الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: في الصنف الثاني: المستأمنون
وفيه ستة فروع:
الفرع الأول: في تعريف الأمان مع بيان أدلة جوازه وأقسامه
تعرف الأمان لغة: الأمان من الأمن، والأمن ضد الخوف، وهو الاطمئنان.
يقال أمنه وآمنه، وآمن فلان العدو أي أعطاه الأمان.
والعدو مُؤَمَّن.
يقال لك الأمان أي قد أمنتك، وأمن البلد اطمأن فيه أهله وأمن فلان على كذا وثق به، واطمأن إليه، أو جعله أميناً عليه.
قال تعالى: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ} الآية1
ويقال: استأمنه: طلب منه الأمان.
واستأمن إليه استجاره وطلب حمايته، واستأمن الحربي استجار ودخل دار الإسلام مستأمناً.
والمأمن موضع الأمن، والأمين المستجير ليأمن على نفسه.2
وخلاصة ما سبق أن المستأمن لغة: المستجير الطالب للأمان.
1 يوسف: 64.
2 المفردات ص 24، 25، النهاية 1/69، لسان العرب 13/21، 22، والقاموس المحيط 1/181-182، ومختار الصحاح ص 26، والمصباح المنير 1/25، والمعجم الوسيط 1/28، والمصطلحات العسكرية ص /55- 56.
أما تعريف المستأمن شرعاً: فهو من يدخل دار غيره بأمان مسلماً كان أو حربياً1 والغالب في إطلاق المستأمن على من يدخل دار الإسلام من الكفار بأمان، وفي هذا يقول ابن القيم:
"المستأمن هو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهو على أقسام: رسل، وتجار، ومستجيرون حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن، فإن شاءوا دخلوا وإن شاءوا رجعوا إلى بلادهم".2
أدلة مشروعيه الأمان:
دل الكتاب، والسنة، والمأثور، والإجماع، على جواز عقد الأمام مع غير المسلمين.
أولاً: دليل جوازه من الكتاب:
فالآية نص صريح في جواز عقد الأمام لمن طلبه من المشركين، لأن
1 الدر المحتار 1/466، وكشف الحقائق 1/317، وحاشية ابن عابدين 4/166، والدر الحكام شرح غرر الأحكام 1/292، وأحكام أهل الذمة 2/476.
2 أحكام أهل الذمة 2/476.
3 التوبة: 6.
معنى قوله تعالى: {اسْتَجَارَكَ} أي استأمنك، وقوله {فَأَجِرْهُ} أي: فأمنه حتى يسمع كلام الله وهو القرآن.1
قال ابن كثير: "والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة، أو تجارة، أو طلب صلح، أو مهادنة، أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً أعطي أماناً ما دام متردداً في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه".2
ثانياً: أدلة جوازه من السنة:
1-
ما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً3 فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف".4
وفي رواية للبيهقي: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من
1 الجامع لأحكام القرآن 8/75، وأحكام القرآن لاين العربي 2/903.
2 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/337.
3 أخفر مسلماً: يريد نقض العهد، يقال خفرت الرجل إذا أمنته وأخفرته إذا انفضت عهده. انظر: فتح الباري 4/86، ومعالم السنن 2/531.
والصرف: الفريضة، والعدل: النافلة، وهذا عند الجمهور كما قال ابن حجر. انظر: فتح الباري 4/86.
4 أخرجه البخاري 1/320 كتاب الحج باب حرمة المدينة، وفي كتاب الجهاد باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة 2/203، ومسلم 2/998 - 999 كتاب الحج باب فضل المدينة حديث رقم 469، واللفظ له.
سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم"، وفي أخرى: "يجير على أمتي أدناهم".1
وجه الدلالة من الحديث:
الحديث نص صريح في جواز عقد الأمان مع غير المسلمين لأن الذمة المراد بها في الحديث الأمان، فمعناه أن أمان المسلمين للمشركين جائز، وبالأمان يحرم التعرض لهم ما داموا في أمان المسلمين، قوله:"أدناهم" أي يعقد الأمام ويتولى شأنه من هو أدنى المسلمين مرتبة كالعبد وغيره.
قال ابن حجر: "أدناهم أي أقلهم، كل وضيع بالنص، وكل شريف بالفحوى، فدخل في أدناهم المرأة والعبد".2
وفي رواية لأبي داود وابن ماجة: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم".3
قال الخطابي: "قوله يسعى بذمتهم أدناهم، يريد أن العبد ومن كان في معناه من الطبقة الدنيا كالنساء والضعفاء الذي لا جهاد عليهم إذا أجاروا كافراً أمضى جوارهم ولم تخفر ذمتهم".4
1 سنن البيهقي 9/49.
2 فتح الباري 6/274.
3 سنن أبي داود 3/182 - 183، كتاب الجهاد باب السرية ترد على أهل العسكر.
وابن ماجة 2/895 كتاب الديات باب المسلمون تتكافأ دماؤهم.
4 معالم السنن مع سنن أبي داود 3/184.
2-
وما روى عن أم هانئ1رضي الله عنها أنها قالت: "ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره، فسلمت عليه فقال من هذه، فقلت أنا أم هانئ بنت أبي طالب فقال مرحباً بأم هانئ فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمان ركعات ملتحفاً في ثوب واحد، فقلت: يا رسول الله: زعم ابن أمي علي2 أنه قاتل رجلاً قد أجرته فلان ابن هبيرة3 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".4
وفي رواية لأبي داود: "وأمنا من أمنت".5
1 هي فاختة بنت أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمية القرشية، المشهورة بأم هانئ أخت علي بن أبي طالب، وأمها فاطمة بنت أسد، واختلف في اسمها فقيل فاختة، وهو الأشهر وقيل هند، وقيل فاطمة، وقيل عاتكة، أسلمت عام الفتح بمكة وتوفيت بعد سنة 40هـ، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقارب 46 حديثاً. أسد الغابة 7/213، 404، والأعلام 5/126.
2 هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
3 قيل هو الحارث بن هشام المخزومي، وقيل هو عبد الله بن أبي ربيعة، وقال الأزرقي أنها أجارت رجلين، عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة، والحارث بن هشام وهما من بني مخزوم. قيل هما جعد بن هبيرة ورجل آخر من بني مخزوم. وجزم ابن هشام بأن الذين أجارتهما أم هانئ هما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزوميان.
شرح النووي على مسلم 5/232، وفتح مكة للأزرقي ص 375، والسيرة النبوية لابن هشام 1/275، وفتح الباري 1/470.
4 أخرجه البخاري 1/75 كتاب الصلاة وفي باب أمان النساء 2/203، واللفظ له. ومسلم 1/498 كتاب صلاة المسافرين حديث رقم 82.
5 سنن أبي داود 3/194، كتاب الجهاد باب أمان المرأة.
الحديث دل على جواز أمان المرأة المسلمة لغيرها من الكفار، فأمان الرجال المسلمون من باب أولى.
قال الصنعاني: "والأحاديث دالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أم عبد، لقوله "أدناهم" فإنه شامل لكل وضيع، وتعلم صحة أمان الشريف بالأولى".1
ثالثاً: دليل جوازه من المأثور:
1-
ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز أمانها".2
2-
وما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز".3
رابعاً: دليل جوازه من الإجماع:
انعقد إجماع الأمة من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا على جواز عقد الأمان مع غير المسلمين4
1 سبل السلام 4/1366.
2 أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/454 باب أمان المرأة والمملوك.
3 أخرجه أبو داود 3/194 كتاب الجهاد باب أمان المرأة. والبيهقي 9/95 كتاب الجهاد باب أمان المرأة. وعبد الرزاق 5/223، وسعيد بن منصور في سننه 2/251. وابن أبي شيبة12/453.
4 بدائع الصنائع 7/105، وحاشية الدسوقي 2/185، ومغني المحتاج 4/236، والمغني 8/398.
أقسام الأمان: ينقسم الأمان إلى قسمين:
الأول: أمان عام: وهو ما يعطي لناحية أو بلدة أوقلعة، وهذا باتفاق الفقهاء لا يصح إلا من الإمام أو نائبه، لأنه من المصالح العامة التي تحتاج إلى نظر وتمحيص وهذا لا يتأتى إلا من الإمام أو نائبه. 1
الثاني: أمان خاص: وهو ما يعطي لقافلة، أو لحصن صغير أو لفرد من الأفراد، فهذا أيضاً اتفق الفقهاء على جوازه من الإمام أو نائبه ومن آحاد المسلمين2 سيأتي ذلك بالتفصيل في شروط المؤمن.
1 الهداية 2/140، واختيار4/120، وأسهل المدارك 2/17 وحاشية الدسوقي 2/185، وتحفة المحتاج 9/266، وروضة الطالبين 10/278، والمبدع 3/389، وكشاف القناع 3/105.
2 المرجع السابق نفسه.
الفرع الثاني: في أركان الأمان وشروطه
أركان الأمان: الأمان يعتمد على ركنين أساسين:
الركن الأول: المؤمن: وهو الذي يتولى عقد الأمان، وهو الإمام أو نائبه في الأمن العام، لأن عقد الأمان من العقود التي تحتاج نظر واجتهاد، ويترتب عليه وجود مصالح مفاسد وهذا كله لا يمكن أن يتوافر إلا في الإمام أو نائبه.
ولا خلاف بين الفقهاء في أنه يجوز لكل فرد من أفراد الرعية عقد الأمان الخاص ولو لم يأذن له الإمام، إذا توافرت فيه الشروط التي سيأتي1 تفصيلها.
الركن الثاني: المُؤَمَّن وهو المستأمن: وهو في الغالب الإنسان الكافر الذي يدخل الديار الإسلامية على غير نية الإقامة المستمرة بها بل إقامته فيها محددة بمدة معلومة يدخل فيها بعقد يسمى (عقد الأمان) وغالباً ما
1 بدائع الصنائع 7/106، وشرح السير الكبير 1/252، وحاشية الدسوقي 2/185، وبداية المجتهد 1/383، وأسهل المدارك 2/17، والأم 4/284، والأحكام السلطانية ص 146، والمغني 8/398.
يكون قصده التجارة، أو العمل في الديار الإسلامية، ولا بد أن إقامته مؤقتة، لأنها إذا كانت مؤبدة وأخذت صفة الدوام، يتحول إلى ذمي ويصير من رعايا الدولة الإسلامية1.
أما الشروط التي يجب توافرها في المستأمنين فهي على النحو التالي:
1-
أن يكون عددهم معلوماً سواء أكانوا جماعة أو فرادى، فجميع من دخل دار الإسلام زيادة على العدد المأذون له بدخول الديار الإسلامية بأمان فإنه يخرج منها ولا عصمة له.
2-
أن يكون المستأمنون عالمين بهذا الأمان، فإن لم يكونوا عالمين به فلا أمان لهم.
3-
أن يكون القصد من عقد الأمان التجارة وغيرها من الأعمال المباحة في الشريعة الإسلامية.
4-
ألا يقصدوا من دخولهم الديار الإسلامية الضرر بالمسلمين، والتجسس عليهم، والإطلاع على مواقعهم العسكرية، فإن علم هذا القصد أو خيف منه فلا يجوز أن يعقد معهم الأمان.2
فإذا توافرت فيهم هذه الشروط فللإمام أو نائبه، أو غيرهما من أفراد
1 المغني 8/396، والمبدع 3/389، والعلاقات الدولية في الإسلام ص 68.
2 بدائع الصنائع 7/105، 106، وفتح القدير 54/227، وأسهل المدارك 2/17، وقوانين الأحكام الشرعية ص 174، ومغني المحتاج 4/238، والمهذب 2/331، والمغني 8/398، والمبدع 3/389.
المسلمين أن يعقد الأمان مع جميع المشركين، من غير فرق بين كتابي أو غيره، لأن الله سبحانه وتعالى قال:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} 1، فلفظ المشركين عام شامل لجميع الكفار، وله أن يعقده مع الفرد والجماعة وأهل الحصن. قال صاحب الفتاوى الهندية:"يجوز الأمان للواحد والجماعة وأهل الحصن والمدينة".2
وقال ابن قدامة: "ويصح أمان الإمام لجميع الكفار وآحادهم، ويصح أمان آحاد المسلمين للواحد، والعشرة، والقافلة الصغيرة، والحصن الصغير".3
1 التوبة: 6.
2 انظر: الفتاوى الهندية 2/198.
3 انظر: المغني لابن قدامة 8/398.
الفرع الثالث: في شروط المؤَمِّن
اشترط الفقهاء لمن يعقد الأمان مع غير المسلمين شروطاً يجب توافرها فيه - وهي على النحو التالي:
1-
أن يكون العاقد مسلماً، فلا يعقد الأمان غير المسلم ولو كان ذمياً يقيم في دار الإسلام ويقاتل مع المسلمين، وهذا باتفاق العلماء.1
ولم يخالف فيه إلا الأوزاعي حيث قال: "إن غزا الذمي مع المسلمين فأمن أحداً فإن شاء الإمام أمضاه، وإلا فليرد إلى مأمنه"2، وليس له دليل على ذلك.
قال ابن المنذر: "أجمعوا على أن أمان الذمي لا يجوز".3
أما الدليل على عدم صحة أمان الكافر ذمي أو غيره.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" 4، فشرط
1 بدائع الصنائع 7/106، والهداية 2/140، والمبسوط 10/70، والمدونة 3/42، وحاشية الدسوقي 2/185، وبداية المجتهد 1/383، وأسهل المدارك 2/17، والأم 4/284، ومغني المحتاج 4/237، وتحفة المحتاج 9/266، والسراج الوهاج ص 547، والمغني 8/396، والمحرر 2/180، والكافي 4/330، والمبدع 3/389، وكشاف القناع 3/104.
2 فتح الباري 6/274، ونيل الأوطار 8/29.
3 الإجماع لابن المنذر ص 76.
4 سبق تخريجه في ص 187.
الأمان للأمان أن يكون عاقدة مسلماً فلا يصح أمان الكافر.
وأيضاً ليس للكافرين ولاية على المسلمين، قال تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .1
والأمان من باب الولاية إذ به ينفذ كلام المؤمنين على غيرهم شاءوا أم أبوا.2
ولأن الكافر الذمي متهم في حق المسلمين نظراً لعدائه الديني لهم، وموافقته الكفار في الاعتقاد، فلا تؤمن خيانته، بل ولا يكون أهلاً للنظر في مصالح المسلمين.
2-
أن يكون العاقد مكلفاً أي بالغاً عاقلاً لأنهما مناط التكليف، فقد أجمع الفقهاء على أن المجنون لا يصح أمانه وكذلك الصبي غير المميز.3
ولعل هذا هو الإجماع الذي ذكره ابن المنذر عندما قال: "أجمع أهل العلم على أن أمان الصبي غير جائز".4
1 النساء: 141.
2 فتح القدير 5/267.
3 بدائع الصنائع 7/106، والهداية 2/140، والمبسوط 10/70، والمدونة 3/42، وحاشية الدسوقي 2/185، وبداية المجتهد 1/383، وأسهل المدارك 2/17، والأم 4/284، ومغني المحتاج 4/237، وتحفة المحتاج 9/266، والسراج الوهاج ص 547، والمغني 8/396، والمحرر 2/180، والكافي 4/330، والمبدع 3/389، وكشاف القناع 3/104.
4 المرجع السابق نفسه.
واختلفوا في صحة أمان الصبي المميز إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يصح أمانه، وهو قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة.1
القول الثاني: يصح أمانه، وهو قول المالكية والحنابلة في رواية ومحمد بن الحسن من الحنفية.2
القول الثالث: يصح أمانه بشرط إذن الإمام له بإعطاء الأمان.
وهو رأي سحنون من المالكية. 3
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بما يلي:
1-
أن الصبي غير مكلف ومرفوع عنه القلم حتى البلوغ.4
1 بدائع الصنائع 7/106، وحاشية ابن عابدين 4/176، والهداية 2/141، والأم 4/284، ومغني المحتاج 4/237، وروضة الطالبين 10/279، والمغني 8/297، وكشاف القناع 3/104.
2 بداية المجتهد 1/ 383، وأسهل المدارك 2/17، والمغني 8/397، والبدائع 7/106.
3 المنتقى 2/173، وحاشية العدوي 2/7.
4 المرجع السابق نفسه في الحاشية رقم (3) في صفحة 196.
2-
ولأن الأمان أمره خطير، لأنه ينبني عليه مصالح ومفاسد، ومنافع، ومضار، فيحتاج إلى غزارة عقل ورجاحة نظر في العواقب، وليس الصبي من أهل هذا المقام.
أي أن الأمان لصيق الصلة بسلامة الدولة الإسلامية، وحفظ كيانها والصبي لا يستطيع تقدير ذلك، لاسيما إذا سلك العدو معه مسلك الخداع والتغرير للحصول على الأمان. 1
3-
ولأن الصبي لا يعرف مصلحة المسلمين، وقد يعطي الأمان في غيرها، وفي هذه الحالة لا يزال قاصراً والقاصر في الشريعة الإسلامية لا تسلم له أمواله حتى يبلغ الرشد، فما دام لا يجوز ولا يحق له حوزة أمواله ولا يؤمن عليها فمن باب أولى لا يصح أمانه.2
4-
ولأن الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: "ويسعى بذمتهم أدناهم" للبالغين دون غيرهم.3
أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بما يلي:
1-
بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ويسعى بذمتهم أدناهم" فإنه يشعل الصبي وغيره.4
1 آثار الحرب ص 238.
2 نظرية الحرب ص 384.
3 آثار الحرب ص 238.
4 سبل السلام 4/1366، والمبدع 3/389، وكشاف القناع 3/104.
2-
ولأنه مسلم مميز يعقل الإسلام فصح أمانه كالبالغ، وفارق المجنون بأنه لا قول له أصلاً. 1
3-
ولأن أهلية الأمان مبنية على أهلية الإيمان والصبي الذي يعقل الإسلام من أهل الإيمان فيكون من أهل الأمان كالبالغ.2
4-
ولأن الصبي المميز قد أشرف على البلوغ وسن الرشد، وما قارب الشيء أعطى حكمه في كثير من الأحكام وأمان الكفار من هذه الأحكام، فكان أمان الصبي المذكور بمثابة الإذن في دخول بلاد الإسلام لا في الإقامة بها حتى لا يفسدوا فيها.3
وأما رأي سحنون فكأنه راعى أن الأمان من العقود المهمة والتي تحتاج إلى سعة نظر وقوة بصيرة، والصبي المميز ناقص لعدم اكتمال مداركه فلا يؤمن انخداعه.
الرأي المختار:
والرأي الذي أختاره هو الرأي القائل بعدم صحة أمان لصبي المميز، سداً للذريعة، ومنعاً لما قد يحصل من المساوئ والمشاكل.
ولأن الصبي لا يحسن التصرف فيما ينفعه فكيف فيما ينفع غيره، ولأن خطاب الشارع للمكلفين دائماً والعموم في الحديث مخصص
1 المغني 8/397.
2 البدائع 7/106.
3 الميزان للشعراني 2/173، وآثار الحرب في الفقه الإسلامي ص 238.
بالأحاديث التي تدل على أن الصبي غير مكلف ومرفوع عنه القلم حتى يبلغ، ولأن عقد الأمان فيه من المصالح والمفاسد التي تعود على الدولة الإسلامية ما تحتاج إلى دقة نظر، ورجاحة عقل، وهذه حالة خفية لا توجد في الصبي لاشتغاله باللهو واللعب كما قال الكاساني. 1
الشرط الثالث: الحرية
اتفق الفقهاء على صحة أمان الحر لغير المسلمين.2
ولم يخالف في هذا إلا ابن حبيب المالكي حيث قال: "لا يجوز أمان الحر حتى ينظر فيه الإمام، فله الخيار في الإمضاء أو الرد بحسب ما يراه صواباً أو خطأ".3
قال ابن العربي:"وهذا ليس بصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز جواره في الحديث وكذلك أمضاه عمر على الناس".4
أما العبد فقد اختلفوا في صحة أمانه إلى قولين:
1 انظر: بدائع الصنائع 7/106.
2 الهداية 2/139، وبدائع الصنائع 7/105، 106، ومجمع الأنهر 2/350، والمنتقى شرح الموطأ 3/173، وبداية المجتهد 1/383، وأسهل المدارك 2/17، ومغني المحتاج 4/237، والأم 4/284، وحاشية الشرقاوي 2/42، والمغني 8/396، وغاية المنتهى 1/477.
3 المنتقى شرح الموطأ 3/173، وأحكام القرآن لابن العربي 2/904.
4 بدائع الصنائع 7/106، والهداية 2/140، وأحكام القرآن لابن العربي 2/904، وبداية المجتهد 1/383.
القول الأول: لا يصح أمانه إلا إذا أذن له سيده بالقتال، أما إذا كان ممنوعاً من القتال فلا يصح أمانه.
وهو قول الحنفية والمالكية في قول.1
القول الثاني: يصح أمان العبد، أذن له في القتال أو لم يؤذن. قال به الثوري والأوزاعي وإسحاق بن راهويه.
وهو قول المالكية في المشهور وبه قال الشافعية والحنابلة، ومحمد بن الحسن من الحنفية.2
الأدلة
1-
أدلة أصحاب القول الأول المانعين من أمان العبد. استدلوا بما يلي:
1-
أن الأمان يحتاج إلى نظر واجتهاد وتأمل والعبد الممنوع من القتال ليس من أهل هذه الأشياء لاشتغاله بخدمة سيده.3
1 أسهل المدارك 2/117، وبداية المجتهد 1/383، وأحكام القرآن لابن العربي 2/904، وروضة الطالبين 1/279، وحاشية إعانة الطالبين 4/207، وقليوبي وعميرة 4/226، 227، والمغني 8/397، والإنصاف 4/203، 204، بدائع الصنائع 7/106.
2 بدائع الصنائع 7/106.
3 المصدر السابق.
2-
ولأن من لا يسهم في الغنيمة كالعبد لا أمان له.1
3-
أن الأمان من شرطه الكمال، والعبد ناقص بالعبودية أي أنه ناقص العقل، والرأي عادة، والأمان يحتاج إلى كمال رأي وبعد نظر فوجب أن يكون للعبودية تأثير في إسقاطه قياساً على تأثيرها في إسقاط كثير من الأحكام الشرعية، ويخصص عموم حديث:"ذمة المسلمين واحدة ويسعى بها أدناهم" بهذا القياس.2
ب- أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بما يلي:
1-
بعموم حديث: "ذمة المسلمين واحدة ويسعى بها أدناهم" والعبد المسلم أدنى المسلمين فيتناوله الحديث.3
2-
بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "العبد المسلم من المسلمين ذمته ذمتهم وأمانه أمانهم".4
3-
وبما روى أن عبداً آمن قوما فأجاز عمر رضي الله عنه أمانه.5
4-
ولأن العبد مسلم مكلف فصح أمانه كالحر.6
1 أحكام القرآن لابن العربي 2/904.
2 بداية المجتهد 1/383.
3 سبل السلام 4/1366، والمبدع 3/389، وكشاف القناع 3/104.
4 أخرجه عبد الرزاق 5/223، والبيهقي في سننه 9/94، وسعيد بن منصور في سننه 2/233.
5 سنن سعيد بن منصور 2/233.
6 المغني 8/397.
5-
ولأن حجر المولى يعمل في التصرفات الضارة دون النافعة، بل هو في التصرفات النافعة غير محجور كقبول الهبة والصدقة، ولا مضرة للمولى في أمان العبد بتعطيل منافعه عليه، لأَنه يتأدى في زمان قليل بل له ولسائر المسلمين فيه منفعة، فلا يظهر انحجاره فأشبه المأذون بالقتال.1
الرأي المختار:
الرأي الذي أميل وأختاره هو رأى الجمهور بصحة أمان العبد قاتل أو لم يقاتل.
وذلك لقوة أدلتهم، ولأن العبد المسلم مكلف لا فرق بينه وبين الحر في عقد الأمان.
ويمكن الجمع بين القولين: بأن العبد إما أن يكون صاحب خبرة ومعرفة ولدية قوة بصيرة في تدبير كثير من الأمور، فهذا يجوز أمانه مطلقا.
وإما أن يكون ليس لديه خبرة في تدبير الأمور، وحديث عهد بالإسلام أو كان بعيداً عن الواقع والحياة ولا يعلم ما يدور بين المسلمين وغيرهم، فهذا لا يجوز أمانه مطلقا.
الشرط الرابع: الاختيار
فلا ينعقد الأمان بالإكراه، وهذا الشرط متفق عليه بين الفقهاء.2
1 بدائع الصنائع 7/106.
2 بدائع الصنائع 7/106، بداية المجتهد 1/383، وروضة الطالبين 10/279، والمغني 8/396.
الشرط الخامس: الذكورية عند بعض الفقهاء، فلا يصح أمان المرأة، وقال به ابن الماجشون وسحنون من المالكية.1
لكن الجمهور من الفقهاء قالوا بصحة أمان المرأة للأحاديث الصريحة الصحيحة الواردة في ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ:"قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".2
وبقوله صلى الله عليه وسلم: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم".3
فالحديث عام في الرجال والنساء ولم يرد ما يخصصه.4
ولما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز"5 وكذلك روى عن عمر رضي الله عنه مثل ذلك وقد سبق.
ولأن الذكورة ليست بشرط ليصح أمان المرأة لأنها بما معها من العقل لا تعجز عن الوقوف على حال القوة والضعف وقد روى أن زينب
1 بداية المجتهد 1/383، والمنتقى 3/173، وحاشية الدسوقي 2/185، وحاشية العدوي 2/7.
2 سبق تخريجه ص 189، والمغني 8/296، والإنصاف 4/230.
3 سبق تخريجه ص 187.
4 سبل السلام 4/1366، ونيل الأوطار 8/28، 29.
5 سبق تخريجه ص 190.
بنت الرسول صلى الله عليه وسلم آمنت زوجها أبا العاص رضي الله عنه وأجاز الرسول أمانها.1
أما أصحاب الإمام مالك فقد حملوا قوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ "قد أجرنا من أجرت" على أنه إجازة فيه قالوا فلو لم يجز لم يصح أمانها.2
وحمله الجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم أمضى ما وقع منها وأنه قد انعقد أمانها، لأنه صلى الله عليه وسلم سماها مجيرة ولأنها داخلة في عموم المسلمين في الحديث السابق.3
الراجح في هذا هو قول الجمهور بصحة أمان المرأة ولا عبرة بخلاف من سواهم وقد ذكر ابن المنذر الإجماع في ذلك فقال: "أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئاً ذكره عبد الملك - يعني ابن الماجشون - لا أحفظ ذلك عن غيره" وقوله صلى الله عليه وسلم "يسعى بذمتهم أدناهم" دلالة على إغفال هذا القائل.4
وبعد أن اخترنا أنه يحوز لكل فرد من أفراد الرعية أن يعقد الأمان الخاص مع المشركين حراً كان أو عبداً ذكراً أو أنثي للأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الشأن والآثار المروية عن بعض الصحابة التي تدل على ذلك.
نقول بأنه لا ينبغي أن يعطي الفرد من الرعية الحق في عقد الأمان
1 سنن البيهقي9/95 مع بدائع الصنائع 6/107، والخراج لأبي يوسف ص 205.
2 سبل السلام 4/1366.
3 سبل السلام 4/1366.
4 الإجماع لابن المنذر ص 73، والإشراف ص 170.
مع غير المسلمين في هذا الزمان إلا بعد الإذن من الإمام أو من يقوم مقامه، وذلك للأسباب الآتية:
1-
أن الكفار لا يقصدون بالأمان مع المسلمين ودخول ديارهم التجارة وغيرها من المصالح التي تعود على المسلمين بالنفع كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو من بعدهم، وإنما في غالب الأمر يقصدون الإضرار بالمسلمين، كالتجسس عليهم والتعرف على مواطن القوة والضعف في قواعدهم العسكرية أو غيرها.
2-
ولأن غالب أفراد الرعية من المسلمين في هذا الزمان أصبحوا ضعاف الإيمان، يمكن إغراؤهم وانخداعهم بشيء من المال أو غيره، ليدخل الكفار الأراضي الإسلامية فيفسدوا فيها ويتجسسوا عليها، وأيضاً الغالب منهم يقدم مصلحته الخاصة، على المصلحة العامة، فسدَّا للذريعة، وتفادياً لهذه المفاسد والعواقب السيئة التي تعود على المسلمين وعلى أراضيهم، أقول: بأنه لا يعطي الفرد من الرعية الحق في عقد الأمان مع غير المسلمين في هذا الزمان إلا بإذن من إمام المسلمين أو من يقوم مقامه.
فيكون كالحربي الذي دخل دار الإسلام بدون أمان.
الفرع الرابع: في لفظ الأمان
ينعقد الأمان بكل لفظ يفيد مقصوده سواء كان صريحاً أو كناية أو إشارة، أو رسالة أو غيرها.
أولاً: مثال اللفظ الصريح:
كقوله: أمنتك، أو أجرتك، أولا خوف عليك، أو لا بأس عليك، أو لا تفزع، أو لا توجل، أو لا تذهل، أو ألق سلاحك، أو أنت آمن، أو بلفظ صريح غير عربي ككلمة مترس1 بالفارسية، أي لا تخف وغيرها من الألفاظ الصريحة.2
والدليل على انعقاد الأمان بهذه الألفاظ:
أولاً: قوله سبحانه تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} 3.
1 معناه لا تخف - هو بفتح الميم والتاء وسكون الراء، ويجوز سكون التاء وفتح الراء. كشاف القناع 3/106.
2 بدائع الصنائع 7/106، والبحر الرائق 5/109، والخراج ص 205، والمنتقى 3/172- 174، وقوانين الأحكام الشرعية ص174، وحاشية الدسوقي 2/182، وحاشية العدوي 2/6، ومغني المحتاج 4/236-237، وتحرير الأحكام ص 348، وتحفة المحتاج 9/267، وروضة الطالبين 10/279، والمغني 8/4879، والمبدع 3/391، وكشاف القناع 3/106.
3 التوبة: 6.
ثانياً: قوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ: "أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت".1
ثالثاً: وقوله صلى الله عليه وسلم "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".2
رابعاً: وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إن الله يعلم كل لسان فمن أتى منكم أعجمياً فقال له مترس فقد أمنه.3
ثانياً: مثال اللفظ الكنائي:
أنت على ما تحب، أو كن كيف شئت، أو طب نفساً، أو تعال فاسمع الكلام، ولفظ الكناية لا بد فيه من النية بخلاف اللفظ الصريح.4
ثالثاً: لفظ الإشارة:
كالإشارة بالإصبع إلى السماء سواء كانت الإشارة من ناطق أو اخرس ومثل الإشارة الأمارة، كترك القتال.5
لما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "أيما رجل من المسلمين
1 سبق تخريجه ص 201.
2 أخرجه مسلم 3/1406، 1408، كتاب الجهاد باب فتح مكة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3 أخرجه البخاري تعليقاً 2/204 باب الجزية والموادعة وابن منصور 2/230، وعبد الرزاق 5/2204.
4 شرح السير الكبير 1/190-244، وشرح الدر المختار 1/467 والبدائع 7/106، وحاشية الدسوقي 2/186، وقوانين الأحكام ص 174، ومنح الجليل 1/730، وتحرير الأحكام ص 347-348 وتحفة المحتاج 9/267، والشرح الكبير 10/558، والزوائد 2/352، والإنصاف 4/203-204، والمبدع 3/391.
5 المرجع السابق نفسه.
أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل إليه فقد أمنه الله فإنما نزول بعهد الله وميثاقه".1
وقال الإمام أحمد بن حنبل: "إذا أشير إليه بشيء غير الأمان فظنه أماناً فهو أمان، وكل شيء يرى العلج2 أنه أمان فهو أمان".3
رابعاً: وينعقد الأمان بالكتابة:
وبالرسالة سواء كان الرسول مسلماً أو كافراً4، وسواء كانت الرسالة بلغة عربية أو بأية لغة أخرى.
مدة الأمان
المستأمن إذا أراد الدخول إلى دار الإسلام وطلب الأمان، يعقد معه الأمان مدة مؤقتة، وقد اختلف الفقهاء في تحديد هذه المدة إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن مدة الأمان يجب ألا تبلغ السنة، فإن أقام سنة فرضت عليه
1 أخرجه عبد الرزاق 5/222، وسعيد بن منصور 2/230 باب الإشارة إلى المشركين.
2 العِلْج: الرجل الضخم من كفار العجم ويطلق على الكفار مطلقاً، والجمع علوج وأعلاج. المصباح المنير 2/425. وقال النووي: العلج الكافر الغليظ الشديد سمي به لأنه يدفع بقوته عن نفسه ومنه سمي العلاج لدفعه الداء. روضة الطالبين 10/285.
3 المبدع 3/391.
4 المبدع 3/391.
الجزية، وصار ذمياً بعد تنبيه الإمام عليه في أنه إن قام سنة وضعت عليه الجزية.
فالحربي إذا دخل دار الإسلام يطلب الأمان عقد معه الأمان لمدة مؤقتة أقل من سنة قلا يمكن من الإقامة الدائمة أو الطويلة، وإنما يسمح له بالإقامة اليسيرة.
وهو قول فقهاء الحنفية ووجه للشافعية.1
القول الثاني: أن مدة الأمان يجب ألا تزيد على أربعة أشهر، ويبلغ بعدها المأمن، وهذا في حق الرجال المستأمنين.
أما النساء: فلا يحتاج في أمانهم إلى التقييد بمدة معينة وقد نص الإمام الشافعي في الأم على أن المرأة المستأمنة إذا كانت ببلاد الإسلام لم تمنع ولا تتقيد بمدة لأن الأربعة إنما هي للرجال من المشركين.
وهو قول المالكية والمشهور عند الشافعية.2
1 شرح الكنز للزيلعي 3/268، والفتاوى الهندية 2/234، وشرح فتح قدير 5/327، وشرح السير الكبير 1/344، ومغني المحتاج 4/238، وفتح الجواد 2/338، وحاشية إعانة الطالبين 4/207-208، وروضة الطالبين 10/281 والأحكام السلطانية للماوردي ص 146.
2 قوانين الأحكام ص 75، وأسهل المدارك 2/217، وتحرير الأحكام ص 349، وحاشية الشرقاوي 2/421، وتحفة المحتاج 9/268، والسراج والوهاج ص 240.
القول الثالث: يجوز عقد الأمان مطلقاً أو مقيداً بمدة سواء كانت المدة طويلة أو قصيرة/ بخلاف عقد الهدنة فإنها لا تجوز إلا قصيرة.
ولكنهم وضعوا حداً للمدة المقيدة فقالوا يجب ألا تزيد على عشر سنين، أي أن المستأمن تجوز له الإقامة في دار الإسلام أكثر من سنة إذا لم تحدد مدة أمانة بأقل منها.
وهو قول فقهاء الحنابلة.1
قيل للإمام أحمد قال: الأوزاعي: "لا يترك المشرك في دار الإسلام إلا أن يسلم أو يؤدى فقال الإمام أحمد إذا أمنته فهو على ما أمنته".2
الأدلة:
أ- أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بما يلي:
1-
قالوا: إن الأصل أنه لا يقيم الحربي الإقامة الدائمة في دار الإسلام إلا بدفع الجزية، ومدة السنة وما فوقها هي المدة التي تجب بها الجزية، فمن أجل ذلك لا يجوز عقد الأمان إلا فيما دون السنة.
1 المغني 8/400، والإنصاف 4/206، 207، وغاية المنتهى 2/577-578، والمبدع 3/393، وكشاف القناع 3/107، والكافي 4/331، والزوائد 2/352، والمقنع بحاشيته 1/518، والمحرر 2/180.
2 المغني 8/400.
2-
وأيضاً إذا طالت مدة إقامته يخاف منه الضرر على المسلمين، لأنه قد يكون جاسوساً.1
ب- أدلة أصحاب القول الثاني: الذين حددوا مدة الأمان بأربعة أشهر بالنسبة للرجال، أما النساء فلا تحديد لمدة إقامتهن:
أولاً: بالقياس على مدة الهدنة، ومدة الهدنة التي أعطاها الشارع للمشركين حددها بأربعة أشهر بقوله تعالى:{فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} 2 وهادن الرسول صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية تلك المدة فقط.3
ثانياً: بالنسبة للتفريق بين الرجال والنساء أن التقييد بمدة معينة بالنسبة للرجال لئلا يتركوا في دار الإسلام بلا جزية، أما المرأة فليست من أهل الجزية.4
ج - أدلة أصحاب القول الثالث: الذين قالوا بأن مدة الأمان تجوز لأكثر من سنة:
أن المستأمن أبيح له الإقامة في دار الإسلام من غير التزام جزية فلم تلزمه جزية كالنساء والصبيان، ولأن المستأمن لو كان ممن لا يجوز أخذ
1 شرح الكنز 3/268، ومغني المحتاج 4/238.
2 التوبة: 2.
3 مغني المحتاج 4/260.
4 مغني المحتاج 4/238.
الجزية منه يستوي في حقه السنة فما دونها في أن الجزية لا تؤخذ منه في المدتين، فإذا جازت له الإقامة في أحدهما جازت في الأخرى قياساً لها عليها، وقوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة} أي يلتزمونها ولم يرد حقيقة الإعطاء وهذا مخصوص منها بالاتفاق، فإنه يجوز الإقامة من غير التزام لها ولأن الآية تخصصت بما دون الحول فنقيس على المحل المخصوص.1
الرأي المختار:
إن مدة الأمان من الأمور التي لم يرد فيها نص صريح يدل على تحديدها، فلهذا تكون من الأمور الاجتهادية التي يقدرها الإمام باجتهاده بحسب الحاجة والمصلحة فلا تتقيد مدة الأمان بمدة معينة.
لأن قول الحنفية بأن الأصل عدم جواز إقامة الحربي في دار الإسلام أكثر من سنة إلا بالجزية خلاف الواقع، لأنه يجوز أن يقيم غير المسلم بالأمان أكثر من سنة وتندفع مضرته بمراقبته، أو عدم عقد الأمان معه منذ البداية إذا خيف منه الضرر كالتجسس والخيانة لقوله تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} .2
أما قياس الشافعية عقد الأمان على عقد الهدنة في تحديد المدة فهو
1 المغني لابن قدامة 8/400.
2 الأنفال: 58.
قياس مع الفارق وغير صحيح، لأن عقد الهدنة مغاير لعقد الأمان، فالهدنة هي مهادنة الكفار لوقف القتال، والأمان هو الإذن لهم بدخول دار الإسلام لمدة مؤقتة.
وقال الإمام الرازي عند تفسيره لآية {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} 1: "ليس في هذه الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة المعطاة للمستأمن كم يكون ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف".2
وقال الشوكاني: "لا دليل على هذا التوقيت بل المتعين الرجوع إلى ما في الأدلة من الإطلاق وقد جاءت بتصحيح الأمان ولم تقيد بوقت، لكن يجوز للمسلمين إذا كان الأمان الواقع من أحدهم مطلقاً أو أن يؤقتوه، وإن كان لمدة طويلة أن يجعلوه للمدة التي تقتضيها المصلحة، فإن رضي من وقع له الأمان بذلك وإلا رد إلى مأمنه".3
1 التوبة: 6.
2 التفسير الكبير للفخر الرازي 4/399.
3 السيل الجرار 4/563.
الفرع الخامس: ما ينتقض به أمان المستأمن مع بيان تأمين الرسل والتجار
ما ينتقض به أمان المستأمن: ينتقض أمان المستأمن بواحد من أمور منها:
1-
النقض من أحد الجانبين من المؤمن أو المستأمن: فالمؤمن له أن ينقض عقد الأمان إذا خاف خيانة المستأمن وضرره على الإسلام والمسلمين، ورأى أن المصلحة في نقضه، ولكنه يجب عليه أن يعلمه بالنقض نفياً للغدر والخيانة1 لقوله تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء} 2 أي أعلمهم بنقض أمانهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم بالنقض.
والمستأمن ينتقض أمانه أيضاً إذا رجع إلى بلاده، ومحل إقامته الدائمة وهي دار الكفر، ولا يعود إلى دار الإسلام إلا بأمان جديد وهذا قول الجمهور.3
1 شرح السير الكبير 1/287، 305، وبدائع الصنائع 7/107، وفتح القدير 5/236، وحاشية الدسوقي 2/185ن وأسهل المدارك 2/17، وتحفة المحتاج 9/267، وروضة الطالبين 10/281، وكشاف القناع 3/105، والمبدع 3/395.
2 الأنفال: 85.
3 شرح السير الكبير 1/395، وحاشية الدسوقي 2/185، وتحفة المحتاج 9/267.
وقال الحنابلة: "لا ينتقض أمان المستأمن برجوعه إلى دار الكفر لتجارة أو حاجة يقضيها على عزم عودته إلى دار الإسلام، لأنه لم يخرج بذلك عن نية الإقامة بدار الإسلام فأشبه الذمي إذا دخل لذلك.
أما إذا دخل دار الكفر مستوطناً أو محارباً انتقض أمانه في نفسه وبقي في ماله، لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان ثبت له الأمان الذي معه فإذا بطل في نفسه بدخوله دار الكفر بقي في ماله لاختصاص المبطل بنفسه".1
2-
انتهاء المدة المحددة لعقد الأمان: فإذا انتهت المدة فإن العقد ينتقض تلقائياً من غير حاجة إلى نقضه.
ولكن إذا انتهت مدة المستأمن ولا يزال في دار الإسلام فهو آمن حتى رجوعه إلى داره.2
3-
ينتقض عقد الأمان بارتكاب المستأمن بعض الجرائم في دار الإسلام، كالقتل، والسرقة، والزنا، وقطع الطريق، وإفساد المسلمين وتضليلهم عن دينهم، لأن المستأمن عند دخوله إلى دار الإسلام مشروط عليه في عقد الأمان، الالتزام بالأحكام الإسلامية العامة، فلا يقتل ولا
1 المغني لابن قدامة 8/400، 401، والمبدع 3/395، وكشاف القناع 3/108.
2 بدائع الصنائع 7/107، وحاشية الدسوقي 2/185، ومغني المحتاج 4/238، والإنصاف 4/206، والمقنع 1/518.
يسرق، ولا يزني، ولا يتعامل بالربا أو غيره من العقود الفاسدة ولا يقطع الطريق، ولا يتجسس ولا يفعل شيئاً فيه مضرة على الإسلام والمسلمين.
وهذا عند جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة.1
أما فقهاء الحنفية فقد خالفوا الجمهور وقالوا إن المستأمن إذا ارتكب شيئاً من هذه الجرائم لا ينتقض عهده.2
فقال محمد بن الحسن: "إذا دخل الحربي دارنا بأمان، فقتل مسلماً عمداً أو خطأً، أو قطع الطريق، أو تجسس أخبار المسلمين فبعث بها إلى المشركين، أو زنى بمسلمة أو ذمية كرهاً، أو سرق، فليس يكون شيء منها ناقضاً للعهد".3
ولكن المختار ما ذهب إليه الجمهور فالمستأمن بمجرد ارتكابه لجريمة من هذه الجرائم ينتقض عهده، لأنه مشروط عليه في عقد الأمان عدم الأضرار بالمسلمين، وارتكاب مثل هذه الجرائم في دارهم من أعظم الضرر بهم.
1 الخرشي على مختصر خليل 3/119، وشرح الزرقاني 3/118، وحاشية الدسوقي 2/185، ومغني المحتاج 4/238، والمهذب 2/258، والمقنع بحاشيته 1/518، والإنصاف 4/206.
2 بدائع الصنائع 7/106، ومجمع الأنهر 1/657، والاختيار 4/120.
3 انظر: السير الكبير 1/305.
تأمين الرسل، والسفراء، والتجار
اتفق الفقهاء على أنه إذا أرسل الكفار رسولاً منهم إلى دار الإسلام ودخلها بدون تقدم أمان فهو آمن، إذا أخرج ما يدل على أنه رسول كرسالة أو غيرها من رئيسه.1
لأن المهمة التي أرسل من أجلها تكون بمثابة الأمان له، فإذا أرسل الكفار رسولاً أو سفيراً إلى الدولة الإسلامية فهو آمن بما أرسل من شأنه.
وقد أمن الرسول صلى الله عليه وسلم رسل الكفار الذين يأتون إليه ليطلعوا على ما جد من أخبار الحرب، من الانسحاب أو المصالحة أو استمرار القتال، أو نحو ذلك.
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في معاملة رسل الأعداء، وعدم التعرض لأنفسهم وأموالهم بأذى.
فقد أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولي مسيلمة الذي هو من ألد أعداء الإسلام.
ففي حدي نعيم بن مسعود2رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولاً مسيلمة الكذاب بكتابه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما وأنتما
1 المبسوط 10/92- 93، وشرح السير الكبير 1/192، قوانين الأحكام الشرعية ص 174، وروضة الطالبين 10/281، ومغني المحتاج 4/243، والمغني 8/400، 523.
2 هو نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي، صحابي من ذوي العقل الراجح، شهد عدة غزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكن المدينة، وتوفي في خلافة عثمان، وقيل يوم الجمل. أسد الغابة 5/33، والأعلام 8/41.
تقولان مثلما يقول، فقالا نعم، فقال أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما".1
وعن عبد الله رضي الله عنه قال: "مضت السنة أن لا تقتل الرسل".2
أما في هذا الزمان فإرسال الرسل لتلقي الأخبار ونقلها والأشياء المهمة التي تخص الدولة الإسلامية أو غيرها من الدول الأخرى، فهو قليل لتطور الوسائل الحديثة التي تنقل الأخبار في أسرع وقت، ولا يوجد الآن إلا السفراء فهم بمثابة الرسل، فعملهم كسفراء لدى الدول الإسلامية أو غيرها يعتبر تأميناً لهم.
أما التجار فقد نص الفقهاء على جواز تأمينهم بناء على العرف والعادة فإذا دخل الحربي دار الإسلام من غير تقدم أمان، وقال جئت تاجراً وكان معه ما يدل على ذلك فهو آمن3، لأن العادة كما يقول ابن قدامة جرت بدخول تجارهم إلينا وتجارنا إليهم) .4
وهذا القول يشير إلى أن هذا الحكم مبني على العرف والعادة فإذا
1 أخرجه أبو داود في سننه 3/191 كتاب الجهاد باب في الرسل، وأحمد 3/487، والبيهقي 9/221.
2 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9/212.
3 الخرشي على مختصر خليل 3/124، وروضة الطالبين 10/280، والمغني 8/523، والمبدع 3/594، وكشاف القناع 3/111.
4 المغني لابن قدامة 8/523.
تبدلت العادة تبدل الحكم المبني عليها وفي هذا المعنى يقول الفقهاء لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.1
أما في الوقت الحاضر فلم تجر العادة بدخول التجار إلى غير دولهم بغير أمان، فلا بد لهم من ترخيص سابق بالدخول إلى إقليم الدولة شأنهم في هذا شأن غيرهم من المستأمنين، وعلى هذا تجري الدول الإسلامية في الوقت الحاضر فلا تسمح للتجار من الكفار بدخول أراضيها إلا بإذن سابق منها، وليس في هذا المسلك مخالفة للشريعة لأن ما نص عليه الفقهاء في هذه المسألة مبناه العرف، والعادة كما سبق، وقد تغيرت العادة في وقتنا الحاضر فتغير الحكم المبني عليها.2
1 أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 53.
2 المرجع السابق نفسه.
الفرع السادس: في حقوق المستأمن وواجباته
حقوق المستأمن: إن الكافر الذي يدخل دار الإسلام بأمان، له حقوق يجب على الدولة الإسلامية الالتزام بها:
وهي على النحو التالي:
أولاً: له حق العصمة في نفسه، وماله، وعرضه، وسائر شؤونه ومصالحه مادام متمسكاً بعقد الأمان،
لأنه بمجرد عقد الأمان معه فقد عصم نفسه من أن تزهق، ورقبته من أن تسترق، وعرضه من أن يهان، وماله من أن يعتدى عليه.
لأن التعرض له والاعتداء عليه بعد عقد الأمان معه، يعتبر غدراً ونقضاً للعهد الذي أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالوفاء به مادام المستأمن مستمسكاً به ولم ينقضه.
فقال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 1، وقال جل وعلا:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} 2 وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ
1 النحل: 91.
2 الإسراء: 34.
كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} 1 وقال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِم} .2
فجميع هذه الآيات الكريمات تدل على وجوب الوفاء بالعهد وعدم الغدر، ومن ذلك العهد الذي يعقد مع المستأمن لدخوله دار الإسلام. وكما دل الكتاب على وجوب الوفاء بالعهد وتحريم الغدر والخيانة فكذلك السنة دلت على وجوب الوفاء بالعهود جميعاً وعدم نفضها غدراً وخيانةً والتي من بينها العهود التي تعقد مع المستأمنين لدخولهم الديار الإسلامية.
فقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به".3
فبين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الغادر للعهود ينصب له يوم القيامة لواء يعرف به يوم القيامة، ويفتضح على رؤوس الأشهاد لأن فعله هذا يسيء إلى الإسلام وإلى الأخلاق الإسلامية العالية من الوفاء بالعهد وعدم الغدر والخيانة.
1 الأنعام: 152.
2 التوبة: 4.
3 أخرجه البخاري 2/206 كتاب الجزية والموادعة باب إثم الغادر وهذا اللفظ عنده عن أنس رضي الله عنه أما لفظ ابن عمر رضي الله عنهما فهو لكل غادر لواء ينصب لغدرته. ومسلم 3/1360، 1361 كتاب الجهاد باب تحريم إثم الغادر وهذا لفظه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً".1
والمستأمن من المعاهدين الذين يحرم قتلهم أو التعرض لهم بشيء ما أوفوا بالعهد والتزموا به.
وقد صرح الفقهاء بوجوب المحافظة على المستأمن وعدم التعرض له أو الاعتداء على شيء من مصالحه.
فقال السرخسي: "أموالهم صارت مضمونة بحكم الأمان فلا يمكن أخذها بحكم الإباحة وأن ماله الذي اكتسبه في دار الإسلام يبقى على ملكه، ولا تزول عنه ملكيته ولو عاد إلى دار الحرب.
وقال أيضاً: يجب على إمام المسلمين أن ينصر المستأمنين ما داموا في دارنا، وأن ينصفهم ممن يظلمهم، كما يجب عليه ذلك في حق أهل الذمة، لأنهم تحت ولايتنا".2
وقال الموصلي: "لا يجوز لأحد التعرض له - أي للمستأمن- بقتل، ولا أخذ مال كما لو أمنه الإمام".3
وقال العدوي المالكي: "واعلم أن ثمرة الأمان العائدة على المؤمن حرمة قتله واسترقاقه وعدم ضرب الجزية عليه".4
1 أخرجه البخاري 2/202 كتاب الجزية والموادعة باب إثم من قتل معاهداً بغير جرم.
2 المبسوط 10/119، وشرح السير الكبير 4/108،109.
3 انظر: الاختيار 4/123.
4 انظر: حاشية العدوي 2/7.
وقال الشيرازي: "إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان في تجارة أو رسالة ثبت له الأمان في نفسه وماله ويكون حكمه في ضمان النفس والمال حكم الذمي".1
وقال النووي: "إذا نعقد الأمان صار المؤمن معصوماً عن القتل والسبي".2
وقال ابن القيم: "المستأمن يحرم قتله وتضمن نفسه".3
وهذه النقولات من الفقهاء تدل دلالة واضحة على مدى حرصهم على رعاية الأمان، والحفاظ على حقوق المستأمن والابتعاد عن كل عمل قد يدخل في نطاق الخيانة وعدم الوفاء بمقتضيات الأمان.4
ثانياً: للمستأمن حق الحرية في الذهاب والمجيء، والتنقل من مكان إلى آخر داخل في دار الإسلام.
إلا الأماكن التي ورد النهي في منع المشركين من دخولها أو الإقامة فيها وستأتي بالتفصيل.
ثالثاً: يتمتع المستأمن بحق الحرية الدينية فليس لأحد من المسلمين
1 انظر: المهذب 2/338.
2 انظر: روضة الطالبين 10/281.
3 انظر: أحكام أهل الذمة 2/713.
4 أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 118.
التعرض له ولما يدين به، لأن الأصل المقرر في الإسلام {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 1 ولكن ينبغي أن يبين له أن الإسلام هو الدين الحق، والذي يجب على جميع البشرية اعتناقه، لأن من الحِكَم التي من أجلها أبيح عقد الأمان له هو الإطلاع على محاسن الإسلام وعدالته ومن ثم دخوله فيه.
والدولة الإسلامية لا تكره الذمي وهو من رعاياها على تغيير دينه، فمن باب أولى أن لا تكره المستأمن وهو أجنبي عنها.
رابعاً: له حق الخروج من دار الإسلام والرجوع إلى بلده دار الكفر كما له حق التمتع بكامل المرافق العامة للدولة الإسلامية كوسائل المواصلات.
فله أن يتمتع بالخدمات التي توفرها الدولة الإسلامية لسكانها من السكن والماء والكهرباء وغير ذلك.
كما له حق التمتع بجميع الحقوق العائلية من الزواج وغيره، بشرط عدم مخالفته النظام العام للدولة الإسلامية فليس له أن يتزوج بمسلمة.2
خامساً: له حق التمتع في مزاولة التجارة والصناعة والبيع والشراء
1 البقرة: 256.
2 بدائع الصنائع 7/106، وأسهل المدارك 2/17، وروضة الطالبين 10/280،281، والهداية لأبي الخطاب 2/115. وأحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص117، 121، 123، 127.
وسائر المعاملات المالية، مع أهل دار الإسلام، فلا يمنع من التعامل معهم في البيع والشراء، بل هو أمر مباح ما دام هذا التعامل مطابقاً لأحكام الشريعة الإسلامية وغير مخالف لها.1
وفي هذا يقول ابن رشد: "وأما مبايعة أهل الحرب ومتاجرتهم إذا قدموا بأمان فذلك جائز".2
إلا أنهم لا يمكنون من شراء ما فيه تقوية لأهل دار الحرب من سلاح أو نحوه، ولا يجوز لسكان دار الإسلام أن يبيعوهم شيئاً من ذلك.
قال ابن رشد: "لا يجوز أن يباعوا مما يستعينون به في حروبهم من كراع أو سلاح أو حديد ولا شيئاً مما يرهبون به المسلمين قي قتالهم".3
وقال في شرح الأزهار: "لا يجوز أن يمكن المستأمن من شراء آلات الحرب سيف أو قوس، أو درع أو نحو ذلك".4
والسبب من عدم بيعهم آلات الحرب لما يترتب عليه من إلحاق الضرر بالمسلمين بتقوية أعدائهم الكافرين.
وإذا اشترى المستأمنون شيئاً من هذه الآلات الحربية يمنعون من
1 شرح السير الكبير 4/1525، وأسهل المدارك 2/17، وروضة الطالبين 10/280، والمغني 8/523.
2 انظر: المقدمات الممهدات 2/289.
3 المرجع السابق نفسه.
4 شرح الأزهار 4/561.
الرجوع به إلى دارهم، ولهم أن يبيعوه قبل الخروج من دار الإسلام ويتسلموا ثمنه، فإن أبوا إلا الخروج به أجبروا على بيعه.1
واجبات المستأمن: إن المستأمن الذي يدخل دار الإسلام بأمان، يجب عليه الالتزام بجميع الواجبات المشروطة عليه في عقد الأمان والتي منها:
أولاًً: احترام أحكام الشريعة الإسلامية، والامتناع عن كل ما يشعر بأن فيه إهانة للمسلمين، وانتقاصاً لدينهم، كسب الله أو كتابه أو رسوله أو دينه أو ذكرهم بسوء أو غير ذلك، كارتكاب الجرائم المحرمة في دارهم كالقتل والسرقة والزنا، والتجسس على المسلمين، لأن مثل هذه الأفعال فيها ابتذال واستهزاء بالمسلمين وبعقيدتهم التي هي أساس قيام دولتهم الإسلامية.
وفي هذا يقول الكاساني: "المستأمن يلتزم بأحكام الإسلام مادام في دارنا كما يلتزم بها الذمي".2
ثانياً: يجب عليهم المحافظة على الأمن والنظام العام في دار الإسلام وعدم الخروج عليهما.
ثالثاً: يجب على المستأمنين الامتناع من إظهار المحرمات في دار
1 شرح السير الكبير 3/278، والفتاوى الهندية 2/234، أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 131،132.
2 انظر: بدائع الصنائع 7/91.
الإسلام كخمورهم وخنازيرهم ومعتقداتهم الفاسدة، لأن في الإشهار بهذه الأشياء ضرراً على المسلمين، والأمان عقد معهم بشرط عدم الضرر بالإسلام والمسلمين.1
رابعاً: يجب على المستأمن ألا يتعامل بالمعاملات المحرمة في الشريعة الإسلامية.
فلا يسمح له بالتبايع بالربا وغيره من العقود الفاسدة، لأنه ما دام في دار الإسلام فهو كالمسلمين، والمسلم يحرم عليه التعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة.
فالمستأمن ما دام في دار الإسلام يجب عليه الخضوع لأحكام الإسلام فيما يتعلق بالمعاملات من التجارة والصناعة، والبيع والشراء، مع المسلمين أو غيرهم من سكان دار الإسلام كالذميين.
فحتى لو كان التعامل بالربا بينه وبين ذمي أو مستأمن آخر فإنه يمنع من ذلك لأنه في دار الإسلام ويلتزم بأحكامه ونظامه.2
هذه هي أهم الواجبات التي يجب على المستأمن أن يلتزم بها ما دام في دار الإسلام، أما إذا فرط في شيء من ذلك، فإنه يعتبر ناقضاً للعهد،
1 السير الكبير 4/1528، وفتح القدير 6/58، والخرشي على خليل 3/148، ومنح الجليل 1/623، والمهذب 2/358، وكمغني المحتاج 4/257، وكشاف القناع 3/133، وأحكام أهل الذمة 2/713، وفقه السنة 2/698، وآثار الحرب ص227
2 الخراج لأبي يوسف ص 188، 189.
ويكون لا عصمة له فدمه هدر، وماله مباح للمسلمين فيكون كالحربي الذي دخل دار الإسلام بدون أمان