المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: الصنف الأول الذميون - اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية - جـ ١

[عبد العزيز بن مبروك الأحمدي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الباب الأول: في تحديد معنى الدارين مع بيان سكانهما والدليل على هذا التقسيم والأماكن التي يمنع الكفار من دخولها

- ‌الفصل الأول: في تحديد معنى الدارين مع بيان سكانهما

- ‌المبحث الأول: في تحديد معنى الدار مجردة ومضافة إلى الإسلام

- ‌المطلب الأول: في تحديد معنى الدار مجردة عن الإسلام

- ‌المطلب الثاني: في تحديد معنى الدار مضافة إلى الإسلام

- ‌المبحث الثاني: في سكان دار الإسلام من غير المسلمين

- ‌المطلب الأول: الصنف الأول الذميون

- ‌المطلب الثاني: في الصنف الثاني: المستأمنون

- ‌المبحث الثالث: في تحديد معنى دار الكفر وأقسامها

- ‌المطلب الأول: في تحديد معنى دار الكفر

- ‌المطلب الثاني: في أقسام دار الكفر

- ‌المطلب الثالث في سكان دار الكفر

- ‌المبحث الرابع: في تغير وصف الدار

- ‌المطلب الأول: في انقلاب صفة الدار

- ‌المطلب الثاني: في أن الاستيلاء المجرد على الدار هل يغير صفتها

- ‌المطلب الثالث: في إمكانية انقلاب دار الإسلام إلى دار كفر

- ‌الفصل الثاني: في الدليل على تقسيم الأرض إلى دارين وأثر هذا التقسيم في تباين الأحكام

- ‌المبحث الأول: في الدليل على التقسيم

- ‌المطلب الأول: في الدليل على التقسيم من الكتاب والسنة والمأثور والإجماع

- ‌المطلب الثاني: في الرد على من قال إن الأرض دار واحدة

- ‌المبحث الثاني: أثر التقسيم في تباين الأحكام

- ‌الفصل الثالث: في الأمكنة التي يمنع المستأمنون أو غيرهم من دخولها واستيطانها

- ‌المبحث الأول: في النصوص الواردة في المنع

- ‌المبحث الثاني: في حكم استيطان الكفار لجزيرة العرب

- ‌المبحث الثالث: في حكم دخول الكفار الحرم المكي

- ‌المبحث الرابع: في حكم دخول الكفار الحرم المدني وسائر المساجد

الفصل: ‌المطلب الأول: الصنف الأول الذميون

‌المبحث الثاني: في سكان دار الإسلام من غير المسلمين

المبحث الثاني: في سكان دار الإسلام

يسكن دار الإسلام نوعان من الناس:

النوع الأول: المسلمون وبيانهم لا يحتاج إلى تعريف.

النوع الثاني: غير المسلمين - المعاهدون وهم على صنفين:

‌المطلب الأول: الصنف الأول الذميون

وفيه ثمانية فروع:

الذميون وهم غير المسلمين الذين يلتزمون أحكام الإسلام العامة، ويدفعون الجزية، ويقيمون إقامة مؤبدة في دار الإسلام.

ولسكان دار الإسلام سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين كالذميين والمستأمنين العصمة في أنفسهم وأموالهم، لأن العصمة في السريعة الإسلامية تكون بأحد أمرين بالإيمان أو الأمان، ومعنى الإيمان الإسلام فمن أسلم فقد عصم دمه وماله بالإسلام.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وما جئت به، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".1

فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا في هذا الحديث أن من نطق بالشهادتين فهو معصوم الدم والمال.

1 أخرجه البخاري 1/243 باب وجوب الزكاة، ومسلم (1/52) كتاب الإيمان حديث 34. واللفظ له.

ص: 137

ومعنى الأمان العهد، ويكون بعقد الذمة، وبالموادعة، والهدنة، ومن دخل في أمان المسلمين بعقد من عقود الأمان، فقد عصم دمه، وماله، بالأمان ولو بقي على غير دين الإسلام.

فسكان دار الإسلام من المسلمين تحصل عصمة دمائهم وأموالهم، بالإسلام.

وسكان دار الإسلام من غير المسلمين من الذميين والمستأمنين تحصل عصمة دمائهم وأموالهم بالأمان.1

1 بدائع الصنائع 7/102، ومواهب الجليل 6/231، وأسنى المطالب 4/218، والشرح الكبير مع المغني 10/630، والتشريع الجنائي الإسلامي 1/276.

ص: 138

الفرع الأول: تعريف الذمة والمراد بأهلها

تعريف الذمة في اللغة:

الذمة في اللغة هي: العهد والأمان، والضمان والكفالة.

من أذمه يذمه إذا جعل له عهداً، وقولهم هذا في ذمة فلان أي في عقده وعهده، وقولهم في ذمتي كذا أي في ضماني، والجمع ذمم.

وسمي الذمي ذمياً، لأنه يدخل في أمان المسلمين وعهدهم.1

قال ابن الأثير: الذمة العهد والأمان والضمان.

وسمي أهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم.2

وقال أبو عبيد: "الذمة الأمان3 لقوله صلى الله عليه وسلم "يسعى بذمتهم أدناهم".4

1 كشاف اصطلاحات الفنون 2/324، وتاج العروس 8/301، وترتيب القاموس 2/268، والكليات 2/346، ومعجم مقاييس اللغة 2/346، وبصائر ذوي التمييز 3/18، والقاموس المحيط 4/115، والمعجم الوسيط 1/315، ومنال الطالب في شرح طوال الغرائب ص 69، 223.

2 انظر النهاية لابن الأثير 2/168.

3 المبدع 3/404 وكشاف القناع 3/116.

4 أخرجه البخاري 2/203 كتاب الجهاد باب ذمة المسلمين ومسلم 2/998 كتاب الحج باب فضل المدينة حديث 467 - 470 بلفظ ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم.

ص: 139

وقال الجرجاني: "الذمة لغة العهد لأن نقضه يوجب الذم".1

أما تعريف عقد الذمة شرعاً:

فهو إقرار الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام الأحكام الإسلامية.2

وأهل الذمة هم الذين يسكنون دار الإسلام من غير المسلمين بعقد مؤبد، يعقده الإمام أو نائبه، ويخضعون به للأحكام الإسلامية، ويؤدون الجزية، مقابل الحفاظ على أرواحهم، وأعراضهم، وأموالهم، من قبل المسلمين.

وقد أطلق عليهم لفظ أهل الذمة إشارة إلى أنهم في ذمة المسلمين وعهدهم.

ولأنهم عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله ما داموا مقيمين في دار الإسلام.

وأهل الذمة كما يرى الكثير من الفقهاء من أهل دار الإسلام، ومن ثم يعدون من الرعايا الذين يقيمون في دار الإسلام.

وإذا انفردوا بدارهم فيطلق على دارهم هذه أنها دار إسلام لأنها محكومة باسمه، وحاكمها مسلم، ينفذ الأحكام الإسلامية العامة على أهل الذمة.

1 التعريفات للجرجاني ص 51.

2 المبدع 3/404، ومطالب أولي النهي 2/561، والإنصاف 4/217، وكشاف القناع 3/116.

ص: 140

الفرع الثاني: في مشروعية عقد الذمة مع بيان الحكمة من مشروعية عقدها

لقد ثبت مشروعية عقد الذمة بالكتاب والسنة والإجماع:

أولاً: دليل المشروعية من الكتاب:

قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .1

وجه الدلالة من الآية:

أن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة، يأمرنا بقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى - الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يتبعون شرعه فيما حرم من المحرمات، ولا يدينون دين الإسلام - حتى ينطقوا بالشهادتين ويدخلوا في الإسلام عقيدة وعبادة، أخلاقاً ومعاملة، فإن أجابوا الدخول في الإسلام كانوا من المسلمين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين من الحقوق والواجبات.

أما إن رفضوا الدخول في الإسلام طولبوا بإعطاء الجزية عن ذل وهوان، والخضوع للأحكام الإسلامية العامة، ويتركون على دينهم دون التعرض لهم بشيء.

1 التوبة: 29.

ص: 141

ثانياً: دليل المشروعية من السنة:

1-

ما روى عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال: لجند كسرى يوم نهاوند1 "أمرنا نبينا ورسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية".2

وجه الدلالة من الحديث:

في هذا الحديث يخبرنا المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتال الكفار حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.

وقال الشوكاني: "فيه إخبار من المغيرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال المجوس حتى يعطوا الجزية".3

2-

عن بريدة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين خيراً وقال: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم".4

1 نهاوند: مدينة عظيمة في قبلة همذان بينهما ثلاثة أيام كان فتحها سنة 21 في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر: معجم البلدان 5/313.

2 أخرجه البخاري 2/201 كتاب الجهاد باب الجزية.

3 انظر: نيل الأوطار 8/57.

4 أخرجه مسلم 3/1356 كتاب الجهاد باب تأمير الأمراء على البعوث.

ص: 142

وجه الدلالة من الحديث:

الحديث ظاهر الدلالة فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا في الحديث أن المسلم إذا لقي عدوه من المشركين خيره بين خصال ثلاث: إما الدخول في الإسلام، فإذ أجابوا كف عن قتالهم، وإن لم يجيبوا طلب منهم إعطاء الجزية، فإن أجابوا كف عن قتالهم، فإن بم يجيبوا الدخول في الإسلام أو إعطاء الجزية استعان بالله وقاتلهم.

3-

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وشكوه إلى أبي طالب فقال: "يا ابن أخي ما تريد من قومك قال: "أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، قال كلمة واحدة؟ قال: كلمة واحدة قولوا لا إله إلا الله، قالوا: إلهاً واحداً ما سمعنا بهذا قي الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق. قال: فنزل فيهم القرآن {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إلى قوله {إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} ".1

وجه الدلالة:

أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر لقريش أنهم إن أسلموا وقالوا لا إله إلا الله تدين لهم العرب بالإسلام، وتؤدي إليهم الجزية من غير العرب وهم العجم إذا لم يسلموا.

1 أخرجه أحمد 1/227- 362. والترمذي 4/180 وقال حديث حسن، والآيات 1/7 من سورة ص.

ص: 143

ثالثاً: الإجماع:

أجمع العلماء على مشروعية عقد الذمة وأخذ الجزية من غير المسلمين من أهل الكتاب اليهود والنصارى ومن المجوس.1

قال ابن مفلح: "الإجماع قائم على قبول الجزية لمن بذلها من أهل الكتاب ومن يلحق بهم وإقرارهم بذلك في دار الإسلام".2

ج- الحكمة من مشروعية عقد الذمة:

إن الحكمة التي من أجلها شرع عقد الذمة مع غير المسلمين، هو أن هذا العقد قد يحملهم على الدخول في الإسلام لمخالطتهم للمسلمين والتعرف على آداب الإسلام، ومحاسنه، وليس المقصود من عقدها تحصيل المال فحسب.3

قال صاحب مغني المحتاج: "وليست الجزية مأخوذة في مقابلة الكفر ولا التقرير عليه، بل هي نوع إذلال لهم، ومعونة لنا، وربما ذلك يحملهم على الدخول في الإسلام مع مخالطة المسلمين الداعية إلى معرفة محاسن الإسلام.4

1 بدائع الصنائع 7/110، 111، وأسهل المدارك 2/6، ومغني المحتاج 4/242، والمغني 8/496.

2 انظر: المبدع لابن مفلح 3/405.

3 المبسوط10/77، وفتح الباري 6/259، ونيل الأوطار 8/58.

4 انظر: مغني المحتاج 4/242.

ص: 144

الفرع الثالث: في بيان معنى الجزية وكيفية أخذها

أما الجزية فهي مشتقة من الجزاء إما جزاءاً على كفرهم لأخذها منهم صغاراً وهذا هو المعنى الصحيح.

أو جزاءً على أماننا لهم، وهي على وزن فعلة من جزى يجزي إذا قضى قال تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} 1 وتقول العرب جزيت ديني إذا قضيته.2

أما الجزية في الشرع: فهي المال المأخوذ من الذميين على وجه الصغار كل عام، بدلاً عن حمايتهم وإقامتهم بدار الإسلام.3

وبعد أن عرفنا معنى الجزية التي هي شرط من شروط عقد الذمة نتعرف إلى كيفية إعطائها، وقد بين الله سبحانه وتعالى هذه الكيفية عندما قال:{عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 4 أي أذلاء مقهورين مهانين.

فالآية توضح أن الجزية وضعت صغاراً وإذلالاً للكفار، وعقوبة لهم

1 البقرة: 48.

2 لسان العرب 14/147، والمصباح المنير 1/100، والأحكام السلطانية للماوردي ص 142 والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 137.

3 المقدمات الممهدات 1/279، والمغني 8/459، وأحكام أهل الذمة 1/22، والمبدع 3/404، وكشف القناع 3/111.

4 التوبة: 29.

ص: 145

على كفرهم، فالكافر عندما يرفض عزة الإسلام ورفعته، ويرضى بمذلة الكفر وإهانته، تعينت بحقه العقوبة ليحصل بها زجره عن كفره، وهذه العقوبة على نوعين:

وهو لا يخرج عن أحدهما عقوبة خفيفة وهي إعطاء الجزية عن صغار وإذلال، وعقوبة أشد وهي عقوبة القتل، حتى أن بعض العلماء كالقاضي أبي يعلى قد صرح بأنه إذا لم يتحقق بحق الكافر الذل والهوان لا تعقد معه الجزية.

أما ما قاله علماء الإسلام عن معنى الصغار المذكور في آية الجزية فهو على النحو التالي:

فقال المفسرون عن معنى الصغار بأنه الذل والهوان.

فقال الرازي: " {وَهُمْ صَاغِرُونَ} فالمعنى أن الجزية تؤخذ منهم على الصغار وهو الذل والهوان".1

وقال ابن الجوزي: "الصاغر الذليل الحقير".2

وقال ابن كثير: " {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي ذليلون حقيرون مهانون فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب تلك الشروط

1 انظر: التفسير الكبير 16/30.

2 انظر: زاد المسير في علم التفسير 3/421.

ص: 146

المعروفة في إذلالهم، وتصغيرهم، وتحقيرهم.1

وقال الطبري: " {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أذلاء مقهورين يقال للذليل الحقير صاغر".2

وقال الكيا الهراس3:"الصغار هو النكال وصف بذلك لأنه يصغر صاحبه بأن يدفعوها عن قيام والآخذ لها قاعد ويعطيها بيده ماشياً، غير راكب، إلى الوالي الطالب.

وفائدة هذين الشرطين الفرق بين ما يوجد منهم مع كفرهم وبين ما يوجد من المسلمين من الزكاة فكما يقترن بالزكاة المدح والإعظام والدعاء له.

فيقترن بالجزية الذل والذم، ومتى أخذت على هذا الوجه كان أقرب إلى الإقلاع عن الكفر، فهو أصلح في الحكمة، وأولى بوضع الشرع".4

وقال الشوكاني: "الصغار الذل، والمعنى أن الذمي يعطي الجزية

1 انظر: تفسير القرآن العظيم 2/347.

2 انظر: جامع البيان 10/109.

3 هو عماد الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بالكيا الهراسي، من علماء الشافعية تفقه على إمام الحرمين ولد بخراسان سنة 450هـ، وتوفي سنة504 ببغداد، له تصانيف عديدة منها أحكام القرآن. انظر: وفيات الأعيان 1/590، وشذرات الذهب 4/908.

4 انظر: أحكام القرآن، للكياهراس 3/190، 191.

ص: 147

حال كونه ضاغراً، قيل وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم، والمستلم قاعد، وبالجملة ينبغي للقابض للجزية أن يجعل المسَلَّم لها حال قبضها صاغراً ذليلاً".1

وقال النيسابوري: "صاغرون معناه أنه لا بد مع أخذ الجزية من إلحاق الذل، والصغار بهم، والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الأذى، فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عز الإسلام، وذل الكفر، ويسمع الدلائل، فالظاهر أن مجموع ذلك يحمله على الانتقال إلى الإسلام".2

ووافقهم المحدثون وشراح الحديث على هذا المعنى: فقال الإمام البخاري في صحيحه بعد أن ذكر آية الجزية: "صاغرون يعني أذلاء".3

وقال ابن حجر: "الصاغر الذليل الحقير".4

وقال صاحب تحفة الأحوذي: "صاغرون ذليلون حقيرون".5

وهذا المعنى هو الذي فهمه علماء الفقه، إلا أن البعض قال: بأن الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم.

1 فتح القدير للشوكاني 2/351.

2 غرائب القرآن 10/70.

3 صحيح البخاري 2/200.

4 فتح الباري 6/255.

5 تحفة الأحوذي 5/210.

ص: 148

وفي هذا يقول ابن الهمام: "الجزية وجبت عقوبة على الكفر، ولهذا سميت جزية، وهي والجزاء واحد، وهو يقال على الثواب بسبب الطاعة، وعلى العقوبة بسبب المعصية، ولا شك في انتفاء الأول ولهذا أخذت بطريق الإذلال، بل هذا ضروري من الذين فتعين أنها عقوبة على معصية الكفر1، ووافقه غيره من فقهاء الحنفية.2

وقال فقهاء المالكية: "بأن الصغار هو الإذلال".3

أما فقهاء الشافعية: فقال البعض تؤخذ الجزية على سبيل الصغار لهم، وهو الإذلال، والإهانة، بأن يكون الذمي قائماً، والمتسلم الذي يأخذها جالساً، لأنها في مقابلة تقريرهم على الكفر.4

وقال البعض الآخر بأن الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم لامتناعهم عن الإسلام، فإذا جرى عليهم حكمه، فقد أصغروا، أي أذلوا وأهينوا.5

وقال الماوردي: "صاغرون لها تأويلان: أحدهما أذلاء مستكنين، والثاني: أن تجري عليهم أحكام الإسلام".6

1 فتح القدير 5/296.

2 المبسوط 10/81، والاختيار 4/139.

3 المقدمات 1/285.

4 حاشية الشرقاوي 2/492، وروضة الطالبين 10/315.

5 الأم 4/176 والمهذب 2/325، وروضة الطالبين 10/316.

6 انظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص 143.

ص: 149

وأيضاً فقهاء الحنابلة فهموا من الصغار بأنه الذل والهوان وأن الجزية عقوبة واجبة بسبب الكفر.1

فقال البهوتي: "الصغار الذلة والامتهان".2

وقال ابن القيم: "عن يد في موضع نصب على الحال أي يعطوها أذلاء مقهورين، وهذا هو الصحيح في الآية، وعليه جميع الناس، وأبعد كل البعد، ولم يصب مراد الله من قال المعنى عن يد منهم أي عن قدرة على أدائها، فلا تؤخذ من عاجز عنها، وهذا المعنى غير صحيح وحمل الآية عليه باطل، ولم يفسر به أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا سلف الأمة، وإنما هو من حذاقة بعض المتأخرين.

وقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} حال أخرى، فالأول حال المسلمين في أخذ الجزية منهم، أن يأخذوها بقهر وعن يد، والثاني حال الدافع لها أن يدفعها وهو صاغر ذليل".3

وروي عن الإمام أحمد أنه قال: كانوا يجرون في أيديهم ويختمون في أعناقهم إذا لم يؤدوا الصغار الذي قال الله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} .

وقال في رواية أخرى: يستحب أن يتعبوا في الجزية، قال القاضي ولم يرد تعذيبهم، ولا تكليفهم فوق طاقتهم، وإنما أراد الاستخفاف بهم وإذلالهم.4

1 المغني 8/503، 511، والمبدع 3/405.

2 انظر: كشاف القناع 3/117.

3 انظر: أحكام أهل الذمة 1/23 - 24.

4 نفس المرجع السابق.

ص: 150

وقال الظاهرية: "الصغار هو أن يجري حكم الإسلام عليهم وأن لا يظهروا شيئاً من كفرهم، ولا مما يحرم في دين الإسلام".1

وقد اتفقت أيضاً أقوال أهل اللغة على أن الصغار هو الذل والهوان، والحقارة، والصاغر الراضي بالذل.2

وفي هذا يقول الراغب: "الصغار الذل والصاغر الراضي بالمنزلة الدنية".3

وقال ابن الأثير: "الصغار الذل والهوان".4

1 المحلى لابن حزم 7/346.

2 لسان العرب 4/459، والقاموس المحيط 2/72، ومختار الصحاح ص 364، والمصباح المنير 1/341، والمعجم الوسيط 1/515، ومعجم لغة الفقهاء ص 274.

3 المفردات ص 275.

4 النهاية لابن الأثير 2/117.

ص: 151

الفرع الرابع: حالة الكافر عند إعطاء الجزية والرد على من قال إن الصغار ليس هو الذل والهوان

وخلاصة الكلام أن الكفار عند إعطاء الجزية لهم حالتان:

الحالة الأولى: حالة المسلمين في أخذ الجزية منهم وهي أن يأخذوها على سبيل الله القهر والعزة.

الحالة الثانية: حالة الدافع لها وهو أن يدفعها وهو صاغر ذليل وحقير.

وأيضاً فإن العلماء جميعاً قد اتفقوا على أن الصغار الذي ذكره الله في كتابه هو الذل والهوان.

والسبب في احتقار وإذلال الدافع للجزية هو كفره بالله، لأن الكفر يذل صاحبه ويحقره.

فالكافر عندما يدعى إلى الإسلام الذي فيه العزة والرفعة، والذي فيه السعادة الدنيوية والأخروية لجميع البشر، قال تعالى:{فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} .1، وقال:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} .2، ويرفض عزة الإسلام ورفعته، ويرضى بمذلة الكفر وحقارته،

1 النساء: 139.

2 المنافقون: 8.

ص: 152

فمن أجل ذلك يكون ذليلاً ومهاناً عند إعطاء الجزية، التي هي عقوبة على الكفر، فإذا كان الكفر ذلاً وحقارةً فكيف بصاحبه الذي يرتضيه دينا ويأبى سواه وهو الإسلام ذو الرفعة والعزة والكرامة.

وما قيل من أن الصغار ليس هو الذل والهوان كما قال النووي: "تؤخذ الجزية برفق كأخذ الديون، فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة ومردودة على من اخترعها وهي بأن الصغار الذل والهوان"1. وقد وافقه الكثير من العلماء المعاصرين على أن الجزية ليست عقوبة ولوناً من ألوان العقاب على الكفر أو عدم الإيمان بالله، وليست إذلالاً لغير المسلمين وإنما هي كرامة لأهل الكتاب.2

ولكن يمكن أن يقال لمن قال: بأن الصغار ليس المراد به في الآية الذل والهوان بأن الذل والهوان هو المعنى الدائم الصغار لا ينفك عنه، وهذا هو ما اتفقت عليه أقوال جماهير أهل العلم.

حتى أن البعض قال: إن الله سبحانه وتعالى مد القتال إلى غاية وهي إعطاء الجزية مع الصغار وهو الذل والهوان.

فإذا كانت حالة النصراني وغيره من أهل الجزية، منافية للذل والهوان، بأن كانت حالته يتكبر، ويتبختر عند إعطاء الجزية، فلا عصمة لدمه، ولا ماله، وليست له ذمة، ومن هذا شرط عليهم الفاروق عمر بن

1 انظر: روضة الطالبين 10/316.

2 انظر: آيات الجهاد، لكامل الدقس ص 175.

ص: 153

الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة التي فيها صغارهم وإذلالهم.1

وبهذا يتضح لنا ضعف قول من قال بأن الصغار ليس المراد به في الآية الذل والهوان، لأن قولهم هذا مخالف لما دلت عليه النصوص والفهم الصحيح، ومخالف لأقوال عامة أهل العلم بأن الجزية عقوبة بسبب الكفر، وأن الدافع لها يجب أن يكون صاغراً ذليلاً مهاناً، لأنه لا عزة ولا سعادة ولا كرامة إلا بالإسلام، والقول بأن الجزية كرامة لأهل الكتاب قول باطل.

وقد ذكر الله الصغار وهو بمعنى الذل والهوان في غير آية الجزية حيث قال: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} 2 صغار: أي ذل وهوان.

وقال تعالى: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِين} 3 أي الذليلين الحقيرين.

وقال تعالى: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} 4 أذلاء مقهورين.

وقال تعالى: {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} 5.

1 أحكام أهل الذمة 1/24، 25.

2 الأنعام: 124.

3 الأعراف: 13.

4 الأعراف: 119.

5 النمل: 37.

ص: 154

فكل هذه الآيات توضح آية الجزية، وتشهد لها بأن الصغار هو الذل والهوان، ومما يدل على هذا المعنى أن الجزية تسقط بالإسلام، فإذا أسلم الذمي زال عنه الذل، والهوان، لأن الإسلام دين العزة والكرامة فيزيل هذا المعنى.

ص: 155

الفرع الخامس: في الذي يتولى إبرام عقد الذمة من المسلمين

اتفق الفقهاء على أن الذي يتولى إبرام عقد الذمة هو الإمام أو نائبه، لأنه عقد مؤبد، وللتأبيد خطورته وآثاره على الأمة الإسلامية لذا فإنه يحتاج أن يكون العاقد حسن التصرف ذا تقدير للمصلحة العامة للمسلمين، وهذا لا يمكن حصوله إلا من الإمام أو من يقوم مقامه.1

قال ابن قدامة: "ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه، ولا نعلم فيه خلافاً، لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة، ولأن عقد الذمة عقد مؤبد، فلم يجز أن يفتات به على الإمام فإن فعله غير الإمام أو نائبه لم يصح".2

وقال الشيرازي: "لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو ممن فوض إليه الإمام، لأنه من المصالح العظام، التي تحتاج إلى نظر واجتهاد".3

وقد ذهب بعض المالكية إلى أنه إن تولى عقد الذمة غير الإمام تحقق مقتضاه فيأمنون ويسقط عنهم القتل والأسر، لكن استمرار هذا العقد منوط بتقدير الإمام لأنه صاحب الحق في إمضائه أو إبطاله".4

1 المبسوط10/77،الخرشي 3/143،ومغني المحتاج4/242، وكشف القناع 3/117.

2 المغني 8/505.

3 المهذب 2/325.

4 الخرشي 3/166، وحاشية الدسوقي 2/201.

ص: 156

والراجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء أنه لا يبرم عقد الذمة مع غير المسلمين إلا الإمام أو نائبه، لأن عقد الذمة عقد مؤبد، يصير به غير المسلمين من أهل دار الإسلام، وتلتزم دولة الإسلام بالحفاظ عليهم، وحمايتهم من التعرض لأرواحهم أو أعراضهم أو أموالهم، وأيضاً هم يلزمون بإعطاء الجزية، والخضوع لأحكام الإسلام العامة، فجميع هذه الأمور تحتاج إلى رجل حسن التصرف، ذي هيبة، وهذا لا يتوافر إلا في الإمام أو نائبه لأنهما يمثلان دولة الإسلام.

صورة هذا العقد أن ينعقد بإيجاب وقبول كسائر العقود الأخرى، فينعقد باللفظ وما يقوم مقامه.

وهذا ما صرح به الفقهاء:

فقال الشيرازي: "صورة عقدها - أقركم بدار الإسلام، أو أذنت في إقامتكم بها على أن تبذلوا الجزية".1

وقال ابن مفلح الحنبلي: "وصفة عقدها أقررتكم بجزية، أو يبذلونها، فيقول أقررتكم على ذلك".2

وقال النووي: "وكيفيته أن يقول الإمام أو نائبه أقررتكم، أو أذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام، على أن تبذلوا كذا، وتنقادوا لأحكام الإسلام".3

1 المهذب 2/325، ومغني المحتاج 2/242.

2 المبدع 3/413.

3 روضة الطالبين 10/ 297.

ص: 157

الفرع السادس: في شروط عقد الذمة

اشترط الفقهاء لعقد الذمة شروطاً: منها:

1-

أن يكون العقد مؤبداً فلا يصح أن يكون مؤقتاً أي محدداً بمدة معينة، وهذا ما صرح به فقهاء الحنفية والشافعية.

لأن عقد الذمة في إفادة العصمة والالتزام بأحكام الإسلام، كالخلف عن عقد الإسلام، والإسلام لا يصح إلا مؤبداً فكذا عقد الذمة.1

أما غيرهم من الفقهاء فلم يصرحوا بهذا الشرط فكأنهم تركوا التصريح باعتبار أن التأبيد من مقتضى عقد الذمة وطبيعته.

فقد نصوا على أن عقد الذمة مؤبد، وإن لم يصرحوا بالاشتراط.

فمثلا فقهاء الحنابلة وإن لم يصرحوا بهذا الشرط إلا أنهم وصفوا عقد الذمة بالتأبيد، أثناء الكلام عن من يتولى إبرام هذا العقد من المسلمين.

فهذا البهوتي يقول: "لا يصح عقدها إلا من إمام، أو نائبه، لأنه عقد مؤبد".2

1 بدائع الصنائع 7/11، ومغني المحتاج 4/243، ونهاية المحتاج 7/231، والمهذب 2/325.

2 كشف القناع 3/116، 117.

ص: 158

وقال ابن قدامة: "ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين".1

وهناك وجه ضعيف للشافعية أنه يصح عقد الذمة مؤقتاً.2

2-

أن يلتزم أهل الذمة بإعطاء الجزية كل سنة لقوله سبحانه وتعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .

3-

أن يلتزم أهل الذمة بالخضوع لأحكام الإسلام العامة) .3

ومعنى التزام أحكام الإسلام هو قبول ما يحكم به عليهم، من أداء حق، أو ترك محرم، فيما عدا ما يرونه مباحاً عندهم، وهذان الشرطان قد صرح بهما فقهاء الشافعية والحنابلة.

4-

ألا يكون المعقود معه عقد الذمة من مشركي العرب فإنهم لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف4 عند جمهور الفقهاء لقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون} 5

وهذا الشرط لم يخالف فيه إلا المالكية وبعض العلماء من المذاهب الأخرى.6

1 المغني 8/500.

2 مغني المحتاج 4/243.

3 المهذب 2/325 - 326، 327، والمغني 8/500، وكشاف القناع 3/117.

4 تبيين الحقائق 3/277، ومغنى المحتاج 4/244، والمغني 8/501.

5 الفتح: 16.

6 حاشية الدسوقي 2/201، والكافي لابن عبد البر 1/479.

ص: 159

5-

ألا يكون المعقود له مرتداً عن الإسلام، لأن حكم المرتد عن الإسلام هو القتل، إذا لم يتب، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من بدل دينه فاقتلوه"1. وهذا الشرط متفق عليه بين الفقهاء.2

1 سبق تخريجه ص 98.

2 الهداية 4/171، والمقدمات 1/285، وتحفة المحتاج 9/277، والمغني 8/123.

ص: 160

الفرع السابع: في من تعقد لهم الذمة

اتفق الفقهاء على أن الذمة تعقد مع أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى وكذلك المجوس وهم عبدة الكواكب والنار.1

وإذا عقدت الذمة لهم أخذت منهم الجزية، والدليل على جواز عقد الذمة وأخذ الجزية من أهل الكتاب قوله سبحانه وتعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 2

فهذه الآية الكريمة نص صريح في جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى.

أما المجوس فقد ثبت جواز عقد الذمة لهم وأخذ الجزية منهم بفعله صلى الله عليه وسلم وقوله.

أما فعله فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.

ونص الحديث "لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر".3

1 انظر: بدائع الصنائع 7/11، والهداية شرح بداية المبتدى 2/160، والمدونة 3/46، والمقدمات الممهدات 1/285، وروضة الطالبين 10/304، والأم 4/95، وكشاف القناع 3/117، والكافي لابن قدامة 4/346، والمحلى 7/316.

2 التوبة: 29.

3 أخرجه البخاري 2/200 كتاب الجهاد باب الجزية. وهجر مدينة من مدن البحرين. انظر: آثار البلاد وأخبار العباد ص280.

ص: 161

وبحديث السائب بن يزيد قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجزية من مجوس البحرين وأخذها عمر من فارس وأخذها عثمان من الفرس".1

وأما قوله فهو: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".2

قال ابن قدامة: إن أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس ثابت بالإجماع، لا نعلم في هذا خلافاً، فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك، وعمل به الخلفاء الراشدون ومن بعدهم، إلى زمننا هذا من غير نكير، ولا مخالف.

وبه يقول أهل العلم من أهل الحجاز، والعراق، والشام، ومصر، وغيرهم، مع دلالة الكتاب على أخذ الجزية من أهل الكتاب، ودلالة السنة على أخذ الجزية من المجوس.3

كما اتفق الفقهاء أيضا على عدم عقد الذمة وأخذ الجزية من المرتدين عن الإسلام.4

1 أخرجه الترمذي 4/147 كتاب السير حديث 1588.

2 أخرجه مالك في الموطأ ص188 حديث 618 وقال الشوكاني في نيل الأوطار 8/57: "حديث منقطع ورجاله ثقات"، والبيهقي 9/189، وابن أبي شيبة 12/243، وعبد الرزاق 6/96، وقال ابن حجر وهذا منقطع مع ثقة رجاله. فتح الباري 6/261.

3 انظر: المغني 8/498.

4 انظر: الهداية 4/171، وتبيين الحقائق 3/277، والمقدمات 1/285، وحاشية الدسوقي 2/201، وتحفة المحتاج 9/277، والمغني 8/123.

ص: 162

لأن أخذها منهم بمثابة إقرارهم على ردتهم عن الإسلام، فقد عرفنا أن عقد الذمة هو إقرار الكفار على كفرهم مع بذل الجزية والتزام الأحكام الإسلامية، فالمرتد لا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل.

قال ابن عبد البر: "المرتدون لا تقبل منهم جزية لأنهم لا يقرون على ردتهم".1

وقال ابن رشد: "المرتدون لا تؤخذ منهم الجزية باتفاق لأنهم ليسوا هم على دين يقرون عليه2، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 3 وقال الزيلعي: "لا توضع الجزية على المرتدين، لأن المرتد كفر بربه بعدما رأى محاسن الإسلام، وبعدما هدى إليه، فلا يقبل منه إلا الإسلام، أو السيف". 4

واختلفوا فيما عدا اليهود والنصارى والمجوس هل تعقد لهم الذمة وتؤخذ منهم الجزية، إلى أقوال عديدة يمكن أن نلخصها في ثلاثة أقوال:

القول الأول: تؤخذ الجزية من كل كافر، ما عدا عبدة الأوثان من العرب فلا يصح عقد الذمة معهم، ولا أخذ الجزية منهم.

1 انظر: الكافي لابن عبد البر 1/479.

2 انظر: المقدمات الممهدات 1/286.

3 سبق تخريجه ص 98.

4 انظر: تبيين الحقائق 3/277.

ص: 163

وهذا قول الحنفية والإمام مالك في رواية والإمام أحمد في رواية.1

القول الثاني: تعقد الذمة وتؤخذ الجزية من كل كافر عربياً أو عجمياً من أهل الكتاب، أو من عبدة الأوثان.

وبه قال الأوزاعي والثوري، وهو القول المشهور عند المالكية.2

القول الثالث: تؤخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس فقط، أما عبدة الأوثان سواء أكانوا عرباً أو عجماً فلا تعقد لهم الذمة ولا تؤخذ منهم الجزية، وهذا قول الشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب والظاهرية.3

1 انظر: بدائع الصنائع 7/110، 111، وحاشية رد المحتار 4/181، وتبيين الحقائق 3/277، والمبسوط 10/7، والخراج لأبي يوسف ص 139، وأحكام القرآن للجصاص 3/113، والمدونة الكبرى 3/46، والمغنى 8/500، وأحكام أهل الذمة 1/3، والمبدع 3/405.

2 انظر: حاشية الدسوقي 2/201، والكافي لابن عبد البر 1/479، والمقدمات 1/285، وتفسير القرطبي 8/110، ومواهب الجليل 3/381، وفتح الباري 6/259، ونيل الأوطار 8/57، وتكملة المجموع 18/173، والمغني 8/501.

3 الأم 4/172، 173، وروضة الطالبين 10/304، 305، ومغني المحتاج 4/244، والمهذب 2/325، والمغني 8/501، والإنصاف 4/217، والمبدع 3/405، وكشاف القناع 3/117، والمحلى 7/345.

ص: 164

الأدلة:

أ - أدلة القائلين بجواز عقد الذمة من جميع الكفار ما عدا مشركي العرب:

استدلوا بما يلي:

1-

قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} .1

قالوا في وجه الدلالة:

نزلت هذه الآية في عبدة الأوثان من العرب. فأمر الله بقتالهم، ولم يأمر بتخلية سبيلهم إلا عند توبتهم وهي الإسلام.2

2-

حديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين خيراً وقال له: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم".3

1 التوبة: 5.

2 بدائع الصنائع 7 /11، وأحكام القرآن للجصاص 3 /115.

3 سبق تخريجه ص 142.

ص: 165

قالوا في وجه الدلالة من هذا الحديث:

إن نص الحديث عام يشمل جميع المشركين، وخص منه عبدة الأوثان من العرب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبل منهم الجزية لما يدينون به من عبادة الأوثان وما ينشأ عنها من الفساد، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم، والقرآن نزل بلغتهم والمعجزة في حقهم أظهر، لأنهم كانوا أظهر بمعانيه، وبوجوه الفصاحة، فغلظ الله عليهم 1 فقال:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} .2

3-

ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "صالح عبدة الأوثان على الجزية، إلا من كان منهم من العرب".

فاستثنى العرب وإن كانوا عبدة أوثان من بين سائر عبدة الأوثان.3

4-

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه: "يا عم، أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، وقال: ما هي؟ قال شهادة أن لا إله إلا الله".4

فهذا الحديث يدل على عدم جواز أخذ الجزية من العرب، وعلى مشروعية إقرار العجم على الجزية.5

1 تبيين الحقائق 3/277، وفتح القدير 5/292، وحاشية ابن عابدين 4/181.

2 الفتح: 16.

3 الجوهر النقي 9/187.

4 سبق تخريجه ص 84.

5 آثار الحرب في الفقه الإسلامي ص 720.

ص: 166

5-

ما قاله أبو عبيد: تتابعت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده في العرب من أهل الشرك أن من كان منهم ليس من أهل الكتاب، فإنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل، كما قال الحسن: أمر رسول صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب على الإسلام ولا يقبل منهم غيره) .

ثم قال - أي أبو عبيد - وأما العجم فتقبل منهم الجزية وإن لم يكونوا أهل كتاب، للسنة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجوس وليسوا بأهل كتاب، وقبلت بعده من الصابئين فأمر المسلمين على هذين الحكمين من العرب والعجم.1

ب- أدلة أصحاب القول الثاني: الذين قالوا تؤخذ الجزية من جميع المشركين:

استدلوا بما يلي:

1-

حديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه المتقدم، وفيه "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، ادعهم إلى الإسلام فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم".2

فقوله صلى الله عليه وسلم "عدوك" عام يشمل جميع أعداء الإسلام من أهل الكتاب وغيرهم من عبدة الأوثان من العرب والعجم وبهذا يدل الحديث على قبول الجزية من جميع الكفار.

1 انظر: الأموال لأبي عبيد ص 34، 39.

2 سبق تخريجه ص 143.

ص: 167

قال الشوكاني: "ظاهره عدم الفرق بين الكافر العجمي، والعربي، والكتابي وغير الكتابي".1

وقال الصنعاني: "الحق أخذ الجزية من كل مشرك كما دل عليه حديث بريدة".2

2-

ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أكيدر دومة الجندل3 "على أخذ الجزية منه وهو ملك عربي".4

قال الخطابي: "وفي هذا دلالة على جواز أخذ الجزية من العرب كجوازه من العجم".5

3-

القياس على المجوس، وقد اتفق الفقهاء على جواز أخذها من المجوس كما سبق.

فيقاس عليهم غيرهم من الكفار، لأنه لم يثب للمجوس كتاب ولا شبهة كتاب في الصحيح.

1 انظر: نيل الأوطار 7/232.

2 انظر: سبل السلام 4/1373.

3 قال الخطابي: أكيدر دومة الجندل، رجل من العرب يقال هو من غسان. انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 3/427.

4 الحديث أخرجه أبو داود 3/427 باب أخذ الجزية بلفظ: "عن عثمان بن أبي سليمان أن النبي صلى اغلله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذ فأتوه به، فحقن له دمه وصالحه على الجزية".

5 انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 3/427.

ص: 168

قال الإمام مالك بعد أن ذكر حديث أخذ الجزية من المجوس: "فالأمم كلها في هذا بمنزلة المجوس عندي".1

4-

أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً إلى اليمن أمره أن يأخذ الجزية منهم إذا هم رضوا بها ولم يفرق بين عربي وغير عربي ولا بين يهودي وغيره.2

ج- أدلة القول الثالث: الذين قالوا لا تؤخذ الجزية من عبدة الأوثان، لا من العرب، ولا من العجم، ولا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس فقط:

استدلوا بما يلي:

1-

قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} .3

2-

قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا فقالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".4

فظاهر الآية والحديث العموم بقتال جميع المشركين، وخص منهم أهل الكتاب بآية الجزية، والمجوس بالسنة، فبقي من عداهم من غير المسلمين على العموم فلا يجوز عقد الذمة لهم.5

1 المدونة الكبرى 3/46.

2 الحديث أخرجه أبو داود 3/428 باب أخذ الجزية ولفظه: "عن معاذ بن جبلرضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً".

3 التوبة: 5.

4 سبق تخريجه ص 39.

5 والأم 4/172- 173، والمغني 8/501.

ص: 169

3-

حديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه المتقدم.

فقد ورد في أهل الكتاب خاصة دون أهل الأوثان، وعلى فرض أنه عام، فقد تأولوه بأن المراد بأخذ الجزية من أهل الكتاب دون أهل الأوثان، لأن اسم الشرك يطلق على أهل الكتاب.1

أما الأدلة على أخذها من أهل الكتاب والمجوس، فقد تقدمت.

المناقشة:

مناقشة أدلة أصحاب القول الأول:

ما ذهب إليه الحنفية في أنه لم يرد نص صريح في أخذ الجزية من مشركي العرب، يجاب عنه بأنه ورد نص صريح كما في قصة أكيدر المتقدم. وبالنسبة للآية التي فيها الأمر بقتال جميع المشركين، إنما نزلت قبل آية الجزية.

وذلك لأن العرب أسلموا جميعاً قبل نزول آية الجزية، ولم يبق منهم محارب تؤخذ منه الجزية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذها ممن لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس.2

قال ابن القيم: "ولم يأخذها النبي صلى الله عليه وسلم من أحد من عباد الأوثان مع كثرة قتاله لهم، لأن آية الجزية إنما نزلت عام تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، بعد أن أسلمت جزيرة العرب، ولم يبق بها أحد من عباد الأوثان،

1 شرح النووي على مسلم 12/39.

2 سبل السلام 4/1341، وزاد المعاد 3/54، وأحكام أهل الذمة 1/9.

ص: 170

فلما نزلت آية الجزية أخذها النبي صلى الله عليه وسلم ممن بقي على كفره من النصارى والمجوس".1

أما بالنسبة لحديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه فهو عام في جميع أصناف غير المسلمين لأنه قوله صلى الله عليه وسلم "عدوك" لفظ عام يشمل جميع أعداء الإسلام من مشركي العرب وغيرهم، وحمله على أهل الكتاب أو عبدة الأوثان من العجم في غاية البعد.2

وقال ابن القيم: "ظاهر هذا الحديث أن الجزية تؤخذ من المجوس ولم يستثن منه كافراً، ولا يقال هذا مخصوص بأهل الكتاب خاصة فإن اللفظ يأبى اختصاصهم بأهل الكتاب".3

فأين الدليل على التخصيص بإخراج مشركي العرب من عموم اللفظ، فإن قالوا بأن اللفظ عام ويستثنى منه مشركي العرب لتغلظ كفرهم.

يقال لهم بأن الكفر واحد ولا فرق بين عباد النار وهم المجوس، وعباد الأصنام، بل أهل الأوثان أقرب حالاً من عباد النار، وكان منهم من تمسك بدين إبراهيم عليه السلام ما لم يكن من عباد النار، بل عباد النار أعداء إبراهيم الخليل، فإذا أخذت منهم الجزية فأخذها من عباد

1 انظر: أحكام أهل الذمة 1/6، 7.

2 سبل السلام 4/1341.

3 أحكام أهل الذمة 1/6.

ص: 171

الأصنام أولى، وعلى ذلك تدل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث بريدة وحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنهما.1

ولأن الحنفية قالوا تؤخذ الجزية من عبدة الأوثان من العجم لجواز استرقاقهم.2

يقال لهم أيضاً بجواز استرقاق مشركي العرب عند جمهور الفقهاء لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استرق بني المصطلق وهوازن وفزارة، وإذا جاز إقرارهم بالرق على كفرهم جاز إقرارهم عليه بالجزية بالأولى، لأن عقوبة الجزية أعظم من عقوبة الرق.3

ب - مناقشة أدلة أصحاب القول الثاني:

أولاً: بالنسبة لحديث بريدة رضي الله عنه لا ننكر بأن الحديث عام في جميع المشركين لكن خص منه عبدة الأوثان من العرب لتغلظ كفرهم.

لكن يرد على هذا بأن الكفر ملة واحدة، وليس فيه غليظ وبسيط، فعبدة الأوثان من العجم وعبدة النار، كعبدة الأصنام من العرب، لا فرق فالكل أعداء الله، وأعداء عباده المؤمنين.

فالحديث باق على عمومه في أن الجزية تؤخذ من كل كافر كتابي،

1 زاد المعاد 3/154.

2 مجمع الأنهر 1/516، والفتاوى الهندية 2/193.

3 الأموال ص 158، وأحكام أهل الذمة 1/15، وآثار الحرب ص 721، وسبل السلام 4/1342.

ص: 172

أو غير كتابي، عربي، أو غير عربي، ولم يوجد ما يخصصه.1

ثانياً: القياس على المجوس قياس باطل، لأن أخذ الجزية من المجوس ثبت بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله، فلا يقاس عليهم غيرهم من عباد الأوثان، وكذلك هناك فرق بين المجوس وعباد الأوثان فكفرهم أغلظ وأشد.

يمكن الرد على هذه المناقشة:

ويجاب عن ذلك بأن: القياس صحيح، وغير باطل، لأن حديث بريدة رضي الله عنه عام في أخذ الجزية من جميع الكفار مجوس وغيرهم، فهذا يدل على أنه لا فرق، وأيضاً ثبت أخذ الجزية من أهل الكتاب بالقرآن، ومن عموم الكفار بالسنة، وقد أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم من المجوس وهم عباد النار، لا فرق بينهم وبين عباد الأوثان ولا يصح أنهم من أهل الكتاب، ولا كان لهم كتاب فإذا أخذت الجزية من عباد النيران وهم ليسوا أهل كتاب فأي فرق بينهم وبين عباد الأوثان2، وإن لم يكونوا أشد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"المجوس في التوحيد أعظم شركاً من مشركي العرب".3

ج - مناقشة أدلة أصحاب القول الثالث:

أولاً: بالنسبة للآيات التي تأمر بقتال جميع المشركين، فقد كان نزولها قبل آية الجزية.

1 سبل السلام 4/1341.

2 أحكام أهل الذمة 1/6.

3 رسالة القتال لابن تيمية ص 131.

ص: 173

وعلى فرض أنها عامة، فخص أهل الكتاب بآية الجزية، وبقي العموم في غيرهم، فقد جاءت السنة بأخذ الجزية فيما تبقى من الكفار كما في حديث بريدة وحديث المغيرة رضي الله عتهما.

وكذلك الحديث الذي أمر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بقتال الناس جميعا ما لم ينطقوا بالشهادتين، كان قبل نزول آية الجزية.

أما بالنسبة لآية الجزية فإنها نزلت في شأن أهل الكتاب فقط، ولم تنص على عدم أخذ الجزية من غيرهم.

وأيضاً ذكر أهل الكتاب في آية الجزية له فائدة وهي بيان الواقع وهو مقابلة هؤلاء مع أهل الأوثان فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما قضى على أهل الأوثان من العرب لم يبق أمامه إلا أهل الكتاب المجاورين لبلاد العرب فنزلت آية الجزية في السنة التاسعة من الهجرة لبيان حكمهم، فالآية تنص على أخذ الجزية من أهل الكتاب فقط، ولم تتعرض لأخذ الجزية من غير أهل الكتاب ولا لعدم أخذها منهم.

وقال الصنعاني: "أما الآية فأفادت أخذ الجزية من أهل الكتاب، ولم تتعرض لأخذها من غيرهم ولا لعدم أخذها، والحديث - أي حديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه بين أخذها من غيرهم".1

وقال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية: "إن الله تعالى أمر بمقاتلة جميع غير المسلمين وخص أهل الكتاب بالذكر إكراماً لكتابهم ولكونهم

1 سبل السلام 4/1341.

ص: 174

عالمين بالتوحيد، والرسل، والشرائع، والملك.1، وعلى هذا لا يكون ذكر أهل الكتاب في الآية دليلاً على حصر جواز عقد الذمة لهم دون غيرهم".2

أما قولهم بأن حديث بريدة خاص بأهل الكتاب فهذا في غاية البعد لأن الحديث عام في جميع الكفار ولم يرد ما يخصصه بأهل الكتاب.

الرأي المختار:

وبعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومناقشتهم، يتضح لي أن الرأي القائل: إن الذمة تعقد لجميع أصناف غير المسلمين هو الرأي المختار للأسباب الآتية:

1-

لأن آية الجزية نصت على أخذ الجزية من أهل الكتاب ولم تنص على عدم أخذها من غيرهم، وإذا كانت الجزية المقصود منها إذلال الكفر وأهله وقهرهم، فهذا أمر لا يختص بأهل الكتاب بل يعم كل كافر فقال تعالى:{عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فالجزية صغار وإذلال.3

2-

لثبوت الأحاديث الصحيحة التي تدل على جواز أخذها من جميع الكفار، كحديث المغيرة، وحديث بريدة رضي الله عنهما السابقين، فإنه عام في جميع الكفار لقوله:"إذا لقيت عدوك" والعدو عام يشمل جميع أعداء الإسلام ولم يرد ما يخصص هذا العموم.

1 الجامع لأحكام القرآن 8/110.

2 أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 29.

3 أحكام أهل الذمة 1/15.

ص: 175

3-

ثبوت الأحاديث الصريحة الصحيحة في أخذ الجزية من المجوس وهم عباد النار، وأخذها منهم يدل على أخذها من غيرهم من الكفار، لأنه لا فرق بينهم وبين عباد الأوثان من العرب أو العجم، إن لم يكن المجوس أشد كما قال شيخ الإسلام، وقاله تلميذه ابن القيم بأنه لا فرق بين عباد النار وعباد الأوثان، بل أهل الأوثان أقرب حالاً من عباد النار، لأن عباد النار أعداء إبراهيم عليه السلام، وعباد الأوثان منهم من تمسك بدين إبراهيم الخليل.1

4-

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الجزية من مشركي العرب لأن آية الجزية لم تكن قد نزلت بعد، وبعد النزول أسلموا جميعاً وهذا ما قاله العلماء. وفي هذا يقول ابن القيم:"ومن تأمل السير وأيام الإسلام علم أن الأمر كذلك، فلم تؤخذ منهم الجزية لعدم من يؤخذ منه، لا لأنهم ليسوا من أهلها".2

5-

أن الحديث الذي أمر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بقتال جميع المشركين إنما كان هذا في أول الأمر بالقتال، وقبل نزول آية الجزية، أما بعد نزولها فقد تغير الحكم من الإسلام، أو القتل، إلى الإسلام أو الجزية أو القتل، كما ذلت عليه الأحاديث الصحيحة السابقة.

6-

أنه لا يوجد هناك دليل صريح يفرق بين العربي، وغير العربي في أخذ الجزية، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أكيدر - دومة الجندل - على

1 زاد المعاد في هدي خير العباد 3/154.

2 زاد المعاد 3/154.

ص: 176

الجزية أيام غزوة تبوك وهو ملك عربي، وأخذ الجزية من نصارى نجران وهم عرب.

ولما أرسل معاذاً إلى اليمن أمره بأخذ الجزية من غير فرق بين عربي وغيره، فالحق أن الجزية تؤخذ من كل كافر كما دل له حديث بريدة الذي كان بعد نزول فرض الجزية.1

وما اخترته ذهب إليه بعض الأئمة كالإمام ابن القيم حيث قال: "إن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم فأخذ الجزية منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان من العرب لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية فإنها نزلت بعد غزوة تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب واستوثقت كلها بالإسلام.

ولهذا لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه لأنها لم تكن نزلت بعد فلما نزلت أخذها من نصارى العرب ومن المجوس، ولو بقي حينئذ أحد من عبدة الأوثان بذلها لقبلها منه، كما قبلها من عبدة الصلبان والنيران.2

والإمام الشوكاني: حيث قال: "الظاهر عدم الفرق بين الكافر العجمي، والعربي، والكتابي، وغير الكتابي".3

والإمام الصنعاني حيث قال: "الحق أخذ الجزية من كل مشرك كما دل عليه حديث بريدة".4

1 سبل السلام 4/1341، 1342، 1373.

2 زاد المعاد 3/154، وأحكام أهل الذمة 1/6، 7.

3 نيل الأوطار 7/232.

4 سبل السلام 4/1373.

ص: 177

الفرع الثامن: في الحقوق الواجبات لهم وعليهم

أولاً: حقوقهم من قبل المسلمين:

1-

الوفاء لهم بالعهد، إن من واجبات المسلمين تجاه أهل الذمة الذي أعطوهم ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الوفاء لهم بعقد الذمة وعدم نقضه إلا إذا وجد منهم ما يوجب نقضه.

لأن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالوفاء بالعهود عامة وعهد الذمة من ضمنها حيث قال سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} .1

وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} .2

وقل جل وعلا: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} .3

وقد أوفى الرسول صلى الله عليه وسلم بجميع المعاهدات التي عقدها لأهل الذمة فقال صلى الله عليه وسلم: "نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم".4

1 الإسراء: 34.

2 النحل: 95.

3 الأنعام: 152.

4 أخرجه الإمام مسلم 3/1414 كتاب الجهاد باب الوفاء بالعهد.

ص: 178

فأول الحقوق لأهل الذمة من قبل المسلمين الوفاء لهم بعهدهم.

2-

الحفاظ على أرواحهم، وأموالهم، وأعراضهم، وحمايتهم من أي اعتداء عليهم من قبل المسلمين أو من غيرهم.

فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً" 1

وقال صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة".2

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أوصيكم بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم عهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يكلفوا إلا طاقتهم.3

وقال علي رضي الله عنه: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا".4

3-

منحهم الحرية في إقامة شعائر دينهم وعدم التعرض لكنائسهم وخمورهم إذا لم يظهروها فإذا أظهروها أريقت ولا ضمان فيها.

قال الماوردي: "لأهل الذمة حقان ببذل الجزية:

أحدهما: الكف عنهم.

1 أخرجه الإمام البخاري 2/202 كتاب الجهاد باب إثم من قتل معاهداً بغير جرم.

2 أخرجه أبو داود 3/191 كتاب الجهاد باب الوفاء بالعهد وقال الخطابي: إسناده حسن 3/191 كنهه في غيره وقته الذي يجوز فيه قتله.

3 أخرجه البخاري 2/201 كتاب الجهاد باب الوصية بأهل الذمة.

4 المغني 8/535.

ص: 179

والثاني: الحماية لهم ليكونوا بالكف آمنين وبالحماية محروسين".1

أما الواجبات التي عليهم وتلزمهم بعقد الذمة: فهي على النحو التالي:

واجبة، ومستحبة:

فالشروط الواجبة ثمانية:

1-

أداء الجزية عن يد وهم صاغرون.

2-

الخضوع لأحكام الإسلام العامة.

3-

أن لا يذكروا كتاب الله بطعن فيه ولا تحريف له.

4-

أن لا يذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتكذيب له ولا ازدراء.

5-

أن لا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه.

6-

أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح.

7-

أن لا يفتنوا مسلما عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا نفسه.

8-

أن لا يعينوا أهل الحرب، أو يأووا جاسوسهم.2

1 الأحكام السلطانية للماوردي ص 145.

2 مغني المحتاج 4/358، والأم 43/188، والمغني 8/525 وكشاف القناع 3/143، وزاد المعاد 3/156، والخرشي على خليل 3/148-149، والسراج السالك 2/29، وقوانين الأحكام الشرعية ص 175- 176، والأحكام السلطانية للماوردي ص 145، ولأبي يعلى 160.

ص: 180

فهذه شروط حقوق ملتزمة، فتلزمهم بغير شرط، وإنما تشترط أشعارا لهم وتأكيدا لتغليظ العهد عليهم، ويكون ارتكابهما بعد الشرط نقضا لعهدهم.

أما الشروط المستحبة والتي لا تنقض العهد عند عدم تنفيذها والعمل بها:

1-

تغير هيئاتهم من الملبس وغيره بحيث تكون لهم علامة يعرفون بها كالزنار.1

2-

أن لا يعلو على المسلمين في الأبنية.

3-

ضيافة المسلمين ثلاثة أيام إذا مروا عليهم.

4-

أن يمنعوا من بناء الكنائس والبيع.

5-

أن يمنعوا من جادة الطريق ويضطروا إلى أضيقه.

6-

أن يخفوا نواقيسهم ولا يظهروا شيئا من شعائر دينهم.

7-

أن لا يسبوا الأنبياء عليهم السلام.

8-

أن لا يجاهروا بشرب الخمر ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم.

9-

أن يخفوا دفن موتاهم ولا يجاهروا بندب عليهم ولا نياحة.

10-

أن يمنعوا ركوب الخيل عناقا وهجانا ولا يمنعوا من ركوب البغال والحمير.

وهذه الشروط لا تلزم بأهل الذمة حتى تشترط فتصير بالشرط ملتزمة ولا يكون ارتكابها بعد الشرط نقضا لعهدهم، ولكن يأخذون بها

1 حزام خاص يشده الكتابي على وسطه. معجم لغة الفقهاء ص 234.

ص: 181

إجبارا ويؤدبون عليها زجرا ولا يؤدبون إن لم يشترط ذلك عليهم.1

لكن الحنفية خالفوا الجمهور وقالوا إن هذه الشروط الواجبة والمستحبة لا تنقض العهد ولا ينقض العهد عندهم إلا بالشروط الآتية:

الأول: إسلام الذمي، فإذا أسلم الذمي سقطت عنه الجزية وانتقض عهده، وقال بهذا الشرط المالكية والحنابلة ولم يخالف فيه إلا الشافعية.

الشرط الثاني: إذا لحق الذمي بدار الحرب إذ بهذا اللحاق تنقطع صلته بدار الإسلام، ويصير من أهل دار الحرب.

وينتقض كذلك بغلبة الذميين على موضع لمحاربة المسلمين إذ بهذه المحاربة يصير الذميون حربا على الدولة الإسلامية فيعري عقد الذمة عن الفائدة وهي دفع شر حرابتهم فلا يبقى العقد.2

أما غير الحنفية وهم الجمهور المالكية، والشافعية، والحنابلة فقد توسعوا في واجبات أهل الذمة اللازمة بحقهم وجعلوها ناقضة للعهد، وذكروا أشياء لم يرها الأحناف ناقضة للعهد من ذلك امتناع الذمي عن أداء الجزية، وطعنه في الإسلام والقرآن، وغيرها من الشروط التي تقدمت.3

لكن بعض الحنفية رأى انتقاض العهد بشتم الرسول صلى الله عليه وسلم.4

1 انظر: المراجع السابقة في ص 176.

2 البدائع 7/112- 113، والهداية 4/382.

3 انظر: المراجع السابقة ص 176وانظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ص12.

4 شرح الكنز للعيني 1/322.

ص: 182