الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرَّجُلُ وَالفِكْرَةُ:
يقول فضيلة الشيخ أحمد عيسى عاشور في تقديمه لحديث الثلاثاء الذي بدأت " الاعتصام " بنشره منذ قريب:
« .. كان الناس يرون حسن البنا غريبًا في محيط الناس .. بل وفي محيط الزعماء .. بطابعه وطبيعته .. فقد صنع تاريخ وحول مجرى الطريق .. فلما مات
…
كان غريبًا غاية الغرابة في موته
…
فلم يُصَلِّ عليه في المسجد غير والده
…
ولم يمش خلف نعشه أحد من هؤلاء الأتباع الذين كانوا يملأون الدنيا .. لسبب بسيط .. هو أنهم كانوا في هذا الوقت يملأون السجون.
وإذا كان الإمام الشهيد حسن البنا قد مات .. فإن فكره لن يموت .. وتأثيره باق وممتد .. يتمثل في أجيال صنعها على مائدة الإسلام بأسلوب العصر .. ويتمثل في هذا المد العالمي للحركة الإسلامية التي وضع رحمه الله بذورها الأولى .. وحسن البنا بعد كل هذا
…
هو مجدد الإسلام في القرن العشرين .. ».
أمام هذه الكلمات الطيبات التي تبعث على الإحساس بصدقها وإخلاصها فقد عبرت عن الرجل والفكرة في إيجاز بليغ حتي لا يكاد الإنسان يجد بعدها استجابة من القلم في أن يكتب أكثر منها
…
ليس هناك أدني شك في أن الإمام الشهيد حسن البنا عاش غريبا في محيط الناس هؤلاء الناس ألفوا حياة الدعوة ، والاستسلام للواقع مع مهانته ومرارته وأنسوا إلى السلبية المطلقة واطمأنوا بها وركنوا إليها ولم يعودوا يهتمون إلا بمشكلاتهم الخاصة ولم يكن في استطاعتهم أن يتحملوا إلا تبعات تخصهم وحدهم دون سواهم .. أما الإسلام فلا شأن لهم به إلا في إطار أداء شعائره الخمس ما استطاعوا إليها سبيلا .. وبالنسبة لمن كان فيه بقية من دين .. أو رمق من إيمان .. وأما قضايا المسلمين .. فلا يكاد يحس بها أحد من هؤلاء الناس .. الأقليات المسلمة المضطهدة الضائعة .. والأكثريات المسلمة المضيعة المغلوبة على أمرها .. هؤلاء وأولئك على أرفف النسيان ، وفي زوايا الإهمال .. الأقليات المضطهدة الضائعة تكافح اليائس وتناضل نضال المتبرم متواضعة في سلاحها المادي .. ضحلة في سلاحها الروحي .. والأكثريات المضيعة المغلوبة على أمرها فليس لديها أدني تفكير في النضال ولا شروي نقير من العزم على الكفاح ..
أصبحت فلسفتها في الحياة فلسفة العاجز ليس في الإمكان أبدع مما كان ..
وأيضا لقد عاش الإمام الشهيد حسن البنا غريبا في محيط الزعماء
…
فهو من ناحية أبت نفسه هذه الزعامات التقليدية التي هي أوهن من بيت العنكبوت ون ناحية أخري أبي عليه هؤلاء الزعماء أن يكون واحدا منهم لأنه سيكون بمثابة كاشف لعوراتهم وسوءاتهم .. إن الزعامة عندهم فن واحتراف ومضاربة في " بورصة " الأوراق السياسية .. والزعامة عنده تقوم مقام المربي الذي يربي الروح والعقل ويصقل الوجدان والنفس ..
لهذا وذاك:
عاش الإمام الشهيد حسن البنا غريبا في محيط الناس .. الذين كانوا يغطون في سبات عميق لا يكادون يفيقون منه ويستمرئون غفلة عميقة لا يكادون ينتهبون منها وفي سلبية مطلقة اطمأنوا بها وركنوا إليها واستسلموا لها .. فإذا بالرجل يصيح فيهم في فمه نفير وفي يده مصباح وفي صدره كتاب الله ، وفي وجدانه الإسلام في صبغته الأصيلة ..
لقد هتف بكلمات موجزة سهلة إلى قلوب الناس ووجدانهم: الله غايتنا .. والرسول زعيمنا .. والقرآن دستورنا .. والجهاد طريقنا
…
الموت في سبيل الله أسمي أمانينا .. الله أكبر ولله الحمد وهتف بكلمات موجزة سهلة إلى عقول الناس وأذهانهم: الإسلام: دين ودولة
…
مصحف وسيف ..
وعاش الإمام الشهيد حسن البنا غريبا في محيط الزعماء .. الذين كانوا يجيدون احتراف المثيل ولا يبالون صدق الزعامة .. ويعتزون باسم الزعامة ولا يكترثون لجوهرها لأن جوهر الزعامة الأصيلة أن يعطي الزعيم الناس أضعاف ما يأخذ منهم وأن يضفي عليهم من عقله ووجدانه أضعاف ما يضفون عليه من الثقة به .. فالزعيم الحق هو الذي يضع للناس مبادئ ويصوغ لهذه المبادئ مناهج ثم يحول هذه المناهج إلى خطة عمل يقودها بنفسه في مواقع العمل .. وليس الذي كل ما يقدمه للناس خطبة عصماء ،وشعارات جوفاء ويتلقي منهم هتافات عالية تشق عنان السماء وتصفيق يخترق أجواز الفضاء
…
لذلك رفض الإمام الشهيد حسن البنا أن يكون زعيما على هذه الشاكلة
…
رفض أن يهتف به أو يصفق له
…
رفض أن يكون قديسا يضطلع بأعباء الكهنوت السياسي .. وآثر أن يعيش غريبا في محيط الزعماء .. !!
* * *
كان حسن البنا عبقرية فذة ، وبصيرة نافذة
…
تمثلت فيه شجاعة نادرة ، وحكمة بالغة أيقظ الناس وأضاء لهم الطريق إلى الإسلام الصحيح .. الذى رد إليه اعتباره بعد أن صحح مفاهيمه .. كان كالباحث عن
الحقيقة في وضح النهار ومعه مصباحه .. لم تعيه الحيلة .. ولم يضق بخصوم فكرته من المسلمين شكلا أو من أعداء الإسلام حقيقة
…
وإنما هم الذين ضاقوا به وبفكرته وتعاونوا معا على إنهاء حياته وتوهموا أنهم سوف يضعون نهاية لفكرته .. كانوا واثقين من أن الرجل لا يخشي مواجهة الموت ، ومن أنهم هم الذين يخشون أن يواجهوه بالموت .. لذلك قرروا أن يغتالوه ليلا ، وهم يعلمون أنه أعزل من السلاح ..
ولقي الرجل ربه شهيدًا .. وخاب ظنهم فى اغتيال فكرته .. جهلوا أن الفكرة لا تغتال بسلاح مادي لأنها أقوي من المادة .. .. ولا بسلاح إرهابي .. لأنها فوق مستوي الإرهاب .. كل ما يستطيع أن يفعله السلاح بنوعية: المادي والإرهابي .. كل ما يستطيع أن يفعله السلاح بنوعية: المادي والإرهابي ، أن يشل حركة أتباعها ويعقد ألسنتهم .. ولكن لا يستطيع - مهما تفنن في أساليبه - أن يتمكن من القلوب والوجدانات والمشاعر التي هي المكان الطبيعي للفكرة القائمة على الإيمان بالله والثقة فيه ، والاطمئنان إليه ..
كان بدهيا أن يستجيب الشباب المسلم المثقف للرجل والفكرة الشباب الذي لديه استعداد لأن يكون مسلما: حقيقة وجوهرا ومعني ولديه استعداد أكبر لأن يتحمل تبعات ما هو مقدم عليه وأن يحمل
على عواتقه أعباء المواجهة للفكرة ، من مخططات القوي الصليبية والصهيونية والماركسية وأدواتها وعملائها من الأنظمة الداخلية الحاكمة بأمرها والقابضة بأيد من فولاذ على نواصي الأمور ومقاليد الأشياء ، ومكونات وسائل الإعلام الهابط .. التي تملكها لا تقدس الكلمة ولا تعرف معني لقداستها .. ومقومات الغوغاء التي تعدهم للمناسبات تحت أسماء مسميات لها إلا في أذهان الأنظمة وتحمل بأفواهها شعارات لا مدلول لها إلا في أدمغة الأنظمة .. وكل مؤهلات هؤلاء الغوغاء: حناجر قوية مستعدة للهتاف في أى وقت
…
وأكف فتية مؤهلة للتصفيق .. وقذف الحجارة والطوب وأن تكون رهن الإشارة في أية لحظة من ليل أو نهار ..
وكان بدهيا أن يعتبر نفسه - وسط هذا الضجيج من الاحتراف السياسي وتجارة الزعامات - كالفيلسوف الباحث عن الحقيقة في وضح النهار وفي يده مصباح .. وحتي الحقيقة ذاتها لها خصوم وأعداء
…
لها مناوشون ومناوئون
…
صحيح أن الحقيقة لابد أن يكون لها أتباع يعتقدونها ويعتنقون مبادئها ، يذبون عنها ويبذلون دماءهم من أجلها .. إلا أن هؤلاء الإتباع لابد أن يكونوا من القلة بمكان .. هم كالشعرة البيضاء في جلد الثورة الأسود .. هم كالبصير وسط جمع وحشود متلاطمة من العمي بصائر وأبصارا ..
وهذه سنة الله في الكون تعامل على أساسها أنبياء الله ورسله والمصلحون بعدهم .. وبالرغم من هذا فإن سنة الله في الكون قد اقتضت بعدهم .. وبالرغم من هذا فإن سنة الله في الكون قد اقتضت أيضا: أن الحقيقة خالدة لا يدركها الموت ولا يمسها الوهن ولا يلحقها الهرم .. وبمقتضي هذه السنة الإلهية أدي الرسل والأنبياء والهداة والمصلحون رسالاتهم لم يصبهم يأس ولم يخالطهم ملل ..
* * *
وبعد ..
فما أكثر ما هوجم الرجل والفكرة معا .. لكن هذا الهجوم انبثق ممن لهم مصلحة في ألا تقوم للفكرة قائمة ، وألا تعيش للرجل ذكري .. ونحن نلتمس بعض العذر لمن ظلوا يهاجمون ويناوئن .. والفكرة قائمة لها ألسنة وأقلام يملكون وسائل الدفاع عنها .. أما الين دأوبا على الهجوم والمناوءة والفكرة تعيش محنتها في أعصب الظروف وأقساها فأجدر بنا أن نسقطهم من الحساب ، وأجدر بهم أن يعتبروا أنفسهم من سقط المتاع ،وأما الذين الذين يكتبون التاريخ من عل
…
لأنهم هم القوة .. والقوة هم .. يقولن فلا يناقش لهم قول ، ويفترون فيصفق لافترائهم ، ويدعون فيهتف لادعائهم .. ولا مجال لأحد أن يناقش ما يقولون .. ولا أن يجادل فيما يفترون .. ولا أن يشكك فيما يدعون .. فهؤلاء ندعهم وحسابهم على الله .. لأنك لا نملك إزاء من
تخلي على الضمير وأعطي ظهره لأخلاق الرجال .. معتزا بقوته فخورا بسلطانه وسلطاته .. إلا أن تدعه وشأنه ، وحسابه على الله ..
ليفرح الذين لا يزالون يغمزون الرجل والفكرة ما شاء لهم أن يفرحوا .. فالرجل لم ينته باغتياله والفكرة لم تمت باعتقالها وقد اندثر كل افتراء عليهما .. وسيظل يندثر كل تجن عليهما وسوف يبقي الرجل وتبقي الفكرة .. ما بقيت السموات والأرض .. !
* * *