الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: في تحديد معنى دار الكفر وأقسامها
المطلب الأول: في تحديد معنى دار الكفر
عرف العلماء دار الكفر بتعاريف كثيرة مختلفة في الشكل واللفظ، ومتفقة في المضمون والمعنى، وكلها تدور حول أن دار الكفر هي الدار التي تظهر فيها أحكام الكفر وتكون السلطة فيها لغير المسلمين.
وسأذكر بالتفصيل تعريفها عند الفقهاء والعلماء المعاصرين ليتضح معناها والمراد بها.
أولا: تعريف الفقهاء لدار الكفر:
أ- عرف فقهاء الحنفية دار الكفر بأنها: الدار التي يجري فيها أمر رئيس الكافرين ويخاف فيها المسلمون من الكفار، فعلى هذا تكون دار الكفر هي الدار التي لا يكون فيها السلطان والمنعة للحاكم المسلم والغلبة فيها لأحكام الكفر.1
يقول الكاساني: "تصير الدار دار كفر بظهور أحكام لكفر فيها".2
قلت: ولا يمكن ظهور أحكام الكفر في الدار الظهور الحقيقي إذا لم تكن السلطة والسيادة فيها للكفار.
وعن أبي يوسف ومحمد بن الحسن أنهما قالا: "إذا أظهروا أحكام
1 كشف اصطلاحات الفنون 2/265، والمبسوط 10/114.
2 انظر: بدائع الصنائع 7/130.
الشرك فيها فقد صارت دارهم دار كفر، لأن البقعة إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة، فكل موضع ظهر فيه حكم الشرك فالقوة في ذلك الموضع للمشركين فكانت دار كفر".1
ويفهم من هذا أن الدار التي تظهر فيها أحكام الشرك وتكون الغلبة والسلطة فيها للمشركين، والقوة لهم فيها على المسلمين هي دار الكفر.
وهذا ما قال به الإمام أبو حنيفة: فقال السرخسي: "ولكن أبا حنيفة يعتبر تمام القهر والقوة"2-أي لأحكام الكفر -.
فمتى قهروا المسلمين، وتقووا عليهم، وغلبوهم صارت دارهم دار كفر.
ب - أما فقهاء المالكية فقالوا عن تعريف دار الكفر بأنها:
"الدار التي تظهر وتجري فيها أحكام الكفار". 3
قال الإمام مالك: "كانت مكة دار كفر لأن أحكام الجاهلية ظاهرة يومئذ" 4
قلت: ولا يمكن أن تجري أحكام الكفار إذا لم تكن السلطة والسيادة في الدار لهم.
1 انظر: المبسوط 10/114.
2 المرجع السابق نفسه.
3 المقدمات الممهدات لابن رشد 2/285، وبلغة السالك 2/167، والمدونة 3/23.
4 انظر: المدونة الكبرى 3/23.
وعرفها الشافعية بأنها: "الدار التي لا يثبت للمسلمين عليها يد".1
وعرفها الحنابلة بأنها: "الدار التي تغلب فيها أحكام الكفر".2
فالدار التي تكون فيها الغلبة لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام هي دار الكفر عندهم.
قال القاضي أبو يعلي: "وكل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي دار الكفر".3
وقال ابن القيم: "وما لم تجري عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها فهذه الطائف قريبة إلى مكة جداً ولم تصر دار إسلام بفتح مكة".4
وقال ابن سعدي: "إن دار الكفر هي التي يحكمها الكفار وتجري فيها أحاكم الكفر، ويكون النفوذ فيها للكفار، وهي على نوعين بلاد كفار حربيين، وبلاد كفار مهادنين بينهم وبين المسلمين صلح وهدنة، فتصير إذ كانت الأحكام للكفار دار كفر ولو كان بها كثير من المسلمين".5
1 الأحكام السلطانية للماوردي ص 191.
2 المبدع 3/313، والانصاف 4/121، والمقنع بحاشيته 1/485، وكشف القناع 3/43.
3 انظر: المعتمد في أصول الدين ص 276.
4 انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/366.
5 انظر: الفتاوى السعدية 1/92.
وعرفها الظاهرية: "بأنها الدار التي يملكها ويحكمها الكفار وتغلب فيها أحكامهم لأن الدار إنما تنسب للغالب عليها والحاكم فيها والمالك لها سواء كان مسلما أو كافرا".1
وعرفها الشوكاني بأنها: "الدار التي تظهر فيها أحكام الكفر" فقال: "إن الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الكفر، بحيث لا يستطيع من فيها من المسلمين أن يظهر دينه إلا لكونه مأذونا له بذلك من أهل الكفر، فهذه دار كفر ولا يؤثر ظهور بعض الخصال الإسلامية، لأنها لم نظهر بقوة المسلمين، ولا بصولتهم، وإنما ظهرت بعد الإذن فيها من الكفار". 2
ثانيا: تعريف العلماء المعاصرين لدار الكفر:
قال سيد قطب: "دار الكفر هي الدار التي تسيطر عليها عقيدة الكفر وتحكم فيها شرائعه، فتشمل كل بلد تطبق فيها أحكام الكفر وتحكمه شريعة الكفر".3
وقال عبد القادر عودة: "دار الكفر تشمل كل البلاد غير الإسلامية التي لا تدخل تحت سلطان المسلمين، أولا تظهر فيها أحكام الإسلام، سواء أكانت هذه البلاد تحكمها دولة واحدة، أو تحكمها دول متعددة، ويستوي أن يكون بين سكانها المقيمين إقامة دائمة مسلمون أولا
1 انظر: المحلى لابن حزم 13/140.
2 انظر: السيل الجرار 4/575.
3 معالم في الطريق ص 150، 157.
يكون، مادام المسلمون عاجزين عن إظهار أحكام الإسلام".1
وجاء في معجم لغة الفقهاء: "دار الكفر البلاد التي يكون فيها المسلمون قلة والحكم فيها بغير أنظمة الإسلام". 2
وقال عبد الوهاب خلاف: "دار الكفر هي الدار التي لا تجرى عليها أحكام الإسلام، ولا يأمن من فيها بأمان المسلمين سواء أكانوا مسلمين أم ذميين".3
وقال صاحب القاموس الإسلامي: "دار الكفر هي الدار التي تخضع لحكم الكفار، والأحكام النافذة فيها أحكامهم، ويسكنها الكفار وغيرهم"4
وبعد استعراض هذه التعاريف عند الفقهاء، والعلماء المعاصرين، لدار الكفر نجدها متفقة في المدلول والمعنى، وهو أن دار الكفر ما يحكمها ويسيطر عليها الكفار، وتغلب فيها أحكامهم على الأحكام الإسلامية، وإن كانوا قلة والمسلمون كثرة، وإن كان البعض لم يذكر في تعريفها إلا غلبة الأحكام الكفرية، ولم يذكر السلطة لأنها تأتي تبعاً لغلبة الأحكام وظهورها فلا يمكن أن تغلب الأحكام الكفرية وتظهر الظهور الحقيقي. إلا إذا كانت السلطة والسيادة في الدار لهم وليس للمسلمين.
1 التشريع الجنائي الإسلامي 1/375.
2 معجم لغة الفقهاء ص 205.
3 السياسة الشرعية ص 69.
4 القاموس المحيط 2/320.
وهذا هو التعريف الحقيقي لدار الكفر عند علماء الإسلام كافة وينبغي لمن جله أو تجاهله، أن يطلع عليه، ليعرف من خلاله أن الأرض داران، دار إسلام وهي ما تغلب فيها أحكام الإسلام وسلطانه، ودار كفر وهي ما تغلب فيها أحكام الكفر وسلطانه.
والذي يظهر من تعريف العلماء لكلا الدارين أن المعول في تمييز الدار من دار إسلام، أو دار كفر، هو وجود السلطة وسريان الأحكام، فإن كانت الأحكام والسلطة إسلامية كانت الدار دار إسلام، وإن كانت الأحكام والسلطة غير إسلامية كانت الدار دار كفر.
وفي هذا يقول محمد بن الحسن: "المعتبر في حكم الدار هو السلطان والمنعة في ظهور الحكم". 1
وقال بعض العلماء: "ويظهر في تقسيم الدارين، أن المعول في تمييز الدار هو وجود السلطة وسريان الأحكام، فإن كانت إسلامية كانت دار إسلام، وإذا كانت غير إسلامية كانت الدار دار كفر، وهذا واضح من تعريف الفقهاء لكل من الدارين".2
وبهذا يتضح أن دار الكفر هي الدار التي تكون السلطة والسيادة وغلبة الأحكام فيها لغير المسلمين.
والمقصود بالسلطة والسيادة أن يكون رؤساء وحكام هذه الدار غير
1 السير الكبير 4/8، 10.
2 العلاقات الدولية في الإسلام على ضوء الإعجاز البياني في سورة التوبة ص 127.
مسلمين - أي كافرين - لا يلتزمون بشريعة الله، ويجحدونها ولا يطبقونها في أرضه، وإنما يطبقون الأنظمة والقوانين الوضعية التي وضعها البشر.
والمقصود أيضاً بغلبة الأحكام - هو عكس غلبة أحكام الإسلام.
أي أن أحكام الكفر عي الغالبة من عبادة غير الله والشرك به.
وكلمة الكفار هي النافذة، يستعبد الناس بعضهم بعضاً، ويظهر الظلم وأعظمه الشرك بالله، وإعطاء غيره حق التشريع، والتحليل والتحريم، فيما لم يأذن به الله، ويسيطر ويتسلط القوي على الضعيف ليأخذ حقه بقوته، وترتفع راية الكفر، وتختفي راية التوحيد ويكون النظام العام المحترم هو نظام الكفر، لا شريعة الله وأحكامه التي شرعها لعباده.1
1 الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته 1/603.