الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أثر التقسيم في تباين الأحكام
بعد أن استقرأنا دلالة الكتاب والسنة والإجماع والمأثور على انقسام الأرض إلى دارين: دار إسلام، ودار كفر.
نبين أثر هذا التقسيم في تباين أحكام الشريعة الإسلامية من عدمه.
فنقول: إن ذلك لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أثره في الأحكام التي تخلف باختلاف دار الإسلام
فمثلاً المستأمن الذي يقيم في دار الإسلام إقامة مؤقتة، وهو من أهل دار الكفر، ولا تطبق عليه أحكام الشريعة الإسلامية في داره ولا يلتزم بها، هل لانتقاله من داره إلى دار الإسلام، أثر في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عليه أم لا أثره له؟
فقد اتفق الفقهاء على أن اختلاف الدارين له أثر في تباين الأحكام التي تخلف باختلاف دار الإسلام فيما يتعلق بالمعاملات، فالمستأمن إذا دخل دار الإسلام، أثر دخوله هذا في تطبيق الأحكام الإسلامية عليه، فمثلاً يحرم عليه التعامل بالربا مع المسلمين وغيرهم كالذميين، بل يمنع من التعامل بجميع العقود الفاسدة التي لا تحل في الشريعة الإسلامية بينما كان
في داره بتعامل بها كيف شاء ومع من شاء.1
أما ما يتعلق بالحدود والجنايات فقد اختلفوا فيه هل له أثر أم لا؟
فمثلاً إذا ارتكب المستأمن الجرائم في دار الإسلام، طبقت عليه أحكام الشريعة الإسلامية في قول أكثر أهل العلم.
فلو قتل المستأمن مسلماً أو ذمياً في دار الإسلام، فإنه يقتص منه، وإذا قتله مسلم أو ذمي في دار الإسلام فدمه لا يذهب هدر كما في داره، بل تضمن ديته.
وكذلك الحدود تقام عليه إذا ارتكب موجبها، إلى غير ذلك من الأحكام التي تخلف باختلاف دار الإسلام وسيأتي تفصيل هذه الأحكام وبسط الخلاف فيها في الباب الثاني.2
الأمر الثاني: أثره في الأحكام التي تختلف باختلاف دار الكفر
فمثلاً المسلم الذي هو من أهل دار الإسلام، إذا سافر إلى دار الكفر، هل لسفره هذا أثر في عدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عليه
1 حاشية رد المحتار 5/186،وفتح القدير 6/178، والاختيار 2/33، والمقدمات الممهدات 2/617، وأحكام القرآن لابن العربي 1/516، والمجموع 9/3916، وكشاف القناع 3/259، والإفصاح 1/329.
2 بدائع الصنائع 7/71، والمدونة 6/168، والشرح الصغير 4/405، ومغنى المحتاج 4/175، وروضة الطالبين 10/142، والإنصاف 10/281، والمبدع 9/135، والرد على سير الأوزاعي ص 80.
علماً بأنه في داره ملتزم لجميع الأحكام الإسلامية. اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين:
القول الأول: أن اختلاف الدارين يوجب تباين الأحكام الشرعية، فمثلاً المسلم الذي دخل دار الكفر بأمان أو بغير أمان له أن يتعامل بالربا فيها مع الكفار ومع المسلمين الذي لم يهاجروا، بل له أن يتعامل بجميع العقود الفاسدة مع الكفار إذا دخل دارهم بدون أمان أو بأمان، بينما في داره يحرم عليه التعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة.1
وكذلك إذا ارتكب ما يوجب القصاص في دار الكفر، فقتل مسلماً آخر، لا يقتص منه بينما في داره يجب عليه القصاص.
وكذلك الحدود لا تقام عليه في دار الكفر، فلو سرق أو زنا أو شرب الخمر لا يقام عليه الحد ما دام في دار الكفر، بينما في داره تقام عليه الحدود إذا ارتكب موجبها، وإلى غير ذلك من الأحكام الأخرى التي ستأتي بالتفصيل في الباب الثالث.
وهذا ما صرح به فقهاء الحنفية وبه قال الحنابلة في رواية إلا أنهم قالوا بالنسبة لإقامة الحدود تؤخر حتى يرجع المسلم إلى دار الإسلام. 2
1 بدائع الصنائع 5/192 و7/131، والمبسوط 14/56، والبحر الرائق 5/18 و6/147، والجوهرة النيرة 2/245، 262، وفتح القدير 5/47، 6/178، والمبدع 4/175، و9/59، والمقنع 3/451، والإفصاح 2/430، وكشاف القناع 6/175، والإنصاف 5/52، 53، والفروع 4/147.
2 انظر: المصادر السابقة.
واحتجوا بما يلي:
أولاً: قالوا إن الإمام يقدر على إقامة الحدود في دار الإسلام، ولا يقدر على إقامتها في دار الكفر، لعدم الولاية ن فلو سرق المسلم أو قتل في دار الكفر ثم رجع إلى دار الإسلام لا يقام عليه الحد، لأنه لا ولاية لدار الإسلام على دار الكفر.1
ثانياً: قالوا إن تباين الدارين قاطع للأملاك لأنه نازل منزلة الموت، والموت قاطع للأملاك، لأن الملك في الأصل إنما يثبت بالاستيلاء على المملوك، والاستيلاء ينقطع بتباين الدار حقيقة وحكماً.
أما الحقيقة فبالخروج عن يد المالك، وأما الحكم فبانقطاع يده من الولايات والتصرفات.2
القول الثاني: أن اختلاف الدارين لا أثر له في تباين الأحكام الشرعية التي تختلف باختلاف دار الكفر.
وبه قال فقهاء المالكية، والشافعية، والحنابلة في ظاهر المذهب.3
1 بدائع الصنائع 7/130.
2 تخريج الفروع على الأصول ص 277، 278.
3 المدونة 4/271، و6/291، والمقدمات 1/178، 179، والخرشي 3/7، والشرح الكبير 2/166، والمنتقى شرح الموطأ 7/145، والأم 7/354، والمجموع 9/391، والمهذب 2/241 والإشراف 1/262و 2/43، وروضة الطالبين 10/141، 291، والمقنع بحاشية 3/451، والمغني 4/45، والفروع 4/147، والمبدع 4/157.
فمثلاً المسلم المقيم في دار الكفر يحرم عليه التعامل بالربا وبجميع العقود الفاسدة في دار الكفر، ولا أثر لاختلاف الدار في ذلك، لأن النصوص الواردة من الكتاب والسنة في تحريم الربا وردت عامة لم تفرق بين التعامل به في دار الإسلام أو في دار الكفر.
وكذلك الحدود تقام على المسلم إذا ارتكب موجبها في أي مكان ولا فرق بين دار الإسلام دار الكفر، وذلك لأن النصوص أيضاً الموجبة لإقامة الحدود وردت عامة لم تفرق بين إقامتها في دار الإسلام أو في دار الكفر.
وخلاصة الأمر أن المسلم يجب عليه أن يلتزم بالأحكام الشرعية الإسلامية في كل زمان وأني كان في دار الإسلام أو في دار الكفر.
وقد ذكر الزنجاني1 الشافعي الاختلاف بين أصحابه والأحناف فقال: اختلاف الدارين أعني دار الإسلام ودار الحرب لا يوجب تباين الأحكام عند الشافعي، وقال أبو حنيفة اختلاف الدارين يوجب تباين الأحكام.
واحتج لأصحابه بقوله: "بأن الدور والأماكن والرباع لا حكم لها لدار البغي ودار العدل، وإنما الحكم لله تعالى، ودعوة الإسلام عامة على
1 هو محمود بن أحمد بن محمود بن مختار أبو المناقب شهاب الدين الزنجاني، من علماء الشافعية في الفقه واللغة والأصول، ولد سنة 573 وتوفي سنة 656 من تصانيفه: تنقيح الصحاح، وتخريج الفروع على الأصول. انظر ترجمته في: طبقات الشافعية لابن السبكي 5/154، والأعلام 7/161.
الكفار، سواء كانوا في أماكنهم أو في غيرها".1
قلت: ومعنى كلامه هذا، أن اختلاف الدور والأماكن لا أثر له في أحكام الشريعة الإسلامية، فأحكام الله نافذة قائمة في جميع بقاع الأرض، لا فرق بين دار إسلام أو دار كفر.
فالسارق سارق سواء سرق في دار الإسلام أو في دار الكفر، ويجب إقامة الحد عليه في أي زمان ومكان، وكذلك القاتل أينما ارتكب جريمته في دار الإسلام، أو في دار الكفر يجب تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عليه كالقصاص، أو دفع الدية، ولا فرق في ذلك بين دار الإسلام ودار الكفر، وإلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التي لا تختلف باختلاف الدارين.
ثم قال بعد ذلك ويتفرع عن هذا الأصل مسائل:
1-
منها ما إذا هاجر أحد الزوجين إلينا مسلماً أو ذمياً وتخلف الآخر في دار الحرب لا ينقطع النكاح عندنا بنفس الخروج، وينقطع عندهم لتباين الدار.
2-
ومنها إذا أسلم الحربي وخرج إلينا وترك ما له في دار الحرب، ثم ظهر المسلمون على دارهم فإن ماله لا يملك عندنا. وعندهم يملك ويكون من جملة الغنائم.
3-
ومنها من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلى دار الإسلام فهو
1 تخريج الفروع على الأصول ص 277.
معصوم يجب على قاتله الدية والقصاص وعلى من أتلف ماله الضمان كما في دار الإسلام.
وقال أبو حنيفة: "يحرم قتله وأخذ ماله، ولكن لا يجب الضمان والقصاص".1
والراجح من القولين ما ذهب إليه الجمهور من أن الأحكام الشرعية لا تختلف باختلاف دار الكفر، فالمسلم يلتزم وتطبق عليه جميع الأحكام الشرعية في أي زمان ومكان لعموم النصوص الواردة في هذا الشأن وسيأتي مزيد بيان من هذا في الباب الثاني.
1 انظر: تخريج الفروع على الأصول ص 278، مع بدائع الصنائع 7/130، 132، والهداية 2/175، وتأسيس النظر للدبوسي ص 79، 80.