المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عبقرية فذة .. وبصيرة نافذة: - حسن البنا - الرجل والفكرة

[محمد عبد الله السمان]

الفصل: ‌عبقرية فذة .. وبصيرة نافذة:

‌عَبْقَرِيَّةٌ فَذَّةٌ .. وَبَصِيرَةٌ نَافِذَةٌ:

العبقرية وحدها لا تكفي ولو كانت فذة .. هذا لمن يتصدون للإصلاح .. بل لابد من البصيرة النافذة .. فالعبقرية نتائج عقل ناضج ، وفكر ثاقب ، وذهن صاف، وأفق واسع ثم قدرة على الصياغة والتعبير .. ولكن أية قيمة لهذا النتاج إذ هو لم يقدم العطاء للناس؟ أعني إذا هم لم يتحول إلى منهج وخطة عمل ليعايش الناس ويتجاوب الناس معه .. وعندئذ لابد من البصيرة النفاذة لتقود المسار ..

كان كل من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب عبقريا في سياسة الأمة وكل من عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد وأبي عبيدة ابن الجراح وسعيد بن ابي وقاص .. عبقريا في سياسة المعارك ..

ولكن نجاح هؤلاء جميعا في سياستهم رضي الله عنهم لم يقم على العبقرية الفذة وحدها بل لقد رافقتها البصيرة النافذة ..

إنه لمن قبيل تحصيل الحاصل أن تقول: إن حسن البنا كان يجمع بين العبقرية الفذة والبصيرة النافذة. والعبقرية والبصيرة إنما

ص: 27

تقدران العقل والسلوك والثمرة والعمل الذي قام به حسن البنا يشهد له بعبقرية فذة وبصيرة نافذة ،ومع شئ من التواضع

وأقول: مع شئ من التواضع

لأن ألفاظ اللغة لا تسعفنا بصفات أكبر وأجل وأعمق من صفتي: العبقرية الفذة والبصيرة النافذة ..

وقد يتوهم متوهم: أن حسن البنا لم يفعل أكثر من أنه دعا الناس إلى الخير فاستجاب له البعض فكون من هذا البعض جماعة ، وما أكثر الدعاة إلى اله الذين ألفوا جماعات دينية كانت ملء السمع والبصر ووضعوا لها مبادئ وشعارات وصاغوا لها أفكارا ولوائح سلوك ..

مثل هذا المتوهم يجب أن نفسح صدورنا لما يقول وحسبنا منه أن نعتبره متوهما وحسبه منا أن يكون كذلك في نظرنا وهذا أو ذاك لا يحول دون أن نناقش هذا التوهم في هدوء ..

نحن نعترف - بادئ ذي بدء - بأنه على مسار التاريخ القديم والمعاصر. ظهر زعماء دينيون وجماعات دينية لا حصر لها.

ولكن يجب أن يكون في الحسبان أن هناك فرقا شاسعا بين الرجل حسن البنا والفكرة: جماعة الإخوان من جانب وبين الزعماء الدينيين وجماعاتهم من جانب آخر.

ص: 28

فأولئك الزعماء الدينيون - إلا أقل القليل منهم - لا يتمتعوا بما كان يتمتع به الرجل من عبقرية فذة وبصيرة نافذة بل حتي هذا القليل منهم كانت له مواهب محدودة وعزائم متواضعة وأهداف أكثر تواضعا ..

أما الجماعات الدينية فلم يكن الهدف منها إلا أن تشغل حَيِّزًا من الفراغ .. بل إن معظمها قام من فراغ واستقر أيضًا في فراغ كان كل ما تسعي إليه: هو أن يعود الناس إلى الإسلام .. لكنه الإسلام: الشكل لا الحقيقة والغرض لا الجوهر واللفظ لا المعنى وبمعنى آخر أدق: هو خلق جيل متدين من الناس .. لكن ما هو مفهوم التدين في نظر هؤلاء الناس؟ إنه أداء الشعائر ما استطاعوا إلى أدائها سبيلاً والتخلق الذاتي بالأخلاق الإسلامية جهد استطاعتهم.

أما العمل على بعث الوجود الإسلامي حتى يسترد الإسلام اعتباره .. أما العمل على تقديم الفكر الإسلامي في صياغة جديدة مقنعة .. أما العمل على إثارة قضايا الإسلام وقضايا الشعوب المسلمة

أما مواجهة التحديات التي تتحدى الإسلام: عقيدة وفكرًا ، ونظامًا وتراثا سواء من داخلنا أم من خارجنا .. أم التصدي للأنظمة التي تسعي جاهدة على تقليص ظل الإسلام وحصره في أضيق الحدود ..

ص: 29

كل هذه المسائل لم تكن تشغل تفكير تلك الجماعات ، إلا أقل القليل منها .. واقل القليل من هذه المعاني أيضا ..

ولنعد القليل من هذه المعاني أيضا ..

* * *

ولنعد من حيث بدأنا:

لقد تجلت عبقرية حسن البنا في أنه استطاع أن يعرض الإسلام في صياغة جديدة جذابة مرنة سهلة مقنعة أعانه على ذلك في مجال الصياغة عقلية ناضجة وفكر ثاقب وأفق واسع وأعانه على ذلك أيضا في مجال الإقناع قدرته الفائقة على التعبير .. وقدرته الفائقة على التأثير .. ثم قدرته الفائقة على العطاء الإسلامي السخي .. الذي ينفذ إلى القلوب والمشاعر الوجدانات .. قبل أن يستولي على الألباب والأذهان ..

يقول العلامة أبو الحسن الندوي في رسالته: " أريد أن أتحدث إلى الإخوان " وهو بصدد حديثه عن شخصية حسن البنا:

«كانت شخصية فريدة يظهر من حياة صاحبها ونشأته أنها قد أعدت لهذا الأمر العظيم إعدادًا كان يجمع بين الفهم الواسع للإسلام والغيرة الملتهبة عليه والنشاط الدائم والعمل المتواصل لإعلائه والخطابة الساحرة والشخصية الجذابة والنفوذ العميق في نفوس أصحابه وإخوانه أو بلفظه هو نفسه» الفهم الدقيق والإيمان

ص: 30

العميق والحب الوثيق .. «ولا بد لزعيم المسلم وقائد الدعوة الدينية أن يجمع بين هذه الصفات .. » .

كذلك تجلت بصيرة حسن البنا النافذة في أنه استطاع أن يقيم بناء جديد للدعوة الإسلامية وأن يقدم صياغة جديدة للفكر الإسلامي واستطاع أن يرد للمفاهيم الإسلامية الصحيحة اعتبارها بعد أن ظلت آمادا طوالا غائبة عن أذهان المسلمين البسطاء قابعة في أدمغة القلة من المسلمين المثقفين ، لا تكاد تغادرها إلى ألسنتهم حتي تعود إليها كذلك استطاع أن يحول المعاني الإسلامية إلى أفعال بعد أن ظلت آمادا طويلة مجرد ألفاظ تقال من فوق المنابر ، أو حروف تدون في الصحف أو الكتب .. وتستطيع أن نقول في إيجاز: إن حسن البنا بعث الحياة والحركة في الإسلام من جديد .. بعد أن ظل آمادا طوالا متواريا عن الشعوب المسلمة والشعوب المسلمة نيام عنه ..

ص: 31

وفي قوة أعصابه، ورباطة جأشه، وثبات جنانه، وفى طاقة احتماله في أحلك الأوقات ..

صدر قرار حل الإخوان في الثامن من ديسمبر عام 1948، أصدر القرار الإنجليز، ونفذه النقراشى رئيس الوزراء ووزير الداخلية، ومصر يومئذٍ في معركة مع اليهود في فلسطين. وشباب الإخوان ألوف يحملون السلاح ويحاربون جنبًا إلى جنب مع الجيوش العربية ومن بينها جيش مصر .. وذهب بعض الشباب الذين لم يصدر قرار باعتقالهم إلى المرشد العام حسن البنا، ليستأذنوه في المقاومة حسب الطاقة .. فماذا كان منه؟ لقد حذرهم مغبة هذا الأمر، وأوضح لهم ببصيرته النافذة: أن الإنجليز هم أصحاب القرار بحل جماعة الإخوان، وما النقراشى إلا أداة طيعة في يد الإنجليز، الذين لم يصدروا قرار الحل إلا على أمل أن تحدث مواجهة بين الإخوان والحكومة، ويغتنم الإنجليز الفرصة للتدخل المباشر في شؤون البلاد، وتتجدد مأساة حركة عرابي ..

وذكرهم المرشد بالقصة المشهورة عن نبي الله سليمان الحكيم، حين اختصمت إليه امرأتان على طفل وليد .. وادعت كلتاهما بنوته. . فحكم بشطره نصفين بينهما، وبينما وافقت المرأة التي لم

ص: 32

تلد على قسمته، عز ذلك على الأم الحقيقية، وآلمها قتل فلذة كبدها، فتنازلت عن نصيبها فيه، لقاء أن يظل الطفل متمتعًا بحياته ..

ثم قال لهم المرشد العام: «إننا نمثل نفس الدور مع هؤلاء الحكام .. ونحن أحرص منهم على مستقبل هذا الوطن وحرمته .. فتحملوا المحنة ومصائبها .. وأسلموا أكتافهم للسعديين ليقتلوا ويشردوا كيف شاءوا، حرصًا على مستقبل وطنكم، وإبقاء على وحدته واستقلاله .. » .

أية بصيرة أنفذ من هذه البصيرة؟ أكانت هذه البصيرة النافذة تسمح للمسلم أن يقاتل أخاه المسلم؟ لو أن جنود الإنجليز كانوا هم الذين يتولون الرد على مقاومة الإخوان، لتغير الوضع، ولما شجعهم على الاستسلام .. لكن أن يقاتل المسلم أخاه المسلم .. فلا .. وألف لا .. أليس أفراد قوات البوليس مسلمين ومصريين معًا؟

والمجال لا يسمح على الإطلاق بالمقارنة:

أذكر أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر خطب إثر حركة الانفصال - انفصال سوريا عن مصر - عام 1961، وكان مما جاء على لسانه:«كان في استطاعتي أن أبعث بقوات إلى سوريا لتأديب الانفصاليين .. لكنني قلت: لن أسمح للعربي أن يشهر السلاح في وجه العربي» وظل التصفيق لهذه الكلمات - تصفيق السذج المستعمين -

ص: 33

دقائق عديدة، ودوت الهتافات بحياة الزعيم العربي الأصيل .. وبغض النظر عما حدث - حيث كان الزعيم " الوطني الصادق " أرسل مئات من جنود المظلات هبطوا في حلب، وقبضت على جميعهم قوات الجيش السوري .. بغض النظر عن هذا، فلم تمض شهور معدودة حتى كان الزعيم " الوطني الصادق " يبعث بجيش مصري عربي إلى دولة اليمن ليقاتل شعبًا عربيًا هناك، أعزل من السلاح، دون ذنب جناه، ويفعل به ما هو شبيه بما فعله اليهود بعرب فلسطين في اللد والرملة ودير ياسين ..

الحق أن الإنسان يقف مدهوشًا أمام بصيرة الرجل النافذة .. هذه البصيرة التي هيأته للفهم العميق للأمور .. عندما صدر قرار الحل كان شباب الإخوان - كما سبق أن قلت - في أرض المعركة بفلسطين .. وقدر الرجل أن قرار الحل قد يثير ثائرة المجاهدين .. وليس في استطاعته أن يكتم الأمر عنهم، وإذاعات الدنيا قد أذاعت الخبر في شماتة، ولا سيما إذاعات الغرب الصليبي، وإذاعات الشرق الشيوعي .. وبالرغم من اطمئنان الرجل إلى إيمان الشباب المجاهد، الذي طالما هتف في أعماقه: الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا .. فهذا الشباب سوف يكون فوق مستوى المحنة .. وهذه المحنة مهما بلغت ضراوتها، لن تفت في عزائمهم، ولن تشغلهم.

ص: 34

عن المهمة التي جاءوا من أجلها، وهي أشرف مهمة .. بالرغم من هذا كله، بعث برسالة إلى المجاهدين في فلسطين يقول فيها:«إِنَّهُ لَا شَأْنَ لِلْمُتَطَوِّعِينَ بِالحَوَادِثِ التِي تَجْرِي فِي مِصْرَ .. مَا دَامَ فِي فِلِسْطِينَ يَهُودِيٌّ وَاحِدٌ يُقَاتِلُ .. فَإِنَّ مُهِمَّتَهُمْ لَمْ تَنْتَهِ» .

* * *

إن المقام لا يتسع لضرب الأمثلة .. وما أكثرها في حياة الرجل. والتي تجلت فيها عبقريته الفذة، وبصيرته النافذة، والتي لا يسع الإنسان حيالها إلا أن ينحني إجلالاً وتقديرًا لها .. وتبدو هذه العبقرية الفذة أكثر ما تبدو من خلال الشدائد التي تنوء بحملها الجبال الرواسي، والتي لا تطيقها إلا أعصاب من فولاذ ..

بعد مصرع النقراشي في أواخر ديمسبر عام 1948، عرض الإمام الشهيد على حكومة إبراهيم عبد الهادي خليفة النقراشي في الحكم والإرهاب مَعًا، أن تعتقله، والحق أنه جدد العرض الذي سبق أن عرضه إثر حل الإخوان ليشارك في المحنة، ورفض عرضه في المرتين، وأيقن الرجل في المرة الأخيرة أن هناك أمرًا يدبر له، لا سيما وأن الغوغائيين هتفوا في تشييع جنازة النقراشي: رأس البنا برأس النقراشي .. وكذلك أيقن الرجل أن حكومة السعديين وعلى رأسها إبراهيم عبد الهادي لا تمت إلى المدنية بصلة، إن عقليتها تحولت

ص: 35

إلى عقلية تحت مستوى عقليات العصبيات الأسرية في أعماق الصعيد الأقصى، التي لا تقيم وزنًا - في مجال الثأر - للقانون، وإنما تقيم كل وزن لشريعة الغاب التي تعتقدها وتعتز باعتناقها لها ..

في مثل هذه الظروف التي تتهدد حياته، وتتوعد دماءه، لم ينس الرجل مستقبل الدعوة، وفي ثبات إيمانه بقضاء الله وقدره، كتب وصيته إلى أحد أعضاء مكتب الإرشاد الذي استثنى وحده من الاعتقال دون سائر أعضاء المكتب، بل ولن يتوقع اعتقاله في المستقبل، فصهره العالم الأزهري الكبير عضو الهيئة السعدية الحاكمة، وعضو في نفس الوقت في البرلمان السعدي، هذه الوصية تلقى على عاتق العضو في مكتب الإرشاد مسؤولية الدعوة إذا نفذ قضاء الله في المرشد ..

وسيظل مسؤولاً إلى أن يخرج الإخوان من المعتقلات ويختاروا مرشدًا لهم ..

لا أظن أننا بحاجة إلى التعليق أو التعقيب ..

* * *

وبعد ..

فلعل أحدًا يظن أننا نكتب عن الرجل من خلال عواطفنا .. والحق أننا لا نكتب إلا ونحن مجردون من هذه العواطف .. إن الرجل في ذمة التاريخ .. وليس في حاجة إلى إطرائه فضلاً عن الغلو فيه،

ص: 36

ثم إن ما عمله في حياته القصيرة يشهد له مما يغنيه عن الإطراء والغلو، بل يغنيه عن العواطف، وأمامنا رجل ليس مسلمًا وليس عربيًا ولا مصريًا، إنه الكاتب الأمريكي «روبير جاكسون» يقول في كتابه " حسن البنا .. الرجل القرآني ":

«لفت نظري إلى هذا الرجل سمته البسيط، ومظهره العادي، وثقته التي لا حد لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته .. كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل علي الزعامة الشعبية، لا في مصر وحدها، بل في الشرق كله ..

وسافرت من مصر بعد أن حصلت على تقارير وافية ضافية عن الرجل وتاريخه، وأهدافه وحياته، وقد قرأتها جميعًا وأخذت أقارن بينه وبين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد أحمد المهدي، والسيد السنوسي، ومحمد بن عبد الوهاب. فوصل بي البحث إلى أن الرجل قد أفاد من تجارب هؤلاء جميعًا، وأخذ خير ما عندهم، وأمكنه أن يتفادى ما وقعوا فيه من أخطاء .. ومن أمثلة ذلك أنه جمع بين وسيلتين متعارضتين، جرى على إحداهما الأفغاني وارتضي الأخرى محمد عبده.

.. كان الأفغاني يرى الإصلاح عن طريق الحكم، ويراه محمد عبده عن طريق التربية .. وقد استطاع حسن البنا أن يدمج الوسيلتين مَعًا، وأن يأخذ بهما جميعًا، كما أنه وصل إلى ما لم يصلا إليه، وهو جمع

ص: 37

صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة إلى مذهب موحد، وهدف محدد».

يقول هذا رجل أجنبي عن حسن البنا، وليس مما نقول نحن، وكل ما يمكن أن نعقب به، هو أن فكرة الإخوان لم تقتصر على المثقفين، بل استوعبت العامل البسيط والفلاح البسيط أيضًا. ووجد كلاهما في رحابها مجالاً للثقافة الإسلامية الأصيلة.

إن كلمات الكاتب الأمريكي «روبير جاكسون» تؤكد أن حسن البنا كان ذا عبقرية فذة، وبصيرة نافذة، فإذا أضفنا إلى هاتين الخصيصتين، إيمانه وشجاعته وثقته في ربه، وجدنا أنفسنا أمام فلتة من فلتات التاريخ، قَلَّ أن يجود الزمان بمثلها.

* * *

ص: 38