المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ال‌ ‌تمهيد: في مشروعية الجهاد في سبيل الله ويشتمل على الأمور الآتية: تعريف - اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية - جـ ١

[عبد العزيز بن مبروك الأحمدي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الباب الأول: في تحديد معنى الدارين مع بيان سكانهما والدليل على هذا التقسيم والأماكن التي يمنع الكفار من دخولها

- ‌الفصل الأول: في تحديد معنى الدارين مع بيان سكانهما

- ‌المبحث الأول: في تحديد معنى الدار مجردة ومضافة إلى الإسلام

- ‌المطلب الأول: في تحديد معنى الدار مجردة عن الإسلام

- ‌المطلب الثاني: في تحديد معنى الدار مضافة إلى الإسلام

- ‌المبحث الثاني: في سكان دار الإسلام من غير المسلمين

- ‌المطلب الأول: الصنف الأول الذميون

- ‌المطلب الثاني: في الصنف الثاني: المستأمنون

- ‌المبحث الثالث: في تحديد معنى دار الكفر وأقسامها

- ‌المطلب الأول: في تحديد معنى دار الكفر

- ‌المطلب الثاني: في أقسام دار الكفر

- ‌المطلب الثالث في سكان دار الكفر

- ‌المبحث الرابع: في تغير وصف الدار

- ‌المطلب الأول: في انقلاب صفة الدار

- ‌المطلب الثاني: في أن الاستيلاء المجرد على الدار هل يغير صفتها

- ‌المطلب الثالث: في إمكانية انقلاب دار الإسلام إلى دار كفر

- ‌الفصل الثاني: في الدليل على تقسيم الأرض إلى دارين وأثر هذا التقسيم في تباين الأحكام

- ‌المبحث الأول: في الدليل على التقسيم

- ‌المطلب الأول: في الدليل على التقسيم من الكتاب والسنة والمأثور والإجماع

- ‌المطلب الثاني: في الرد على من قال إن الأرض دار واحدة

- ‌المبحث الثاني: أثر التقسيم في تباين الأحكام

- ‌الفصل الثالث: في الأمكنة التي يمنع المستأمنون أو غيرهم من دخولها واستيطانها

- ‌المبحث الأول: في النصوص الواردة في المنع

- ‌المبحث الثاني: في حكم استيطان الكفار لجزيرة العرب

- ‌المبحث الثالث: في حكم دخول الكفار الحرم المكي

- ‌المبحث الرابع: في حكم دخول الكفار الحرم المدني وسائر المساجد

الفصل: ال‌ ‌تمهيد: في مشروعية الجهاد في سبيل الله ويشتمل على الأمور الآتية: تعريف

ال‌

‌تمهيد:

في مشروعية الجهاد في سبيل الله

ويشتمل على الأمور الآتية:

تعريف الجهاد لغة وشرعاً:

أولاً: تعريفه في اللغة:

عَرَّف أهل اللغة "الجهاد" بتعاريف كثيرة:

فقالوا: إن كلمة جهاد مشتقة من الجهد، بفتح الجيم وضمها.

فالْجَهد بالفتح: المشقة والمبالغة في العمل.

والْجُهد بضم الجيم: "الوسع والطاقة".1

قال ابن الأثير: "الجهد بالفتح المشقة"، وقيل المبالغة والغاية.

وبالضم: "الوسع والطاقة".2

وقد قرئ بضم الجيم وفتحها قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُم} 3.

قال الشوكاني: "وقرئ جهدهم بفتح الجيم، والجهد بالضم الطاقة، وبالفتح المشقة - وقيل هما لغتان ومعناهما واحد".4

1 القاموس المحيط 1/296، وتهذيب اللغة 6/37، 2/460، والمفردات ص 99، ولسان العرب 3/1333، ومعجم مقاييس اللغة 1/486، والمصباح المنير 1/112، والمحكم 4/110، ومختار الصحاح ص 114.

2 انظر: النهاية لابن الأثير 1/319.

3 التوبة: 79.

4 انظر: فتح القدير للشوكاني 2/385.

ص: 31

والجهاد بكسر الجيم مصدر جاهد جهاداً ومجاهدة من جهد إذا بالغ في قتل عدوه.

يقال: جاهد العدو مجاهدة وجهاداً قاتله.

ويقال: "جاهد في سبيل الله مجاهدةً وجهاداً".1

والجهاد بكسر الجيم: "هو استفراغ الوسع والطاقة في محاربة العدو".2

وقال الراغب الأصفهاني: "الجهاد: استفراغ الوسع في مدافعة العدو".3

وقال الزبيدي "الجهاد بالكسر: القتال مع العدو وهو المبالغة في محاربة الأعداء واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل".4

أما الجهاد بفتح الجيم فهو الأرض الصلبة، وقيل هي التي لا نبات فيها.5

وبعد الاطلاع على تعريف الجهاد عند أهل اللغة يتضح لنا أنهم عرفوه بأنه بذل الوسع والطاقة في محاربة العدو.

1 لسان العرب 3/135، وتاج العروس للزبيدي 2/329، والصحاح للجوهري 2/461، والمحكم لابن سيده 4/111.

2 لسان العرب 3/135 وترتيب القاموس 1/546، والمصباح المنير 1/112.

3 انظر: المفردات في غريب القرآن ص 100.

4 انظر: تاج العروس 2/329.

5 الصحاح 2/461، ولسان العرب 3/134.

ص: 32

وهذا العدو قد يكون ظاهراً كمحاربة الكفار، وقد يكون باطناً كمحاربة النفس والشيطان.

وكل هؤلاء في نظر الإسلام أعداء تجب مجاهدتهم ومحاربتهم ويشملهم قوله سبحانه وتعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} 1 كما قال الراغب في مفرداته.2

ثانياً: تعريفه في الشرع:

الجهاد شرعاً يدور حول قتال المسلمين الكفار، في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دينه.

وقد عرفه فقهاء الشريعة الإسلامية بتعاريف عديدة نذكر أهمها:

فقد عرفه فقهاء الحنفية: "بأنه دعوة الكفار إلى الدين الحق وقتالهم إن لم يقبلوا بالنفس والمال".3

أو بذل الوسع في القتال في سبيل الله مباشرة أو معاونة بمال أو رأي أو تكثير سواد. 4

1 الحج: 78.

2 انظر: المفردات في غريب القرآن ص 100.

3 حاشية رد المحتار 4/121، واللباب في شرح الكتاب 4/114، والفتاوى الهندية 2/188، والعناية على الهداية 5/189، وتحفة الفقهاء 3/293.

4 بدائع الصنائع 7/97، وحاشية رد المحتار 4/114.

ص: 33

أما فقهاء المالكية فقالوا في تعريفه: "هو قتال مسلم كافراً غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى، أو حضوره له، أو دخول أرضه".1

وقالوا أيضاً: "هو المبالغة في إتعاب الأنفس في ذات الله، وإعلاء كلمته التي جعلها طريقاً إلى الجنة وسبيلاً إليها".2

وعرفه فقهاء الشافعية: "بأنه قتال الكفار في سبيل الله لإعلاء كلمته ونصرة دينه".3

وعرفه فقهاء الحنابلة بأنه: "قتال الكفار خاصة بخلاف المسلمين من البغاة وقطاع الطريق".4

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله، ومن الإيمان والعمل الصالح ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان".5

1 مواهب الجليل 3/346، وكفاية الطالب الرباني 3/59، والخرشي 3/107، والسراج السالك 2/24، وجواهر الإكليل 1/250، وأسهل المدارك 2/3.

2 المقدمات الممهدات 1/259، والتاج الإكليل 3/346.

3 حاشية الشرقاوي 2/391، وإعانة الطالبين 4/180، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/210، وحاشية الباجوري على ابن القاسم 2/261.

4 كشاف القناع 3/32، ومطالب أولي النهى 2/497، والمبدع 3/307، وشرح منتهى الإرادات 1/302، والتنقيح المشبع ص 113، وكشف المخدرات ص201.

5 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/191 - 192.

ص: 34

الموازنة بين التعريفين اللغوي والشرعي للجهاد:

عند الموازنة بين التعريفين نجد أن بينهما عموماً وخصوصاً:

فالتعريف اللغوي عام يشمل كل جهد يبذله الشخص وخصوصاً في محاربة عدوه، فهو شامل لجميع أنواع الجهاد.

أما التعريف الشرعي فهو خاص، لأنه في الغالب عند فقهاء الشريعة الإسلامية يدور حول قتال المسلمين الكفارَ في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دينه.

فهو خاص بجهاد الكفار ولم يتناول أنواع الجهاد الأخرى كجهاد النفس والشيطان.

فالتعريف اللغوي أعم من التعريف الشرعي.

المقارنة بين التعريفات الشرعية للجهاد:

عندما نلقي نظرة على تعريفات الجهاد الشرعية عند فقهاء المذاهب الإسلامية نجد أنها تختلف في اللفظ والشكل، وتتفق في المضمون والمعنى وهو قتال الكفار، سوى الزيادة التي ذكرها فقهاء الحنفية عندما قالوا هو الدعاء إلى الدين الحق، وهذا القيد لم يذكر في باقي التعريفات، لأنه معلوم من الدين بالضرورة، فقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة الإسلامية على وجوب الدعوة إلى الإسلام أولاً قبل القتال ولا يجوز إلا بعد الامتناع من الدخول في الإسلام.

ص: 35

وكل هذه التعريفات كما سبق خاصة بقتال الكفار لنشر الدين الإسلامي وإعلاء رايته، ولا تشمل كل أنواع الجهاد.

وأشمل تعريف للجهاد هو تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: "والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله، ومن الإيمان والعمل الصالح ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان".1

فهذا التعريف شامل لكل أنواع الجهاد، فيشمل جهاد الإنسان لنفسه وجبرها على طاعة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وجهاد الشيطان الذي هو ألد أعداء المسلم، وجهاد الكفار في سبيل نشر الدين الإسلامي وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.2

أدلَّة مشروعية الجهاد:

فرض الله الجهاد إعلاءً لكلمته ودفاعاً عن دينه، وقد شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية بنحو سنة3 وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة، والإجماع.

1 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/191 - 192.

2 الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته 1/50.

3 المقدمات الممهدات لابن رشد 1/261، وحاشية الشرقاوي 2/391، والسياسة الشرعية ص 118، وفتح الباري 6/377، ونيل الأوطار 7/237.

ص: 36

أولاً: دليل مشروعيته من الكتاب:

لقد توافرت الأدلة من الكتاب على مشروعية الجهاد في سبيل الله - منها:

1-

قول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} .1

فهذه أول آية نزلت في الجهاد والإذن بالقتال، كما قاله أكثر العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة، وقال مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف كعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حبان وغيرهم: هذه أول آية نزلت في الجهاد.2

وقال القرطبي: "هذه أول آية نزلت في القتال".3

وقال ابن سعدي: "كان المسلمون في أول الإسلام ممنوعين من قتال الكفار ومأمورين بالصبر عليهم، لحكمة إلهية فلما هاجروا إلى المدينة وأوذوا وحصل لهم منعة وقوة أذن لهم بالقتال".4

1 الحج: 39.

2 تفسير القرآن العظيم 3/220.

3 الجامع لأحكام القرآن 12/68.

4 تفسير ابن سعدي 5/299.

ص: 37

قال الشيخ الشنقيطي: "وهذه الآية هي أول آية نزلت في الجهاد كما قال به جماعات من العلماء".1

وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ليهلكن فأنزل الله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} وهي أول آية نزلت في القتال". 2

2-

قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} . 3

3-

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .4

4-

وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .5

1 انظر أضواء البيان 5/699.

2 أخرجه الإمام أحمد 1/216، والإمام الترمذي 5/375، كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة الحج وقال حديث حسن. والحاكم 2/66 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

3 التوبة: 29.

4 البقرة: 216.

5 التوبة: 36.

ص: 38

5-

وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . 1

6-

قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} .2

فهذه الآيات الكريمات وغيرها كثير تدل دلالة واضحة على أن الجهاد في سبيل الله فرض على المسلمين في كل زمان ومكان.

ثانياً: أدلة مشروعيته من السنة، منها:

1-

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"3.

وجه الدلالة من الحديث:

الحديث ظاهر الدلالة على مشروعية الجهاد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا

1 البقرة: 190.

2 التوبة: 41.

3 أخرجه البخاري 1/243 في كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة 4/196 كتاب استتابة المرتدين باب من أبى قبول الفرائض واللفظ له ومسلم 1/52 في كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس.

ص: 39

في هذا الحديث أنه مأمور بمجاهدة الكفار حتى ينطقوا بلفظ الشهادة فتعصم دماءهم وأموالهم.

2-

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"1.

دل الحديث على مشروعية الجهاد في سبيل الله سواء كان بالمال أو بالنفس أو باللسان. قال الشوكاني: فيه دليل على وجوب المجاهدة للكفار بالأموال والأيدي والألسن"2.

3-

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق"3.

وجه الدلالة من الحديث:

الحديث دل على مشروعية الجهاد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فيه أن من مات ولم يجاهد ولم يحدث نفسه بالجهاد مات على صفة من الصفات الخبيثة وهي صفة النفاق.

1 أخرجه أحمد 3/124، 153، وأبو داود 3/10 كتاب الجهاد باب كراهة ترك الغزو، والنسائي 6/7، كتاب الجهاد باب وجوب الجهاد والدرامي 2/213، والحاكم 2/81، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه النووي في رياض الصالحين ص 515.

2 انظر: نيل الأوطار 7/212.

3 أخرجه مسلم 3/1517 كتاب الإمارة باب ذم من مات ولم يغز.

ص: 40

ثالثاً: دليل مشروعيته من الإجماع:

أجمع العلماء في جميع الأعصار والأمصار على مشروعية الجهاد في سبيل الله.1

1 الاختيار 4/117، والمقدمات الممهدات 1/261، وحاشية الشرقاوي 2/391، والمبدع 3/307، وكشاف القناع 3/32، وفتح الباري 6/377، ونيل الأوطار 7/237.

ص: 41

حكم الجهاد في سبيل الله

اختلف العلماء في حكم الجهاد على ثلاثة أقوال:

القول الأول:

أن جهاد الكفار في سبيل الله فرض كفاية.

بمعنى أنه إذا قام به من فيه كفاية من المسلمين سقط الحرج عن الباقين وهو قول جمهور الفقهاء الحنفية - في الصحيح - والمالكية - في المشهور- والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.1

القول الثاني:

أن جهاد الكفار فرض عين على كل مسلم مستطيع في كل زمان ومكان وهو قول سعيد بن المسيب، والمقداد بن الأسود، وأبي طلحة، وأبي أيوب الأنصاري وهو وجه عند الشافعية.2

1 بدائع الصنائع 7/98، والمبسوط10/3، وتحفة الفقهاء 3/294، والجوهرة النيرة 2/357، والبحر الرائق 5/76، والاختيار 4/117، وتبيين الحقائق 3/241، والمقدمات الممهدات 1/263، والسراج السالك 2/324، والشرح الصغير 3/10، وقوانين الأحكام ص 163، وبداية المجتهد 1/396، وروضة الطالبين 10/214، ونهاية المحتاج 8/46، ومغني المحتاج 4/209، وفتح الجواد 2/326، والأنوار لأعمال الأبرار 2/348، والمبدع 3/307 وكشاف القناع 3/32، والشرح الكبير مع المغني 10/464، وكشف المخدرات ص 201، والمحرر 2/170، والمحلى لابن حزم 7/291.

2 الشرح الكبير 10/364، والجامع لأحكام القرآن 3/38، والمبدع 3/307، ونيل الأوطار 7/214، وأحكام القرآن للجصاص 3/113، 114، وقوانين الأحكام الشرعية ص 163، وتكملة المجموع 18/48، ورحمة الأمة ص 292، ونهاية المحتاج 8/42.

ص: 42

روي عن الزهري أنه قال: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل إنك عليل، صاحب ضرر، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم تمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.1

القول الثالث:

أن الجهاد مندوب إليه، يعني أنه ليس بفرض عين ولا كفاية ولا يجب قتال الكفار إلا دفعاً، وهو مروي عن ابن عمر- رضي الله عنهما والثوري وعطاء 2، وابن شبرمة3.

وهو قول بعض الحنفية4 وسحنون5 من المالكية6.

1 غرائب القرآن 10/364، والجامع لأحكام القرآن 3/38.

2 أحكام القرآن للجصاص 3/140، والجامع لأحكام القرآن 3/ 38، ونيل الأوطار 7/214، ومصنف عبد الرزاق 5/171 - 173.

3 هو: عبد الله بن شبرمة، حديث عن أنس بن مالك والشعبي والنخعي، وثقه أحمد وأبو حاتم الرازي، وكان من أئمة الفروع، توفي سنة 144هـ بخراسان.

الجرح والتعديل 5/82، وتهذيب التهذيب 5/255، وشذرات الذهب 1/215.

4 البحر الرائق 5/76، وأحكام القرآن للجصاص 3/140، وفتح القدير 4/279.

(5)

هو عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، لملقب بسحنون، فقيه مالكي، ولد في القيروان160هـ، وولي القضاء بها سنة 234هـ، توفي بها سنة 240هـ. انظر ترجمته في: الديباج المذهب ص 160، وترتيب المدارك 2/585.

6 قوانين الأحكام الشرعية ص 163، وبداية المجتهد 1/ 396، والجامع لأحكام القرآن 3/38.

ص: 43

سبب الاختلاف بين العلماء في حكم الجهاد، هو اختلافهم في مفهوم الأمر في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 1.

وقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} .2

وقوله صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين"3.

فمن أخذ بإطلاق الأمر في الكتاب والسنة قال بأن الجهاد فرض عين.

ومن حمله على الندب والاستحباب قال الجهاد ليس فرض عين ولا فرض كفاية وإنما هو مندوب إليه.

ومن قال إن هذه النصوص المطلقة من القرآن والسنة الدالة على أن الجهاد فرض على المسلمين، وردت بإزائها نصوص أخرى مقيدة لهذا الإطلاق تدل على أن هذا الوجوب ليس عيناً وإنما هو فرض كفاية قال بأن الجهاد فرض كفاية إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين.

الأدلة:

أولاً: أدلة الجمهور القائلين بأن الجهاد فرض كفاية:

استدلوا بالكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.

1 البقرة: 216.

2 التوبة: 41.

3 سبق تخريجه ص 37.

ص: 44

أ - دليلهم من الكتاب:

1-

قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 1.

وجه الدلالة من الآية:

أن الله سبحانه وتعالى فاضل بين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد بدون عذر، ووعد كلا الحسنى وهي الجنة والعاصي لا يوعد بها، لأن القاعدين عن الجهاد بدون عذر غير آثمين إذا قام به غيرهم ممن فيه الكفاية، ولو كان الجهاد فرض عين لاستحق القاعدون الوعيد لا الوعد2.

قال الكاساني: "وعد الله عزوجل المجاهدين والقاعدين الحسنى، ولو كان الجهاد فرض عين لما وعد القاعدين الحسنى لأن القعود يكون حراماً"3.

1 النساء: 95.

2 المهذب 2/291، وإعانة الطالبين 4/181، والمبدع 3/307، والخرشي 3/108، وتكملة المجموع 18/48.

3 انظر: بدائع الصنائع 7/98.

ص: 45

وقال ابن قدامة 1:"وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم"2

وقال الشنقيطي: "يؤخذ من قوله في هذه الآية الكريمة: {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين، لأن القاعدين لو كانوا تاركين فرضاً لما ناسب ذلك وعده لهم الصادق بالحسنى وهي الجنة والثواب الجزيل"3.

2-

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 4.

وجه الدلالة من الآية من وجهين:

الأول: أنها صريحة في عدم وجوب النفر على الجميع وهذا ما دل

1 هو موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، فقيه حنبلي، ولد سنة 541 بدمشق، توفي بها سنة 620 له مصنفات كثيرة منها: المغني والمقنع والكافي والروضة. انظر: طبقات الحنابلة 4/133، وشذرات الذهب 5/88، والبداية والنهاية 13/99 - 100.

2 انظر: المغني 8/346.

3 انظر: أضواء البيان 1/399.

4 التوبة: 122.

ص: 46

عليه أول الآية، {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أي ما صح ذلك ولا استقهام أن يَهُبَّ جميع أفراد المؤمنين القادرين على الجهاد للغزو لما في ذلك من ضياع من ورائهم من العيال، ومن ترك السعي للرزق وحرث الأرض وعمارتها التي لا يتم الجهاد إلا بها.

الثاني: ما دل عليه آخر الآية {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} ، فإنه ظاهر بأن الله تعالى كما نفى أن ينفر المسلمون كافة في أول الآية حض في آخرها على أن ينفر من كل جماعة من المسلمين طائفة لتقوم الطائفة النافرة بفرض الجهاد الذي يسقط عن الطائفة الباقية وتقوم الباقية بالمصالح التي لابد منها وإلا تعطل الجهاد1.

ثانياً: دليلهم من السنة من وجهين:

الأول: فعله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخرج إلى الجهاد تارة ويتأخر عنه تارة أخرى وكان يأمر الجيوش الإسلامية بالخروج، ويبقى هو صلى الله عليه وسلم2.

الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث الآتية:

1-

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً إلى بني

1 الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته 1/59،60.

2 المغني 8/346، والمبدع 3/307، وكشاف القناع 3/33، وبدائع الصنائع 7/98، وكفاية الطالب الراني 3/59، والمجموع 18/48.

ص: 47

لحيان بن هذيل1 فقال: "لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما" وفي رواية: "ليخرج من كل رجلين رجل ثم قال: للقاعد أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج"2.

والحديث ظاهر الدلالة على أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن الرجلين إذا خرج أحدهما إلى الجهاد وخلفه الآخر في المحافظة على الأهل والمال أن الأجر بينهما نصفين.

2-

حديث زيد بن خالد الجهني3 رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلفه في أهله وماله بخير فقد غزا"4.

1 بنو لحيان، حي من هذيل. انظر لسان العرب 15/243، ولحيان هو بن هذيل بن مدركة من عدنان جد جاهلي أظهرت الآثار أنه كانت لبنيه إمارة في شمالي شبه الجزيرة العربية وفي مؤرخي العرب من يجعل لحيان هذا يماني الأصل من جرهم من قحطان دخل بنوه في هذيل. الأعلام 5/241.

2 أخرجه الإمام مسلم 3/1507، كتاب الإمارة باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله حديث رقم 1896.

3 هو زيد بن خالد الجهني صحابي جليل، شهد الحديبية وكان معه لواء جهينة يوم الفتح توفي في المدينة سنة 78هـ له ما يقارب 81 حديثاً، انظر ترجمته في: الإصابة 3/27 والأعلام 3/58.

4 أخرجه الإمام مسلم 3/1507 كتاب الإمارة باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله حديث رقم 1895.

ص: 48

وجه الدلالة من الحديث:

دل الحديث على أن الجهاد فرض كفاية لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين في الحديث أن من الناس لا يخرج للجهاد وإنما يقوم بتهيئة غيره، ومنهم من يخلفه في أهله وماله وهذا يدل على أن الجهاد فرض كفاية لأنه لو كان فرض عين لما جاز لأحد أن يتخلف عنه ولوجب الخروج على الجميع.

3-

قوله صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني"1.

ووجه الدلالة من الحديث:

دل الحديث على أن الجهاد فرض كفاية لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج للجهاد تارة ويبقى أخرى، ويرسل غيره للجهاد وكذلك الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يخرجون في كل غزوة أو سرية بل كانوا يخرجون تارة ويبقون تارة أخرى.

ثالثاً: الإجماع:

أجمع العلماء على أن الجهاد فرض كفاية، فإذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بأرض الإسلام فهو حينئذ فرض عين2.

1 أخرجه الإمام مسلم 3/1495 كتاب الإمارة باب فضل الجهاد.

2 الجامع لأحكام القرآن 3/38.

ص: 49

رابعاً: دليلهم من المعقول:

أن الجهاد شرع لإعلاء كلمة الله ودفع شر الكفرة وقهرهم ومنع وقوفهم أمام انتشار الدين الإسلامي الحنيف، فإذا قام بهذا الواجب بعض المسلمين فقد تحقق الهدف الذي من أجله شرع الجهاد، فلا محل لفرضه على كل أفراد الأمة، لأن كل ما فرض لغيره لا لعينه فهو فرض كفاية1.

ثانياً: أدلة القائلين بأن الجهاد فرض عين:

استدلوا بعموم الآيات والأحاديث التي تأمر بالجهاد:

كقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} 2.

قالوا: معنى الآية أي أخرجوا إلى الجهاد سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم معها الجهاد أو يثقل، وهذا أمر بالنفير والأمر يدل على الوجوب. لأن أصل النفر هو الخروج إلى مكان لأمر واجب 3.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ

1 فتح القدير لابن الهمام 4/279.

2 التوبة: 41.

3 التفسير الكبير للفخر الرازي 4/432، وفقه سعيد بن المسيب 3/190.

ص: 50

قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1.

قالوا إن هذه الآية تدل على أن الجهاد فرض عين لأنه سبحانه وتعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، ولو لم يكن الجهاد واجباً لما كان هذا التثاقل منكراً، لأن الله قد توعد من لم يخرج إلى الجهاد بالعذاب الأليم وهذا التوعد بالعذاب لا يكون إلا على ترك واجب2.

وقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 3.

وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4.

وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 5.

1 التوبة: 38 – 39.

2 جامع البيان 10/83، والتفسير الكبير 4/433، وفقه سعيد بن المسيب 3/190، وآثار الحرب للزحيلي 85.

3 التوبة: 5.

4 البقرة: 190.

5 التوبة: 36.

ص: 51

وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} 1.

فهذه الآيات قطعية الدلالة على وجوب الجهاد، لأنها واردة بصيغة الأمر، والأصل في الأمر هو الوجوب2.

قال الشوكاني: "وظاهر الأمر في هذه الآيات هو الوجوب"3.

وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 4.

قالوا: بأن معنى كتب عليكم القتال في الآية أي فرض عليكم القتال، كقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} 5 أي فرض عليكم، وقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ} 6 أي فرض عليكم7.

أما دليلهم من السنة:

فحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"8.

1 التوبة: 29.

2 آثار الحرب ص 85.

3 انظر: نيل الأوطار 7 /212.

4 البقرة: 216.

5 البقرة: 183.

6 البقرة: 178.

7 التفسير الكبير 3/6-27، وآثار الحرب ص 86.

8 سبق تخريجه ص 40.

ص: 52

وجه الدلالة من الحديث:

أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في الحديث بالجهاد والأمر يقتضي الوجوب.

وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق"1.

وجه الدلالة من الحديث:

دل الحديث على أن الجهاد فرض عين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد توعد من تخلف عن الجهاد باتصافه بصفة النفاق وهذه صفة خبيثة لا يتصف بها إلا من ترك واجباً.

ثالثاً: أدلة القائلين بأن الجهاد مندوب إليه:

استدلوا بعموم الآيات التي تأمر بالجهاد وقالوا إن الأمر فيها للندب والاستحباب لا للوجوب.

كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} قالوا الأمر في هذه الآية ليس للوجوب بل للندب كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرَاً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ} 2.

1 سبق تخريجه ص40.

2 البقرة: 180.

ص: 53

فدلت هذه الآية على أن الوصية مندوبة فكذلك الآية الأخرى تدل على أن الجهاد مندوب إليه، وقالوا لا يجب قتالهم إلا دفعاً 1 لظاهر قوله تعالى:{فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} 2، وقوله تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} 3.

وكذلك استدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج بيت الله"4.

وجه الدلالة من الحديث:

دل الحديث على أن الجهاد ليس بفرض لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على ذكر الفرائض الخمس، ولم يذكر فيها الجهاد، وهذا يدل على أنه ليس بفرض إذ لو كان فرضاً لذكره.5

1 أحكام القرآن للجصاص 3/115.

2 البقرة: 191.

3 التوبة: 36.

4 أخرجه البخاري 1/11 كتاب الإيمان باب دعاؤكم إيمانكم ولفظه والحج وصوم رمضان، ومسلم 1/45، كتاب الإيمان باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، وهذا لفظه.

5 أحكام القرآن للجصاص 3/115.

ص: 54

المناقشة:

أ - مناقشة أدلة القائلين بأن الجهاد فرض عين:

بالنسبة لاستدلالهم بالعمومات من الآيات والأحاديث التي تدل على أن الجهاد واجب.

يرد عليهم بأن هذه الآيات والأحاديث قد وردت بإزائها آيات أخرى وأحاديث تدل على أن هذه الفرضية ليست عيناً وإنما هي كفاية.

كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1.

وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} 2.

وبالثابت من فعله صلى الله عليه وسلم فقد كان يخرج للجهاد تارة ويتأخر عنه تارة أخرى3.

وبقوله صلى الله عليه وسلم "لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما".4

وقوله: "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خلفه في أهله وماله بخير فقد غزا". 5

1 النساء: 95.

2 التوبة: 122.

3 سبق ص 47.

4 سبق تخريجه ص 48.

5 سبق تخريجه ص 48.

ص: 55

فهذه الأحاديث والآيات التي قبلها دلت على أن الوجوب في آيات الجهاد الأخرى ليس متعيناً على جميع المسلمين بل على بعضهم، فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين.

وعلى فرض أن لهم دلالة بعموم الآيات والأحاديث السابقة على أن الجهاد فرض عين.

يمكن حمل هذه الفرضية في تلك الآيات والأحاديث على من تعين عليه الجهاد من إمام المسلمين واستنفره لذلك ولم يخرج لقوله صلى الله عليه وسلم "وإذا استنفرتم فانفروا" 1 قال ابن حجر فيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام 2.

وقال في الشرح الكبير: "وتحمل العمومات على من استنفرهم النبي لى الله عليه وسلم ولم يخرجوا ولذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وأصحابه الذين خلفوا عن غزوة تبوك وكانت إجابته إلى ذلك واجبة عليهم. حتى تاب الله عليهم".3

وقال في نهاية المحتاج: "الوعيد لمن عينه صلى الله عليه وسلم ولم يتعين أو عند قلة المسلمين".4

1 أخرجه البخاري 2/142، كتاب الجهاد باب وجوب النفير. ومسلم 3/148 كتاب الإمارة حديث رقم 1353.

2 انظر: فتح الباري 6/39.

3 انظر: الشرح الكبير مع المغني 10/365.

4 انظر: نهاية المحتاج 8/48.

ص: 56

فبهذا يتبين أنه لا دلالة لهم بعموم الآيات والأحاديث السابقة على أن الجهاد فرض عين على جميع المسلمين، بل إنه فرض كفاية، ولا يتعين إلا على من استنفر من إمام المسلمين.

ب - مناقشة أدلة القائلين بأن الجهاد مندوب إليه:

قولهم بأن الأمر في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} للندب والاستحباب وكذلك باقي الآيات الأخرى التي تأمر بالجهاد بدليل أن الأمر في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرَاً الْوَصِيَّةُ} للندب لا للوجوب.

يرد عليهم بأن كتب بمعنى فرض وأوجب، فلا تصرف إلى الندب والاستحباب إلا بدليل ولا يوجد دليل.

أما آية الوصية فقد كانت دالة على الوجوب قبل مشروعية المواريث ثم نسخت دلالتها على الوجوب بعد مشروعية المواريث.1

أما استدلالهم بحديث ابن عمر رضي الله عنهما فيقال لهم: "إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اقتصر على ذكر الفروض الخمسة لأنه قصد إلى ذكر ما يلزم الإنسان في نفسه دون ما يكون منه فرضاً على الكفاية، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود وتعلم علوم الدين كلها فروض ولم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فيما بني عليه الإسلام، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما قصد إلى بيان ذكر

1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/114.

ص: 57

الفروض اللازمة للإنسان في خاصة نفسه في أوقات مرتبة ولا ينوب غيره عنها فيه والجهاد فرض على الكفاية فلذلك لم يذكر".1

وجائز أن يكون قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار في أن الجهاد ليس بفرض يعنون به أنه ليس فرضاً متعيناً على كل واحد كالصلاة والصوم وإنما هو فرض على الكفاية وبذلك يتفق مذهبهم مع الجمهور.2

وقد روي عن سفيان الثوري أنه يقول الجهاد ليس بفرض ولكن لا يسع الناس أن يجمعوا على تركه ويجزي فيه بعضهم عن بعض وهذا مما يدل على أن الجهاد عنده فرض على الكفاية فهو موافق لمذهب الجمهور.3

الرأي المختار:

هو ما اتفقت عليه المذاهب الإسلامية الأربعة أن الجهاد بمعناه الخاص وهو جهاد الكفار، فرض كفاية، إذا قامت به طائفة من المسلمين سقط الإثم عن الباقين وإلا أثموا جميعاً إلا في المواضع التي يتعين الجهاد فيها على كل مسلم.4

والمراد بالقيام هو القيام الكافي الذي شرع الجهاد من أجله وهو

1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/116.

2 مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق 1/158.

3 أحكام القرآن للجصاص 3/113.

4 انظر هذه المواضع ص 62.

ص: 58

إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، ودفع شر الكفرة وكسر شوكتهم وإطفاء ثائرتهم. وليس المراد مجرد قيام طائفة ولو لم يكن قيامها كافياً فلا يصح إسقاط فرض الجهاد عن المسلمين كلهم بقيام طائفة منهم لا يحصل بها القيام الكافي.

قال ابن عابدين: "وإياك أن تتوهم أن فرضيته تسقط عن أهل الهند بقيام أهل الروم مثلاً، بل يفرض على الأقرب فالأقرب من العدو إلى أن تقع الكفاية، فلو لم تقع إلا بكل الناس فرض عيناً كصلاة وصيام".1

وقال ابن قدامة: "ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم إما أن يكونوا جنداً لهم دواوين من أجل ذلك، أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعاً بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم".2

أما الأسباب التي أدت إلى هذا الاختيار فهي:

1-

أن الإطلاق الوارد في الآيات والأحاديث التي تدل على أن الجهاد فرض قد ورد بإزائه آيات وأحاديث أخرى تدل على أن هذه الفرضية على الكفاية كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} فقد ذلت هذه الآية على أن الجهاد ليس فرض عين على كل فرد من أفراد المسلمين وإنما هو فرض كفاية متى قام به البعض واندفع بهم العدو

1 انظر: حاشية ابن عابدين 4/124.

2 انظر: المغني لابن قدامة 8/346.

ص: 59

وحصل بهم المقصود سقط عن الباقين لأن الله لم يكلف جميع المؤمنين النفير بل كلف البعض بالخروج للقتال والبعض الآخر يبقى للتفقه في أمور الدين ومواجهة المطالب الضرورية للحياة ولأن يخلف من خرج في أهله وماله.

وغيرها من الآيات الأخرى والأحاديث التي تدل على أن الجهاد فرض كفاية إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين.

وفي هذا يقول بعض العلماء: "م يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الأمة جميعا النفر".1

2-

أن الجهاد لو كان فرض عين لتعطل الكثير من مصالح الناس كالزراعة والتجارة والصناعة وهذا فيه تعطيل لحركة الجهاد، لأن الجهاد يحتاج إلى المال الذي هو أحد الركائز الرئيسية التي يقوم عليها، فالسلاح الذي يجاهد به يحتاج إلى مال، وكذلك المجاهدون يحتاجون للمال لتأمين حاجاتهم، فلذلك كان الجهاد فرض كفاية، فمن الناس من يقوم بالجهاد ومنهم من يقوم بدعم حركته بتشغيل الصناعات والتجارات ونحوها.2

3-

أن القصد من شرعية الجهاد هو إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى ونشر دينه فمتى حصل هذا القصد من بعض المسلمين وارتفعت الراية الإسلامية لتكون كلمة الله هي العليا، فما الداعي إلى فرضية الجهاد على كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية.

1 الجامع لأحكام القرآن 8/136.

2 كفاية الأخيار 2/126.

ص: 60

قال الموصلي: "المراد بالجهاد والمقصود منه دفع شر الكفرة، وكسر شوكتهم وإطفاء ثائرتهم وإعلاء كلمة الإسلام، فإذا حصل المقصود بالبعض فلا حاجة إلى غيرهم".1

وقال الكاساني: "ولأن ما فرض له الجهاد وهو الدعوة إلى الإسلام وإعلاء الدين الحق ودفع شر الكفرة وقهرهم يحصل بقيام البعض به".2

وقال الزيلعي: "إنما شرع الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه، ودفع الفساد عن العباد، فإذا حصل من البعض سقط عن الباقين كصلاة الجنازة ودفن الميت ورد السلام".3

هذا هو الرأي الذي اختاره بالنسبة لحكم الجهاد بمعناه الخاص وهو جهاد الكفار.

أما الجهاد بمعناه العام فلا خلاف بين علماء المسلمين على أنه يتعين على كل فرد من أفراد المسلمين جهاد نفسه الأمارة بالسوء ولا ينوب في جهادها أحد عنه.

وكذلك يتعين على كل أحد من المسلمين جهاد شيطانه عدوه الأصيل القديم الذي يلتصق به التصاق دمه به.

وفي هذا يقول ابن القيم: "وفرض على كل مسلم جهاد نفسه في

1 انظر: الاختيار لتعليل المختار 4/118.

2 انظر: بدائع الصنائع 7/98.

3 انظر: تبيين الحقائق 3/241.

ص: 61

ذات الله وجهاد شيطانه، فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد.

وأما جهاد الكفار والمنافقين فقد يكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد".1

أما المواضع التي يكون فيها الجهاد الخاص وهو جهاد الكفار فرض عين على كل مسلم فقد حددها العلماء بثلاثة مواضع:

الموضع الأول: إذا هاجم العدو بلاد المسلمين ونزلوا بها تعين قتالهم ودفع ضررهم على جميع أفراد المسلمين.

وفي هذا يقول الكاساني: "فأما إذا عم النفير بأن هجم العدو على بلد، فهو فرض عين يفترض على كل واحد من أحاد المسلمين ممن هو قادر عليه2 لقوله سبحانه تعالى:{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 3 وقوله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} .4

وقد استثنى القرطبي هذا الموضع بعد أن ذكر الإجماع على أن الجهاد فرض كفاية بقوله: "إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو

1 انظر: زاد المعاد 3/12.

2 انظر: بدائع الصنائع 7/98.

3 التوبة: 41.

4 التوبة: 120.

ص: 62

حينئذ فرض عين".1

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة".2

وقال الصاوي3: "ويتعين الجهاد بهجوم العدو".4

وقال في المبدع: "إذا نزل الكفار ببلد، تعين على أهله قتالهم ودفعهم كحاضري الصف".5

الموضع الثاني: يتعين الجهاد على كل مسلم إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، فيحرم على من حضر القتال الانصراف وهو توليهم الأدبار، ويتعين عليه الثبات بجهادهم وعدم الفرار من أمامهم.6

وقد دل الكتاب والسنة على أن الجهاد في هذا الموضع - وهو

1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/38.

2 انظر: الاختيارات الفقهية ص 311.

3 هو أبو العباس أحمد الصاوي، فقيه مالكي، توفي بالمدينة سنة 1241 له مؤلفات منها: بلغة السالك، وحاشية على تفسير الجلالين، انظر ترجمته في: شجرة النور الزكية ص 364.

4 انظر: بلغة السالك 1/356.

5 المبدع 3/310.

6 الجوهرة النيرة 2/357، والسراج السالك 2/24، والمقدمات الممهدات 1/263، وروضة الطالبين 10/214، وفتح الجواد 2/326، والمبدع 3/310، وكشاف القناع 3/37.

ص: 63

تقابل الصفين صف المسلمين وصف الكافرين - فرض عين على كل مسلم ويحرم الفرار منه.

فمن الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . 1

فقد نهى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عن الفرار من الجهاد عند التقاء الصفين، وتوليهم الأدبار، والنهي يقتضي التحريم.

وقد استثنت الآية حالتين لا تعتبر من التولي يوم الزحف:

الحالة الأولى: التحرف وهو أن ينتقل المجاهد من موقع إلى آخر مراوغة واحتيالاً على العدو.

الحالة الثانية: التحيز إلى طائفة من جيش المسلمين، لمناصرتهم، سواء كانت هذه الطائفة قريبة أو بعيدة، فالتحيز بهذه الصفة لا يعتبر من التولي يوم الزحف.2

2-

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ

1 الأنفال: 15، 16.

2 الجهاد في سبيل الله وحقيقته وغايته 1/74.

ص: 64

كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .1

فقد أمر الله عباده المؤمنين في هذه الآية الكريمة بالثبات عند قتال الكفار كما نهاهم في الآية الأولى عن الفرار من أمامهم وتوليهم الأدبار، فالتقى الأمر والنهي سواء، وهذا تأكيد للوقوف للعدو والتجلد له2.

ومن السنة:

1-

ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها التولي يوم الزحف".3

وجه الدلالة من الحديث:

دل الحديث على تحريم الفرار يوم الزحف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باجتناب هذه المهلكات والتي منها التولي يوم الزحف، وأمره صلى الله عليه وسلم باجتنابها دليل على أن فعلها محرم على كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية بعينه.

2-

قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه "وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس".4

الموضع الثالث: يتعين الجهاد على كل فرد من أفراد المسلمين إذا عين إمام المسلمين قوماً للجهاد واستنفرهم لذلك فرض عليهم أن يطيعون

1 الأنفال: 45.

2 الجامع لأحكام القرآن 8/23.

3 أخرجه البخاري 2/131 كتاب الوصايا. ومسلم 1/92 كتاب الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها حديث رقم 145.

4 أخرجه أحمد 5/238.

ص: 65

في ذلك وينفروا إلا من له عذر قاطع1، عملاً بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .2

فهذا توعد من الله سبحانه وتعالى للذين لم يلبوا نداء الإمام بالعذاب الأليم، وهذا التوعد لا يكون إلا على ترك واجب وهو وجوب النفر على من استنفره الإمام.

قال في نهاية المحتاج: "الوعيد لمن عينه صلى الله عليه وسلم ولم يتعين".3 أما الدليل من السنة على وجوب النفر لمن استنفره إمام المسلمين فحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: "لا هجرة بعد الفتح وإذا استنفرتم فانفروا"4.

فهذا الحديث نص صحيح صريح في وجوب النفر لمن استنفره إمام

1 المغني 8/346 - 347، والزوائد 1/335، وإحكام الأحكام شرح العمدة 4/222، وفتح الباري 6/39، والمحلى 7/291- 292.

2 التوبة: 38 – 39.

3 نهاية المحتاج 8/48.

4 سبق تخريجه ص 53 ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنفرتم فانفروا": أي إذا طلبكم الإمام للخروج إلى الجهاد فاخرجوا، وفيه دليل على أن الجهاد ليس فرض عين بل فرض كفاية كما سبق.

ص: 66

المسلمين.

قال ابن حجر: "وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام".1

وقال ابن حزم: "ومن أمره الأمير بالجهاد إلى دار الحرب ففرض عليه أن يطيعه في ذلك إلا من له عذر قاطع".2

أنواع الجهاد

قال ابن قيم الجوزية: الجهاد أربع مراتب:

جهاد النفس

جهاد الشيطان

جهاد الكفار

جهاد المنافقين3.

فجعل جهاد النفس في المرتبة الأولى.

لأن النفس الأمارة بالسوء من ألدّ الأعداء التي يجب على المسلم مجاهدتها، ومحاربتها، لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، لأنها ميالة إلى الشهوات والمغريات، فجهادها متعين على جميع المسلمين، وجهادها يكون بتهذيبها، وتمرينها على طاعة الله وتخليصها من الأهواء والشهوات، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا

1 انظر: فتح الباري 6/39.

2 انظر: المحلى 7/291.

3 انظر زاد المعاد 3/6.

ص: 67

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا1} .2

ومعنى ألهمها فجورها أي أرشدها إلى سبل الخير، وشين لها سبل الشر جميعاً، وتكون تزكيتها بحملها على طاعة الله تعالى، وتطهيرها من الذنوب وتنقيتها من العيوب وتعليقها بالعلم النافع والعمل الصالح. وتدسيتها بأخذها بمعصية الله تعالى.3

قال قتادة:"أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وصالح الأعمال وخاب من دس نفسه في المعاصي"4

وجهاد النفس يكون أيضاً، بتوجيهها إلى الحق في ذاته لا حباً في شهرة ولا رغبة في متعة، ولا طلباً لمصلحة، فالله سبحانه وتعالى يقول:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} 5 إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه، أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله

1 دساها أي أخفاها في المعاصي، وأمات استعدادها للخير بالمداومة على اتباع طرق الشيطان وفعل الفجور. تفسير ابن سعدي 7/633.

2 الشمس: 7 - 8 - 9 – 10.

3 تفسير القرآن العظيم 4/216، والجامع لأحكام القرآن، 20/77. وتفسير ابن سعدي 7/633.

4 انظر: الجامع لأحكام القرآن 2/77.

5 الحج: 78.

ص: 68

وردها عن الهوى.1

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .2

قال القرطبي: "ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الأكبر".3.

وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجاهد الإنسان نفسه فقال صلى الله عليه وسلم "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب".4

وقال صلى الله عليه وسلم: "قدمنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا وما الجهاد الأكبر يا رسول الله قال: جهاد النفس".5

فجهاد الكفار الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد الأصغر، متوقف على

1 الجامع لأحكام القرآن 13/99.

2 العنكبوت: 69.

3 انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/364 – 365.

4 أخرجه أحمد 6/21 – 22 والترمذي 4/165 كتاب فضائل الجهاد حديث رقم 1621 وقال حديث حسن صحيح، والدارمي 2/211 كتاب الجهاد.

5 أخرجه البيهقي 9/125 بإسناد ضعيف، لكن معناه صحيح لأن المسلم إذا لم يجاهد عدوه الأكبر وهو نفسه لم يستطيع مجاهدة عدوه الأصغر وهم الكفار لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

ص: 69

الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، لذلك كان جهاد النفس مقدماً على جهاد الكفار، وأصلا له لأن المسلم إذا لم يجاهد عدوه الباطن وهو نفسه- لتفعل ما تؤمر له، وتترك ما تنهى عنه- لا يستطيع أن يجاهد عدوه الظاهر، لأن عدوه الباطن الذي بين جنبيه، قاهر له متسلط عليه، لم يجاهده، ولم يحاربه، فالمسلم متى قدر على مجاهدة عدوه الأكبر وهو النفس، قدر على مجاهدة عدوه الأصغر وهو الكفار.1

قال ابن قيم الجوزية: "وجهاد النفس أربع مراتب:

أولاً: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الحق، الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به.

ثانياً: أن يجاهدها على العمل بما تعلمت، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.

ثالثاً: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه.

رابعاً: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق".2

وبهذا ينبغي أن نعلم أن النفس الإنسانية الأمارة بالسوء من أخطر الأعداء التي يجب أن يستفرغ ما في الوسع والطاقة في محاربتها، ومجاهدتها، وهذا فرض متعين على كل مسلم يخاف الله، ويرجو رحمته، فلا ينوب في جهادها أحد عن أحد، والمثل الأعلى للنفس المؤمنة المجاهدة في سبيل الله،

1 زاد المعاد 3/6.

2 زاد المعاد 3/10.

ص: 70

وهو رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم.

فقد جاهدوا في الله حق جهاده، فقد لا قوا في سبيل الله وإعلاء كلمته ونشر دينه أشد أنواع العذاب مما لا يعمله إلا الله، ولكنهم صبروا وجاهدوا أنفسهم أولاً على طاعة الله وترك ما حرم الله، ثم جاهدوا عدوهم ثانياً حتى نصرهم الله بنصره وأيدهم برحمته.

النوع الثاني: جهاد الشيطان:

إن من فضل الله سبحانه وتعالى على عباده ورحمته بهم، وتيسيره عليهم، أن عرفهم بأعدائهم، الذين ابتلاهم بهم في هذه الحياة، وعلى أساليبهم، وطرقهم في الغواية والصد عن سبيل الله.

ومن أخطر الأعداء للإنسان في هذه الحياة ذلك العدو اللدود الذي لا يقل خطراً عن العدو الأول النفس الأمارة بالسوء، بل إنه أشد عداوةً وخطراً، ألا وهو الشيطان الرجيم، الذي يجري من الإنسان مجرى الدم، والذي أعلمنا الله سبحانه وتعالى بأنه قد أخذ العهد على نفسه لإغواء ذلك المخلوق الضعيف، وصده عن سبيل الله.

فيقول سبحانه وتعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} .1

ويقول سبحانه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ

1 الأعراف: 16-17.

ص: 71

وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} .1

وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} .2

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذا العدو في كتابه في آيات كثيرة ليحذرنا منه ويدلنا على خطورته، وبيان عداوته وطرق أساليبه في الصد عن سبيله.

فيقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} .3

فالأمر باتخاذه عدواً معناه أن نحقق معنى جهاده وهو استقراغ ما في الوسع والطاقة في مجاهدته لأنه عدو لا يفتر، ولا يقصر عن محاربة العبد.4

ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} .5

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يحذرنا الله سبحانه فيها من هذا العدو المبين.

ولكن رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده لم تنته عند هذا الحد، عندما بين لهم أعداءهم وخصومهم، ولم يجعلهم في حيرة من أمرهم، بل زادهم فضلاً على فضل، ورحمة على رحمة، وتيسيراً على تيسير عندما بين لهم

1 الحجر: 39-40.

2 البقرة: 268.

3 فاطر: 6.

4 زاد المعاد 3/6.

5 الإسراء: 53.

ص: 72

الطرق القويمة التحصن من هذا العدو اللئيم، فيقول سبحانه وتعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .1

وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .2

فالله سبحانه وتعالى يأمرنا بالاستعاذة منه عندما يوسوس لنا ويزين لنا طرق الشر من اتباع الشهوات والمغريات، ويبعدنا عن طرق الخير، وطريقُ الاستعاذة من أعظم الطرق التي يجاهد بها هذا العدو اللعين.

وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} .3

قال القرطبي: "همزات الشيطان أي نزغات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى، والله سبحانه وتعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتعوذ من الشيطان في همزاته وهي سورات4 الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه".5.

وكما حذرنا القرآن الكريم من الشيطان وبين لنا أنه العدو الأصيل في هذه الحياة، وبين لنا أعظم الطرق للتخلص منه، فكذلك سنة نبينا صلى الله عليه وسلم

1 الأعراف: 200.

2 فصلت: 36.

3 المؤمنون: 97.

4 سورات: سورة الخمر حدتها والسورة الوثبة يقال إن لغضبه لسورة أو لوثبة. لسان العرب 4/384، 385.

5 الجامع لأحكام القرآن 12/248.

ص: 73

لا تقل شأناً عن القرآن في التحذير من هذا العدو الخبيث، وبيان خطره وحيله في إضلال العباد عن طاعة الله سبحانه وتعالى، وبيان الأدوية الشافية النافعة لعلاج هذا الداء.

فمن الأحاديث التي يحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من الشيطان ومكره، قولهصلى الله عليه وسلم في حديث صفية رضي الله عنها:"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم".1

وهذا من أبلغ ما ورد في التحذير من هذا العدو المبين.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول صلى الله عليه وسلم: "يعقد الشيطان على قافية2 رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدها كلها، فأصبح نشطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان".3

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما يقول صلى الله عليه وسلم: "أما إن أحدكم إذا أتى أهله وقال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب

1 أخرجه البخاري 4/240 كتاب الأحكام باب الشهادة تكون عند الحاكم. ومسلم 4/1712 كتاب السلام حديث 2174، 2175.

2 القافية آخر الرأس، وقافية كل شيء آخره، ومنه قافية الشعر.

3 أخرجه البخاري 2/220 واللفظ له كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده ومسلم 1/538 كتاب صلاة المسافرين حديث 776.

ص: 74

الشيطان على ما رزقتنا، فرزقا ولداً لم يضره الشيطان".1

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي يحذرنا فيها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من خطر هذا العدو الأصيل القديم لابن آدم وكيفية التخلص منه، ومن خطره، ومجاهدته بطاعة الله سبحانه وتعالى، والإكثار من ذكره جل وعلا، والتعوذ من همزاته ونزاغاته ووساوسه.

وكما قسم ابن القيم رحمه الله جهاد النفس إلى مراتب، فكذلك قسم جهاد الشيطان إلى مرتبتين:

إحداهما: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.

الثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.2

فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني: يكون بعده الصبر.

قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} .3

فأخبر الله أن إمامة الدين، إنما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع

1 أخرجه البخاري 1/40 كتاب الوضوء باب التسمية. ومسلم 2/1058 كتاب النكاح حديث 1434.

2 انظر: زاد المعاد 3/10.

3 السجدة: 24.

ص: 75

الشهوات، والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.1

وبهذا يجب أن نعلم أن جهاد الشيطان فرض متعين على كل فرد مسلم، فلا ينوب فيه أحد عن أحد.

وبخاصة في هذا الوقت الذي كثر فيه المغريات، واتباع الشهوات، وهذا هو المدخل والبوابة الرئيسية، لمرور هذا العدو المبين.

نسأل الله العلي القدير، أن يعيذنا من الشيطان وأعوانه، وأن يجعلنا من أعدائه، وأن يرزقنا اتباع كتابه، والاقتداء بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

النوع الثالث: جهاد الكفار:

الكفار نوع من البشر الذين استحوذ الشيطان على قلوبهم وجعل منها منزلاً يقطنه، ويسكن فيه فجعلهم ينجرفون في ارتكاب المحرمات والموبقات كالإشراك بالله، وعبادة غيره من الأصنام والأوثان، وجعلهم يتخذون لأنفسهم إلها غير الله، وأحكاماً ومناهج وقيماً بعيدة عن أحكام الله وتشريعاته التي شرعها لعباده المؤمنين.

وهؤلاء الكفار لا يقفون موقف المسالم من المسلمين، ولا يتركون للمسلمين الحرية المطلقة في نشر دين الله، وإعلاء كلمته سبحانه وتعالى، وإنما يقفون منهم موقف العدو المعاند المعارض لأحكام الله، ونشر دينه، والدعوة إليه.

فمن أجل ذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمجاهدة هذا العدو الذي

1 المصدر السابق.

ص: 76

لا يقل خطراً عن العدوين السابقين.

وبين لنا أن مجاهدتهم واجبة، محافظة على نشر الدين الإسلامي وإبلاغ دعوته في جميع أنحاء الأرض.

ومجاهدة هذا العدو والتخلص من ضرره تكون بالنفس، والمال، واللسان. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . 1

ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكفار وأن يقسو عليهم في المجاهدة.

وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} .2

ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله عباده المؤمنين بمجاهدة الكفار وبذل ما في الوسع والطاقة في مجاهدتهم بالمال والنفس.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".3

فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يأمرنا بمجاهدة المشركين بالمال والنفس واللسان تحقيقاً لنشر الدين الإسلامي ورفع رايته في أنحاء المعمورة.

1 التوبة: 73، التحريم:9.

2 التوبة: 41.

3 سبق تخريجه ص40.

ص: 77

ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "جاهدهم بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فقطب1 في وجوههم".2

والقدوة الحسنة لنا في جهاد هذا العدو الخبيث هو رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم فقد جاهدوا الكفار حق المجاهدة، رغم ما اعترض طريقهم من الشوائك والمصاعب إلا أنهم جاهدوا وصبروا، فحققوا الانتصارات الإسلامية العظيمة التي عمت جميع أنحاء الأرض من الشرق إلى الغرب، ولم يبق إلا واجبنا نحن تجاه هذا العدو الماكر، وهو أن نخطو خطاهم ونسير على الطريق التي رسمها لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده في مجاهدة هذا العدو الخبيث، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يجاهدون في سبيله حق جهاده بالنفس والمال واللسان.

النوع الرابع: جهاد المنافقين:

إن من أخطر أعداء الدعوة الإسلامية وأشد المعوقات لطريقها وتقدمها، هي حركة النفاق التي تبتلى بها الفئة المسلمة.

1 التقطيب هو: تزوي ما بين العينين عند العبوس والغضب. انظر لسان العرب 1/680.

2 أحكام القرآن لابن العربي: 2/977، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/371.

ص: 78

وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: "وقد هتك الله أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن الكريم وجلى لعباده أمورهم، ليكونوا منها على حذر".1

وذكر الله طوائف العالم الثلاثة في أول سورة البقرة، المؤمنين، والكفار، والمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاثة عشر آية لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم، وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإن بلية الإسلام بهم شديدة جداً، لأنهم منسوبون إليه، وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب، يظن الجاهل أنه علم، وأصلح، وهو غاية الجهل والفساد.

رأس مالهم الخديعة والمكر وبضاعتهم الكذب والختر2 {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} .3

قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت المقاصد السيئة على إرادتهم ونياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .4 لكل منهم وجهان: وجه يلقى به المؤمنين، ووجه ينقلب به إلى إخوانه الملحدين وله لسانان: أحدهما يقبل بظاهره المسلمون، والآخر يترجم به عن سره المكنون5 كما قال تعالى {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا

1 انظر: صفات المنافقين لابن القيم ص 16.

2 الختر: شبيه بالغدر والخديعة، وقيل الخديعة بعينها، وقيل هو أسوأ الغدر وأقبحه. لسان العرب 4/229.

3 البقرة: 9.

4 البقرة:10.

5 انظر: صفات المنافقين لابن القيم ص 16، 21.

ص: 79

مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} .1

وقال بعض العلماء: "وهذا الصنف من الأعداء أخطر من غيرهم على دعوة الإسلام ودولة الإسلام لخبث أساليبهم وكمون عداوتهم، ووصولهم إلى مواقع بين المسلمين لا يصل إليها غيرهم من الكفار، ويكفيك في إدراك مدى خطورتهم، أن تعلم أنهم قاعدة الكفر المستترة في ديار الإسلام، ومنفذ الكفار إلى قلب الأمة الإسلامية فهم أعوان كل عدو للمسلمين وأولياؤه".2

وقد أجمع علماء المسلمين على أن المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر أشد خطراً على الإسلام من الكفار المجاهرين بعداوتهم لأنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وموهوا به خداعاً واستهزاءً، لذلك جعل الله عذابهم من أشد العذاب في الآخرة3، قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} .4

لذلك كان جهاد هذا الصنف من الأعداء من ألزم الجهاد على المسلمين، وتجنب خطرهم أولى من تجنب خطر غيرهم من الأعداء، ولا أدلّ على هذا أن القرآن قد شغل الحيز الأكبر في الحديث عنهم وعن

1 البقرة: 14.

2 الحضارة الإسلامية للمودودي ص 263.

3 جامع التأويل 1/35، وآيات الجهاد 319.

4 النساء: 145.

ص: 80

أوصافهم وطرقهم، في الصد عن سبيل الله ونشر دينه، فإنه لا تكاد هناك سورة مدنية تخلو من إلقاء الأضواء الكاشفة على هذا الصنف من أعداء الإسلام، حتى بلغ ما خصص للحديث عنهم وعن أساليبهم في محاربة الإسلام والمسلمين، وصفاتهم الخبيثة، ما يقارب عشر القرآن الكريم.1

ومن أصرح الآيات في وصفهم وبيان خبثهم قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} .2

وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .3

أي هم العدو الحقيقي العدو الكامن المختبئ داخل الصف، فهم أخطر من العدو الخارجي، وهم العدو الأول للمسلمين يجب أن يحتاط

1 في ظلال القرآن الكريم 8/104 وآيات الجهاد ص 317.

2 البقرة: 204، 205، 206.

3 المنافقون: 4.

ص: 81

لهم، وأن يحذروا أكثر من غيرهم.1

وقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين بجهادهم ومحاربتهم وأخذ الحذر منهم، فقال سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .2.

وقد جاهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم في عهده وأصحابه رضوان الله عليهم حق المجاهدة كما أمرهم الله بذلك.

وكما حذر القرآن الكريم من المنافقين ودعا إلى جهادهم فكذلك السنة فهي مملوءة بالتحذير منهم وبيان صفاتهم الخبيثة، وبيان الأدوية النافعة الشافية لعلاج داء النفاق. فيقول صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما:"أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".3

فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا في هذا الحديث الخصال التي إذا اجتمعت في شخص اتصف بصفة النفاق، ومع هذا البيان يحذرنا صلى الله عليه وسلم من الاتصاف بهذه الخصال ويأمرنا بتركها.

1 في ظلال القرآن 8/108.

2 التوبة: 73، التحريم:9.

3 أخرجه البخاري 1/15 كتاب الإيمان باب علامة النفاق واللفظ له. ومسلم 1/78 كتاب الإيمان باب بيان خصال المنافق.

ص: 82

2-

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون".1

وقال أيضاً: "إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان".2

إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار، التي تحذرنا من الاتصاف بهذه الصفة الخبيثة وتأمرنا بمحاربتها وتبين لنا وسائل معالجتها بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم باتباع الأوامر التي أمرنا الله بها ررسوله صلى الله عليه وسلم وترك النواهي التي نهانا الله عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وخصال النفاق الأربعة، من الخيانة، والكذب، والغدر، والفجور، قد تكون الأكثر شيوعاً وانتشاراً في زماننا هذا لأن أكثر مصالح الناس، وحاجاتهم الدنيوية لا تقضى غالباً إلا لمن اتصف بهذه الخصال، أو بواحدة منها.

لذلك يجب على المسلم أن ينبذ هذه الخصال ويمحها من نفسه أولاً، ثم ينبذها من غيره من المسلمين ممن يتصف بها ثانياً:، باليد، أو باللسان، أو بالقلب، تحقيقاً لأمره صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".3

1 أخرجه البخاري 4/230 كتاب الفتن باب إذا قال عند قوم شيئاً ثم خرج فقال بخلافه.

2 المصدر السابق.

3 أخرجه مسلم 1/69 كتاب الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.

ص: 83

والاتصاف بهذه الخصال أو بواحدة منكر يجب على المسلم نبذه وتغييره من نفسه أو من غيره.

ص: 84

فضل الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، ونشر دينه يعد من أفضل الأعمال بعد أداء الفرائض.

وفي هذا يقول الإمام أحمد رحمه الله: "لا أعلم شيئاً من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد".1

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان باتفاق العلماء أنه أفضل من الحج والعمرة ومن صلاة التطوع والصوم التطوع كما دل عليه الكتاب والسنة"2.

ولا عجب إن كان الجهاد أفضل الأعمال بعد الفرائض، لأن المجاهد يضحي بأغلى ما يملك وهي نفسه العزيزة المحبوبة إليه، ويجود بها، وهذا أقصى غاية الجود، كل ذلك لتكون كلمة الله هي العليا، ولنيل ما أعده الله للمجاهدين في سبيله من فضل عظيم في الدنيا والآخرة، فقد وعد الله من جاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة التي هي من أهم وأعظم جزاء يعده الله سبحانه وتعالى لعباده المجاهدين في الآخرة، أما في الحياة الدنيا فقد وعده بأن يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر، أو غنيمة.

وقد أتحفنا القرآن الكريم بأروع المعاني في فضل الجهاد:

1 انظر: مختصر الخرقي ص 117.

2 انظر: السياسة الشرعية ص 120.

ص: 85

1-

فيقول سبحانه وتعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} .1

فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يخاطب المؤمنين الذين يبيعون الدنيا رغبة عنها بالآخرة رغبة فيها بالمقاتلة في سبيل الله، ويحثهم على أن يثبتوا في المعركة حتى يُعِزُّوا أنفسهم بالشهادة، فيدخلهم الجنة أو يعزوا دينهم بالنصر والغلبة وينالوا الغنيمة.

2-

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .2

قال الإمام القرطبي: "اشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضاً عنها إذ فعلوا ذلك، وهو عوض عظيم لا يداينه المعوض، ولا يقاس به، فأجرى ذلك على مجاز كما يتعارفونه في البيع والشراء.

1 النساء: 74.

2 التوبة: 111.

ص: 86

فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثواب والنوال، فسمى هذا شراء".1

وقال الحسن: "ومر أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} قال كلام من هذا؟ قال: كلام الله، قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستشهد".2

وقال الإمام ابن كثير: "يخبر الله تعالى أنه عاوض من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قيل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له ولهذا قال الحسن البصري وقتادة: بايعهم والله فأغلى ثمنهم".3

3-

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .4

قال الشيخ ابن سعدي: "هذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم

1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 8/267.

2 المصدر السابق.

3 تفسير القرآن العظيم 2/391.

4 الصف: 10، 11.

ص: 87

الراحمين، لعباده المؤمنين، لأعظم تجارة وأجل مطلوب، وأعلى مرغوب، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز بالنعيم المقيم، وأتى بأداة العرض، الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كل معتبر، ويسمو إليه كل لبيب، فكأنه قيل ما هذه التجارة التي هذا قدرها، فقال:{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق به، المستلزم لأعمال الجوارح التي من أجلها الجهاد في سبيله، فلهذا قال:{وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} بأن تبذلوا نفوسكم ومهجكم، لمصادمة أعداء الإسلام، والقصد دين الله وإعلاء كلمته".1

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين لنا فضل الجهاد في سبيل الله في الحياة الدنيا والآخرة.

وكما وردت الآيات الوافرة في فضل المجاهدة في سبيل الله ولإعلاء كلمته، فإن السنة النبوية مملوءة بالثروة الضخمة من الأحاديث التي تصرح بفضل الجهاد في سبيل الله وأنه لا جزاء له إلا الجنة.

ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصى ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان".2

1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 7/372.

2 انظر: السياسة الشرعية لابن تيمية ص 121.

ص: 88

وقال الشوكاني: "والأحاديث في فضل الجهاد كثيرة جداً لا يتسع لبسطها إلا مؤلف مستقل".1

ولذلك فإنني سأكتفي بذكر بعض الأحاديث الدالة على فضل الجهاد في سبيل الله، فيقول سيد البشر صلى الله عليه وسلم في فضل الجهاد والمجاهدين:

1-

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله" 2

فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا في هذا الحديث أن المؤمن إذا جاهد بنفسه وماله كان من أفضل الناس.

2-

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: "يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله".3

وجه الدلالة من الحديث:

دل الحديث دلالة صريحة على فضل الجهاد في سبيل الله وأنه من أفضل الأعمال بعد أداء الصلاة على وقتها وبر الوالدين.

قال بعض العلماء: "إنما خص صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة بالذكر لأنها عنوان

1 انظر: نيل الأوطار 7/211.

2 أخرجه البخاري 2/135 كتاب الجهاد باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله. ومسلم 3/1503 كتاب الإمارة - باب فضل الجهاد والرباط.

3 أخرجه البخاري 2/134 كتاب الجهاد والسير باب فضل الجهاد واللفظ له. ومسلم 1/89،90 كتاب الإيمان باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال.

ص: 89

على ما سواها من الطاعات، فإن من ضيع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر مع خفة مئونتها عليه، وعظيم فضلها، فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه، كان لغيرهما أقل براً، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك".1

3-

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم من يجاهد في سبيله، كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه، أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجر أو غنيمة".2

قال ابن حجر: "شبه حال الصائم القائم بحال المجاهد في سبيل الله في نيل الثواب في كل حركة وسكون لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة، فأجره مستمر، وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب".3

4-

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي، وإيماناً بي، وتصديقاً

1 فتح الباري 6/4.

2 أخرجه البخاري 2/135 كتاب الجهاد باب أفضل الجهاد مؤمن يجاهد بنفسه وهذا لفظه. ومسلم 3/1798 كتاب الإمارة باب فضل الشهادة بلفظ: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حنى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى".

3 انظر: فتح الباري 6/7.

ص: 90

برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنة الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة".1

وجه الدلالة في الحديث:

يبين لنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله تكفل للمجاهد في سبيله بإحدى الحسنيين إما أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى محله الذي خرج منه سالماً غانماً وهذان أعظم فضائل الجهاد.

5-

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لغدوة 2 في سبيل الله، أو روحة 3 خير من الدنيا وما فيها".4

وجه الدلالة:

يبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الخرجة الواحدة للمجاهد في سبيل الله سواء كانت أول النهار أو في آخره، خير من الدنيا وما فيها، وأي عمل يوازي هذا العمل أو يفضله؟ وهذا قليل من كثير مما ورد من الأحاديث الصحيحة الصريحة فيما أعده الله للمجاهدين في سبيله وأنه لا جزاء لهم إلا الجنة.

1 أخرجه الإمام مسلم 3/1495 كتاب الإمارة باب فضل الجهاد.

2 الغدوة: ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. انظر المصباح المنير 2/443. وقيل هي الخروج أول النهار إلى الزوال.

3 الروحة: الخروج آخر النهار، أي بعد الزوال.

4 أخرجه البخاري 2/136 كتاب الجهاد باب الغدوة والروحة ومسلم 3/1499 كتاب الإمارة باب فضل الغدوة والروحة.

ص: 91

فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "وهذا باب واسع لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه، فهو ظاهر عند الاعتبار، فإن نفع الجهاد عام لفاعله، ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة، والظاهرة، فإنه مشتمل على محبة الله، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله، وسائر الأعمال، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر، والقائم به من الشخص والأمة، بين إحدى الحسنيين دائماً، إما النصر والظرف، وإما الشهادة والجنة".1

1 انظر: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص 123.

ص: 92

حكمة مشروعية الجهاد

إن الله سبحانه وتعالى له الحكم التام والحكمة البالغة فيما خلقه وشرعه، فهو الحكيم في خلقه وشرعه، فما من عبادة شرعها لعباده إلاّ لحكمة بالغة، علمها من علمها من خلقه، وجهلها من جهلها، وليس جهلنا عن شيء من حكم العبادات دليلاً على أنه لا حكمة لها بل هو دليل على عجزنا وقصورنا عن إدراك حكمة الله سبحانه وتعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} 1 وكما شرع الله الصلاة والزكاة والصيام وغيرها من أنواع العبادات لحكم بالغة وأهداف جليلة، فكذلك شرع الله الجهاد في سبيله لحكم كثيرة استوجبت أن يكون ذروة سنام الإسلام.

ومن أهم حكمه:

الجهاد في سبيل الله هو: إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، ورفع رايته، ونشر دعوته، في جميع أنحاء الأرض، فلم يشرع الله الجهاد لحب الغلبة أو الشهرة، أو الظهور، أو التسلط، أو العدوان، أو الانتقام.

وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} .2

1 النساء: 85.

2 النساء: 76.

ص: 93

وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} .1

وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .2

قال ابن جرير الطبري: "فقاتلوهم حتى لا يكون الشرك، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة، ويكون الدين كله لله، وحتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله، خالصة دون غيره".3

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية4 ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".5

1 البقرة: 193.

2 الأنفال: 39.

3 انظر: جامع البيان للطبري 13/537.

4 الحمية: هي الأنفة والغيرة والمحاماة عن العشيرة. شرح النووي على مسلم 9/150.

5 أخرجه البخاري 2/139 كتاب الجهاد باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. ومسلم 3/513 كتاب الإمارة باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. واللفظ له.

ص: 94

وهذه الحكمة البالغة للجهاد في سبيل الله المتضمنة إعلاء كلمته سبحانه وتعالى، ورفع راية التوحيد، وإقامة سلطان الله في الأرض، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وإخلاء العالم من الفساد الأكبر الذي هو الشرك وما ينتجه عنه، وإزالة الطواغيت الذين يحولون بين الناس وبين الإسلام، موضع اتفاق بين فقهاء المذاهب الإسلامية وإليك بعض أقوالهم في هذه الحكمة:

قال محمد بن الحسن: "فرضية القتال المقصود منها إعزاز الدين وقهر المشركين".1

وقال الكاساني: "لأن ما فرض له الجهاد هو الدعوة إلى الإسلام وإعلاء الدين الحق ودفع شر الكفرة وقهرهم".2

وقال ابن الهمام: "المقصود بالجهاد هو إخلاء العالم من الفساد".3

وقال الخرشي: "الجهاد هو قتال مسلم كافراً غير ذي عهد إعلاء كلمة الله".4

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالقتال واجب، حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله، فالقتال واجب"5

1 انظر: السير الكبير 1/188.

2 انظر: بدائع الصنائع 7/98.

3 انظر: فتح القدير 4/277.

4 انظر: الخرشي على مختصر خليل 3/107.

5 انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/502، 503.

ص: 95

وقال ابن القيم: "والمقصود من الجهاد إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، فإن من كون الدين كله لله، إذلال الكفر، وأهله وصغاره، وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق على رقابهم فهذا من دين الله، ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم وإقامة دينهم، كما يحبون، بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة".1

وهناك حكم كثيرة للجهاد كلها تابعة للحكمة الأولى التي تقدمت وتصب فيها، منها على سبيل المثال:

1-

رَدُّ أي اعتداء واقع على دار الإسلام من قبل أعدائهم الكفار.

قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .2

وقال تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .3

2-

إنقاذ المستضعفين والمظلومين من المسلمين الذين يعيشون تحت سلطان دولة ظالمة غير مسلمة.

قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ

1 انظر: أحكام أهل الذمة 1/18.

2 البقرة:190.

3 التوبة: 13.

ص: 96

الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} .1

3-

إرهاب الأعداء وإذلالهم، وكيدهم وإغاظتهم.

قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} .2

وقال تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} .3

4-

تربية نفوس المؤمنين على الصبر والثبات والطاعة والقوة وبذل النفس والمال في سبيل الله وغير ذلك من الفوائد التربوية، فإن الركون إلى الراحة والدعة، وعدم ممارسة الشدائد والصعاب، تورث الشخص ذلاً، وخمولاً، وتشبثاً بمتاع الحياة الدنيا، وخوضُ المعارك ومقارعة الأعداء والتعرض لنيل رضا الله في ساحات الوغى، يصقل النفوس ويهذبها ويذكرها بمصيرها، ويوجب لها استعداداً للرحيل حتى تصبح ممارسة الجهاد عادة، تشتاق لها لنفوس المؤمنة، كما يشتاق الخاملون للقعود والراحة.4

1 النساء: 75.

2 الأنفال: 60.

3 الأنفال: 18.

4 أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية ص 183.

ص: 97

5-

منعُ الفتن التي قد تحدث داخل المجتمع الإسلامي، وهي ثلاث فتن: الردة، والبغي، والحرابة، فمن ولد وهو مسلم أو أسلم وهو كافر ثم ارتد عن الإسلام إلى الكفر وأصر على ذلك ولم يتب، وجب جهاده حتى يعود إلى الإسلام أو يقتل1 لقوله صلى الله عليه وسلم:"من بدل دينه فاقتلوه".2

وكذلك طائفة البغاة من المسلمين التي تبغي عن الحق إلى الباطل، وتخالف جماعة المسلمين وتتميز بدار وتمنع ما عليها من الحقوق فيجب جهاد هذه الطائفة حتى تفيء إلى أمر الله، وتعود إلى جماعة المسلمين لقوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .3

أما قطاع الطريق الذين يجتمعون على قطع الطريق على المسلمين ومحاربتهم وإشهار السلاح في وجوههم لأخذ أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم، فهؤلاء يجب جهادهم فهم المحاربون الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ

1 آيات الجهاد ص 175.

2 أخرجه البخاري 4/196 كتاب استتابة المرتدين باب حكم المرتد والمرتدة.

3 الحجرات: 9.

ص: 98

يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .1

وفي هذا يقول بعض العلماء: "ومن الحكمة في الجهاد بأنواعه، أن يعبد الله وحده، مع ما يتبع ذلك من دفع العدوان والشر وحفظ الأنفس والأموال ورعاية الحق، وصيانة العدل، وتعميم الخير ونشر الفضيلة".2

1 المائدة: 33.

2 منهاج المسلم ص 350.

ص: 99