الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-1 -
في البُحوثِ والمحاضَراتِ*
جامعة الدول العربية حصن من أكبر الحصون التي تسهر على حراسة حقيقة من أخطر حقائق وطنيتنا وهىِ "العروبة"، ومن الفيد - رغم تغير الظروف الآن - أن نتذكر أن هذه الجامعة قد أُنشئت أول ما أُنشئت بتشجيع دولة من أكبر دول الاستعباد الغربي - وهي إنجلترا - لأنها كانت تطمع وقتذاك في أن تجعل هذه المؤسسة تحت رقابتها ووصايتها، فتكون وسيلتها إلى السيطرة على العرب جملة، وبذلك تتحكم في التيار الجديد فترسم له المصارف والمجاري وتوجهه إلى حيث تريد، قبل أن يطَغى سيلُه فيحطم السدود ويجرفها ويجرف معها كل دول الاستعباد الغربي ويمحو كل أثر من آثاره. قدَّر الإِنجليز ودبروا ورسموا وخططوا، ولكن التيار كان أقوى من كل ما يدبرون. وأخذ سيل هذه القومية الجاري يشق لنفسه الطريق بعيداً عن الطرق التي رُسِمَت له من قبل بأيد غير أيدي أبنائه، وأصبحت القومية العربية حقيقة واقعة ولم تعد حلمًا ولا أملًا. أصبحت حقيقة تعترف بها حكومتا مصر وسوريا في دستور كلٍّ من البلدين، وها هو ذا تيارها يجري إلى مستقره بأسرع مما كان يحلم أكثر الناس تفاؤلاً. وهي بعد ذلك حقيقة واقعة مقررة عند الشعوب العربية كلها على اختلافها وعلى اختلاف ميول حكامها. وهذا التطور الجديد يزيد جامعة الدول العربية أهمية، ويجعلها الآن أهم مما كانت في أي وقت مضى منذ ظهرت للمرة الأولى في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لذلك كان من المهم أن نستوثق
(*) نشرت في عددي شعبان ورمضان 1377 من مجلة الأزهر.
من أن هذه المؤسسة قد تخلصت من كل آثار ماضيها. وأصبحت تعمل بغير العقل الذي كانت تعمل به يوم كان الاستعباد الغربي من ورائها، ومن وراء أصدقائه فيها.
وليس من شأني الآن، وليس من شأن هذه المجلة التي أكتب لها، أن أتناول الجانب السياسي من جامعة الدول العربية، ولكن الذي يعنيني الآن هو الجانب الثقافي، وهو جانب شديد الاتصال بالسياسة على غير ما قد يبدو للخاطر الأول، بل هو أخطر أثراً في التوجيه السياسي، لأن آثاره أعلق بالنفس، وهي لذلك أدوم في الجيل المعاصر وأبقى في الأجيال التالية، ولأنه يعمل في خفاء قد يبعده عن أعين الرقباء من رجال السياسة الذين قد لا يُولُونه من الاهتمام القدر الذي يستحقه، وقد لا يتنبهون إلى أن من الممكن دائمًا تمييز سماسرة الاستعباد على اختلاف ألوانهم ونزعاتهم من لون الثقافات التي يروِّجونها والتي يدعون إليها، فهي العملة التي يمكن أن يُستَدَل منها على المموِّل، والخاتم الذي يحمل اسم المصنع.
وسوف أتناول في حديثي هذا اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية كما تبدو من مطبوعاتها الوافرة الغزيرة، وهي اللجنة التي كان يشرف عليها أحمد أمين، ثم ورثها طه حسين بعد وفاته، وسأقسم منشوراتها إلى ثلاثة أقسام:
1 -
البحوث والمحاضرات.
2 -
الكتب المترجمة.
3 -
المؤتمرات.
وأنا أعجِّل بتقديم النتيجة التي انتهيت إليها من بحث أعمال هذه اللجنة الثقافية ليضعها القارئ نصب عينيه على طول هذا المقال. هذه اللجنة كانت - ولا تزال - تنظر بغير عين العرب وتعمل بغير عقل العرب، وتهدف إلى غير أهداف العرب. إنها لا تزال كما كانت يوم أنشأها الذين كانوا يحرصون على أن يكون العرب ذيلًا لدول الاستعباد الغربي، لا يرون الأشياء إلا كما يراها الغربي، ولا يتذوقونها إلا كما يتذوقها، ولا يقدِّرونها إلا كما
يقدرها، إنها لا تزال تعمل على ما يسميه دهاقنة الاستعباد الغربي (Westernization) أي (التغريب). ويُقصَد به طبع العرب والمسلمين والشرقيين عامة بطابع الحضارة الغربية والثقافة الغربية، مما يساعد على إيجاد روابط من الود والتفاهم بين الحمار وراكبه، وهي روابط تفيد الراكب دائمًا ولا تفيد الحمار! وذلك هو ما تهدف إليه كل الجماعات التي من نوع (أصدقاء الشرق الأوسط) الآن، أو (الصداقة الانجليزية المصرية) و (الصداقة الفرنسية) سابقاً. وهذا الذي يسميه الاستعباد الغربي (تغريباً) هو ما يسميه سماسرة ذلك الاستعباد وصنائعه (تطويراً). وهو ما يعنونه حين يتكلمون عن (بناء المجتمع من جديد). فالذين يتكلمون عن بناء المجتمع من جديد، أو بناء المجتمع الجديد، يعرفون أن مشروعهم هذا يشتمل على خطوتين: الخطوة الأولى هي هدم (القديم) والخطوة الثانية هي بناء ما يتوهمونه من (الجديد). وهم ماضون في الهدم، لا يرضيهم إلا أن يأتوا علي بنياننا من القواعد، بما يتضمنه من دين وتقاليد وفنون وآداب، ولكنهم سوف يعجزون عن البناء، سيهدمون مجتمعنا ثم يتركونه وسط أنقاض نظامه القديم في فوضى لا سكن فيها ولا قرار. وبوادرُ هذه الفوضى وأعراضها ظاهرة لكل ذي عينين. ذلك لأن المجتمعات لا تبنى في يوم وليلة، ولكنها تبنى في مئات السنين، ولا تبنى في صحف مُنَشَّرة أو قاعات مُغَلَّقة، ولكنها عملية معقدة أشد التعقيد تتفاعل فيها قوى المجتمع كله، ويستمر هذا التفاعل أجيالًا تتمخض عن هذه القواعد وهذه الأشكال، بما تتضمنه من التقاليد والقوانين وأساليب الذوق والتفكير.
ولأكتف بهذا القدر الآن لأشرك القارىء معي في استعراض نماذج من نشاط هذه اللجنة الثقافية، ولنبدأ بالقسم الأول، الذي يتمثل في البحوث والمحاضرات. وليس من المستطاع في هذا المقال المحدود أن أعرض هذا النشاط في جمل مطبوعاته، ولذلك سأكتفي بتقديم نموذج منه في واحد من كتبه، وليكن هذا الكتاب هو الجزء الثاني من (العالم العربي - مقالات وبحوث) الذي نشرته الادارة الثقافية سنة 1953 مصدراً بمقدمة لأحمد أمين رئيس هذه الإدارة وقتذاك. وسأكتفي - على سبيل المثال، ورغبة في الاختصار - من هذا
الكتاب باستعراض مقالين طويلين، أحدهما للدكتور كامل عياد عن (مستقبل الئقافة في المجتمع العربي ص 143 - 167) والآخر للدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري عن (القانون المدني العربي ص 5 - 29).
أما المقال الأول (مستقبل الثقافة في المجتمع العربي) - وهو مقال طويل يشغل خمساً وعشرين صفحة - فيبدو من عنوانه أن صاحبه يعارض كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) لطه حسين. والوأقع أنه لا يعارض الكتاب في عنوانه فحسب، ولكنه يعارضه - كما سنرى - في أسلوبه الفكري أيضاً، ويتفوق عليه في جرأته على الدين وإسرافه في إنكار ما وراء المادة المحسوسة الملموسة من عالم الغيب، ومحاربة كل مواريثنا الدينية والأدبية والاجتماعية على الإِطلاق. وهو يبني تفكيره على وهم خاطئ جعله أساساً لكل ما بناه عليه من الأباطيل، فقد زعم - أو توهم - أن (الروحانية) التي يصف بها كتّابُ الغرب وباحثوه ثقافتنا الشرقية إنما يقصد بها صرفنا عن اللحاق بهم. لأن هذه الروحانية (تستند إلى العاطفة والوجدان، وتتعارض مع التفكير العقلي القائم على المشاهدة الحسية والتجربة العلمية والنظرة الموضوعية. وعلى كل حال فإِنما القصد هو إظهار الفرق بين الغربيين والشعوب الأخرى. ثم في ضع هذه الشعوب إلى التمسك بعاداتها وتقاليدها وطرائق تفكيرها القديمة، لئلا تقتبس الحضارة الحديثة وتسعى للتحرر من سيطرة الغربيين - ص 149). وقد بني زعمه هذا على واقعة شهد فيها مندوباً من مؤسسة روكفلر الأمريكية يزور الجامعة السورية بدمشق، وقد تلكأ هذا المندوب ولاذ بمختلف المعاذير حين أعربت له الجامعة عن حاجتها إلى بعض المخابر والأجهزة العلمية، ولكنه لم يلبث أن أظهر البشاشة ولم يتردد في قطع الوعود بالمساعدة حين انتقل الحديث إلى إنشاء معهد لدراسة التصوف الإِسلامي. والواقع أن كاتب المقال لم يحسن فهم دلالة هذه الواقعة، ولم يكن على صواب في استنباط ما استنبطه منها. فليس صحيحاً ما زعمه وما استنبطه من أن دول الاستعباد الغربي تريد أن تصرف الناس في مستعبَداتها عن اقتباس الحضارة الغربية. ليس ذلك صحيحاً على إطلاقه. فمن الثابت المؤكد أنهم عملوا على نشر مساوئ حضارتهم التي تتضمن جانب الترف والتفنن في المتع والملذات، وفي وسائل التسلية
وتزجية الفراغ. ومن الثابت المؤكد أنهم بذلوا جهوداً شاقة لتحويل المسلمين عن إسلامهم إلى ثقافة الغرب، وجرهم إلى هذا التيه من الآراء المختلطة المتناقضة باسم العلم وحرية التفكير. ومجهوداتهم في هذا السبيل مشهورة معروفة في شمال افريقيا وفي الهند وفي كل مكان حلّوه - ولا أستثني من ذلك مصر، وذلك هو ما يسميه كتابهم بالـ (Westernization). ولا يزال ماثلاً في الأذهان، أن من أول ما اشترطته فرنسا لإِعادة علاقاتها مع مصر في المفاوضات الدائرة الآن إعادة مدارسها ومعاهدها. فهل يفهم الناس معنى ذلك؟ إذا لم يفهموه فها هو ذا نص واضح لا يحتاج إلى تأويل، هو ترجمة لما جاء في تقرير اللورد كرومر واضِع أسس الاستعباد الإِنجليزي في مصر، بمناسبة تعيين سعد باشا زغلول وزيراً للمعارف سنة 1906.
يقول كرومر، بعد كلام طويل عن الوطنية - المصرية وصف في ختامه المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها سعد زغلول، والتي سمَّاها على سبيل الاختصار. مدرسة الشيخ مُحَمَّدْ عبده، بأن برنامجها يقوم على (التعاون مع الأوروبيين - لا على معارضتهم - في إدخال المدنية الأوروبية إلى بلادهم)، ونصح بأن يُمنحوا كل تشجيع ممكن. يقول كرومر بعد ذلك: إن اختيار سعد زغلول لمنصب وزير المعارف ليس إلا تنفيذاً لسياسة ترمي إلى تأييد هذه المدرسة، ووضع مقاليد السلطة في يدها. ثم يقول عقب ذلك ما نصه: (وسوف نراقب ما تتمخض عنه هذه التجربة من آثار في عنايةٍ وانتباه. فإِذا نجحت التجربة، وذلك ما آمله وما أعتقده، فسوف نمنح قدراً أكبر من التشجيع للسير في الاتجاه نفسه إلى مدى أبعد. أما إذا فشلت التجربة، فستكون النتيجة الحتمية لذلك هي الاعتماد في شؤون الإِصلاح على الأوربيين - وعلى الإِنجليز خاصة - إلى مدى أكبر مما جرى عليه العمل سابقاً. وأيةً ما كانت الحال فلن يكون هناك سبيل إلى التراجع. إن العمل يسير بجد ونشاط في إدخال المدنية الغربية إلى مصر، وهو يأخذ طريقه بتقدم ونجاح في كل إدارة من إدارات البلد، حسب خطة مرسومة وضعت خطوطها بعد دراسة للموقف. تقوم على التطور والتدرج، لا على الانقلاب العنيف والتغيير المفاجىء - الفقرة الثالثة من تقرير سنة 1906 ص 8 من النسخة
الإِنجليزية). ولو شئتُ لقدَّمت كثيراً من الأمثلة التي تدعم هذا النص الذي قدمته، ولكني أظن أن فيه الكفاية لإِثبات ما بذله الاستعباد الغربي في سبيل نشر أسوأ ما في حضارته وإحلاله محل الإِسلام في كل مُسَتعبداته، يسمون صنيعهم هذا "نشر الحضارة" ويزعمونه "رسالة الرجل الأبيض" التي لا يملون من الحديث عنها. ولكن الذي حالوا بين الناس في مستعبداتهم وبين الوصول إليه هو الأخذ بأسباب القوَّة، أو بعبارة أخرى الجانب المثمر المفيد من هذه الحضارة.
أما الروحانية التي يحاربها الكاتب عن جهل، لأنه يزعم أن الاستعباد الغربي يشجعها فهي شيء آخر غيُر الصوفية التي جاء ذكرها في قصة مندوب روكفلر مع الجامعة السورية. فالصوفية مذهب غير إسلامي في كثير من تفاصيله وشطحاته وتقاليده ونظمه الدخيلة، وخوضه فيما نهى الإِسلام عن الخوض في تفاصيله، أو هو يبدو كذلك فيما هو مشهور عن كثير من فرقه التي تدعو إلى سلبية يائسة مستسلمة تعارض روح الإِسلام معارضة صريحة. وهو شيء آخر غير الزهد الذي عُرِف عن بعض الصادقين من الصالحين في صدر الاسلام خاصةً وفيما تلا ذلك من العصور.
أما الروحانية فإِذا قصد بها نفيض المادية التي يدعو إليها الكاتب في مقاله، فلا شك أن كل الأديان روحانية، لأنها تؤمن بالروح وبالغيب وبالثواب والعقاب وبما وراء المحسوس الملموس.
وكاتب المقال لا يفرق بين الثقافة التي تتصل بالجانب الروحي والخلقي والديني من الإِنسان، وبين العلم الذي يتصل بالجانب العقلي والمادي منه. ولذلك فهو يقول: لا بد لنا من الاعتراف بأن تقاليدنا لا تتعارض مع الاقتباس من الثقافة الحديثة السائدة في الغرب. وفي الحقيقة، إذا تركنا الحافظين في بعض الأقطار العربية - وهي فئة قد أصبحت لحسن الحظ قليلة العدد - فإِننا لا نجد اليوم بيننا من ينكر ضرورة هذا الاقتباس. وإنما هناك فئة تسمي نفسها بالمعتدلة تريد أن يقتصر الاقتباس على محاسن الحضارة الغربية، وعلى تلك النواحي من ثقافتها التي تتلاءم مع خصائصنا وتقاليدنا وعاداتنا. ونقطة الضعف في هذا الرأي هي الصعوبة في تحديد
الصفات والتقاليد والعادات التي نختص بها ويجب أن نحافظ عليها، ثم الاختلاف حول المعيار الذي يميز المحاسن من المساوئ - ص 151). فالكاتب هنا ساخط أشد السخط على المحافظين. ويسره جداً أن عددهم يتناقض بيننا اليوم، بل هو ساخط على المعتدلين الذين يدعون إلى التمييز بين الضار والنافع، لأنه يريد فيما يبدو أن ننقل الحضارة الغربية (خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يَحُبُّ منها وما يكره، وما يحُمدَ وما يعاب) كما يقول صِنْوُه طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) في الفقرة 9 من كتابه. ومن الواضح أن هذا التصور الخطر لاقتباس حضارة الغرب ناشئ من عدم التفريق بين العلم والثقافة.
فالعلم - والمقصود به في الاصلاح الأوروبي (Science) هو الرياضة والعلوم التجريبية - يتصل بالملموس المحسوس الذي أثبتته التجربة وتستطيع أن تعيد إثباته في كل زمان ومكان، أو هو يتصل بالمنطق العقلي الذي تشترك كل العقول البشرية في إدراكه على وجه القطع واليقين مثل علوم الرياضة. وكلها مما يشترك في إدراك حقائقه كل الناس بقدرٍ واحد لا خلاف فيه، ويمكن إعادة تجاربه ومراجعتها والاستيثاق من صحتها والانتفاع بنتائج تطبيقها على اختلاف الأزمنة والأمكنة. أما الثقافة فهي تختلف باختلاف الأجناس والبيئات والأديان حسب حكمة الله سبحانه، الذي جعل لكل أمة مَنْسَكاً هم ناسكوه، والذي جعل لكل جماعة شرعةً ومنهاجاً، والذي جعل الناس شعوباً وقبائل ليتنافسوا في الخير وليتبادلوا العلوم والمعارف، والذي جعلهم أمماً ولو شاء لجعلهم أمة واحدة. والثقافة لا تتصل بالمحسوس اللموس أو المعقول المشترك كما هو الشأن في العلم، لأن بعض عناصرها يتصل بقِيَم الخير والشر، والجمال والقبح، والحق والباطل، وهي جميعاً تعتمد على ما وراء المادة من الغيب الذي لا تتفق عليه العقول ولا تدركه الأفهام ولا تشمله التجربة ولا يتطاول إليه الفكر. فهناك خلاف واسع في تقدير الخير والشر بين الكافر الذي يقول:(ما هي إلا حياتُنا الدنيا نموت ونَحْيا وما يهُلِكنا إلا الدهر) وبين المؤمن الذي يراقب في أعماله ثواب الله سبحانه وعقابه في الدار الآخرة. فبينما يرى الأول أن حرمان النفس مما تشتهيه - كلِّ ما تشتهيه - ضرب
من الحماقة ليس له ما يبرره، يرى الآخر أن الإِدمان على الشهوات هو عين الحماقة وقصر النظر. والمتدين يرى التفريط في العرض والعفاف شراً، بينما يراه الوجودي مثلاً حماقة. والمتديّن يرى ضبط النفس فضيلة، بينما يراه الفرويدي شرا بسبب الكبت الذي يورث في زعمه أمراض النفس. والمسلم يرى اللص والقاتل مجرماً تجب عقوبته والاقتصاص منه، والمتفرنج الذي يعقل بأذنيه ويقلد تقليد القرود يراه مريضاً خليقاً بالعطف. والتدين يرى صورة المرأهَ العارية قبيحة، لأنه يرى معها قبح نفس صانعها ودَنَس شهوته التي تخالط صنعته فتنفر منها نفسه، وقد يراها غير المتدين جميلة، لأنه لا يرى إلا مفاتنها، ولأنها تخاطب شهواته وحواسه وحدها ولا تخاطب ضميره وخلقه، أو هي تخاطب منه ضميراً وخلقاً يخالف ضمير المتدين وخلقه على الأصح. وقيل مثل ذلك في كل ما يتصل بالخير والشر، والجمال والقبح، والحق والباطل. فهذا الذي يدعو إليه الكاتب، ويدعو إليه طه حسين وأضرابهُما من المتفرنجين، الذين يَدعون إلى انتحال ثقافة الغرب بغير نقد أو تمييز، لا شك أنه كما وصفه مصطفى صادق الرافعي رحمه الله:(نوع من المشاكلة بيننا وبينهم، ووجهٌ من التقريب بين جنسين يعين على إندماج أضعفهما في أقواهما. ويضيِّق دائرة الخلاف بينهما. ثم هو من أين اعتبرته وجدت فائدته للأوروبيين أشبه بتليين اللقمة الصلبة تحت الأسنان القاطعة. وهل نسي الشرقيون أنه لا حجة للغرب في استعبادهم إلا أنه يريد تمدينهم - وحي القلم 3: 205).
في حضارة الغرب مواضع للقوة كانت سبب مجده وسيادته وتفوقه، ولكن فيها مواطن للضعف تحمل جراثيم موته، وقد كانت سبباً فيما اعتراه أخيراً من مظاهر الانحلال التي تصور أنه يسير في طريقه إلى الدمار والانهيار. فإِذا كان مفهوماً أن ننقل النافع الذي كان سبباً في مسجد الغرب، فكيف نفهم الدعوة إلى نقل الضار وقد كان سبباً في الخراب، الذي تبدو طلائعه لكل ذي بصيرة؟
يزعم الكاتب أن من غير الممكن اقتباس صناعات الغرب الآلية دون ثقافته. ويدَّعي أننا (لا يمكننا أن نتقدم في الصناعة الآلية
…
دون نشر هذه الثقافة بين الشعب على أكبر مقياس ممكن) وأنه (لا فائدة في أن يصبح العامل
قادراً على استخدام آلة تعادل قوتها 240 من العبيد، إذا ظل هو نفسه خاملاً بليداً عاجزاً عن التفكير الذاتي وعن النقد، لا يستطيع تمييز الأخبار الصحيحة من الكاذبة، وينقاد إلى الِإيحاء والتضليل ولا يسيطر على أهوائه ونزعاته البدائية- ص 165)، والدين هو المقصود بكل هذه الإِشارات الأخيرة. ولست أدري إلى أي شيء قد استند الكاتب فيما يزعمه من أننا لا نستطيع الاستفادة من تجارب الغرب في التفوق الصناعي الآلي إلا إذا نقلنا ثقافته، أي أننا لا نستطيع - في زعمه ووهمه - أن ننقل الصناعة وحدها دون الإِلحاد والمادية والدعارة والانحلال التي تنطوي عليها حضارة الغرب اليوم، والتي يضج منها عقلاؤه ومصلحوه، والتي ستنتهي حتمًا إلى زوال أصحاب هذه الحضارة في القريب العاجل. هذا زعم عجيب، هو مجرد ادِّعاء لا يقوم عليه دليل، بل إن ألف دليل ودليل من الواقع ومن التاريخ ومن العقل يقوم على عكسه. وإذا كان هذا الكاتب الذي ينطق بلسان ببغاء لا يدرك أن ثقافة الغرب ومدنيته التي يطالبنا بنقلها. قد دخلها من الفساد ما هو خليق أن يجر الغرب كله إلى كارثة تقضي عليه، وتُلحقه بالبائدين ممن حق عليهم القول فدُمِّروا تدميراً، وإذا كان هو وأضرابه لايصدِّقون إلا ما يجيء من الغرب، ولا يرون صواباً إلا ما رآه كُتَّاب الغرب، فليقرأ ما كتبه المؤرخ الإِنجليزي المعاصر آرنولد توينبي (Arnold Toynbee) في كتابه (الحضارة في الميزان " Civillization on Trial ") وفي كتابه (الحضارة والغرب " and the west Civillization") ليرى حكمه على حضارة قومه بأنها في النزع الأخير، وأنها تمر بمثل المرحلة التي سبقت سقوط الدولة الرومانية.
وكاتب المقال لا يعترف بأن لنا عادات خاصة ومقومات تميزنا عن غيرنا بوصفنا أمة من الأمم، لأنه يتساءل (هل يكفي أن تستمر بعض التقاليد والعادات مدة عصر أو عشرة عصور حتى تصبح جزءاً لا ينفصل من تراثنا ينبغي التمسك به؟ ص 152). والواقع أن هذه التقاليد التي يدعو الكاتب وشيعته إلى نبذها وهدمها هي التي تمسك المجتمع وتشده، لأن سلطانها فوق سلطان القانون. والدليل على ذلك أن كثيراً من الناس يرتكبون جرائم القتل التي تعرِّض رقابهم لحبل المشنقة، ولا يبالون سلطان القانون، وذلك تحت ضغط التقاليد وسلطانها القاهر، فهم يرون عقوبة القانون التي تهدد حياتهم
أهون من العار الذي يلحقهم من خرق التقاليد. هذا السلطان القاهر للتقاليد هو الذي يمسك المجتمع ويشد بعضه إلى بعض، لأنه يكوِّن أشكالًا ثابتة من الصلات والروابط، يلتقي عندها الناس على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم وأنواعهم. ومن المسلم به عند كل الباحثين - حتى الماديين منهم - أن أعمق التقاليد جذوراً وأعظمها سلطاناً هو ما كان مستمداً من الدين. فإِذا هدمنا هذه التقاليد على ما يريد الكاتب وأمثاله، فأي شيء يغني غناءها ويقوم مقامها؟ وأية سلطة تمسك المجتمع عند ذلك وتمنعه أن يتفتت ثم يزول وينهار؟.
لا يعترف كاتب المقال بغير الجانب المادي من الحياة، فنظرته مادية خالصة، واقتباساته كلها من مفكري الغرب المعروفين بنزعتهم المادية. وبعض هؤلاء الذين يقتبس منهم - مثل نيتشه - قد اعترف اليهود في خطتهم المشهورة ببروتوكلات صهيون، بأنهم هم الذين نشروا آراءهم وروجوها بين الناس لإِفساد عقائد غير اليهود ومجتمعاتهمِ. لا يرى كاتب المقال الأديان إلا أوهاماً وخرافات وأساطير. ولا يمجد شيئاً إلا العلم المادي الحديث الذي أوجد عصر الآلة الذي نعيش فيه. فإِليه يرجع الفضل - حسب ما يتوهم - (في تحرير البشرية من الضلال والأوهام والخوف
…
ولا شك في أن أبرز أثر له هو تغييره لتفكير الإنسان. فإِن طريقة البحث العلمي جعلتنا نؤمن بالعقل، ولا نتقيد إلا بالواقع الذي تدركه الحواس ولا نقبل بشيء (كذا)(1) لا تؤيده التجربة. وتقتضي هذه الطريقة التحرر من العقائد الغيبية السحرية، ومن الأوهام والأحكام السابقة. وهي تفرض علينا المشاهدة الموضوعية، والملاحظة المضبوطة والقياس الدقيق والتجرد من العواطف والتمسك بالحياد - ص 164). وواضح من كلامه هذا أنه لا يَعتدُّ بالدين كله، لأنه يقوم على الايمان بالغيب، وهو لا يؤمن إلا بالمشاهد الملموس، ويرى أن ذلك من مزايا العلم التجريبي الحديث الذي حررنا - حسب زعمه - من الضلال والأوهام والخوف.
(1) يريد أن يقول (ولا نقبل شيئاً لا تؤيده التجربة). وإقحام حرف الجر على العبارة من فساد ذوق الكاتب. وهو دليل على أنه غريب بين قومه في تفكيره وفي لغته وتعبيره على السواء
فالأديان كلها عنده ضلالات وأوهام، كان الناس يخضعون لما تخوفهم به من العذاب، ثم تحرروا من هذا الخوف، ولم يعودوا يخافون العذاب الموهوم الذي زعمته هذه الأديان. هل هناك هدم أصرح من هذا؟! وهل لا يعرف المسكين أن العلم التجريبي محدود الميدان والمدى لا يتناول إلَّا المدرك المحسوس؟ والمدرك المحسوس أقل بكثير مما لا يخضع لحسنا وإدراكنا، بل هو لا يقاس إليه ويعتبر كأنه ليس شيئاً مذكوراً إلى جانبه وقد أدرك العلم الحديث نفسُه - الذي يتمسح به الكاتب - ذلك، فعرف أن الموجات التي تدخل في مدى إدراكنا الحسي ليست إلَّا شيئاً ضئيلاً تافهاً بالقياس إلى المعروف منها فضلاً عن المجهول. ومن المعروف أن الكلاب والخيل وكثيراً من الحيوان - الأليف منه والوحشي - تدرك ما لا ندركه. ولا نزال نعتمد على الكلاب خاصة ونستعين بها مستغلين اتساع مدى هذا الإِدراك فيها.
ولا يزال علماء الفلك يقفون مشدوهين أمام ذلك الفضاء الغامض الذي لا يعرفون مقاييسه وأبعاده إلَّا ظناً (ورجماً بالغيب)، كلما زادوه تأملًا انقلب إليهم البصر (خاسئاً وهو حسير) بل إن بعض ما يستنتجونه في هذا الباب أدعى إلى الحيرة من الجهل به. فهم يقدرون أن بعض النجوم - أركتورس مثلاً - تبعد عنا ثلاثين سنة ضوئية. ومعنى هذا أن ذلك النجم الذي نراه الآن لا نراه كما هو الآن، ولكنا نراه كما كان منذ ثلاثين سنة، لأن الشعاع الضوئي الذي يصل إلى أبصارنا منه الآن هو الذي انبعث منه قبل ثلاثين سنة. ومعنى هذا أيضاً أن من الجائز أن يكون ذلك النجمُ الذي يبدو لأنظارنا الآن غيرَ موجود الآن في حقيقة الأمر، الآن رؤيتنا له لا تُثبِت إلَّا أنه كان موجوداً عندما انبعثت منه الأشعة الضوئية التي وصلت إلى عيوننا. وهذه لم تنبعث إلَّا منذ ثلاثين سنة. وما ينبعث منه الآن لا يصل إلى أبصارنا إلا بعد ثلاثين سنة، أي أنه لا يمكن التأكد من أن ذلك النجم موجود الآن إلَّا بعد ثلاثين سنة). ويقدر الفلكيون أن بعض المجرات يبعد عنا ملايين السنين الضوئية، ومئات الملايين (1) أليس هذا العلم أدعى إلى الحيرة من الجهل،
(1)(العالم وأنيشتين) تأليف لنكولن بارنت وترجمة البرقوقي ص 52، (مع الله في السماء) تأليف الدكتور أحمد زكي ص 252.
وأدق إلى أن يكون تعبيراً عن جهلنا وقصورنا؟ ثم أليس يدل هذا ومثله - وهو كثير في علم الفلك خاصة - عام ضآلة مدى العلوم التجريبية من ناحية، وعلى صعوبة إدراك حقائق الأشياء الأصيلة من ناحية أُخرى؟ إن العقل يستطيع أن يوصلنا إلى تسخير بعض الظواهر والطاقات وتطويعها لمصلحتنا، ولكنه لا يوصلنا إلى حقائق هذه الظواهر والطاقات. أليس الكفر بالله وبالأديان، نتيجة لهذا القليل الذي أتيح لنا الوصول إليه، من آثار الكشوف الأخيرة، لوناً من البَطَر ومن الغرور الذي يدرك ضعاف النفوس حين يصيبون حظاً قليلاً من النعمة أو القوة، فيظنون أنفسهم أرباباً ويظنون أنهم يستطيعون كل شيء؟
حقيقة الأمر في هذه العلوم التجريبية أنها مفيدة في ميادينها المادية فحسب، ولكنها غير صالحة لأن تعالج عالم المجرَّدات الذي لا يخضع للحس لأنه لا يخضع لتجاربها. وذلك هو ما يسميه الإِسلام عالم (الغيب) أي ما غاب عن الحس. ونحن مكلفون فيه بأن نؤمن بما جاء به الدين، لأنه هو السبيل الوحيد إلى معرفته وإلى تحديد موقفنا منه وما فيه فائدتنا بالقياس إليه. فميدان الدين إذن غير ميدان العلم التجريبي. فالأول يستأثر بعالم الغيب، ويدبر شؤون حياتنا على أساس الصلاحية لما بعد هذه الحياة، مما لا يتعارض مع مصالحنا في هذه الدنيا. والثاني لا يتعدى عالم الشهادة، أي ما يخضع للمشاهدة والحس. والمفروض مع ذلك أن الِإدراك الصحيح لحقائق المشاهد الملموس يهدينا إلى ما ينطوي عليه من نظام دقيق معجز، كما يقودنا إلى إدراك عجزنا أمام كثير جداً من المعضلات، وهو عجز لا مفر معه من اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى. وليت كاتب هذا المقال وأمثاله يقرؤون قول كبير من رجال العلم المظلوم. الذي يحمِّلونه أوزار كفرهم وضلالاتهم. ليته يقرأ قول أنيشتين: (إن أجمل الأحاسيس وأعمق العواطف هي تلك التي نتعرض لها عند بحث الخفايا، لأنها تؤدي إلى العلم الحقيقي. وكل من ينكر هذه الأحاسيس، ولا يتعرض للدهشة أو للرهبة، فإِنه يعتبر في عداد الأموات. والمؤمنون هم الذين يعلمون أن هناك أشياء تخفى على علمهم. وهذا هو غاية الحكمة، وأقصى درجات الجمال المشع التي تستطيع حواسنا القاصرة إدراكها
- العالم وأنيشتين ص 115). وليته يقرأ قول نيلز بوهر: (إن الناس إما ممثلون أو متفرجون في تمثيلية وجودهم. فالإِنسان هو نفسه أكبر أعجوبة غامضة في الحياة، فهو لا يدرك الكون الغامض الذي يعيش فيه، لأنه لا يدرك كُنْهَ نفسه. فهو لا يعلم إلَّا القليل من أمر العمليات العضوية في جسمه. ويعلم الأقل من ذلك في شؤون عقله وقدرته على فهم الدنيا التي تحيط به. بل إن قدرته محدودة في التعليل وفي التخيل. بل إنه يكاد يكون عاجزاً عن فهم أنبل وأعجب خصائصه، ألا وهي قدرته على السمو بنفسه وإدراك كنهها في عملية التصور والتخيل - الكتاب السابق ص 127). ليته يقرأ ذلك - وغيرُه كثير - ليعلم أن الكفر بالغيب ليس ثمرة المعرفة ولا ثمرة العلم، ولكنه من آفات القليل من المعرفة والقشور من العلم.
هذا هو أحد النموذجين اللذين أردت تقديمهما لتصوير ما تنشره الإِدارة الثقافية بجامعة الدول العربية من بحوث ومقالات. أما النموذج الآخر فهو بحث الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري أو مقاله عن "القانون المدني العربي ص 5 - 29".
يدعو السنهوري في مقاله هذا - إلى توحيد القانون المدني في سائر البلاد العربية، فيستثني من ذلك الحجاز واليمن -، لأنهما يلتزمان الشريعة الإِسلامية، (إلى أن يحين الوقت الذي تتمكن فيه من المشاركة في حركة التقنين المدني العربي- ص 8). ويقول بعد ذلك: إن التقنين العربي يتنازعه تياران، أحدهما بمثل في القانون المصري، وهو تيار غربي خالص أو يكاد، والآخر يمثله القانون العراقي الحديث، وهو يمزج بين الشريعة الإِسلامية والقوانين الغربية. ويُدخِل في القسم الأول الذي يصفه بأنه (ينتمي إلى الثقافة المدنية الغربية). . مصر وسوريا ولبنان ؤتونس والجزائر ومراكش، بينما يُدخِل في القسم الثاني العراق والأردن وفلسطين.
وهو يصف القانون المدني الجديد في مصر بأنه قد جعل للشريعة الإِسلامية بعض الاعتبار. ولكنه يعترف بأن (المشرِّع المصري بالرغم من كل ذلك لم يخط خطوة حاسمة في جعل القانون المدني مشتقاً في مجموعه من الفقه الإِسلامي). ويعتذر عن ذلك بأن المشرع المصري قد أخذ بأسباب الأناة
والتبصر (وتربص حتى يأخذ الفقه الإِسلامي بأسباب التطور - ص10). ثم يعود فيؤكد أن هذا القانون (يمثل أصدق تمثيل الثقافة المدنية الغربية في العصر الذي نعيش فيه - ص 15).
أما القانون العراقي فهو يتميز عنده بأنه (أول قانون مدني حديث يتلاقى فيه الفقه الإِسلامي والقوانين الغربية الحديثة جنباً إلى جنب بقدر متساو في الكم والكيف- ص 18). وهو يرى أن هذه التجربة (من أخطر التجارب في تاريخ التقنين الحديث). لأن وضع نصوص الشريعة الإِسلامية إلى جانب النصوص الغربية قد (مكن لعوامل المقارنة والتقريب من أن تنتج أثرها، ومهّد الطريق للمرحلة الثالثة والأخيرة في نهضة الفقه الإِسلامي، يوم يصبح الفقه مصدراً لأحكام حديثة تجاري مدنية العصر وتساير أحدث القوانين وأكثرها تقدماً ورقياً .. ص 19).
وهو يقدِّر (بعد أن أصبح الفقه الإِسلامي والقانون المدني الغربي جنباً إلى جنب في صعيد واحد، أن يتكامل القانونان وأن يتفاعلا، هذا يؤثر في ذاك وقد يتأثر به. ومن ثم تقوم نهضة علمية حقة لدراسة الفقه الإِسلامي في ضوء القانون المدني الغربي. وهذه الدراسة هي التي قصدت أن أصل إليها، حتى إذا آتت ثمارها وتقدمت دراسة الفقه الإِسلامي إلى الحد الذي يجعله مصدراً لقانون مدني يجاري مدنية العصر ويساير ثقافة الجيل، عند ذلك نكون قد بلغنا المرحلة الثالثة والأخيرة، ويتحقق ببلوغنا هذه المرحلة الهدف المنشود - ص20). والهدف النشود عنده هو الذي أشار إليه قبل ذلك بسطور قليلة حين قال (والهدف الذي قصدت إليه هو أن يكون للبلاد العربية قانون واحد يشتق رأسًا من الشريعة الإِسلامية). ولكن كلامه الذي تلا ذلك - وهو كلام بالغ الخطورة - يكشف عن مبلغ ما في هذا الزعم من إخلاص، ويبين أنه ليس إلَّا خداعاً، وأن الشريعة الإِسلامية التي يقصدها هي شيء آخر غير الشريعة التي أنزلها الله على سيدنا مُحَمَّدْ صلى الله عليه وسلم، والتي تمت نعمة الله علينا بإِكمالها منذ نزل قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
فهي شريعة تستهدي (مدنية العصر) الغربية و (ثقافة الجيل) الغربية أيضاً،
وتروض نفسها على أن ترتفع إلى مستوى شرائع الغرب، لأنها في زعم المؤلف لم تبلغ هذا المستوى. وقَصْدُ الكاتب إلى تطوير الشريعة الإِسلامية واضح في مقاله هذا كل الوضوح. وهو يقصد بتطوير الشريعة الإِسلامية جعلها ملائمة لنظم حياتنا ولأنماطها المنقولة عن الغرب المسيحي، أو الغرب اللاديني على الأصح. فهو يريد أن يشكل الشريعة الإِسلامية بشكل هذه الحياة، بدل أن يشكل الحياة بشكل الشريعة، أي أنه يحكِّم هذه الأنماط الغربية في الشريعة بدلاً من أن يحكِّم الشريعة في اختيار ما يلائمنا من هذه الأنماط. أو بعبارة أخرى هو يعرض الشريعة على واقع الحياة، ولا يعرض واقع الحياة على الشريعة. وهو مع ذلك لا يميز بين الشريعة الإِسلامية المنزلة من عند الله وبين القانون الغربي الذي صنعته المصالح والأهواء، بل الذي صنعته اليهودية العالمية في بعض الأحيان، كما هو الشأن في القانون الفرنسي الذي استمد منه القانون المصري بخاصة، لأن هذا القانون ثمرة من ثمار الثورة الفرنسية اليهودية التي أصبحت فرنسا من وقتها دولة لا دينية من الناحية الرسمية على الأقل. وما وجه المقارنة بين قانون صنعه الِإنسان وبين قانون منزل من عند الله العلم الخبير؟.
إن الذي يعتريه شك في أن الشريعة الإِسلامية - كما هي في القرآن الكريم وكما بينتها السنة الشريفة - منزلة من عند الله هو كافر. والذي يؤمن بأنها منزلة من عند الله لا يعتريه شك في صلاحيتها لكل زمان ومكان، لأن الله سبحانه وتعالي يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عدداً، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، بذلك وصف نفسه - سبحانه - في محكم كتابه، وبذلك يؤمن المسلمون.
والذي يهدف إليه السنهوري هو شر الحلول، لأن الذي يفعله هو تبديل الشريعة الإِسلامية. ولا شك أن تفاعل الشريعة الإِسلامية السماوية مع شرائع الغرب الوضعية هو شر مما كان حادثاً من استعارة القانون الغربي كله أو بعضه. لأن من الممكن التخلص من الدخيل في هذه الحالة. أما في حالة الاندماج والتفاعل فإِدراك الحدود بينهما صعب، وتخليص الشريعة الإِسلامية مما دخلها من أسباب الزيغ والانحراف يكاد يتعذر بعد أن تتغلغل الروح الغربية
في كيانها، ويصبح الناتج من تفاعلهما شيئاً جديداً معقد التركيب تختلف خصائصه وصفاته عن كل من العنصرين المكونين له.
ثم إن الناس في الحالة الأولى يدركون إدراكاً واضحاً أن القانون الذي يحكمهم قانون دخيل. أما في الحالة الثانية فقد يتوهمون أن القانون الذي يحتكمون إليه قانون إسلامي، بل إن كاتب المقال يزعم لهم ذلك منذ الآن.
والواقع أن هذا الذي يفعله السنهوري هو الذي يهدف إليه الاستعباد الغربي. يقول هـ. ا. ر. جب في كتابه "إلى أين يتجه الإِسلام؟! (Whither Islam) " ص 328 - 329 من طبعة لندن 1932": (إن مستقبل التغريب والدور الذي سيلعبه في العالم الإِسلامي لا يتوقف على هذه المظاهر الخارجية للتأثر والاقتباس، لأن الصورة الظاهرية ثانوية، وكلما كان التقليد في المظاهر أكمل كان امتزاج الشيء المنقول بنفس المقلدين أقل، لأن فهم الروح والأصول التي تنطوي عليها المظاهر الخارجية فهمًا كاملاً لا بد أن يصحبه إدراك التعديلات التي تتطلبها الظروف المحلية. ويمكن أن يزول من العالم الإِسلامي كثير من النظم الغربية التي نراها فيه الآن، ثم لا يكون مع ذلك أقل حظاً من الاستغراب، بل ربما كان أوفر حظاً. وإذا أردنا أن نعرف المقياس الصحيح للنفوذ الغربي ولمدى تغلغل الثقافة الغربية في الإِسلام كان علينا أن ننظر إلى ما وراء المظاهر السطحية، علينا أن نبحث عن الآراء الجديدة والحركات المستحدثة التي ابتُكِرت بدافع من التأثر بالأساليب الغربية بعد أن تهُضم وتصبح جزءاً حقيقياً من كيان الدول الإِسلامية، فتتخذ شكلاً يلائم ظروفها).
يعود كاتب مقال اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية فيؤكد أن هدفه هو تغريب الشريعة الإِسلامية نفسِها وفرنجتها، أو بعبارة أُخرى إيجاد "إسلام غربي" إن صح هذا التعبير، وذلك حيث يقول:(فالنتيجة الحتمية إذن لوضع القانون المدني المصري ثم لوضع القانون المدني العراقي، مشتقاً منه ومن الفقه الإِسلامي على السواء هي النهوض بدراسة الفقه الإِسلامي في ضوء القانون المدني الغربي - ص 21).
ومع ذلك فهذا القانوني الذي يظن بالتشريع الإِسلامي التخلف عن القانون الغربي يعترف بأنه لم يدرس الشريعة الإِسلامية إلَّا في وقت حديث متأخر جداً، حين اشترك في وضع القانون المدني العراقي، فأتيح له الاطلاع على بعض نصوص الفقه الإِسلامي. وهو هنا يعترف اعترافاً صريحاً بأن اطلاعه على الفقه الإِسلامي جديد تاريخاً، ومحدود موضوعاً، لا يتجاوز ما أتيح له أثناء اشتراكه في لجان وضع القانون العراقي، وأنه لم يمنحه من وقته سنة من عشرات السنين التي أفناها في دراسة القانون الفرنسي. والواقع أن هذا الجهل بالشريعة الإِسلامية يعلل فتنته بالقوانين الغربية، التي حدث به إلى المجاهرة بأن تكون روح التقنين الغربي وأسلوبه هما قِوام نهضة التشريع الإِسلامي، وهو بذلك معذور لجهله حسب اعترافه، ومن جَهِلَ شيئاً عاداه. ولكن من الظلم للناس وللِإسلام وللقانون أن يسلم زمام التشريع البلاد الإِسلامية إلى الذين يجهلون شريعتها. ومن الواضح أن الرجل حين رأس لجان القانون المدني الجديد في مصر لم يكن على معرفة بالشريعة الإِسلامية، لأنه إنما اتصل بها حسب اعترافه أثناء اشتراكه في لجان القانون المدني العراقي، وقد كان ذلك بعد وضع القانون المدني المصري الجديد. واعترافه في هذا الصَدَد صريح، إذ يقول (وأكثر ما كان درسي للفقه الإِسلامي عند وضع القانون المدني العراقي. فإِن هذا القانون كما قدمت مزيج صالح من الفقه الإِسلامي والقانون المصري الجديد. فأتاح لي اطلاعي على نصوص الفقه الإِسلامي - سواء كانت مقننة في المجلة (1) ومرشد الحيران، أو كانت معروضة عرضاً فقهياً في أمهات الكتب وفي مختلف المذاهب - أن ألحظ مكانة هذا الفقه وحظه من الأصالة والابتداع، وما يكمن فيه من حيوية وقابلية للتطور - ص 22).
ويرسم كاتب المقال منهجاً يقترحه لدراسة الفقه الإِسلامي (لإِحيائه والنهضة به نهضة علمية صحيحة) حسب زعمه. فيقرر في بدء كلامه أن
(1) المقصود هو (مجلة الأحكام العدلية) التي أصدرتها الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع غر متضمنة صياغة الأحكام الإِسلامية - على المذهب الحنفي - في شكل مواد على النمط الغربي.
(الأساس في هذه الدراسة أن تكون دراسة مقارنة، فيُدرَس الفقه الإِسلامي في ضوء القانون المقارن). ولست أدري ما حاجتنا إلى هذه المقارنة، ولماذا كل هذا الحرص على أن لا نخالف التشريع الغربي ولا نبتعد عن روحه؟ أليس في ذلك قتل لشخصيتنا وإفناء لها في الغرب، مما لا يخدم سوى مصالح الاستعباد والتبشير؟ ذلك إلى ما يتضمنه من تبديل شرع الله وتحريف الكلم فيه عن مواضعه، وهو كفر صريح، وليس بعد الكفر ذنب.
ويطالب الكاتب بدراسة مذاهب الفقه الإِسلامي المختلفة، السني منها والشيعي والخارجي والظاهري:(وتُستكشَف من وراء كل هذه قواعد الصناعة الفقهية الإِسلامية، ثم تُقارن هذه الصناعة بصناعة الفقه الغربي الحديث. حتى يتضح ما بينهما من الفروق ووجوه الشبه، حتى نرى أين وقف الفقه الإِسلامي، لا في قواعده الأساسية ومبادئه، بل في أحكامه التفصيلية وفي تفريعاته، فتمتد يد التطور إلى هذه التفصيلات، على أسس تقوم على ذات الفقه الإِسلامي وطرق صياغته وأساليب منطقه. وحيث يحتاج الفقه الإِسلامي إلى التطور يتطور، وحيث يستطيع أن يجاري مدنية العصر يبقى على حاله دون تغيههـ. وهو في الحالين فقه إسلامي خالص (؟!) لم تداخله عوامل أجنبية فتخرجه عن أصله (؟!) - ص 23).
ألا تعجب معي لهذا الرجل الذي يزعم بعد كل ما قاله أن الفقه الإِسلامي الذي يسعى إلى تطويره تحت وصاية التقنين الغربي وفي ولايته هو فقه إسلامي خالص؟ وكيف يكون خالصاً وهو يحكِّم فيه (روح العصر)، وهي روح غربية حسب اعترافه في كل موضع من مقاله؟ ومن الواضح أن (مدنية العصر) التي يطلب السنهوري إلى الفقه الإِسلامي أن يجاريها، ويطلب إلى واضعي القانون أن يتخذوها مقياساً لصلاحية الفقه الإِسلامي، هذه المدنية هىِ مدنية غربية فرضها الاستعباد الغربي ونجح في ترويجها وفي إرساء دعائمها وتنشئه الرجال الذين يسهرون عليها ورعاية هؤلاء الرجال ودفعهم إلى مناصب القيادة والزعامة، بما يسمح لهم أن يرعوا جيلاً جديداً من أتباعهم، تم يرعى هذا الجيل جيلاً من بعده. وهكذا دواليك، فتصبح قيادة المسلمين الفكرية والسياسية دائمًا في يد هذه العصابة، لا يسمع الناس إلَّا كلامها
وكلام أذنابها، ولا يرون إلَّا صورها وصور أذنابها، ولا يرقى أحدهم إلى مرتبة من مراتب الشرف ولا يُفتَح له باب من أبواب الرزق إلَّا إذا حصل على جواز المرور من هذه العصابة التي تسد كل منفذ وتتحكم في كل باب وتحتل كل معقل. ويظل المسلمون هكذا محكومين في حقيقة الأمر بالاستعباد الغربي وهم يظنون أن حكامهم هم إخوانهم وأبناء أمتهم.
ويقترح السنهوري بعد ذلك إنشاء معهد خاص يلحق بجامعة الدول العربية لدراسة الفقه الإِسلامي حسب ذلك المنهج الذي يقترحه. وهنا يلتقي السنهوري بطه حسين، الذي اقترح في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر - الفقرة 49) إنشاء معهد للدراسات الإِسلامية في كلية الآداب. كما يلتقي بمحمد خلف الله في اقتراحه الذي تقدم به إلى وزارة التربية والتعليم عن إعداد مدرِّس الدين، فاقترح فيه (أن يعاد النظر في تكوينه وإعداده وأن يُرسَم لذلك منهج يحقق له عمق الثقافة وحرية الفكر). وبنى على ذلك اقتراحاً بإِنشاء (قسم أو شعبة للدراسات الإِسلامية في كلية للآداب بالجامعات المصرية)(تدرس فيما تدرسه "سيكولوجية الدين" و "النظم الدينية والأخلاقية المقارنة" ولغة أو لغتين شرقيتين كالفارسية والأردية، ولغة أو لغتين غربيتين، ليكونوا على اتصال بتيارات التفكير الثقافِى في الشرق الإِسلامي وفي الغرب)(1).
ومع ذلك كله فليس للشريعة الإِسلامية من الاعتبار عند كاتب هذا المقال أكثر مما للقانون الروماني. فالغاية عنده من إنشاء ذلك المعهد الذي اقترحه هي أن (تنتهي هذه الدراسة بعد عشرات من السنين إلى أن يتجدد شباب هذا الفقه، وتدب فيه عوامل التطور لروح العصر. وتكون نهضة الفقه الإِسلامي هذه شبيهة بنهضة القانون الروماني في العصور الوسطى. ويُنبِت الفقه الإِسلامي قانوناً مدنياً متطوراً يجاري المدنية الحديثة. وينبثق هذا القانون الحديث من الشريعة الإِسلامية كما انبثقت الشرائع اللاتينية والشرائع الجرمانية من الفقه الروماني - ص 24).
(1) مجلة الأسرة - يصدرها قسم اللغة العربية بكلية الآداب بالاسكندرية - العدد السادس سنة 1957 ص 160 - 165.
مثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن مسلم يعتقد أن الشريعة الإِسلامية منزلة من عند الله، وأنها حدود الله، لا يتعداها إلَّا كافر ظالم لنفسه.
ثم يأخذ الكاتب في بيان ما يتضمنه التقاء القانون الغربي بالفقه الإِسلامي من وجوه واحتمالات، ويخرج القارئ من كلامه بأن ما يسميه (اشتقاق القانون من الشريعة الإِسلامية) ليس في حقيقة الأمر إلَّا إخضاع الشريعة الإِسلامية لأهواء العصر وشهواته وهو ما يسميه (مدنية العصر). وخلاصة ما يقوله هنا أنه لا يأخذ بحكم الشرع إلَّا حيث يتفق تماماً مع روح القوانين الدنية المستجلبة من أوروبا. ثم هو يُعدِّل الحكم الشرعي أو يلغيه ويسقطه حسب مبلغ تعارضه مع هذه القوانين الغربية الأصول، التي هي في زعمه (أصلح للعصر) أو (تجاري مدنية العصر) أو (تساير روح العصر)، حسب تعبيره في مواضع مختلفة من هذا المقال.
وتطوير الفقه الإِسلامي الذي يدعو إليه الكاتب، أو تبديله على الأصح، هو تطوير وتبديل لا يقف عند حد حسب اعترافه هو نفسه حيث يقول:(فالهدف الذي نرمي إليه هو تطوير الفقه الإِسلامي وفقاً لأصول صناعته، حتى نشتق. منه قانوناً حديثاً يصلح للعصر الذي نعيش فيه. فإِذا استخلصنا هذا القانون في نهاية الدرس وأبقيناه دائم التطوِر حتى يجاري مدنيات العصور المتعاقبة، فقد تكون أحكامه في جزء منها، قَلَّ أو كثر مطابقة لأحكام القانون المدني العراقي أو لأحكام القانون المدني المصري أو لأحكام كل من القانونين .. إلخ ص 28). والمهم في ذلك كله أن هذا التطور الدائم سوف ينتهي بذلك التشريع الإِسلامي المزعوم في المدى القريب أو البعيد إلى أن يصبح شيئاً مختلفاً عن الإِسلام الذي أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام اختلافاً تاماً، بل إنه لكذلك منذ بدء وضعه أو التفكير فيه كما هو ظاهر في هذا البحث.