهَجْر صيانة للمُسلم من التعرض لِمَا يُفسد - إمعان النظر في مشروعية البغض والهجر

[عبد الكريم الحميد]

الفصل: ‌ ‌المقصود بالهجر إنَّ في الْهَجْر صيانة للمُسلم من التعرض لِمَا يُفسد

‌المقصود بالهجر

إنَّ في الْهَجْر صيانة للمُسلم من التعرض لِمَا يُفسد عليه قلبه وعمله.

كما أنَّ فيه إشعار وتنبيه الواقع بالمعصية لعله يُفَكِّر فيتوب.

كذلك فهو حُكْمٌ شرعي بِمَنزلة التعزير، وهو إنكارٌ للمنكَر، وغَضَبٌ لله، وَبُغْضٌ للعاصي ومعصيته، وعقوبةٌ شرعية.

فالقصد بالهجر بيان الحق وهداية الخلق، وصيانة عزة المؤمن عما يشوب إيمانه من دنس العصاة ومعاصيهم مع إظهار البغض للعاصي وإنكار معصيته.

كذلك فإنه بالقيام بأمر الله يندفع البلاء بإذن الله عن المسلمين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مَا مِنْ قَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مَنْ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ مِنْهُ وَأَمْنَعُ لَمْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ إِلَاّ أَصَابَهُمْ اللَّهُ عز وجل مِنْهُ بِعِقَابٍ) أخرجه الإمام أحمد (1)، وفي لفظِ أبي داود (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي يَقْدِرُونَ عَلَى

(1) في «مسنده» برقم (19236) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه؛ وإسناده حسَن.

(2)

حيث أخرجه في «سننه» برقم (4339) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه؛ وإسناده حسَن، وصححه ابن حبان حيث أخرجه في «صحيحه» برقم (300).

ص: 37

أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فَلَا يُغَيِّرُوا إِلَاّ أَصَابَهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمُوتُوا)، فالهجر إنكارٌ وإشعار.

قال ابن الجوزي: (وحُدِّثْتُ عن أبي بكر الخلال عن المروذي عن محمد بن سهل البخاري، قال: كنا عند الفِرْيابي فجعل يذكر أهل البدع فقال له رجل: لو حدَّثتنا كان أعجب إلينا؛ فغضب وقال: «كلامي في أهل البدع أحب إلَيَّ من عبادة ستين سنة») انتهى (1).

وقال ابنُ عبد البَرِّ رحمه الله: (وَرُبَّ صَرْمٍ جَمِيلٍ خير مِن مُخَالطة مُؤْذِيَة)(2).

وكان عمَّار بن يَاسِر رضي الله عنه يقول: (مُصَارمة جميلة أحبّ إلَيَّ من مودَّة على دَغَل)(3).

فالهجْرُ مع أنه دليل بغض ونُفرة فهو نصح للمهجور لِيُشْعِر بحاله بخلاف المداهنة فإنها غِش.

جاء ابْنٌ لِسليمان بنِ عبد الْمَلِكِ بن مروان فجلس إِلَى جَنْبِ طَاووس اليمَانِي فلَم يلتفت إليه، فقيل له: جَلَسَ إليك ابنُ أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه!؛ فقال: (أرَدْتُّ أنْ يَعلم أنَّ لِلَّهِ عِبَاداً

(1)«تلبيس إبليس» ، ص (24).

(2)

أنظر: «الاستذكار» (8/ 290)، و «التمهيد» (6/ 127)، وكلاهما لابن عبد البر؛ ومعنى (صرْم) أيْ: هَجْر.

(3)

«فيض القدير» للمناوي، (1/ 531)؛ ومعنى (دغَل) أيْ: خِدَاع وَغِش.

ص: 38

يزهَدُون فِيمَا فِي يَدَيْهِ!) انتهى (1).

أنظر ما فعل طاووس رحمه الله مع ابن الخليفة، وهذا واللهِ غاية النصح الذي يَعُدُّهُ كثيرون من أهل وقتنا تنفيراً فهو يقول:(أرَدْتُّ أنْ يَعلم أنَّ لِلَّهِ عِبَاداً يزهَدُون فِيمَا فِي يَدَيْهِ!) أيْ ليرجع إلى نفسه ويتفَكَّر في الدنيا وغرورها وأنها ليسَتْ بِشَيءٍ فلا تغرُّهُ كَمَا غَرَّت غيره.

وَمِمَّا يُوضح ذلك قول الإمام أحمد رحمه الله: (إذا عَلِمَ مِنْ رَجُل أنه مُقيم على معصيتهِ وهو يعلم بذلك لَم يأثَمْ إنْ هو جفاه حتى يرجع، وإلَاّ كيف يتبين للرجل ما هو عليه إذا لَم يَرَ مُنكِراًَ عليه ولا جَفْوَة من صَدِيق!) انتهى (2).

فهذا إمام أهل السنة يقول: (وإلَاّ كيف يتبين للرجل ما هو عليه) وكثيرون اليوم يَرمون فاعلَ ذلك بالعظائم!، فتأمَّل نُصْحَ السلف وغرورَ الْخَلَف!.

ومن المقصود بالهجر أيضاً رجوع المهجور عمَّا هو عليه، فقد سُئل الإمام أحمد عن رَجُلٍ مبتَدِع داعية يدعو إلى بدعة .. أيُجَالَس؟!، فقال:(لَا يُجالَس ولا يُكلَّم لعلَّه أنْ يَرْجِع)(3).

(1)«حلية الأولياء» (4/ 16)، و «تهذيب الكمال» (13/ 372).

(2)

أنظر: «غِذاء الألباب» ، (1/ 220).

(3)

«مسائل الإمام أحمد» برواية ابن هانئ النيسابوري، (2/ 153).

ص: 39

والهجر تعزيرٌ، قال ابنُ فرحون:(والتعزير لا يختص بفِعل مُعَيَّنٍ ولَا قول مُعَيَّن، فقدْ عَزَّرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالهجر، وذلك في الثلاثة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم، فَهُجِروا خمسين يوماً لا يُكَلِّمُهم أحدٌ وَقِصَّتهم مشهورة في الصِّحَاح) انتهى (1).

ص: 40