المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: في أقسام دار الكفر - اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية - جـ ١

[عبد العزيز بن مبروك الأحمدي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الباب الأول: في تحديد معنى الدارين مع بيان سكانهما والدليل على هذا التقسيم والأماكن التي يمنع الكفار من دخولها

- ‌الفصل الأول: في تحديد معنى الدارين مع بيان سكانهما

- ‌المبحث الأول: في تحديد معنى الدار مجردة ومضافة إلى الإسلام

- ‌المطلب الأول: في تحديد معنى الدار مجردة عن الإسلام

- ‌المطلب الثاني: في تحديد معنى الدار مضافة إلى الإسلام

- ‌المبحث الثاني: في سكان دار الإسلام من غير المسلمين

- ‌المطلب الأول: الصنف الأول الذميون

- ‌المطلب الثاني: في الصنف الثاني: المستأمنون

- ‌المبحث الثالث: في تحديد معنى دار الكفر وأقسامها

- ‌المطلب الأول: في تحديد معنى دار الكفر

- ‌المطلب الثاني: في أقسام دار الكفر

- ‌المطلب الثالث في سكان دار الكفر

- ‌المبحث الرابع: في تغير وصف الدار

- ‌المطلب الأول: في انقلاب صفة الدار

- ‌المطلب الثاني: في أن الاستيلاء المجرد على الدار هل يغير صفتها

- ‌المطلب الثالث: في إمكانية انقلاب دار الإسلام إلى دار كفر

- ‌الفصل الثاني: في الدليل على تقسيم الأرض إلى دارين وأثر هذا التقسيم في تباين الأحكام

- ‌المبحث الأول: في الدليل على التقسيم

- ‌المطلب الأول: في الدليل على التقسيم من الكتاب والسنة والمأثور والإجماع

- ‌المطلب الثاني: في الرد على من قال إن الأرض دار واحدة

- ‌المبحث الثاني: أثر التقسيم في تباين الأحكام

- ‌الفصل الثالث: في الأمكنة التي يمنع المستأمنون أو غيرهم من دخولها واستيطانها

- ‌المبحث الأول: في النصوص الواردة في المنع

- ‌المبحث الثاني: في حكم استيطان الكفار لجزيرة العرب

- ‌المبحث الثالث: في حكم دخول الكفار الحرم المكي

- ‌المبحث الرابع: في حكم دخول الكفار الحرم المدني وسائر المساجد

الفصل: ‌المطلب الثاني: في أقسام دار الكفر

‌المطلب الثاني: في أقسام دار الكفر

وفيه فرعان:

تنقسم دار الكفر إلى قسمين:

1-

دار كفر حربية - دار حرب.

2-

دار كفر غير حربية - دار عهد.

وفي هذا يقول ابن القيم: "والكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد".1

فأهل الحرب هم الكفار الحربيون أهل دار الحرب، وأهل العهد هم الكفار المعاهدون أهل دار العهد.

وقال ابن سعدي: "دار الكفر على نوعين: بلاد كفار حربيين- أي دار الحرب- وبلاد كفار مهادنين- بينهم وبين المسلمين صلح وهدنة2 - أي دار العهد-.

وذكر صاحب معالم في الطريق: بعد أن ذكر معنى دار الإسلام وما عداها دار كفر، علاقة المسلم بها إما القتال وهذه هي دار الحرب وإما المهادنة على عهد أمان وهذه هي دار العهد.

ولكنها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين.3

قلت: ومما يدل على هذا التقسيم أي تقسيم دار الكفر إلى دار حرب ودار عهد:

1 انظر: أحكام أهل الذمة 2/475.

2 انظر: الفتاوى السعدية 1/92.

3 انظر: معالم الطريق لسيد قطب ص 150، 157.

ص: 243

ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه"1.

فهذا الحديث نص صريح، في تقسيم دار الكفر إلى دار حرب يجب نصب العداء التام لها، لأنه لا يوجد بينها وبين المسلمين علاقة سلم ومهادنة بل العلاقة بينهما القتال والمحاربة.

ودار عهد لا تجوز محاربتها للعهد والمهادنة التي توجد بينها وبين المسلمين فالعلاقة بينهما علاقة سلم وهدنة ومصالحة.

1 أخرجه البخاري في صحيحه 3/275 كتاب الطلاب باب نكاح من أسلم من المشركات وعدتهم.

ص: 244

الفرع الأول في القسم الأول: وهي دار الكفر الحربية - دار الحرب -

دار الحرب هي الدار التي تنصب العداء التام للإسلام والمسلمين وتحاول جادة في القضاء عليه وعليهم، ولا فرق بين أن تعلن ذلك أو لا تعلنه ولم يكن بينهما وبين المسلمين معاهدات، فالعلاقة بينها وبين المسلمين علاقة عداء وحرب.

وهذا ما صرح به الفقهاء فقالوا: إن دار الحرب هي الدار التي يتسلط عليها الكفار، وتغلب فيها أحكامهم، ويخاف فيها المسلمون من الكفار.1

وقد اختار بعض العلماء المعاصرين تعريفاً لدار الحرب غير هذا التعريف ومضمونه: "أن دار الحرب هي الدار التي تعلن الحرب على المسلمين فقط، أما إذا لم تعلن فليست بدار الحرب"2.

وقال به الكثير من العلماء المعاصرين.3

فعلى رأي هؤلاء ومن سار على نهجهم، تكون الدول الكافرة التي لا تعلن الحرب على المسلمين، وليس بينها وبين المسلمين عقود معاهدات

1 المبسوط 10/114، وكشاف اصطلاحات الفنون 2/265، والمدونة 3/23، والمبدع 3/313، وكشاف القناع 3/43، والفتاوى السعدية 1/92.

2 معجم لغة الفقهاء ص 205.

3 انظر: آثار الحرب للزحيلي ص 195، 196، والإسلام شريعة الحياة لتوفيق على وهبة ص 203.

ص: 245

أو علاقات دولية ليست بدار الحرب يفترض على المسلمين أن يعدوا العدة لجهادهم.

ويمكن أن نقول لهؤلاء بأن دار الحرب التي جانبهم الصواب في معناها وحقيقتها التي يجب على المسلمين أن ينصبوا لها العداء التام ما دامت السماوات والأرض - هي الدار التي تنصب العداء التام للإسلام والمسلمين ولا فرق بين أن تعلن ذلك أو لا تعلنه، ولم يكن بينها وبين المسلمين عهد أو علاقات دولية، والعلاقة بينهما علاقة عداء وحرب.

وينبغي أن يعلم أيضاً أن دار الحرب في عداء دائم ومستمر مع دار الإسلام، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن كلمة حربي ترادف كلمة عدو دائماً وأبداً، وأن الدولة الكافرة التي لا تعلن الحرب على المسلمين، ولم يكن بينهم وبينها معاهدات، أو علاقات، أخطر على الإسلام والمسلمين من تلك التي تعلن الحرب عليهم، لأن الدول الكافرة التي تعلن الحرب على المسلمين ربما كان هذا في صالحهم ليأخذوا حذرهم ويعدوا العدة لمواجهتهم، ومحاربتهم، وإخضاعهم لسلطان الإسلام وأحكامه.

أما التي لا تعلن الحرب عليهم فإنها تحاربهم وتقضي عليهم سراً من حيث لا يعلمون، وهم نائمون، ينتظرون الإعلان.

وأيضاً قولهم هذا خلاف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، الذين كانوا يعتبرون جميع دار الكفر التي لم تعقد معهم المعاهدات، والموادعات، والمهادنات، دور حرب، تجب محاربتها، وإخضاعها لحكم الإسلام وسلطانه وإن لم تعلن الحرب على المسلمين.

ص: 246

الفرع الثاني في القسم الثاني: دار الكفر غير الحربية - دار العهد -

العهد لغة: يطلق على الأمان، قال تعالى:{لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1 أي أماني، وعلى الذمة تقول هذا في عهدي أي في ذمتي، والمعاهد الذمي، وعاهده أي أعطاه عهداً فهو معاهد ومعاهد.

ويطلق العهد على الموثق واليمين يحلف بها الرجل، قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 2، وتقول على عهد الله وميثاقه، وتقول علي عهد الله لأفعلن كذا، ومنه ولي العهد لأنه ولي الميثاق.

ويطلق على الوفاء: قال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} 3 أي من وفاء.

وعلى الوصية، قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} .4

ويقال عهد إلي في كذا أي أوصاني.

والعهد يطلق على كل ما عوهد الله عليه وكل ما كان بين العباد

1 البقرة: 124.

2 النحل:91.

3 الأعراف: 102.

4 يس: 60.

ص: 247

من المواثيق، وأكثر ما يطلق العهد في الحديث على أهل الذمة.1

أما دار العهد: فهي دار الكفر التي عقد أهلها العهد بينهم وبين المسلمين، بعوض أو بغير عوض بحسب المصلحة التي تعود على المسلمين أي أن العلاقة بين أهلها وبين المسلمين علاقة سلمية لا حربية.2

وهذا العهد تكون مصلحة المسلمين فيه هي الراجحة ويكون إلى مدة معينة وبشروط إسلامية.

أما دور الكفر المعاهدة في هذا الوقت فلا ينطبق عليها هذا التعريف ونحتار فيما يطلق عليها، لأن المعاهدات والعلاقات الدولية التي تكون بينها وبين المسلمين تكون على غير شروط إسلامية، والمصلحة الراجحة فيها تكون لصالح الكفار، وكذلك مدتها تكون مؤبدة غير مقيدة بزمن، وتساعد أعداء المسلمين بالمال، والرجال، والسلاح، ومتى رأت أن المصلحة في نقض العلاقة بينها وبين الدول الإسلامية، نقضت هذه العلاقة والاتفاقية بدون إنذار أو إشعار. وبناء على هذا يظهر أن الدول الكافرة التي بينها وبين المسلمين عهود واتفاقات وعلاقات في هذا الزمان أقرب إلى دار الحرب وإن لم تعلن ذلك.

1 النهاية لاين الأثير 3/115، ولسان العرب 3/311 - 312 والمصباح المنير 2/435، ومختار الصحاح ص 460، والمعجم الوسيط 2/640.

2 الأحكام السلطانية للماوردي ص 138، ومغني المحتاج 4/232، وأحكام أهل الذمة 2/465، والفتاوى السعدية 1/92، والعلاقات الدولية في الإسلام ص 54، والشرع الدولي ص50، وحقوق أهل الذمة ص، ومعجم لغة الفقهاء ص 205.

ص: 248

وأهل العهد على ثلاثة أصناف كما قال ابن القيم:

أهل الذمة، وأهل الهدنة، وأهل الأمان.

الصنف الأول: أهل الذمة وهم من سكان دار الإسلام والصنف الثاني المستأمنون وقد سبق بيانهم في المبحث الثاني من الفصل الأول من الباب الأول.

أما الصنف الثالث من أهل العهد فهم أهل الهدنة وهم سكان دار العهد.

فسأبحث في هذا الصنف الأشياء التي تتعلق بالهدنة، كتعريفها، ومشروعيتها، وشرطها، والآثار المترتبة عليها.

أولاً: تعريف الهدنة لغة وشرعاً:

فالهدنة في اللغة: المصالحة بعد الحرب، مشتقة من الهدون، وهي السكون والدعة، لأن بها تسكن الحرب والفتنة، هدنت الرجل إذا سكنته، وهادنته صالحته، وهدن عدوه إذا كافه.

هدن الصبي سكنه وأرضاه، وهدنت المرأة ولدها أسكنته بكلام وغيره لينام.

ويقال للصلح بعد القتال والموادعة بين المسلمين والكفار وبين كل متحاربين هدنة.1

1 النهاية 5/252، ومنال الطالب لابن الأثير ص 357، وتهذيب اللغة 6/203، 204، وتاج العروس 9/366 والقاموس المحيط 4/279، ولسان العرب 13/343، والمصباح المنير 2/636، والمعجم الوسيط 2/978، ومعجم مقاييس اللغة 6/41.

ص: 249

والموادعة بمعنى المهادنة ومعناها المتاركة.

قال الشرقاوي: "وتسمى الهدنة موادعة أي متاركة وراحة، من الدعة، وهي حصول الراحة من القتال في تلك المدة التي اتفق عليها، وتسمى مسالمة أي مصالحة، مجمل أسمائها خمسة كلها بمعنى واحد".1

وقال البهوتي: "وهي لغة السكون وتسمى مهادنة وموادعة من الدعة وهي الترك، ومعاهدة من العهد بمعنى الأمان، ومسالمة من السلم بمعنى الصلح".2

أما الهدنة شرعاً: فهي: مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معلومة بعوض منهم أو من المسلمين عند الضرورة، وبغير عوض بحسب المصلحة التي تعود على المسلمين.3

ثانياً: مشروعية عقد الهدنة:

إن جواز مصالحة ومهادنة أهل الحرب على ترك القتال مدة من الزمن ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع.

1 انظر: حاشية الشرقاوي 2/417.

2 انظر: كشاف القناع 3/111.

3 الاختيار 4/120، وتحفة الفقهاء 3/404، وحاشية الدسوقي 2/250، ومغنى المحتاج 4/260، وحاشية الشرقاوي 2/417 ن والمبدع 3/398، وكشاف القناع 3/111.

ص: 250

أ- فدليل مشروعيتها من الكتاب: قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} .1

وقوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .2

وجه الدلالة من الآيات:

دلت هذه الآيات الكريمات على جواز عقد الهدنة مع المشركين لأن الله سبحانه وتعالى قد برئ من المشركين، إلا المعاهدين منهم الذين عقدوا الهدنة مع المسلمين، فثبتوا على عهدهم فيجب إتمام العهد إليهم بشرط الوفاء بشروط العهد من قبلهم، فلا يعاونون أحداً على المسلمين.3

2-

وقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .4

1 البقرة: 1، 2.

2 التوبة: 4

3 الجامع لأحكام القرآن 8/71، ونظرية الحرب ص 437.

4 الأنفال: 61.

ص: 251

فالآية دلت على أن الكفار إذا مالوا إلى الهدنة فينبغي للمسلمين قبولها والميل إليها.

قال القرطبي: "إن مالوا يعني الذين نبذ إليه عهدهم إلى المسالمة أي الصلح فمل إليها".1

وقال ابن كثير: "وإن جنحوا أي مالوا للسلم، أي المسالمة والمصالحة، والمهادنة، فمل إليها واقبل منهم ذلك".2

وقال الرازي: "معنى الآية إذا مالوا إلى الصلح، فالحكم قبول الصلح أي فمل إليه".3

وقال ابن حجر: "إن هذه الآية دالة على مشروعية المصالحة مع المشركين".4

ب - دليل مشروعيتها من السنة:

1-

حديث صلح الحديبية، وهو حديث طويل والشاهد منه أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس.5

1 الجامع لأحكام القرآن 8/39.

2 تفسير القرآن العظيم 2/322.

3 التفسير الكبير للفخر الرازي 4/378.

4 فتح الباري 6/275.

5 أخرجه البخاري مطولاً 3/44 باب غزوة الحديبية. ومسلم 3/1409 كتاب الجهاد باب صلح الحديبية عن أنس وأبو داود 3/210 كتاب الجهاد حديث 2766 وهذا لفظه.

ص: 252

2-

وموادعته ومصالحته صلى الله عليه وسلم ليهود المدينة. فعندما استقر صلى الله عليه وسلم بالمدينة كتب كتاباً بين المسلمين واليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم واشترط لهم.1

وهذه أول معاهدة يعقدها النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين واليهود، وتعتبر من أنفس العقود الدولية، وأمتعها وأحقها، بالنظر والتقدير من الناس كافة، ويا حبذا لو كانت نبراساً للمسلمين في أصول المعاهدات، والعلاقات الدولية بينهم وبين مخالفيهم من أهل الأديان الأخرى.2

إلى غير ذلك من المعاهدات والمهادنات الكثيرة، التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المسلمين والمشركين.

ثالثاً: الإجماع:

لقد انعقد إجماع العلماء على جواز الهدنة مع غير المسلمين ولم يعلم لهم في ذلك مخالف.3

1 انظر: زاد المعاد 3/65، والسيرة النبوية لابن هشام 1/501، 504، والروض الآنف 2/16، 18، والحديث طويل وهو متفق عليه في صحيح البخاري 3/15،16 ومسلم 3/1389 كتاب الجهاد.

2 الرسالة الخالدة ص 92 ونظرية الحرب ص 442.

3 الاختيار 4/121، وفتح القدير 5/296، وبداية المجتهد 1/387، وحاشية الدسوقي 2/205، وحاشية الشرقاوي 2/417، وحاشية إعانة الطالبين 3/360، ومغني المحتاج 4/260، والمغني 8/459، والمبدع 3/398، وكشاف القناع 3/111.

ص: 253

من تعقد له الهدنة: تعقد الهدنة مع جميع الكفار بلا خلاف بين العلماء، بحسب المصلحة والمنفعة التي تعود على المسلمين.1

شروط الهدنة: لا تنعقد الهدنة إلا إذا توفرت فيها شروط أربعة - وهي:

1-

أن يعقدها الإمام أو نائبه.

2-

أن تكون فيها مصلحة للمسلمين.

3-

خلو عقدها من الشروط الفاسدة.

4-

أن تكون مدة المهادنة محددة بزمن معين.

تفصيل هذه الشروط:

الشرط الأول: أن يعقد الهدنة مع المشركين الإمام أو نائبه، لأن عقد الهدنة من العقود المهمة التي تحتاج إلى سعة نظر، وتقدير للمصالح العامة وتدبير تام للقضايا الحربية، وهذا كله لا يمكن توافره إلا في إمام المسلمين أو من يقوم مقامه.

وإن عقد الهدنة غير الإمام أو نائبه، لا تصح، ويعتبر هذا إفتياتاً على الإمام وتعديا على سلطانه ولو جاز أن يعقد الهدنة آحاد الرعية لتعطل الجهاد، فلا يؤمن أن يهادن الرجل أهل إقليم والمصلحة في قتالهم، وبهذا

1 شرح السير الكبير 5/1689، وحاشية الدسوقي 2/206، ونهاية المحتاج 8/106، والمجموع شرح المهذب 18/299، والمغني لابن قدامة 8/409 - 460.

ص: 254

يكون عقد الهدنة غير صحيح إذا عقده غير الإمام أو نائبه، أو من فوض إليه الإمام الأمر، كولاة الأقاليم لأنه يجوز لوالي الإقليم أن يعقد الهدنة، ولا يحتاج في عقدها إلى إذن جديد، لأن الإمام موليه ومفوضه مصلحة الإقليم، ولأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك والمفسدة فيه قليلة لو أخطأ، فإن تولى عقد الهدنة أحد الأفراد بدون تفويض من الإمام أو نائبه، بطل العقد وهذا عند جمهور الفقهاء.1

وذهب الحنفية إلى أنه يصح عقد الهدنة إذا عقده فريق من المسلمين، بغير إذن الإمام أو من يقوم مقامه.

قالوا: لأن المعول عليه كون عقد الموادعة مصلحة للمسلمين وقد وجدت، لأن الموادعة أمان، وأمان الواحد كأمان الجماعة.2

وقال سحنون من المالكية: "كما يجوز عقد الهدنة من الإمام يجوز من غيره من السرايا3، مع الكراهة وعند الضرورة".

لكن المختار هو ما ذهب إليه الجمهور من أن الهدنة لا يعقدها إلاّ

1 فتح القدير 5/204، وتحفة الفقهاء 3/404، والكافي لابن عبد البر 1/469، والتاج والإكليل 3/386، والخرشي 3/150، 151، وقوانين الأحكام الشرعية ص 175، ومغني المحتاج 4/260، ونهاية المحتاج 8/106، وأسنى المطالب 4/224، والمهذب 2/3232 وحاشية الشرقاوي 2/417، والمغني 8/505، والمحرر 2/182، وغاية المنتهى 1/477، والمبدع 3/398.

2 بدائع الصنائع 7/108، 109، والفتاوى الهندية 2/196.

3 السراية: قطعة من الجيش من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة. القاموس المحيط 4/397.

ص: 255

الإمام أو من يقوم مقامه لأنها من العقود التي تحتاج إلى نظر واجتهاد، وهذا كله لا يتأتى إلا من الإمام أو نائبه.1

الشرط الثاني: تحقيق المصلحة في عقد الهدنة:

اتفق الفقهاء على أن من شروط عقد الهدنة مع الكفار هو تحقيق المصلحة للمسلمين.

لقوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} .2

فهي مقيدة لآية {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه} .3

فالله سبحانه وتعالى عندما امرنا بالميل إلى المهادنة والمسالمة، أمرنا بها عندما يطلبها الكفار ويكون المسلمون هم الأعلون، ومصلحتهم من عقد الهدنة هي الأرجح، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما عقد المهادنات والمعاهدات مع يهود المدينة وكفار قريش وغيرهم ليس ذلك كله إلا لحكمة وهي تحقق المصلحة للمسلمين.

ومن أمثلة هذه المصلحة:

1-

احتمال ضعف المسلمين عن القتال بقلة العدد والعدة وبعقد الهدنة مع عدوهم القوي، يتقوى شأنهم ويتصدون لعدوهم.

1 التاج والإكليل 3/386.

2 محمد: 35.

3 الأنفال:61.

ص: 256

2-

الطمع في إسلام من تعقد لهم الهدنة، بعد اطلاعهم على محاسن الإسلام، من مشروعية عقد الهدنة، والوفاء بعقدها وتحريم نقضها بدون سبب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هادن صفوان بن أمية أربعة أشهر عام الفتح، وكان صلى الله عليه وسلم مستظهراً عليه ولكنه فعل ذلك رجاء إسلامه فأسلم قبل مضي المدة.

3-

احتمال بذل الجزية والتزام أحكام الملة، ومعاونة المسلمين وغيرها من المصالح.1

وبعد أن اتفق الفقهاء اشتراط توافر المصلحة في عقد الهدنة. اختلفوا في وقت وجود المصلحة فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة أنه يكفي وجودها وقت إبرام العقد ولا يشترط وجودها طيلة بقاء العقد.2

أما الحنفية: فإنهم اشترطوا استمرار وجود المصلحة طيلة بقاء العقد، فإن صالحهم الإمام مدة، ثم رأى نقض الصلح أنفع نبذ إليهم وقاتلهم، وذلك لأن الموادعة في رأيهم جهاد معنى، فإذا تبدلت المصلحة عاد المنع من عقدها، لأن الهدنة ما شرعت إلا لأجل المصلحة. 3

1 تحفة الفقهاء 3/404، وفتح القدير 5/204، 205، وبدائع الصنائع 7/108- 109، والاختيار 4/121، والتاج والإكليل 3/386، والخرشي 3/150، 151، وحاشية الدسوقي 2/206، وشرح الزرقاني 3/148 - 149، والمهذب 2/332 - 333، ومغني المحتاج 4/260، وحاشية إعانة الطالبين 4/207، والمغني 8/459، والمبدع 3/398، وكشاف القناع 3/112.

2 انظر: المرجع السابق نفسه.

3 بدائع الصنائع 7/109، وتبيين الحقائق 3/246.

ص: 257

فالمختار في ذلك هو رأي الجمهور بأن وقت وجود المصلحة هو عند إبرام العقد وإن استمرت المصلحة طيلة بقاء العقد فذاك، وأما إذا لم تستمر فلا ننقض إليهم عهدهم ويبقى العقد صحيحاً.

الشرط الثالث: خلو عقد الهدنة من الشروط الفاسدة: والشروط في عقد الهدنة تنقسم إلى قسمين:

1-

شروط صحيحه - كأن يشترط عليهم الإمام مالاً، أو إعانة المسلمين عند الحاجة، وغيرها، فهذه يجب الوفاء بها حسب ما تم الاتفاق عليه.

2-

شروط فاسدة وهي ما كان ممنوعاً في الشرع، ولا يلزم الوفاء بها مطلقاً وتبطل العقد عند جمهور الفقهاء.1

ومن أمثلة الشروط الفاسدة:

1-

اشتراط نقض الهدنة حسب الرغبة: فلا يجوز في عقد الهدنة اشتراط نقضها متى شاءوا، أو أن لكل طائفة منهم نقضها متى شاءت.2

وقد أجاز فقهاء الشافعية جواز اشتراط نقضها للمسلمين3 لما فعله

1 شرح السير الكبير 5/1788، والخرشي على مختصر خليل 3/150، وفتح الجواد 2/348، والمغني لابن قدامة 8/465.

2 فتح القدير 5/204، 205، والخرشي 3/150، 151، والمغني 8/466.

3 المهذب2/334، 335، وتحفة المحتاج9/305، والمجموع شرح المهذب 18/299.

ص: 258

الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر قال "نقركم بها على ذلك ما شئنا".1

2-

التنازل لهم عن بعض الممتلكات الإسلامية كقرية أو قطعة أرض، فهذا الشرط فاسد باتفاق الفقهاء، لعدم توافر المصلحة للمسلمين في ذلك، ولا يجوز التنازل عن جزء من دار الإسلام إلى دار الكفار ولو كان عن طريق دفع المال للمسلمين.

3-

اشتراط عدم فك الأسرى المسلمين الذي أسروهم في الحرب، فهذا لا يلزم الوفاء به ويعتبر من الشروط الفاسدة.

4-

اشتراط دخولهم الأماكن المقدسة عند المسلمين كالحرمين الشريفين.

5-

رد النساء، فلا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمات لديار الإسلام إلى الكفار مطلقاً.2

لقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا

1 أخرجه البخاري 2/48 كتاب الحرث والمزارعة باب إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله. ومسلم 3/1148 كتاب المساقاة واللفظ لهما.

2 فتح القدير 204، 205، وحاشية الدسوقي 2/206 والخرشي 3/150،151، وأسهل المدارك 2/18، ومغني المحتاج 4/261، وفتح الجواد 2/348، وحاشية الشرقاوي 2/419، والمغني 8/466، ومطالب أولي النهي 2/586، 587، والمبدع 3/399 - 400، وكشاف القناع 3/113، 114.

ص: 259

تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ} الآية1

ولفعله صلى الله عليه وسلم عدما عقد صلح الحديبية فقد كان متضمنا رد النساء إلى الكفار.

فجاءت أم كلثوم بنت عقبة مسلمة2 فجاء أخواها فطلباها من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله منع الصلح في النساء"3.

6-

رد السلاح إليهم أو تزويدهم بالسلاح، فقد اتفق الفقهاء على فساد هذا الشرط وهو رد سلاحهم أو إعطائهم شيئاً من سلاح المسلمين.

7-

اشتراط ترك مال مسلم أو ذمي بأيديهم، أو إظهار الخمور والخنازير في دار الإسلام.

إلى غير ذلك من الشروط الفاسدة التي نهى عنها الشرع وبين أنها باطلة ومردودة على أصحابها.4

فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء

1 الممتحنة: 10.

2 هي: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط القرشية الأموية، أخت الوليد بن عقبة، وأخت عثمان بن عفان لأمه. أسد الغابة 7/386.

3 القصة في صحيح البخاري 3/46 باب غزوة الحديبية.

4 فتح القدير 5/205، وجواهر الإكليل 1/219، وقوانين الأحكام الشرعية ص175، والمهذب 2/334 - 335، ونهاية المحتاج 8/108، وحاشية إعانة الطالبين 4/207، وأسنى المطالب 4/224، والكافي لابن قدامة 4/242، 2143، والمغني 8/466، وغاية المنتهى 1/477، وزاد المعاد 3/308.

ص: 260

الله أحق وشرط الله أوثق".1

فجميع هذه النصوص الصحيحة الصريحة، تدل على بطلان الشروط الفاسدة، المخالفة لما جاء في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم سواء كان في عقد الهدنة أو في غيرها.

الشرط الرابع: تحديد مدة الهدنة: اختلف الفقهاء في تحديد مدة الهدنة:

فقال فقهاء الحنفية: أن مدة المهادنة هي عشر سنوات وهي المدة التي وادع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً في صلح الحديبية وقالوا أيضاً إنه يجوز عقدها لأكثر من عشر سنين، وذلك منوط بمصلحة المسلمين وخيرهم، لأن تحقيق الخير والمصلحة لا يتوقف بمدة دون مدة.2

وقال فقهاء المالكية: إن مدة الهدنة إلى رأى الإمام يعينها باجتهاده وحسب ما يراه تبعاً للمصلحة.

ويستحب ألا تزيد على أربعة أشهر إلا مع العجز3 لقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} .4

1 أخرجه البخاري 2/119 كتاب الشروط باب الشروط في الولاء وهذا لفظه ومسلم 2/1143 كتاب العتق.

2 فتح القدير 5/205، والاختيار 4/121.

3 الكافي لابن عبد البر1/469، وحاشية الدسوقي 2/206، وقوانين الأحكام الشرعية ص 175، والخرشي 3/150، 151، وشرح الزرقاني 3/148-149.

4 التوبة: 2.

ص: 261

وروى ابن حبيب عن الإمام مالك جواز مهادنة المشركين السنة، والسنتين، والثلاث وإلى غير مدة.1

أما فقهاء الشافعية فقد فرقوا بين حالة القوة، وحالة الضعف، فقالوا: إذا كان بالمسلمين قوة فتجوز الهدنة أربعة أشهر فما فوق إلى أقل من سنة، لأن المدة إذا بلغت سنة تجب فيها الجزية، فلا يجوز تقريرهم فيها بلا جزية.2

واستدلوا على أن المدة في حالة القوة أربعة أشهر.

بقوله سبحانه وتعالى: {بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} .3

أما إذا كان بالمسلمين ضعف في العدد والعدة، فتجوز الهدنة إلى مدة تدعو إليها الحاجة وأقصاها عشر سنين.

لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هادن قريشاً في صلح الحديبية عشر سنين4 وهذه المدة هي غاية مدة الهدنة، ولا تجوز الزيادة عليها.

ولأن الأصل وجوب الجهاد، إلا فيما وردت فيه الرخصة وهي

1 الجامع لأحكام القرآن 8/41.

2 مغني المحتاج 4/261، والمهذب 2/332، 333، وفتح الجواد 2/348.

3 التوبة: 1،2.

4 سبق تخريجه ص 252.

ص: 262

عشر سنين فالتحديد بعشر سنوات مخصص لعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 1 فما زاد يبقى على مقتضى العموم، والزيادة على هذه المدة باطلة.2

أما فقهاء الحنابلة فلهم في مدة الهدنة روايتان:

الرواية الأولى: لا يجوز عقدها لأكثر من عشر سنين.

قال القاضي: وظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز عقدها لأكثر من عشر سنين، لأن الأمر بالجهاد يشمل الأوقات كلها، خص منه مدة العشر، بصلح النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الحديبية، أما ما زاد على العشر، فيبقى على العموم، فعلى هذا إن زادت المدة على عشر بطلت الزيادة.3

الرواية الثانية: يجوز عقد الهدنة لمدة معلومة بحسب رأي الإمام وإن طالت وهذا هو ظاهر المذهب.4

قال أبو الخطاب: ظاهر كلام الإمام أحمد أنه يجوز عقد الهدنة لأكثر

1 التوبة: 5.

2 الأم 4/187 - 189، وتحفة المحتاج 9/305، ومغني المحتاج 4/261، والمهذب 2/334، وحاشية إعانة الطالبين 4/207، ونهاية المحتاج 8/107.

3 المغني 8/460، والمبدع 3/399، وكشاف القناع 3/112، ومطالب أولي النهى 2/586، وأحكام أهل الذمة 2/476، 477، والمحرر 2/182، والاختيارات ص188.

4 انظر: المرجع السابق نفسه.

ص: 263

من عشر سنين، على ما يراه الإمام من المصلحة، لأنه عقد يجوز في العشر فجاز فيما زاد عليها كالإجارة.1

الرأي المختار:

والذي يتبين لي أن عقد الهدنة يجوز على أي مدة بدون تحديد لها وإن طالت وهذا بحسب المصلحة والحاجة التي يراها الإمام لأن المصلحة لا تتحقق بمدة دون مدة.

ولأن غالب المعقود التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم كانت مطلقة، ولم يحددها بوقت معين كمصالحته صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر وغيرها كثير.

وفي هذا يقول ابن القيم: "وعامة عهود النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين كانت مطلقة غير مؤقتة جائزة غير لازمة، منها عهده مع أهل خيبر".2

وقال العيني: "ليس في أمر الهدنة حد معين عند أهل العلم لا يجوز غيره مطلقاً، وإنما ذلك على حسب الحاجة، والاجتهاد في ذلك إلى الإمام وأهل الرأي"3.

الآثار المترتبة على عقد الهدنة:

1-

التزام المسلمين بالوفاء بعقد الهدنة ولا يجوز لهم نقضه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .4

1 المغني 8/460، والمبدع 3/399، والإنصاف 4/221.

2 انظر: أحكام أهل الذمة 2/478.

3 انظر: عمدة القارئ شرح صحيح البخاري 15/105.

4 المائدة: 1.

ص: 264

وقوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .1

وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقده، ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء".2

أما إذا صرح الكفار بنقض العهد، أو فعلوا ما يوجب نقضه بأن خالفوا شرطاً من الشروط السابقة، وكمقاتلة المسلمين علانية أو دخول ديار المسلمين بغير إذن، أو استولوا على أموال المسلمين أو غير ذلك، انتقض عهدهم وجاز قتالهم، والإغارة عليهم، لقوله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} .3 فدلت هذه الآية على أن شرط الوفاء بالعهد هو أن يستقيموا للشروط المشترطة عليهم في عقد الهدنة، فإن لم يستقيموا لهذه الشرط وحاولوا نقضها، ولم نستقم لهم وننقض إليهم عهدهم.4

1 التوبة: 4.

2 أخرجه أبو داود 3/190 باب الإمام يكون بينه وبين العدو عهد، والترمذي 4/143 حديث رقم 1580 باب ما جاء في الغزو وقال حديث حسن صحيح.

3 التوبة: 7.

4 بدائع الصنائع 7/108، 109، وحاشية الدسوقي 2/206، والأم 4/187- 189، والمهذب 2/234، ومغني المحتاج 4/262، والمغني 8/462.

ص: 265

وقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} .1

ولما نقضت قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم باعتدائهم على قبيلة هوازن حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إليهم فقاتلهم وفتح مكة.

2-

حمايتهم من التعدي عليهم من قبل المسلمين أو الذميين فمن أتلف شيئاً من أموالهم فعليه ضمانه، فالإمام إذا عقد الهدنة لقوم من المشركين فعليه أن يمنع كل من يقصدهم من المسلمين وأهل الذمة.

وليس على الإمام أن يمنع بعضهم من بعض، ولا يمنع عنهم أهل الحرب، لأن الهدنة لم تعقد على حفظهم.

وإنما عقدت على ترك قتالهم بخلاف أهل الذمة فإنهم قد التزموا أحكام المسلمين فلذلك يجب على الإمام منع كل من قصدهم. أما أهل الهدنة فلم يلتزموا بأحكام المسلمين.2

قال ابن قدامة: "وإذا عقدت الهدنة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الذمة، لأنه أمنهم ممن هو في قبضته، وتحت يده كما أمن من في قبضته منهم، ومن أتلف من المسلمين أو من أهل الذمة عليهم شيئاً فعليه ضمانه ولا تلزمه حمايتهم من أهل الحرب، ولا حماية بعضهم من بعض لأن الهدنة التزام الكف عنهم".3

1 التوبة: 12.

2 المهذب للشيرازي 2/134 - 235، والمجموع شرح المهذب 18/303، 306.

3 انظر: المغني لابن قدامة 8/463، وكشاف القناع 3/15.

ص: 266

عقد الهدنة على دفع المال:

يجوز عقد الهدنة مع الكفار على ألا يدفعوا لنا شيئاً من المال.

بدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث هادن قريشاً يوم الحديبية على غير مال.

وكذلك تجوز مهادنة الكفار على مال يدفعونه للمسلمين، لأنه إذا جاز عقد الهدنة على غير مال، فإنه يجوز مع المال من باب أولى.

أما عقد الهدنة على أن يدفع المسلمون المال للكفار، فقال الفقهاء:"هذا لا يجوز إلا عند الضرورة".

لأن فيه صغاراً للمسلمين، أما إذا كانت هناك ضرورة لدفعه فإنه يجوز، كما إذا خيف على المسلمين الهلاك أو الأسر.

لأنه يجوز للأسير فداء نفسه بالمال فكذلك الأمر ههنا.

وإذا كان في بذل المال للكفار صغار، فإن ذلك يجوز تحمله لكي ندفع به صغاراً أعظم منه، وهو القتل، أو الأسر، أو سبي الذرية أو احتلال أرض المسلمين.1

فقد روى عن الزهري أنه قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي عيينة بين حصن، وهو مع أبي سفيان يعني يوم الأحزاب أرأيت إن جعلت لك ثلث

1 تحفة الفقهاء 3/404، والخراج لأبي يوسف ص 207، وشرح السير الكبير 4/1400، والمنتقى 3/159، والأم 4/187-189، ومغنى المحتاج 4/261، وأسنى المطالب 4/225، والمهذب 2/332، والمغني 8/4612، وكشفا القناع 3/112، والمبدع 3/400.

ص: 267

ثمر الأنصار أترجع بمن معك من غطفان أو تخذل1 بين الأحزاب، فأرسل إليه عيينة إن جعلت الشطر، فعلت.2

وولولا أن ذلك جائزاً لما بذله النبي صلى الله عليه وسلم.3

وكذلك روى أن الحارث بن عمرو الغطفاني بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن جعلت لي شطر ثمار المدينة، وإلا ملأتها عليك خيلاً ورجالاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حتى أشاور السعود يعني سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن زرارة، فشاورهم النبي صلى الله عليه وسلمفقالوا: إن كان هذا أمر من السماء فتسليم لأمر الله تعالى، وإن كان برأيك وهواك اتبعنا رأيك وهواك. 4

وقد صالح معاوية الروم على أن يؤدي إليهم مالاً وذلك لضرورة اقتضتها الدولة الإسلامية. 5

وقد سئل الأوزاعي عن حصن للمسلمين نزل به العدو فخاف المسلمون ألا يكون لهم بهم طاقة. ألهم أن يصالحوهم على أن يدفعوا إليهم سلاحهم وأموالهم على أن يرتحلوا عنهم، فقال إذا كان لا طاقة لهم بهم فلا بأس بذلك.

وقيل له أيضاً: أرأيت لو وقعت فتنة بين المسلمين فخاف إمام

1 أو تخذل بين الأحزاب أي: تترك نصرتهم وإعانتهم.

2 أخرجه عبد الزراق في المصنف 10/125.

3 كشاف القناع 3/112.

4 الأموال ص 211.

5 المرجع السابق نفسه.

ص: 268

المسلمين عدوهم عليهم، أيسعه أن يصالح العدو على شيء يدفعه إليهم في كل عام ليدافع بذلك عن المسلمين وعن حرمتهم، قال لا أرى بذلك بأساً إذا كان كذلك.1

فجميع هذه النصوص تدل على أنه يجوز للمسلمين أن يعقدوا الهدنة مع الكفار على مال يدفعونه لهم وهذا عند الضرورة فقط.

الفرق بين عقد الذمة وعقد الهدنة:

1-

أن عقد الذمة مؤبد بخلاف عقد الهدنة فإنه بحسب اجتهاد الإمام والمصلحة التي تعود على المسلمين.

2-

أن عقد الذمة لا يجوز بدون عوض وهو دفع الجزية، بخلاف عقد الهدنة فإنه يجوز بدون عوض.

3-

أن عقد الذمة من شروطه الالتزام بأحكام الإسلام العامة بخلاف عقد الهدنة.

4-

أن أهل الذمة يقيمون في دار الإسلام إقامة مؤبدة بخلاف أهل الهدنة.

5-

يلتزم المسلمون بعقد الذمة الدفاع عن أهل الذمة من الاعتداء عليهم سواء كان من المسلمين أو من غيرهم كالحربيين.

بخلاف عقد الهدنة فإن الإمام يلتزم حمايتهم من المسلمين وأهل الذمة دون أهل الحرب.

1 اختلاف الفقهاء ص 17 - 18.

ص: 269