المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌مؤذن .. ومصباح:

‌مُؤَذِّنٌ .. وَمِصْبَاحٌ:

من الخصائص التي تميز بها حسن البنا، قدراته الخارقة على احتمال الجهد الشاق المضني الذي كان يبذله، كانت تعلو رأسه في مكتبه المتواضع بالمركز العام، لافتة صغيرة معلقة على الجدار تقول:«الأَعْمَالُ أَكْبَرُ مِنَ الأَوْقَاتِ» ، لعله كان يهدف من وضعها، لتكون في مواجهة زائريه، بمثابة لفت أنظارهم إلى ضرورة الإيجاز في الوقت والقول مَعًا، بطريقة مهذبة، إلا أنه من المدهش حقًا أن يستطيع الرجل وحده، أن يقوم بوظيفة المؤذن وفي يده مصباح، وفي وقت واحد، وربما تصور البعض أنه ليس في هذا ما يثير الدهشة. إذ أن أبسط الناس يستطيع القيام بهذا العمل، هذا المتصور يأخذ بأقرب مدلولات الألفاظ إلى الأذهان، أو بمعنى آخر يأخذ بظواهر الألفاظ لا بجوهر معانيها.

إن وظيفة المؤذن بالنسبة لرجل مثل حسن البنا، لا تعني إعلام الناس بأوقات الصلاة، وإنما تعني إيقاظهم من سباتهم الذي طال أمده ليلتفوا حول الداعية الذي يدعوهم إلى الخير، ولم يكن اختيار الرجل لألفاظ الهتاف الذي يحسن أن يردده الإخوان، عَرَضًا،

ص: 51

بل بناء على تفكير وتأمل، لقد اختارت الأحزاب السياسية المحترفة للتهريج، التصفيق والهتاف للزعماء، وهي بذلك قد ارتدت إلى عصور الجاهلية، لكن حسن البنا استبدل عادة الجاهلية بكلمات من القلب يهتز لها الوجدان، فيها ذكر الله، وليس فيها ذكر زعيم ولا غير زعيم من الناس، واختيار حسن البنا لعبارة «اللهُ أَكْبَرُ» ليبدأ بها هتافات الإخوان كان له مغزاه في نفسه، ومغزاه لدى الأتباع أيضًا، بالنسبة له، فهو يؤدي وظيفة المؤذن، والمؤذن إنما يبدأ الأذان الشرعي بعبارة «اللهُ أَكْبَرُ» وبالنسبة للأتباع، فإنهم حين يبدأون الهتاف باسم الله تعالى، لن يجدوا في أنفسهم استعدادًا للهتاف باسم واحد من البشر.

قلتُ: إن وظيفة المؤذن كانت تعني بالنسبة للرجل إيقاظ الناس من سبات طال أمده، وهنا تبدو المهمة الشاقة، فإن إيقاظ قوم نيام، استعذبوا النوم، واسترخوا له، عمل يحتاج إلى مؤهلات خاصة قد لا تتوافر في كثير من الدعاة، الصبر والمصابرة، الاحتمال والتحمل، المرونة وسعة الأفق، الحكمة والسياسة، الدراسة المتأنية للظروف، حسن اختيار الزمان والمكان الناسبين، القدرة على كسب القلوب والعقول معًا. إن كسب القلوب وحدها هو

ص: 52

مجال التصوف، وكسب العقول وحدها - هو مجال الفلسفة - والفكرة الإسلامية، أكبر من المجالين.

إذن، فمهمة الإيقاظ مهمة شاقة، وما بعدها أشق منها.

فالمستسلمون لسبات عميق، أكثر استسلامًا للواقع، إذا هم استيقظوا. إن فكرة رفض الواقع المرير لا تخطر ببال أحد منهم. وإن التفكير في التغيير أمر لا تقبله عقولهم، ولا تستقبله أذهانهم، لأن فلسفتهم التي اقتنعوا بها هي: ليس في الإمكان أبدع مما كان. لقد أقنعهم سلوك الزعماء السياسيين، بالاطمئنان إلى الحاضر، واليأس من المستقبل. مع أن الحاضر مزيج من الهوان والضياع.

وقبل أن يبدأ حسن البنا مهمته - مارس 1928 - كمؤذن بين الناس - وقد عرفنا أوضاعهم - لم يغب عن ذهنه ثقل المهمة، ومع ذك أقدم ومعه في يده مصباحه، وفي داخله إيمانه بالله، وثقته المطلقة به، كان الإيمان والثقة مصدرًا لعزيمة صادقة لا تقبل التردد وترفض اليأس.

كان التفكير أن تبدأ المهمة - مهمة الدعوة إلى الله - من المسجد، لكن حسن البنا رأى المساجد وحدها لا تكفي لإيصال تعاليم

ص: 53

الإسلام إلى الناس. . لماذا لا يتجه إلى رجل الشارع، فليس الإسلام قاصرًا على رواد المساجد دون رجل الشارع

كان مثار دهشة حين اقترح حسن البنا أن تبلغ الدعوة إلى رواد المقاهي، قيل: إن أصحاب المقاهي من جهة - لا يسمحون بذلك ويعارضون فيه لأنه يعطل أشغالهم، ومن جهة أخرى - فإن جمهور الجالسين على المقاهي قومن منصرفون إلى ما هم فيه، وليس أثقل على نفوسهم من الوعظ، فكيف نتحدث في الدين والأخلاق لقوم لا يفكرون إلا في هذا اللهو الذي انصرفوا إليه؟.

يقول الإمام الشهيد في " مذكرات الدعوة والداعية ":

«وَكُنْتُ أُخَالِفُهُمْ فِي هَذِهِ النَّظْرَةِ، وَأَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الجُمْهُورَ أَكْثَرُ اِسْتِعْدَادًا لِسَمَاعِ العِظَاتِ مِنْ أَيِّ جُمْهُورٍ آخَرَ حَتَّى جُمْهُورَ المَسْجِدِ نَفْسُهُ، لأَنْ هَذَا شَيْءٌ طَرِيفٌ وَجَدِيدٌ عَلَيْهِ، وَالعِبْرَةَ بِحُسْنِ اِخْتِيَارِ المَوْضُوعِ، فَلَا نَتَعَرَّضُ لِمًا يَجْرَحُ شُعُورَهُمْ، وَبِطَرِيقَةِ العَرْضِ، فَنَعْرِضُ بِأُسْلُوبٍ شَائِقٍ جَذَّابٍ، وَبِالْوَقْتِ، فَلَا نُطِيلُ عَلَيْهِمْ القَوْلَ

».

وكان أن نجحت التجربة، وكان لا بد أن تنجح.

شيء طبيعي أن الداعي حين يؤذن في الناس وينتبهون له، لا بد أن يتساءلوا: ماذا يريد؟ إلا أن حسن البنا كان أذكى من أن يمكنهم

ص: 54

من هذا التساؤ. وكان هو البادئ: ماذا نريد، وفرق بين أن ينتظر الداعي حتى يُسْأَلَ، وبين أن يتولى هو عرض السؤال ثم الإجابة عنه. لا أقل من توفير الوقت، والحيلولة دون أن تتشعب التساؤلات.

رافقتُ الإمام الشهيد في رحلة الصعيد، واستمعت إليه في عدة محاضرات، فما رأيته كرر كلامًا بلفظه، كان يتصرف في التعبير ولا يتصرف في المعاني، يصوغ الشكل في القالب المناسب، مع المحافظة التامة على الجوهر، كان يستمع إليه - في وق واحد - المثقف ثقافة عالية، والمثقف ثقافة متوسطة، والعامل، والصانع، والفلاح، والمتحضر، والريفي، وكانت له قدرة عجيبة على أن يبلغ كلامه هؤلاء جميعًا، ويصل إلى عقولهم وقلوبهم جميعًا.

وهبطنا إلى بلدة «مشطا» مسقط رأس الأستاذ مختار عبد العليم المحامي بالإسكندرية. وكان لا بد أن يحاضر في فلاحي هذه القرية الكبيرة، الذين سمعوا بالرجل ولم يروه. وهرعوا من حقولهم وأكواخهم، والرغبة في مشاهدة الرجل أكبر من الرغبة في الاستماع إليه، وسرحت لحظات أفكر: ماذا يقول الرجل لهؤلاء الناس؟ إنهم بسطاء تعودوا - في سهرات رمضان - أن يصغوا إلى حامل الربابة يقص عليهم قصص سيف بن ذي يزن، وأبي زيد الهلالي، والزناتي خليفة، وسرعان ما زالت حيرتي، استطاع الرجل أن يسيطر

ص: 55

بأسلوبه الشيق، وكلماته الجذابة البسيطة على مسامع القوم. ضرب لهم الأمثلة لفكرته من واقع بيئتهم وأعمالهم، وأصغوا إليه إصغاؤهم لقصص الأبطال والفاتحين.

* * *

كانت مهمة حسن البنا تختلف عن مهمة الواعظ أو المصلح، فالواعظ يستطيع أن يوقظ النيام، والمصلح يستطيع أن يرسم الطريق، لكن مهمة حسن البنا - وإن كانت تجمع بين الاثنين، مهمة الواعظ ومهمة المصلح - إلا أن لها شأنًا آخر، هو عملية البناء ذاتها، لقد اضطلع الأفغاني بمهمة الواعظ الذي يوقظ الشعوب، ولقد اضطلع الإمام محمد عبده وغيره بمهمة المصلح الذي يرسم الطريق، والحق أن الجميع قد أدوا رسالة لا يمكن أن يتجاهلها التاريخ، لكنهم لم تسمح ظروفهم بأن يقيموا بناء كالذي أقامه حسن البنا: صَنَعَ لَبِنَاتَهُ بِنَفْسِهِ، وقام بدور المقاول والمهندس وصانع الأثاث، رَبَّى جيلاً من الناس غير متجانس، تتفاوت ثقافاته، وتتفاوت معارفه، ولكنه استطاع أن يوحد بين هذا الجيل غير المتجانس في الفكر والتفكير والعزائم والقدرات، أرسى فيه أولاً قواعد الفكر الإسلامي النظري، ثم هيأه للانتقال إلى مرحلة دروه العملي والتطبيقي.

كان للمصباح الذي حمله حسن البنا مهمته إرسال الأشعة إلى

ص: 56

العقول لتضيء، وإلى البصائر لتنتج، وإلى القلوب لتستجيب، وكان أن قامت رابطة بين الداعي الرائد، وبين الأتباع المريدين، أساسها العقل والبصيرة والقلب، وحدة في الفكر والنظر والشعور، ثم الثقة المتبادلة، والرأي المتبادل أيضًا، ولم يكن من أسس هذه الرابطة أو الوحدة، القداسة التي يضفيها المريدون على شيخهم في الطريق، أو الطاعة العمياء التي تتطوع بها الأحزاب السياسية لزعمائها، بل إن حسن البنا كان حتى آخر لحظة يعتبر نفسه مريدًا، والفكرة هي الرائد، وجنديًا والفكرة هي القائد. وبذلك كسب قلوب الجميع، واكتسب الجميع قلبه.

والذين يحلو لهم أحيانًا أن يلقوا على الرجل ظلاً من القداسة، أو بمعنى أصح - ظلاً من التقديس، لما كان أتباعه يحوطونه بالإجلال والتقدير. هؤلاء يتجاهلون قيمة الرجل في الزهد والتواضع، وإنكار الذات.

أذكر أنني كنت معه في إحدى الرحلات، وفي مدينة طما بالصعيد، كان السرادق يغص بأعيان البلد، ورجال الأحزاب، لم يكن في البرنامج أن أتكلم، ولكني فوجئت به عندما قام للحديث، يأخذ بيدي إلى المنصة، وكان مما قلته: إننا آمنا بدعوة الإخوان، وإيماننا بها مرتبط بالمبادئ وليس بالأشخاص، ولقد حببنا في هذه الدعوة

ص: 57

أننا لا نسمع هتافًا باسم شخص، كما يفعل أتباع الأحزاب السياسية، لأننا نعتقد أن هذه الدعوة ليست دعوة حسن البنا، وإنما هي دعوة الله في السماء، ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم في الأرض.

وما أن انتهيت حتى وقف الرجل يربت على كتفي، ويقول:«بَارَكَ اللهُ فِيكَ يَا فُلَانُ» .

وبعد انتهاء الحفلة، تنازع الأعيان كل يريد أن يستضيف الرجل في داره، ولكنه اعتذر للجميع، ووقف بنفسه يوزع الضيوف على منازل الإخوان، أما هو فقد اختار الزاوية، ليقرأ ورده من كتاب الله عز وجل. وأصر على ذلك، ورفض أي فراش يؤتى به إلى المصلى، وكان صيفًا. نام على الحصير وتوسد عباءته!.

* * *

ص: 58