المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: في حكم دخول الكفار الحرم المكي - اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية - جـ ١

[عبد العزيز بن مبروك الأحمدي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الباب الأول: في تحديد معنى الدارين مع بيان سكانهما والدليل على هذا التقسيم والأماكن التي يمنع الكفار من دخولها

- ‌الفصل الأول: في تحديد معنى الدارين مع بيان سكانهما

- ‌المبحث الأول: في تحديد معنى الدار مجردة ومضافة إلى الإسلام

- ‌المطلب الأول: في تحديد معنى الدار مجردة عن الإسلام

- ‌المطلب الثاني: في تحديد معنى الدار مضافة إلى الإسلام

- ‌المبحث الثاني: في سكان دار الإسلام من غير المسلمين

- ‌المطلب الأول: الصنف الأول الذميون

- ‌المطلب الثاني: في الصنف الثاني: المستأمنون

- ‌المبحث الثالث: في تحديد معنى دار الكفر وأقسامها

- ‌المطلب الأول: في تحديد معنى دار الكفر

- ‌المطلب الثاني: في أقسام دار الكفر

- ‌المطلب الثالث في سكان دار الكفر

- ‌المبحث الرابع: في تغير وصف الدار

- ‌المطلب الأول: في انقلاب صفة الدار

- ‌المطلب الثاني: في أن الاستيلاء المجرد على الدار هل يغير صفتها

- ‌المطلب الثالث: في إمكانية انقلاب دار الإسلام إلى دار كفر

- ‌الفصل الثاني: في الدليل على تقسيم الأرض إلى دارين وأثر هذا التقسيم في تباين الأحكام

- ‌المبحث الأول: في الدليل على التقسيم

- ‌المطلب الأول: في الدليل على التقسيم من الكتاب والسنة والمأثور والإجماع

- ‌المطلب الثاني: في الرد على من قال إن الأرض دار واحدة

- ‌المبحث الثاني: أثر التقسيم في تباين الأحكام

- ‌الفصل الثالث: في الأمكنة التي يمنع المستأمنون أو غيرهم من دخولها واستيطانها

- ‌المبحث الأول: في النصوص الواردة في المنع

- ‌المبحث الثاني: في حكم استيطان الكفار لجزيرة العرب

- ‌المبحث الثالث: في حكم دخول الكفار الحرم المكي

- ‌المبحث الرابع: في حكم دخول الكفار الحرم المدني وسائر المساجد

الفصل: ‌المبحث الثالث: في حكم دخول الكفار الحرم المكي

‌المبحث الثالث: في حكم دخول الكفار الحرم المكي

تمهيد:

قبل أن نبدأ ببيان اختلاف الفقهاء في حكم دخول الكفار الحرم المكي نمهد بتمهيد نبين فيه حدود الحرم وهي مختلف فيها من جميع الجهات:

فحده من جهة التنعيم1: من الجهة الشمالية جهة المدينة - فيه ثلاثة أقوال:

قيل: ما يقارب ثلاثة أميال دون النتعيم عند بيوت نفار2 وهو قول أكثر العلماء.3

1 التنعيم موضع بمكة في الحل على فرسخين من مكة، وقيل على أربعة وسمي بذلك لأن جبلاً عن يمينه يقال نعيم وآخر عن شماله يقال له ناعم والوادي نعمان، وهو في طريق المدينة ومنه يحرم أهل مكة. معجم البلدان 2/49 وتحفة الراكع والساجد ص 76.

2 وقيل غفار ذكره الأزرقي في أخبار مكة 2/130.

3 أخبار مكة للأزرقي 2/131، والمذهب 2/331، والأحكام السلطانية ص 164، والقرى لقاصد أم القرى ص 651، وتحفة الراكع والساجد ص 76، وإعلام الساجد ص 63.

ص: 363

وقيل: أربعة أميال. قال به بعض المالكية.1

وقيل: خمسة أميال. قاله الباجي المالكي.2

قال الفاسي: وفي هذا القول نظر أي قول الباجي وكذا القول الذي قال إن حده أربعة أميال.3

أما حده من الجهة الجنوبية من طريق اليمن ففيه قولان:

قيل: ما يقارب سبعة أميال عند أضاة لبن4، وبه قال أكثر العلماء.5

وقيل: ستة أميال قال به بعض علماء الشافعية.6

أما حده من جهة طريق الطائف على طريق عرفة من بطن عرنة7-

1 شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/57.

2 انظر: المتقى شرح الموطأ 7/192.

3 انظر: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/57.

4 إضاة لبن وقيل أضاءة ابن مقشر لبن، وهي مستنقع الماء، ولبن جبل طويل له رأسان وهذه الإضافة معروفة الآن بإضاءة. انظر: تحفة الراكع والساجد ص 76، وشفاء الغرام 1/58.

5 أخبار مكة 2/131، وشفاء الغرام 1/58، وتحفة الراكع والساجد ص 76، وإعلام الساجد ص63، والأحكام السلطانية للماوردي ص 164.

6 إعلام الساجد ص 63، والقرى لقاصد أم القرى ص 651.

7 عرنة موضع بعرفة نزل به النبي صلى الله عليه وسلم وبها المسجد الكبير المقام في وادي عرنة. انظر: معجم البلدان 5/304، 305.

ص: 364

أي من الجهة الشرقية - ففيه أربعة أقوال:

قيل: ما يقارب أحد عشر ميلاً1، وقيل ثمانية عشر ميلاً قاله الباجي المالكي.2

وقيل: سبعة أميال قاله بعض الشافعية والحنابلة.3

وقيل: تسعة أميال. قاله بعض المالكية.4

أما حده من جهة جدة أي من الجهة الغربية ففيه قولان:

قيل عشرة أميال. قاله أكثر العلماء.5

وقيل: ثمانية عشر ميلاً. قاله الباجي.6

1 أخبار مكة 2/130، والممالك والمسالك ص 140، والقرى لقاصد أم القرى ص 651، وشفاء الغرام ص 1/56، وتحفة الراكع والساجد ص 76، والأحكام السلطانية للماوردي ص 164، وإعلام الساجد ص 63، والمهذب 2/331.

2 المنتقى شرح الموطأ 7/192.

3 الأحكام السلطانية للماوردي ص 165، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 193، والمهذب 2/331، وتهذيب الأسماء واللغات 3/82، والفروع 3/483.

4 شفاء الغرام 1/56.

5 أخبار مكة 2/131، والأحكام السلطانية للماوردي ص 164، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 192، وشفاء الغرام 1/85 وإعلام الساجد ص 63،، وتحفة الراكع والساجد 77، والمهذب 2/331، والفروع 3/483.

6 المنتقى شرح الموطأ 7/192.

ص: 365

وقد حدده العلامة الفاسي المالكي بالأذرع فقال في كتابه: "شفاء الغرام": "حده من جهة عرفة - أي الجهة الشرقية - سبعة وثلاثون ألف ذراع وعشرة أذرع وسبعا ذراع بذراع اليد.

وحده من جهة التنعيم - أي من الجهة الشمالية - وهي طريق المدينة من باب العمرة اثنا عشر ألف ذراع وأربعمائة ذراع وعشرون ذراعاً بذراع اليد.

وحده من جهة اليمين - أي من الجهة الجنوبية - من باب المسجد الحرام المعروف بباب إبراهيم عليه السلام أربعة وعشرون ألف وخمسمائة ذراع وتسعة أذرع.

وحده من جهة العراق سبعة وعشرون ألف ذراع ومائة واثنان وخمسون ذراعاً باليد.

وحده من جهة باب الشبيكة عشرة آلاف ذراع وثمانمائة ذراع واثنا عشر ذراعاً.

وهذا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع وهو الذي ينبغي في حدود الحرم.1

1 انظر: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/59، 64.

ص: 366

الخلاصة:

يتلخص لنا مما سبق بيانه في حدود الحرم أن الفقهاء اتفقوا على تحديد الحرم من جهات ثلاث، واختلفوا فيما عداه.

فاتفقوا على تحديده من جهة جدة أي من الجهة الغربية على أنه آخر الحديبية على بعد عشرة أميال.

ومن جهة اليمن عند أضاة لبن أي من الجهة الجنوبية على أنه على بعد سبعة أميال.

ومن جهة الجعرانة1 على أنه تسعة أميال.2

واختلفوا فيما عدا ذلك.

فقال الجمهور، الحنفية، والشافعية، والحنابلة:

حده من جهة المدينة أي من الجهة الشمالية على طريق النتعيم ثلاثة أميال عن بيوت نفار.

وحده من جهة الطائف على طريق عرفة من بطن عرنة أي من الجهة الشرقية سبعة أميال.

وحده من جهة العراق أي طريق الطائف المسمى بالسيل من الجهة الشرقية الشمالية على سبعة أميال.3

1 الجعرانة: هي ماء بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أقرب وتبعد منها بأربعة فراسخ. أي ما يقارب عشرون كيلو متراً. انظر: معجم البلدان 2/142.

2 حاشية ابن عابدين 2/479، ومجمع الأنهر 1/267، شفاء الغرام 1/56، وأسهل المدارك 1/498، والمجموع 7/175، والمبدع 3/206.

3 مجمع الأنهر 1/266، والأحكام السلطانية للماوردي ص 165، وغاية المنتهى 2/381، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 192.

ص: 367

وخالفهم فقهاء المالكية فقالوا:

حده من جهة المدينة على طريق التنعيم المسمى الآن بمساجد عائشة أربعة أميال أو خمسة.

ومن جهة الطائف على طريق عرفة إلى حد عرفة تسعة أميال.

ومن جهة العراق - طريق السيل - ثمانية أميال.1

وقد حدده بعض العلماء المعاصرين بالكيلو متر فقال:

حده من جهة الشمال التنعيم وبينه وبين مكة ستة كيلو مترات.

وحده من جهة الجنوب أضاة لبن إثنا عشر كيلو متراً.

وحده من جهة الشرق الجعرانة ستة عشر كيلوا متراً.

ومن جهة الغرب الشميسي خمسة عشر كيلو متراً.2

1 بلغة السالك 1/293، وأسهل المدارك 1/498، وشفاء الغرام 1/57، والمنتقى 7/192.

2 انظر: فقه السيد سابق 1/688، 689.

ص: 368

أما حكم دخولهم الحرم المكي:

فقد اتفق الفقهاء على أن ما كان خارج الحدود السابقة يجوز للكافر دخوله بإذن من الإمام أومن يقوم مقامه، لكن لا يجوز له سكناه واستيطانه وقد سبق ذكره.

واختلفوا في دخولهم الحرم المكي إلى قولين:

القول الأول: لا يجوز للكافر الذمي أوالمستأمن أو غيرهما دخول الحرم المكي لا مقيماً ولا ماراً به، ولو لمصلحة المسلمين، فإن دخله مشرك عزر إن دخله بغير إذن، وإن دخله بإذن لم يعزر وأنكر عل الآذن له، وإذا أراد الكافر دخول الحرم ليسلم فيه، منع من الدخول حتى يسلم قبل دخوله. حتى لو جاء الكافر لأداء رسالة يحرم عليه الدخول، ويخرج عليه الإمام أو من يقوم مقامه ليتسلم الرسالة خارج حدود الحرم.

وإذا دخل الكافر الحرم ومات فيه حرم دفنه فيه، ودفن في الحل، فإن دفن في الحرم نقل إلى الحل إلا أن يكون قد بلى فيترك فيه كما تركت أموات الجاهلية.

وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله عنهم ومجاهد

ص: 369

وقتادة وعطاء وسعيد بن جبير- رحمهم الله.1

وهو قول الجمهور من فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية.2

القول الثاني: أن الكافر بجوز له دخول المسجد الحرام ولا يمنع من دخوله كسائر المساجد، وللكافر أن يقيم فيه لكن لا يستوطنه وأيضاً يجوز له دخول الكعبة.

وهذا هو قول فقهاء الحنفية.3

قال الإمام السرخسي: "لا يمنعون من دخول المسجد الحرام، كما

1 الجامع لأحكام القرآن 8/104، وتفسير القاسمي 8/3101، والبحر المحيط 5/28، وفتح القدير للشوكاني 2/349.

2 مواهب الجليل 3/184، والخرشي على مختصر خليل 3/14، والجامع لأحكام القرآن 8/104، وأحكام القرآن لابن العربي 2/912، ومغني المحتاج 4/247، 248، وأسنى المطالب 4/214، ورحمة الأمة ص 308، وروضة الطالبين 10/309،310، والمهذب 2/331، ونهاية المحتاج 8/90، والأم 4/177، وإعلام الساجد ص 173، والأحكام السلطانية للماوردي ص 167، والمغني لابن قدامة 8/531، والمبدع 3/422، 423، وكشاف القناع 3/134، 135، والإنصاف 4/240، وأحكام أهل الذمة 1/185، والمحلى 4/243.

3 انظر: شرح السير الكبير 1/135، وأحكام القرآن للجصاص 3/88- 89، وعمدة القاري 4/199- 200، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 325.

ص: 370

لا يمنعون من دخول سائر المساجد، ويستوي في ذلك الحربي والذمي".1

سبب الخلاف بين الفقهاء:

هو اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} .2

فمن فهم من القرب المنع قال يمنعون من دخول المسجد الحرام وهم الجمهور، ومن قال: المراد بالقرب من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد الحرام قال: يجوز لهم دخول المسجد وهم فقهاء الحنفية.

الأدلة:

أولاً: أدلة الجمهور القائلين بمنع الكافر من دخول المسجد الحرام:

استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول.

أ - دليلهم من الكتاب:

1-

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا

1 انظر: شرح السير الكبير 1/135.

2 التوبة: 28.

ص: 371

الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .1

فالآية نص صريح في منع الكفار من دخول المسجد الحرام، لأن لا ناهية، والنهي يفيد التحريم.

وقد ذكر أكثر المفسرين أن الآية نص في تحريم الدخول.

ففي هذا يقول ابن كثير: "أمر الله تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتاً، ينفي المشركين هم نجس ديناً عن المسجد الحرام، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية وكان نزولها في سنة سبع".2

وقال أبو السعود: "نهى الله المؤمنين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام أي عن تمكينهم من قربان المسجد الحرام، وعلل هذا بأنهم نجس إما لخبث باطنهم أو لأن معهم الشرك المنزل منزلة النجس الذي يجب اجتنابه، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملامسة لهم".3

وقال الشوكاني: "الفاء للتفريع فعدم قربانهم المسجد الحرام متفرع

1 التوبة: 28.

2 انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/346.

3 انظر: تفسير أبي السعود 2/539.

ص: 372

على نجاستهم والمراد بالمسجد الحرام جميع الحرم".1 وقد ذكرت كتب الفقهاء الذين قالوا بالمنع الاستدلال بهذه الآية ويرجع إليها في الصفحات السابقة.

والمراد بالمسجد الحرام في الآية هو الحرام كله، لأن المسجد الحرام يذكر ويراد به عموم الحرم، كقوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} 2، ومن المعلوم أنه أسرى بالرسول صلى الله عليه وسلم من بيت أم هانئ وهو خارج عن المسجد.

ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي إن خفتم فقراً بمنعهم من الحرم وانقطاع التجارة عنكم فاعتصموا بفضل الله، وسوف يغنيكم من فضله، ومعلوم أن ما يخاف من هو في البلد لا في المسجد نفسه، وأن الجلب إنما يجلب إلى البلد لا إلى المسجد نفسه.

وذلك لأن موضع التجارات والمكاسب ليس هو عين المسجد، فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة.3

1 انظر: فتح القدير 2/349.

2 الإسراء: 1.

3 انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 26/206، والمبدع 3/493، والمغني 8/531، وأسنى المطالب 4/214، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص 174.

ص: 373

2-

وبقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} إلى قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} 1 أي بمكة وهو ما قبل الفتح فدل على تحريمها على الكافر بعد الفتح.2

ب - دليلهم من السنة:

1-

بما روى الإمام الشافعي أنه سمع عدداً من أهل العلم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع مسلم ومشرك في الحرم".3

2-

وبما روى عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل مشرك المسجد الحرام".4

3-

وقال الإمام الشافعي بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج ولا لمشرك أن يدخل الحرم".5

فهذه النصوص صريحة في منع المشركين من دخول المسجد الحرام.

1 البقرة: 126.

2 انظر: إعلام الساجد في أحكام المساجد ص 175.

3 الأم 4/177.

4 ذكره الشيرازي في المهذب 2/331، ولم أجده في كتب السنن المعروفة.

5 الأم 4/177.

ص: 374

ج - دليلهم من المأثور:

1-

بقول ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يدخل أحد مكة إلا محرماً) والكافر لا بمكن إحرامه فامتنع دخوله".1

2-

وبما قاله جابر رضي الله عنه وقتاده رحمه الله: "لا يقرب المسجد الحرام مشرك".2

د- دليلهم من المعقول:

1-

أن المسجد الحرام أفضل أماكن العبادات للمسلمين وأعظمها ولأنه محل النسك فوجب أن يمتع من دخوله غير المسلمين.3

2-

ولأن المشركين هم الذي أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام ومن مكة بغير وجه حق منزل القرآن يعاقبهم بالمنع من دخوله بكل حال من الأحوال.4

ثانياً: أدلة الحنفية القائلين بجواز دخول الكافر المسجد الحرام:

استدلوا بقياسه على سائر المساجد.

1 انظر: إعلام الساجد ص 175.

2 البحر المحيط 5/28.

3 انظر: المبدع لابن مفلح 3/423، وكشاف القناع 3/136.

4 انظر: أسنى المطالب 4/214.

ص: 375

قالوا: فكما أنه يجوز للكافر دخول سائر المساجد يجوز له دخول المسجد الحرام والدليل على ذلك أن وفد ثقيف لما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يضرب لهم قبة في المسجد فقيل هم أنجاس فقال: "ليس على الأرض من نجاستهم شيء، وإنما أنجاس الناس أنفسهم".1

فقاسوا جواز دخولهم مكة على جواز دخولهم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المناقشة:

أولاً: مناقشة أدلة الجمهور من قبل الحنفية:

أ- قال فقهاء الحنفية الآية لا تدل على منعهم من الدخول على أية هيئة، وإنما تدل على منعهم من الدخول على الوجه الذي كانوا اعتادوا عليه في الجاهلية على ما روى أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، والمراد بالقرب ليس المنع من الدخول وإنما من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد الحرام وبه نقول أن ذلك ليس إليهم ولا يمكنون منه بحال.2

قالوا: والمراد من النهي النهي عن تمكينهم من الحج والعمرة بدليل ما يلي:

1 انظر: شرح السير الكبير 1/134 - 135، وأحكام القرآن للجصاص 3/88.

2 شرح السير الكبير 1/134- 135، وأحكام القرآن للجصاص 3/88.

ص: 376

أولاً: قوله تعالى: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} فإن تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام، أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد هذا العام.

ثانياً: وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي بسورة براءة "وألا يحج بعد هذا العام مشرك"1.

ثالثاً: وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} فإن خشية الفقر إنما تكون بسبب انقطاع تلك المواسم ومنع المشركين من الحج والعمرة حيث كانوا يتاجرون في مواسم الحج، فإن ذلك يضر بمصالحهم المالية فأخبرهم تعالى بأنه الله يغنيهم من فضله.

رابعاً: إجماع المسلمين على وجوب منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة ومزدلفة وسائر أعمال الحج وإن لم تكن هذه الأفعال في المسجد الحرام2 وقال الجصاص: إنما معنى الآية على أحد وجهين:

1-

إما أن يكون النهي خاصاً في المشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد، لأنهم لم تكن لهم ذمة، وكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وهم مشركوا العرب.

1 أخرجه البخاري 1/77 كتاب الصلاة باب ما يستر من العورة.

2 انظر: شرح السير الكبير 1/135، وأحكام القرآن للجصاص 3/88، وتفسير أبي السعود 2/539، 540، وتفسير آيات الأحكام للسايس 3/23.

ص: 377

2-

أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكة للحج ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء يوم النحر في السنة التي حج فيها أن لا يحج بعد هذا العام مشرك.1

وقال صاحب الكشاف: "إن معنى قوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} أي لا يحجوا ولا يعتمروا ويدل عليه قول علي رضي الله عنه لا يحج بعد عامنا هذا مشرك.2

وبهذا يتبين أن المراد بالنهي في الآية وغيرها من النصوص هو منعهم عن قربان الحج والعمرة بعد عامهم هذا.3

أقول وبالله التوفيق:

يمكن الإجابة عن هذه المناقشة بما يلي: قولهم بأن المراد بالنهي هو النهي عن تمكينهم من الحج والعمرة هذا غير صحيح، لأن الآية نصت بل صرحت بمنع المشركين من قربان المسجد الحرام، والمسجد الحرام يطلق على الحرم كله، فيشمل أماكن الحج والعمرة التي يقولون بمنعهم منها، فإذا منعناهم من الحج والعمرة فمنعهم من دخول الحرم من باب أولى، لأن أماكن العمرة داخل المسجد الحرام وأماكن الحج داخلة في حدود الحرم.

1 أحكام القرآن للجصاص 3/88،89.

2 انظر: الكشاف للزمخشري 2/183، 184.

3 انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/88 - 89.

ص: 378

ب- أما بالنسبة للأحاديث التي وردت في منعهم من دخول المسجد الحرام فهي إن صحت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ المراد منها منعهم من الدخول للحج.

وقد روي في أخبار عن علي رضي الله عنه أنه نادى أن لا يحج بعد العام مشرك فثبت أن المراد دخول الحرم للحج.1

أما أثر ابن عباس رضي الله عنهما فهو وارد في شأن المسلم فلا يدخل مكة بدون إحرام أما الكافر فلا إحرام عليه لأنه ممنوع من الحج والعمرة.

الرد على هذه المناقشة:

قياس الحنفية بمكن مناقشته من وجهين:

الوجه الأول: أنه قياس مع الفارق لأن المسجد الحرام ورد النص في تحريم دخوله للمشركين بخلاف غيره من المساجد وأيضاً للمسجد الحرام خصائص وأحكام تخالف غيره من المساجد، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله:"ولا يصح هذا القياس فإن لحرم مكة أحكاماً يخالف بها المدينة على أنها ليست عنده حرماً".2

1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/88 - 89.

2 انظر: أحكام أهل الذمة 1/188.

ص: 379

الوجه الثاني: أنه قياس فاسد وباطل لأنه في مقابلة النص الصريح الوارد في تحريم دخول المشركين المسجد الحرام، وهو قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} 1.

وكل قياس في مقابلة النص الصحيح فهو باطل كهذا القياس.

الرأي المختار:

وبعد عرض آراء الفقهاء وذكر أدلتهم ومناقشتها يتضح لنا أن رأي الجمهور القائل بتحريم دخول المشركين الذميين أو المستأمنين المسجد الحرام - هو الرأي المختار وذلك للأسباب الآتية:

1-

اتباعاً للنص الصريح الذي لا يحتمل التأويل وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} .

2-

ولأن تأويل الحنفية الآية عن مدلولها الصحيح تأويل باطل وغير صحيح.

3-

ولأن المسجد الحرام أفضل الأماكن المقدسة على الإطلاق وحرمته أعظم فيجب تطهيره من المشركين بمنعهم من دخوله.

1 التوبة: 28.

ص: 380

4-

ولأن الحرم موضع تشريف وإكرام من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين وهو عاصمة المسلمين المقدسة فلا ينبغي أن يشغلهم شاغل في أقدس مكان لعبادتهم، بوجود مظنة المفسدة من غيرهم فيه.

وقد انتقم الله سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين الذي أخرجوهم من هذه البقعة الطاهرة بغير وجه الحق، بأن منعهم من دخولها على وجه التأبيد.

5-

ولأن تطهير المسجد الحرام منهم ومن أقذارهم واجب وهذا لا يكون إلا بنهي المسلمين عن تمكينهم من قربانه أو دخوله.

6-

ولأن الواقع التاريخي يشهد لقولهم، حيث إن المسلمين من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لم يسمحوا لهم بدخوله، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخلهم المسجد الحرام.

7-

لو فرضنا أن المراد بالآية هو منعهم من الحج والعمرة كما قال الحنفية فمنعهم من دخول الحرم من باب أولى لأن الحرم هو مكان أعمال الحج والعمرة.

ص: 381