الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: في تغير وصف الدار
المطلب الأول: في انقلاب صفة الدار
لا خلاف بين علماء الإسلام كافة أن دار الكفر تصير وتنقلب دار الإسلام بمجرد إظهار أحكام الإسلام فيها، وتسلط المسلمين عليها.1
لأن المعول عليه في تمييز الدار هو السلطة وغلبة الأحكام فإن كانت السلطة إسلامية والأحكام الغالبة أيضاً إسلامية، كانت الدار دار إسلام بالاتفاق.
وفي هذا يقول الكاساني: "إن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها".2
وقال السرخسي: "إن الإمام إذا فتح بلدة وصيرها دار إسلام بإجراء أحكام الإسلام فيها فإنه يجوز له أن يقسم الغنائم فيها".3
ويفهم من كلام القاضي أبي يعلى: "أن دار الكفر إذا كانت الغلبة فيها لأحكام الإسلام دون أحكام الكفر وكانت السلطة فيها إسلامية انقلبت إلى دار الإسلام".4
1 حاشية ابن عابدين 4/175، والفتاوى الهندية 2/232، وشرح السير الكبير 4/320، والمدونة 3/23، وشرح السنة 10/371، والسيل الجرار 4/575، وأحكام أهل الذمة 1/366، والفتاوى السعدية ص 92.
2 انظر: بدائع الصنائع 7/130.
3 انظر: المبسوط 10/18.
4 انظر: المعتمد في أصول الدين ص 276.
وكذلك دار الكفر الحربية- دار الحرب - تصير دار كفر غير حربية - دار عهد - بمجرد وجود العلاقات السلمية بينها وبين المسلمين، من المعاهدات وغيرها.
أما بالنسبة لتغير الوصف عن دار الإسلام إلى دار كفر – ولن يتغير هذا الوصف إن شاء الله، ما تمسك المسلمون بعقيدتهم الإسلامية وجاهدوا في الله حق جهاده.
فهو أيضاً يكون بغلبة أحكام الكفر فيها وتسلط غير المسلمين عليها وقد ذهب إلى هذا جمهور الفقهاء.1
فالجمهور اعتبروا أن سلطة الكفار وغلبة أحكامهم هي التي تجعل الدار دار كفر لأن أحكام الكفر لن تغلب إلا إذا كانت السلطة في الدار لغير المسلمين.
وفي هذا يقول الكاساني: "إن دار الإسلام تصير دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها".2
والذي يفهم من كلام القاضي أن كل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي دار كفر.3
1 حاشية ابن عابدين 4/174 – 175، ودرر الحكام 1/2195، والفتاوى الهندية 2/232، وحاشية الدسوقي 2/171، وحاشية الشرواني مع تحفة المحتاج 9/269، والمغني 8/138.
2 انظر: بدائع الصنائع 7/130.
3 انظر: المعتمد في أصول الدين ص 276.
أما الإمام أبو حنيفة فقد اشترط لتغير وصف الإسلام عن الدار ثلاثة شروط:
الأول: ظهور أحكام الكفر فيها:
وهذا الشرط يتفق مع ما قاله الجمهور من أن دار الإسلام لا تنقلب دار كفر إذا غلبت فيها أحكام الكفر، بأن تعطلت الأحكام الشرعية في جميع مجالاتها من دار الإسلام، وحلت محلها الأحكام الشركية بجميع مجالاتها - وإذا غلبت الأحكام الشركية في دار الإسلام واختفت أحكام الإسلام فهذا دليل على تسلط الكفار عليها.
الشرط الثاني: أن تكون دار الإسلام متصلة بدار الكفر: بحيث لا يكون بينهما بلد من بلاد الإسلام ويلحقهم المدد منها.
وتكون أيضا متاخمة وملاصقة لدار الكفر بحيث يتوقع الاعتداء منها على دار الإسلام في أي وقت.
الشرط الثالث: أن لا يبقى في دار الإسلام مسلم أو ذمي آمناً بالأمان الأول: ومعنى ذلك أنه لم يبق مسلم أو ذمي في دار الإسلام آمناً إلا بأمان الكفار، وبمعنى آخر أنه لم يبق الأمان الأول الذي كان للمسلم بإسلامه وللذمي بعقد الذمة قبل استيلاء الكفار عليها.1
1 انظر: بدائع الصنائع 7/130، وحاشية رد المحتار 4/174 - 175، والفتاوى الهندية 2/232، والمبسوط 10/114.
فإذا فقد شرط من هذه الشروط الثلاثة يترجح جانب الإسلام احتياطاً فتبقى الدار دار إسلام ولا تتحول إلى دار كفر.
فقد اعتبر الإمام أبو حنيفة أن أساس تغير الوصف عن دار الإسلام هو غلبة الأحكام الكفرية والملاصقة والمتاخمة لدار الكفر، وزوال الأمان الأول عن أهلها المقيمين فيها، سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين كالذميين.
ومما لا شك فيه أن الشرطين الأخيرين وهما اشتراط الملاصقة والمتاخمة لدار الكفر، زوال الأمان الأول، فيهما مخالفة لما اتفق عليه الجمهور من أن دار الإسلام تصير دار كفر بتسلط الكفار عليها وغلبة أحكامهم فيها، سواء اتصلت بدار الكفر أو لم تتصل، بقي فيها مسلم أو ذمي آمناً بالأمان الأول أو لم يبق.
فالجمهور يذهبون إلى عدم اشتراط الملاصقة والمتاخمة لدار الكفر التغير الوصف عن دار الإسلام بل بكفي بتغير الوصف عنها غلبة الأحكام الشركية مع وجود السلطة لأعداء الإسلام.
ومما يؤكد هذا ما قاله ابن القيم في الأرض التي لا تجري عليها أحكام الإسلام أنها لا تكون دار إسلام وإن لاصقها، فهذه الطائف قريبة إلى مكة جداً ولم تعتبر دار إسلام بفتح مكة وكذلك الساحل.1
1 انظر: أحكام أهل الذمة 1/366.
فلا معنى لاعتبار شرط الملاصقة لتغير وصف الدار عن الإسلام وبخاصة في وقتنا الحاضر بعد تطور وسائل النقل الحديثة التي جعلت الأرض البعيدة في غاية القرب.
وفي هذا يقول أبو زهرة: "ولكن اشتراط المتاخمة لتوقع الاعتداء أصبح غير ذي موضوع، لأن ابن الأرض أخذ يتحكم في الأجواء بل يتحكم في الفضاء. ولم يعد القتال يحتاج إلى المتاخمة، بل إن القنابل الفتاكة تصل من أدنى الأرض إلى أقصاها، ولذلك نرى أن هذا الشرط لا موضع له الآن، ولو كان الإمام أو حنيفة حياً ورأى ما نرى لترك الشرط، والاختلاف بيننا وبينه ليس اختلاف حجة وبرهان، بل اختلاف حال وزمان".1
قلت: ويفهم من هذا أن الإمام أبا حنيفة أفتى بهذا الشرط بحسب الحال التي كانت في زمانه.
وكذلك أيضاً شرط زوال الأمان الأول فيه مخالفة لما عليه الجمهور لأن الأمان قد يحصل للمسلم أو الذمي وهما في دار الكفر. وقد تطرق ابن قدامة في المغني لشروط الإمام أبي حنيفة وخالفها ولم يعتبرها، بل اعتبر جريان الأحكام وغلبتها.
فقال: "ومتى ارتد أهل بلد وجرت فيه أحكامهم صاروا من أهل دار الحرب في اغتنام أموالهم وسبي ذراريهم. إلى أن قال: وقال أبو حنيفة
1 انظر: العلاقات الدولية في الإسلام ص 54.
لا تصير دار حرب حتى تجتمع فيها ثلاثة أشياء ثم ذكر شروط الإمام أبي حنيفة السابقة ثم قال في معارضتها: ولنا أنها دار كفار تجري فيها أحكامهم، فكانت دار حرب كما لو اجتمع فيها هذه الخصال أو دار الكفرة الأصليين".1
فابن قدامة يشترط لانقلاب صفة الدار عن الإسلام جريان أحكام الكفر فيها، فمتى غلبت أحكامهم وتسلطوا عليها، انقلبت إلى دار كفر ولو لم تتحقق الشروط التي ذكرها الإمام أبو حنيفة من الملاصقة والمتاخمة وفقدان الأمان.
1 انظر: المغني لابن قدامة 8/138.