الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهجر فوق ثلاث
تقدَّمَ قول النووي أنَّ النهي عن الْهُجْرَانِ فوقَ ثَلَاث أنه في أموُرٍ دنيوية غير الدِّين، وهو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)(1).
وقدْ قال ابن عبد البَرِّ رحمه الله: (وأجْمَع العلماءُ على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث إلَاّ أن يكون يَخاف من مُكالمته وصلته ما يُفسد عليه دينه أو يولد به على نفْسِه مَضَرَّة في دينه أو دنياه فإن كان ذلك فقد رُخِّصَ له في مُجَانبته وَبُعْدِهِ) انتهى (2).
قال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله: (وبعضُ أهلِ الجهل الْمُرَكَّب يُنْكرون على مَن يهجر أهل البدع والفسوق والعصيان ويكفهرّ في وجوههم ويعدُّون ذلك من الْهَجر الذي نَهَى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «لَا تَهْجُرُوا» (3) وقوله: «لا يَحل لِمُسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث لَيَالٍ» (4).
(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5727)، ومسلم برقم (2560) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
(2)
«التمهيد» ، (6/ 127).
(3)
أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (2563) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.
(4)
أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5726) و (5727)، ومسلم في «صحيحه» برقم (2559) و (2560)؛ وَكِلَاهما من حديث أنس بن مالك وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهم مرفوعاً.
وقد سَمِعْتُ هذا من بعض الخطباء والقُصَّاص والحامل لهم على التسوية بين الْهَجْر الديني وهو ما كان لله وبين الهجر الدنيوي وهو ما كان لحظ النفس لا يخلو من أمرين:
- إمَّا لِجَهْلٍ بالفرقِ بين هَذَا وهذَا.
- وإمَّا قصد لَبْس الحق بالباطل عناداً ومكابرة وتَمْويهاً على الأغبياء الذين لا علم لهم بمدارك الأحكام، وهذا الأخير هو الظاهر من حال المتلبسين منهم ببعض المعاصي ليدفعوا عن أنفسهم الشنْعة، وَلِيُوهِمُوا الجهال أن هجرهم إياهم من أجل المعصية لا يجوز، وأن الذين يهجرونهم من طلبة العلم وغيرهم ليسوا مصيبين.
فَيُقَال لِهَؤُلَاءِ المذبذبين المدَلِّسين: إنَّ الذي جاءت الأحاديث بالنهي عنه فيما زاد على الثلاث هو التهاجر الدنيوي) ثم قال: (وقد جاءت السنة بهجر أهل المعاصي حتى يتوبوا كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه خمسين يومًا ولم يكلمهم حتى تاب الله عليهم (1).
وهَجَر صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها قريباً من شهرين لَمَّا قالت: (أنا أُعْطِي تِلْكَ اليَهُودِيَّة؟!) - تعني: «صَفِيَّة»
(1) سبَقَت الإشارة إلى أن حديث قصة «كَعْب» رضي الله عنه أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
رضي الله عنها - (1).
وهجَر صلى الله عليه وسلم الذي بنى فوق الحاجة حتى هدم بناه وسوَّاه بالأرض.
وهجَر صلى الله عليه وسلم رجلاً رآه مُتَخَلِّقاً بزعفران حتى غسله وأزال عنه أثره.
وهجَر صلى الله عليه وسلم رَجُلاً رأى عليه جُبَّة من حرير حتى طَرَحَهَا.
وهَجَر صلى الله عليه وسلم رَجُلاً رأى في يده خَاتَماً من ذهب حتى طَرَحَه.
وفي سنن أبي داود وجامع الترمذي ومستدرك الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم هجر رجلاً رأى عليه ثوبين أحمرين، وكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يهجرون من أظهر المعصية حتى يتوب وتظهر توبته.
وقد قال ابن عبد القوي:
وَهُجْرَانُ مَنْ أبْدَى الْمَعَاصِيَ سُنَّةً
…
وَقِيلَ إِذَا يَرْدَعْهُ أوْجِبْ وَأَكِّدِ
وَقِيلَ عَلَى الإِطْلَاقِ مَا دَامَ مُعْلِناً
…
وَلَاقِهْ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ مُرَبَّدِ.
فلم يَذكر خلافاً في سُنِّية هجْرِ العَاصي الْمُجَاهر بالمعصية سَواء ارتدع أو لَمْ يرتدع.
(1) أخرجه أبو داود برقم (4602)، وأحمد في «مسنده» برقم (25046)، والطبراني في «مُعجمه الأوسط» برقم (2609)؛ وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 323):(رواه أبو داود باختصار، ورواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه " سُمَيَّة " روى لَهَا أبو داود وغيره، ولَم يَجرحها أحَد، وبقية رجاله ثقات) انتهى.
وإنما الخلاف في الوجوب هل هو على الإطلاق أم إذا كان العاصي يرتدع به فأين هذا مِمَّا يراه المتهوِّكون من إبطال الهجر الديني بالكلية ومعاملة الناس كلهم صالحهم وطالحهم باللُّطف والِّلين والْمَودَّة) انتهى كلام التويجري (1).
قال أبو داود في «كتاب الأدب» من «سُنَنِه» : «باب فيمن يهجر أخاه المسلم» ثم ذكر أحاديث في تحريم الهجر فوق ثلاث، ثم قال في آخر الباب:(النبي صلى الله عليه وسلم هجر بعض نِسَائِهِ أربعين يوماً، وابنُ عمر رضي الله عنه هجَر ابناً له إلى أن مات، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله غطى وجهه عن رَجُل) انتهى (2).
وبعد ذلك بيَّن أبو داود الفرق بين تحريم الهجر فوق ثلاث فقال: (إذا كانت الْهِجْرةُ للهِ فَلَيسَ مِنْ هذَا بِشَيء) انتهى (3)؛ ويعني بذلك أنه ليس من النهي عن الهجر فوق ثلاث، وَلِهَذا أوْرَد الأمثلة السَّابقة؛ وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(فَينْبَغِي أنْ يُفَرَّق بين الْهَجْرِ لحق الله، وبين الهجر لِحَقِّ نفْسِه، فالأول مَأمُورٌ به، والثَّانِي مَنْهِيٌّ عنه)(4)؛ وقال: (الهجر من باب العقوبات الشرعية،
(1)«تحفة الإخوان بِمَا جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران» ص (38 - 40).
(2)
أنظر: «سنن أبي داود» ، (4/ 279).
(3)
المصدر السابق.
(4)
أنظر: «مجموع الفتاوى» ، (28/ 203 - 210).
فهو من جِنْسِ الجهاد في سبيل الله، وهذا يُفْعَل لِأَنْ تكون كلمة الله هي العُليا، ويكون الدِّينُ كلُّه لله) انتهى (1).
(1) المصدر السابق.