الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّاكِثُونَ وَالنَّاكِصُونَ:
على مائدة الأستاذ مختار عبد العليم المحامي بالإسكندرية، وفي دارهم ببلدة مشطا محافظة سوهاج، جلست على يمين الإمام الشهيد .. وكان في ذهني شيء طالما تمنيت أن تتاح فرصة للإدلاء به إليه هَمْسًا دون أن يسمعه أحد - لا لأني كنت أخشى الجهر به على ملأ - ولكن لأن تصوري لهذا الشيء لم يكن مستقرًا في ذهني ..
قلت للإمام الشهيد هَمْسًا:
«إن الدعوات لا تقاس بمقياس الكم وإنما بمقياس الكيف .. وأرى أن الانضمام إلى الإخوان بلا قيود أو شروط، أعطى الفرصة لكل من هب ودب لكي يعلن انتسابه، وربما كان فيهم من بهرته أضواء الجماعة، وربما كان فيهم من طلاب المنافع .. وربما .. فماذا لو وضعنا ضوابط للذين يريدون الانتساب .. كأن نحدد لهم قدرًا من الثقافة الإسلامية يحملونه ويظلون زمنًا في إطار الانتساب وتحت الاختبار، ثم ينقل الصالح منهم إلى العضوية العاملة وابتسم الإمام الشهيد ، وقال:
يا فلان .. هل تريد مني ما لم يرده الله من أنبيائه ورسله وهم صفوة خلقه؟ إن هؤلاء - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ - لم يكلفوا البحث عن نوايا الناس، أو التنقيب في قلوبهم وصدورهم، ونحن مقتدون بأنبياء الله ورسله .. نحكم على الناس بظواهرهم، والله وحده هو الذي يتولى نواياهم وسرائرهم
…
يا فلان .. إن الابتلاء سنة من سنن الحق تبارك وتعالى جعلها لازمة للدعوات، ومن يدري فلعل هذه الدعوة تواجه مِحَنًا عَاتِيَةً، تعدون فيها الرجال على الأصابع .. !».
والتزمت الصمت في اقتناع ..
وواجهت الدعوة من المحن ما واجهت .. ولم أنس خلالها وحتى اليوم كلمات الرجل التي لا يزال رنينها في ذهني، وكنت أكثر تذكارًا لها حين كانت تشتد المحن وتتفاقم في القسوة والعنف، وكنت أحاول أن أتلمس عذرًا للناكثين الذين لم تسعفهم ظروفهم المعيشية أو ظروفهم الصحية، أو طاقات احتمالهم، كي يواجهوا المحنة أو يتذرعوا بالثبات على مبادئهم، بالرغم من أن دعوة الإخوان كانت صريحة معهم حين عرضت عليهم أو حين عرضوا هم أنفسهم عليها، وكانت صريحة معهم حين عايشوها وعايشتهم .. إنها لم تخدع
أحدًا ولم تغرر بأحد، ولم ينخدع إليها أحد، ولم يغرر بها أحد، كل شيء فيها واضح لا لبس فيه ولا غموض ..
أجل: كل شيء كان واضحًا للعيان، فالذين قبلوا الانضمام إليها عن رضى وطواعية قبلوا كل مبدأ من مبادئها قبلوا: أن الجهاد سبيلهم، وأن الموت في سبيل الله أسمى أمانيهم، ولم يدر بخلدهم إلا أن هذا المبدأ جاد لا هزل فيه .. ليس شعار تهتف الحناجر به، وليس مفهوم الجهاد - فحسب - أن نحمل سلاحنا لقتال الغاصب والمحتل، بل أيضًا أن نحمل إيماننا ونضع أرواحنا فوق أكفنا لنواجه الباطل والجور فاعتداء الغاصب والمحتل على الأرض، ليس أفدح خطرًا من اعتداء الطاغية والمستبد على الدين ..
لذلك كله كان الإمام الشهيد يقول:
ولذلك كله كان الإمام الشهيد يخاطب الشباب ويقول:
«على هذه القواعد الثابتة .. وإلى هذه التعاليم ندعوكم جميعا، فإن آمنتم بفكرتنا واتبعتم خطواتنا .. وسلكتم معنا سبيل الإسلام
الحنيف وتجردتم من كل فكرة سوى ذلك .. ووقفتم لعقيدتكم كل جهودكم .. فهو الخير لكم .. وسيحقق الله بكم - إن شاء الله - ما حقق بأسلافكم في العصر الأول .. وسيجدد كل عامل صادق منكم في ميدان الإخوان ما يرضي همته ، ويستغرق مدى نشاطه إن كان من الصادقين .. وإن أبيتم إلا التذبذب والاضطراب والتردد بين الدعوات الحائرة والمناهج الفاشلة فإن كتيبة الله ستسير غير عابئة بقلة ولا بكثرة .. وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم .. »
* * *
وحاولت جاهدًا أن التمس عذرًا - دون جدوى - للذين نكصوا .. أعني بهم الذين خذلوا الدعوة إبان محنتها أو أسلموها لأعدائها أو طعنوها من الخلف .. وقد كانوا في الدعوة إبان أمنها ملء أسماع الإخوان وأبصارهم وأحاسيسهم ومشاعرهم .. وقد أفادوا من الدعوة وأفادت الدعوة منهم - وهذا حق - وحق أيضًا. أنه لولا هذه الدعوة لظل معظمهم مغمورًا .. وقد تربع البعض منهم على كرسي الوزارة - وهذا حظه من الدنيا - إما لأنه أسهم في إيجاد الشرخ في جدار الدعوة وإما لأنه لديه استعداد لمساندة قوة الباطل على الدعوة ..
لم يكن منشأ هذا النكوص خلافًا في الرأي مع القيادة الجديدة للجماعة .. فقد اختلف الأستاذ مصطفى مؤمن مع الإمام الشهيد كما اختلف غيره لكن هذا الخلاف الذي أدى إلى اعتزال مصطفى مؤمن الجماعة لم يؤد به إلى إطلاق العنان لقلمه أو لسانه على الدعوة وقائد الجماعة والمقربين منه كما فعل هؤلاء الناكصون الذين أعنيهم ..
صحيح أن الأستاذ السكري وغيره حين اختلفوا مع الإمام الشهيد قد فقدوا أعصابهم وقبلوا على أنفسهم أن يسخروا أقلامهم لصحف الوفد - وهو يومئذ خصم للجماعة - لينالوا من الجماعة وقائدها .. لكن الفرق بين هؤلاء وأولئك أن السكري وفرقته فعلوا ما فعلوه والجماعة قائمة لها أقلامها وألسنتها التي كانت كفيلة بالتصدي لأي هجوم ثم إن خصومة الوفد القائمة على التنافس بينه وبين الجماعة كانت خصومة شخصية لم يكن هدف الوفد الدعوة الإسلامية ذاتها .. أما الناكصون فقد نكصوا والدعوة مقبلة على محنة وتفاقم نكوصهم والدعوة في أتون المحنة، والجماعة لا تملك ألسنة ولا أقلامًا تدافع بها عن نفسها، ثم إن الخصومة مع الدعوة لم تكن خصومة شريفة بل خصومة ضارية، دافعها، وهدفها الحركة الإسلامية ذاتها .. بل إن النفوذ الأمريكي كان عام 1954 هو المخطط
لضرب الحركة الإسلامية ومن خلفه وسائل الإعلام في الغرب الصليبي ..
بقي الذين شغلتهم أموالهم وأهلوهم ومناصبهم عن الدعوة .. وهؤلاء نسأل الله أن يهيدهم، ويعيدهم إلى الصواب، ويعيد الصواب إليهم .. فالحياة ليست أموالاً وأعمالاً ومناصب وأمجادًا - فحسب - بل هي عقيدة ومبدأ والإنسان لا يحيا بالمال والأهل والمجد وإنما بالعقيدة والمبدأ والعمل لهما والثبات عليهما .. !
* * *