الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: في إمكانية انقلاب دار الإسلام إلى دار كفر
ذهب بعض علماء الشافعية إلى أن الأرض التي كان المسلمون يتسلطون عليها وتغلب فيها أحكامهم، ثم غلبهم الكفار عليها، فاحتلوها وأقاموا أحكامهم فيها، كالأندلس سابقاً، أسبانيا حالياً. لا يمكن أن تصير دار كفر مطلقاً.
وقد صرح بذلك ابن حجر الهيتمي1 فقال في الأرض التي كانت دار إسلام: "فحينئذ الظاهر أنه يتعذر عودتها دار كفر وإن استولوا عليها - يعني الكفار- صرح به الخبر الصحيح "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه"2، فقولهم - أي قول الأصحاب في محل المسلم المهاجر من دار الكفر لو تركه لصار دار حرب - المراد به صيرورته كذلك صورة لا حكماً، وإلا لزم أن ما استولوا عليه من دار الإسلام يصير دار حرب، ولا أظن أصحابنا يسمحون بذلك، بل يلزم عليه فساد وهو أنهم لو استولوا على دار الإسلام في ملك أهله، ثم فتحناها عنوة، ملكناها على ملاكها وهو في غاية البعد".3
1 هو أحمد بن محمد علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، فقيه شافعي، ولد سنة 909، وتوفي سنة 974 بمكة له تصانيف كثيرة منها تحفة المحتاج، والفتاوى الهيتمية، وطبقات الشافعية ص 151، والأعلام 12/243.
2 أخرجه البخاري 1/234 معلقاً كتاب الجنائز باب إذا أسلم الصبي فمات، والدارقطني 3/252، والبيهقي في السنن 6/205.
3 انظر: تحفة المحتاج 9/269.
وقد وافقه على رأيه هذا البجيرمي1 الشافعي حيث قال: "إن دار الإسلام هي الدار التي يسكنها المسلمون وإن كان فيها أهل ذمة، أو فتحها المسلمون وأقروها بيد الكفار، أو كانوا يسكنونها ثم جلاهم الكفار عنها".2
ومما لا شك فيه أن ما قاله هذان العالمان فيه مخالفة لما قاله جمهور العلماء عامة من أن دار الإسلام تنقلب إلى دار كفر بتسلط الكفار عليها وغلبة أحكامهم فيها، ولما قاله أصحابهم من علماء الشافعية خاصة، فقد وافقوا الجمهور فيما قالوه من عدم استحالة انقلاب دار الإسلام إلى دار كفر.
وخالفوا ما قاله ابن حجر الهيتمي والبجيرمي من أن دار الإسلام لا يمكن أن تنقلب إلى دار كفر مطلقاً.
فقال الماوردي: "ما ملكت يعني من دار الشرك عنوة وقهراً تصير دار إسلام، ولا يجوز أن يستنزل عنها للمشركين لئلا تصير دار حرب"3
فهذا الماوردي يخالف ويقول لا يجوز للمسلمين أن يتنازلوا عن دارهم دار الإسلام حتى لا تصير دار كفر باستيلاء الكفار وتسلطهم عليها.
1 هو سليمان بن محمد بن عمر البجيرمي، فيه شافعي، ولد سنة 1231وتوفي سنة 1221 في قرية مصطية بالقرب من بجيرم وله تصانيف كثيرة منها التجريد، وتحفة الحبيب. انظر ترجمته في: طبقات الشافعية ص 257، والأعلام 3/133.
2 انظر: حاشية البجيرمي على الخطيب 4/220.
3 انظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص 137.
وبعد أن عرضنا قول ابن حجر والبجيرمي من أن الأرض التي كانت دار إسلام لا يمكن أن يتغير عنها هذا الوصف إلى دار كفر حتى لو استولى عليها الكفار وغلبت أحكامهم فيها، وبينا أنه مخالف لما قاله عامة أهل العلم وفي مقدمتهم أصحابهم من علماء الشافعية نبحث عن الأدلة التي استدلا بها ثم نحاول الرد عليها قدر الاستطاعة.
وبعد البحث استطعت أن اعثر لهما على دليلين، أحدهما نقلي والآخر عقلي:
فالدليل النقلي:
ما ورى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإسلام يعلوا ولا يعلى عليه» .1
ووجه الدلالة من الحديث:
أن الاستعلاء في الأرض، وهو إعلاء كلمة الله، وارتفاع رايته لا ينفك ولا يزول عن الإسلام.
فكذلك الإسلام إذا اتصفت به الدار لا ينفك ولا يزول عنها، فانقلاب الدار التي كانت دار إسلام إلى دار كفر، يفهم منه عدم استعلاء الإسلام وفيه مخالفة لنص الحديث، ولما كان الاستعلاء ثابتاً للإسلام بنص الحديث فإنه لا يجوز أن تنقلب داره إلى دار كفر، حتى مع سلطة الكفار عليها وغلبة أحكامهم فيها.2
1 سبق تخريجه ص 289.
2 تحفة المحتاج 9/269، وحاشية البجيرمي 4/220.
أما الدليل العقلي:
فهو أننا إذا قلنا بانقلاب دار الإسلام إلى دار كفر، لنتج عن ذلك حكم فاسد، وهو أن الكفار لو استولوا على دار الإسلام في ملك أهله، ثم فتحناها عنوة ملكناها على ملاكها وهو في غاية البعد.1
ومعنى كلام ابن حجر هذا: أن القول بصيرورة دار الإسلام التي استولى عليها الكفار، وأقاموا فيها أحكامهم، دار كفر يؤدي إلى حكم فاسد، وهو أن المسلمين لو تمكنوا من ملك هذه الأرض بعد استيلاء الكفار عليها بفتحها والسيطرة عليها.
وإقامة أحكام الله فيها، ولو بعد مدة من الزمن ماذا نعمل بهذه الأملاك التي ملكها المسلمون، هل يردها على أصحابها أو تكون من الغنيمة وتقسم بين الغانمين والفاتحين لها.
وإذا قلنا بقسمة الأموال والأملاك فإن الملك يملك على صاحبه وهنا نقع في الفساد الذي أشار إليه ابن حجر.
مناقشة هذه الأدلة:
أولاً: بالنسبة للحديث على فرض صحته فلا دلالة فيه على أن دار الإسلام لا يمكن أن تنقلب دار كفر بتسلط الكفار عليها وغلبة أحكامهم فيها.
1 تحفة المحتاج 9/269، وحاشية البجيرمي 4/220.
لأن الحديث وارد في إثبات الاستعلاء للإسلام في جميع أنحاء الأرض، وأنه لا زال يعلو وترتفع رايته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن المؤمنين هم الأعلون دائماً، وقد أخذوا منزلة الاستعلاء في الأرض بإيمانهم بالله سبحانه وتعالى، لأنه سبحانه هو الأعلى فمن كان يعبده ويؤمن به لا بد من استعلائه، وقد أثبت الله لعباده المؤمنين الإستعلاء والغلبة في الأرض بقوله:{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} .1
وقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .2
قال القرطبي: "وفي هذه الآية بيان فضل هذه الأمة لأن الله خاطبهم بما خاطب به أنبياءه، لأن قال لموسى عليه السلام: {إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى} 3 أي الغالب لهم في الدنيا وفي الدرجات العلا في الجنة".4
ففي الآية الكريمة أثبت الله الاستعلاء للمؤمنين في الأرض بشرط الإيمان، فمتى توفر هذا الشرط ثبت الاستعلاء للمؤمنين في الأرض، وإذا كانت دار الإسلام لا يتوفر فيها هذا الشرط وهو الإيمان بالله، بل توفر
1 محمد: 35.
2 آل عمران: 139.
3 طه: 68.
4 انظر: الجامع لأحكام القرآن 4/217، 11/223.
فيها العكس وهو الإشراك بالله، وتسلط أعدائه عليها، فكيف يمكننا أن نطلق على هذه الدار دار إسلام.
فالإسلام يعلو في الأرض التي تظهر فيها أحكامه، وترتفع فيها رايته، ويتسلط فيها أهله على أعدائه، أما إذا كان العكس بأن ظهرت غير أحكامه وتسلط على أرضه أعداؤه، وارتفعت راية أضداده، واختفت رايته فكيف يمكننا القول بأن الإسلام يعلو في هذه الأرض ولا يعلى عليه.
وقال أصحابهم من علماء الشافعية في الدر على الاستدلال بهذا الحديث: "دعوى صراحة الحديث فيما أفاد محل تأمل، إذ المتبادر منه أن المراد يعلو انتشاره واشتهاره وإخماد الكفر إلى أن يأتي الوقت الموعود به قرب الساعة، وهذا لا ينافي صيرورة بعض داره دار حرب، كما لا ينافي غلبة الكفار لأهله ونصرتهم عليهم في كثير من الوقائع".1
وبهذا يتضح لنا أنه لا دلالة لهما في هذا الحديث على أن دار الإسلام لا يمكن أن تنقلب دار كفر مطلقاً.
ثانياً: أما بالنسبة للدليل العقلي فهو لا يدل أيضاً على ما ذهبا إليه.
لأن هذا الفساد الذي ظنا يزول ويرتفع بقول أصحابهم من علماء الشافعية أن الأملاك التي يملكها المسلمون من الأرض التي فتحوها واستولوا عليها من أيدي الكفار وكانت دار إسلام من قبل، وترد إلى
1 حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 9/269.
أصحابها أو تقف لهم وهم أحق قبل القسمة وبعدها.1
وبقول بقية فقهاء المذاهب الإسلامية إن الأملاك التي ملكها المسلمون من الأرض التي كانت دار إسلام، ترد إلى أصحابها قبل القسمة أو بعدها، قبل القسمة بلا قيمة، وبعد القسمة بالقيمة.2
وقال الشرواني في الرد على ما قاله ابن حجر الهيتمي عموماً: "هذا تأويل خلاف ظاهر اللفظ إذ المتبادر- أي من قول الأصحاب- فلو هاجر لصار دار حرب كونه حقيقة وحكماً لا صورة فقط، وبعيد من حيث المعنى فليتأمل".3
وبهذا يتضح لنا أن الفساد الذي ذكره ابن حجر الهيتمي غير متصور على مذهب الشافعية أنفسهم، وأيضاً على مذاهب بقية فقهاء الإسلام.
وبعد مناقشة هذه الأدلة يتبين لنا أن ما قالاه بعيد عن الواقع ومخالف لما قاله عامة أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين.
وفي هذا يقول بعض العلماء المعاصرين: "ومن ظن أن دار الإسلام لا يمكن أن تنقلب إلى دار كفر فقد أبعد النجعة4 وفاته واقع الأندلس
1 الأم 4/254، ومغني المحتاج 4/232، والمهذب 2/221.
2 حاشية ابن عابدين 4/161، وبداية المجتهد 1/398، والمغني لابن قدامة 8/430-431.
3 حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 9/269.
4 النجعة: طلب العشب ومساقط الغيث في مواضعه. مختار الصحاح ص 647، ومعجم لغة الفقهاء ص 475.
في السابق، وواقع ألبانيا وفلسطين في الحاضر، وليس الأمر مقصوراً على هذه البلدان فقط بل إن بلداناً أخرى صارت كذلك، ومن فهم ما مضى حق الفهم لا يخفى عليه الأمر".1
1 العلاقات الدولية في الإسلام على ضوء الإعجاز البياني في سورة التوبة ص 128.