الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- 3 -
حَول تطوير الدرَاسَات اللغويَّة
الدعوات المفسدة الهدامة كلها على اختلافها كالعداوة التي شبهها شاعرنا العربي القديم - الأخطل - بالجَرَب (يَكْمِنُ حِيناً ثم ينتشرُ). والدعوة إلى دراسة اللهجات العامية وما كتب فيها من الآثار والآداب مما يسمون (الأدب الشعبي) واحدة من هذه الدعوات التي تريد أن تهدم العربية الفصحى الجامعة لشمل العرب والمسلمين. والداعون إلى هذه الدعوة يتسللون إلى غرضهم في هذه الأيام من باب الدعوة إلى تطوير الدراسات اللغوية - والمقصود بها في العربية هو النحو والصرف - لكي تتمشى جمع المتقدم العلمي الحديث في الدراسات اللغوية عند الغرب. فيدعون إلى إدخال علم اللغة العام الذي يسميه الغربيون (General Linguistics) في برامج الدراسة في أقسام اللغة العربية بكليات الآداب وفي كلية دار العلوم وفي كلية اللغة العربية بالأزهر. كما يدعون إلى إدخال الدراسات الصوتية التي يسميها الغربيون (Phonetics) وهي فرع من دراسات علم اللغة العام عند الغربيين. واللغة في هذه الدراسات أصوات تؤدي وظيفة اجتماعية. وهي في عرفهم ما يتكلمه الناس بالفعل لا ما يجب أن يتكلموه. وهم من أجل ذلك لا يفرقون بين فصيح وعامي. والدراسات التي يشتمل عليها علم اللغة العام بكل فروعه. ومنها الدراسات الصوتية، دراسات ناشئة عند الغرب لم تستقر بعد، ومصطلحاتها الأساسية غير متفق عليها بين المشتغلين بها ولاتزال مفاهيم هذه المصطلحات ومعانيها مختلفة بين بلد وآخر. والمدارس الأوربية والأمريكية لا تزال قانعة باتباع النظم التقليدية في تعلم
اللغات، لا تُلقي بالاً إلى ما يقوله المشتغلون بهذه الدراسات وما يدعون إليه من مفاهيم وأساليب جديدة في دراسة اللغات. ولا تزال اللغة الأدبية الفصيحة عندهم هي الخصوصة بالدراسة، لا يلتفتون إلى ما يدعو إليه المشتغلون بعلم اللغة العام من التسوية بين اللغات واللهجات.
يحاول علم اللغة أن يجد طرقاً لدراسة (اللغة) باعتبارها ظاهرة إنسانية عامة، تصلح لدراسة جغ الأشكال الكلامية التي تصطنعها الجماعات البشرية على اختلافها. وقد يكون لهذه المحاولة ما يبررها في اللغات الأوربية التي تشترك في طبيعتها اللغوية وتتقارب في ظروفها الاجتماعية، والتي تتغير معاجمها بين الحين والحين، فلا يمر قرن واحد على لغة من لغاتها دون أن يصيبها تغيير أساسي في كثير من مفرداتها وقواعدها. ولكن إقحام هذه الدراسة التي تنبع اهتماماتها وقواعدها من طبيعة اللغات الأوربية على لغة كالعربية، تختلف في طبيعتها وفي ظروفها التاريخية والاجتماعية اختلافاً أساسياً عن هذه اللغات، بِدْعٌ شاذ قليل الجدوى، بل هو إفساد مضر وقلب للأوضاع، لأنه يحاول أن يفرض قواعد نابعة من خارج اللغة العربية على طبيعتها اللغوية، بدل أن يستنبط من واقعها اللغوي وطبيعتها المستقرة قواعد تعين على فهمها وضبطها واستخدامها في التعبير. واللغة العربية - بحمد الله - غنية بهذه الدراسات عريقة فيها. وقياسها على اللغات الأوربية التي ليس لها مثل هذا التراث العريق الممعن في العراقة طولاً وعرضاً خطأ فادح لا يكون إلَّا عن جهل أو سوء قصد.
وقد نجح أصحاب هذه الدعوات بوسائلهم المختلفة في إدخال دراسة ما يسمونه (الأدب الشعبي) في كل أقسام اللغة العربية بكليات الآداب (1)، وفي كلية دار العلوم وفي كلية اللغة العربية بالأزهر. بل نجحوا في إنشاء كرسي لأستاذية هذه المادة في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة. وأصبحت (دار العلوم) مركز الثقل في هذه الدعوة، بعد أن اجتمع فيها أكبر عدد من المتخصصين في هذه الدراسة، منذ بدأ إبراهيم مصطفى بإِيفاد مبعوثين من
(1) كان قسم اللغة العربية في جامعة الإِسكندرية هو الإستثناء الوحيد الذي نجا من غزو هذه الدراسة إلى أن غادرته ببلوغ سن التقاعد سنة 1972 م.
المتخرجين إلى إنجلترا للتخصص في هذه الدراسات حين كان عميداً لدار العلوم. ومن سوء الحظ أن كثيراً من المتخرجين في هذا المعهد وفي المعاهد ذات الطابع الديني على وجه العموم، لضعف شخصياتهم وفقدانهم الاعتزاز بصفتهم العربية والإِسلامية، يحكم تصرفاتهم شعور عميق بالنقص يمكن أن نسميه "عقدة الخواجة"، فيبدون في تفكيرهم وفي تصرفاتهم وفي مبالغتهم في الإِشارة إلى المراجع الأجنبية والإِشادة بها والاستناد إليها والاستشهاد بها واستعمال مصطلحاتها كأنهم يريدون أن ينسلخوا من ماضيهم - الوضيع في وهمهم - انسلاخاً كاملاً، وأن يثبتوا لأنفسهم في دنيا المتفرنجين مكاناً أثبت من مكان الذين نشؤوا في هذا التفرنج. والذين يتصرفون على هذا النحو هم الذين ثاروا في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من هذا القرن على العمامة حين كانوا طلاباً في (دار العلوم) مطالبين بلبس (الطربوش). كانوا في ذلك الوقت يريدون أن ينسلخوا من صفتهم الدينية وأن يباعدوا بين أشخاصهم وبين كل ما يربطهم بهذه الصفة. كانوا يريدون أن يخلطوا أنفسهم بطلاب المدارس المدنية العلمانية وأن يقطعوا صلتهم بطلاب (الأزهر) الذي نشأ أكثرهم فيه في المرحلتين الابتدائية والثانوية. والذين سافروا من هؤلاء ومن خلفائهم في بعثات تعليمية إلى أوروبا - أكثرها إلى إنجلترا - عاد كثير منهم تصحبه زوجة أوربية. هؤلاء همِ الذين يتصدرون الدعوة إلى دراسة اللهجات العامية في هذه الأيام، تمشياً - في زعمهم - مع التطور الغربي الحديث للدراسات اللغوية، وهم بذلك يسيرون في آثار الذين يستخدمهم الاستعمار في هدم اللغة العربية كيداً للعرب وللمسلمين من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون.
تَكمِن هذه الدعوة وأشباهها من الدعوات الهدامة حين تصدمها المقاومة القوية وتجبرها على الاختفاء، ثم تظهر وتحاول الانتشار عند كل فرصة ملائمة. والفرصة الملائمهَ في هذه الأيام هي تطوير البرامج والمناهج الجامعية. والمقصود بالتطوير في الحقيقة هو اللحاق بالذين سبقونا بآماد بعيدة في ميادين الدراسات التي تتصل بالتقدم الصناعي بكل ما ترتب عليه من تفوق حربي واقتصادي. ينتهز أصحاب هذه الدعوة الفرصة عند كل اجتماع للتطوير
فيكررون الدعوة إلى تطوير دراسة النحو والصرف، وإقامتها على أساس دراسات الغربيين لعلم اللغة العام أو ما يسمونه (General Linguistics). وقد اجتمع القائمون على تدريس اللغات العربية والإِنجليزية والفرنسية في واحد من هذه المؤتمرات الجامعية التي تُعقد للتطوير، فسمعنا أعجب ما سمعه العرب على امتداد التاريخ في الدراسات اللغوية والأدبية. سمعنا كلاماً كثيراً في مهاجمة ما سموه الأساليب العتيقة في دراسة النحو والصرف، وفي الدعوة إلى توسيع دائرة الدراسات الأدبية لتخرج عما سموه (أدب القصور) أو (الأدب الرسمي) وتشمل ما زعموه (أدب الشعب). والمقصود به هو الحكايات والأسمار المكتوبة بغير العربية الفصيحة أو السليمة. وبلغ من حماقة بعض المناصرين لهذه الدعوة من أساتذة اللغة العربية وآدابها أن كشف الستار عن الهدف الحقيقي لهذه الدعوة، فصرح بأن اللهجة العامية أصلح للتعبير عن حاجات المجتمعات الحديثة وأكثر طواعية في الإِفصاح عن حاجاتنا العقلية والعاطفية لأنها لغة حية، بينما اللغة التي نسميها العربية الفصحى لغة ميتة. وشارك في مناصرة إلدعوة عدد من أعضاء هيئة التدريس في أقسام اللغات الأجنبية. وتندَّر بعضهم بمجمع اللغة العربية في مصر، فذكر - من باب السخرية بأعماله وإنتاجه - ما أطلقه على (الساندويتش) حين سماه (شاطر ومشطور وبينهما طازج). وحقيقة الأمر في ذلك أن المجمع سماه (شَطِيرة) وجمعها (شطائر). ولم يشفع لهذا المجمع عندهم أن أحد أعضائه كان يدعو في الأربعينيات من هذا القرن إلى الكتابة بالحروف اللاتينية (1). ولم يشفع له عندهم أن رئيساً سابقاً له دعا في فجر حياته إلى تمصير اللغة العربية (2). ولم يشفع له عندهم أنه قاد في المؤتمر الأول للمجامع اللغوية العربية في دمشق سنة 1956 دعوة إلى تطوير اللغة العربية ومزجها باللهجات العامية (3) هذا المجمع بكل ما ابتلى به من انحراف لم يبلغ عند هؤلاء الدعاة
(1) المقصود هو عبد العزيز باشا فهمي.
(2)
المقصود هو لطفي باشا السيد.
(3)
لمن شاء المزيد أن يعود إلى الفصل الرابع في الجزء الثاني من كتابنا (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) وإلى الفصل التاسع من كتابنا (الإِسلام والحضارة الغربية) تحت عنوان (القومية العربية والأدب العربي).
مبلغ الرضى، وظل يمثل في تفكيرهم صورة الرجعية. وقد كان بعض أعضاء المجمع يشهد هذا الهجوم فلم يتكلف الرد على ما فيه من كذب وافتراء. وقد تقدمت في هذا المؤتمر بمذكرة في الرد على ما أثير فيه، وضعتها في صورة نقاط شديدة الِإيجاز. وفيما يلي نص هذه المذكرة:
بسم الله الرحمن الرحيم
مذكرة
في الرد على اقتراح
إدخال الدراسات الصوتية والأدب الشعبي
في برامج أقسام اللغة العربية بكليات الآداب
• اللغة العربية التي يحمل القسم المختص بدراساتها اسمها لها مدلول واضح محدد وهو: اللغة التي كتب بها العرب تراثهم ولا يزالون. فكل آداب مكتوبة بغير هذه اللغة ليس من شأن القسم أن يدرسها. وقد تكون من شأن أقسام أو معاهد أُخرى كأقسام الاجتماع أو معاهده، لأن قيمة هذه الآثار في مضمونها لا في لغتها أو أسلوبها. وقسم اللغة العربية لا يدرس من هذه المضامين إلَّا ما كتب بهذه اللغة.
• كثرة كبيرة من الذين يتولون تدريس اللغة العربية في مراحل التعليم الإِعدادي والثانوي في مصر وفي البلاد العربية من المتخرجين في أقسام اللغة العربية. وهناك إجماع من المعنيين بشأن اللغة العربية من أساتذة الجامعة ومفتشي الوزارة على ضعف مستوى هؤلاء المدرسين. والمقصود بهذا الضعف هو النقص في قدرتهم على إقامة الإِعراب في النصوص العربية حين يقرءونها والعجز عن التعبير بلغة عربية سليمة يقوم فيها الإِعراب والنَّظْم (الأسلوب) والقياس اللغوي على نحو عربي سليم. وقد اجتمعنا هنا لنعالج فيما نعالجه هذا الضعف. فبماذا نريد أن نعالجه؟
من المعروف أن التمرس بالنصوص الصحيحة البليغة وإدمان قراءتها وطَرْقِها للآذان ودورانها على الألسن وحفظ طائفة صالحة منها هي من أول الوسائل وأهمها في تكوين الشاعر والناثر والناقد. وكثير من الشعراء والناثرين
كونوا أنفسهم بهذه الطريقة وحدها. ووضعُ نصوص لا تستقيم على قواعد العربية نحواً وصرفاً ونظمًا وأسلوباً بين يدي هذا الطالب الذي نُعِده لكي يكون مدرساً للغة العربية ليس علاجاً للضعف الذي نشكو منه، بل هو يزيده ضعفاً لا شك. لأن الذي يقرأ نصوصاً صحيحة عربية ونصوصاً غير صحيحة عربية وهو في طور التنشئة والتكوين يختلط عليه الأمر، فلا يميز بين الصحيح والسقيم من الأبنية والأساليب والمفردات. وما نسميه (الأدب الشعبي) هو في كثير من الأحيان آثار مكتوبة بلغة عربية ركيكة ملحونة وليس بلهجة عامية، مثل قصة ألف ليلة وقصة أبي زيد الهلالي وغيرهما. والقليل المعاصر منه هو المكتوب باللهجات العامية التي تختلف باختلاف البلاد، فلا تفهم في خارج محيطها.
• قيل في المؤتمر كلام كثير لا يصح أن يقال في اجتماع لأساتذة متخصصين في تخريج مدرس اللغة العربية. فقد افتتح أستاذ للأدب العربي كلمته بأن اللغة العامية تسعفه في التعبير عن آرائه بأكثر مما تسعفه اللغة العربية، وهو كلام لا يصح أن يقال. فليس مفروضاً في أستاذ للأدب العربي بالجامعة أن يكون كذلك. ولو صح ما يقول لكان العيب فيه لا في اللغة العربية. وضربُ الأمثلة بمثل (شاطر ومشطور وبينهما طازج) على قصور اللغة العربية يدخل في باب النكت والطرائف، ولكنه لا يدخل في باب البحث الجاد، لأن اللغة التي نطالب بالحفاظ عليها وتدريس أدبها ونصوصها ليست هي لغة (شاطر ومشطور وبينهما طازج). و (شاطر ومشطور وبينهما طازج) ليست - إن صحت نسبتها لمجمع اللغة العربية، وما أظنها صحيحة - من عيوب اللغة العربية، ولكنها من عيوب مجمع اللغة العربية في مصر. وغيري من أعضاء هذا المؤتمر أحق وأولى بالدفاع عن مجمع اللغة العربية. على أن مجمع اللغة العربية ليس عليه من بأس، ولا على غيره من المجامع والمحافل والمؤسسات من حرج، في أن يقترحوا ما شاءوا من مسميات ومصطلحات لمواجهة متطلبات الحياة. يُقبل بعضها فيكتب له الذيوع والسيرورة، وتُعرِض الألسنة والأقلام والآذان عن بعض آخر فيموت حتى تظهر الكلمة الملائمة على لسان كاتب أو شاعر أو عالم أو مترجم. والكلمة
الأخيرة في هذه المسميات والصطلحات للذوق العربي العام وحده، الذي قبل السيارة والدراجة والإذاعة والشطائر (التي زعمها المشنعون بالمجمع شاطر ومشطور وبينهما طازج). وغيرها كثير.
• قواعد كل لغة تنبع من واقعها ومن طبيعتها. واللغة العربية لها واقع خاص ربما كانت تنفرد به بين سائر اللغات. ولها طبيعة خاصة صُنِعت قواعدها لضبطها. وهذه القواعد صلحت منذ ألف عام أو يزيد لضبط ألسنة المتكلمين بالعربية والمؤلفين فيها من العرب والمسلمين، وهي لا تزال صالحة. وقيام تجارب حديثة خاصة عند الغربيين ليس مبرراً لنقلها إلى الدراسات اللغوية العربية. فهذه الدراسات الغربية تنبع من واقع اللغات الأوربية أو الأمريكية التي تختلف عن واقعنا كل الاختلاف. على أن هذه الدراسات لا تزال عند الغربيين في طور التكوين لم تستقر بعد، ولم يصل فيها أصحابها إلى اتفاق على الأصول أو المصطلحات كما هو واضح من عرض أحد المتخصصين (الدكتور محمود السعران) لتاريخ هذه الدراسة في كتابه (علم اللغة). بل هي غير مسلَّمة كذلك عند علماء القواعد اللغوية في الغرب. ومن العجيب أن بعض أقسام اللغة العربية قد أدخلت هذه الدراسة الغريبة الطارئة من خارج واقعها، في حين أن أقسام اللغات الأوربية لم تعرها التفاتاً مع أنها أولى بها، والدراسة أكثر أصالة فيها.
• قيل بالأمس كلام كثير في بلاغة بعض الآثار العامية وجمالها، وفي تفوق العامية على الفصحى في قدرتها على التعبير. وهو كلام يبدو منه أن أصحابه لا يرون بأساً في استبدال العامية بالفصحى أو في مزاحمتها لها على الأقل. لذلك لا أكلف نفسي عناء الرد عليه، لأن من الواضح أننا لا نريد ذلك ولم نجتمع له. ولكن الذي يستحق المناقشة هو ما ذهب إليه أحد الزملاء من أن دراسة العامية يقصد بها تقريب الهوة بين الفصحى والعامية واختيار الصالح المطابق لأصول العربية من الكلمات العامية لِإدخاله في الفصحى من ناحية، ولتوحيد اللهجات العامية أو التقريب بينها من ناحية أُخرى.
والذي أريد أن أبرزه هنا هو أن وجود العامية والفصحى ظاهرة لغوية عامة في كل لسان، وليس مشكلة يُسعى إلى حلها. فاللغة الفصحى لغة لها
صفة الثبات والاستقرار والقدرة على التعبير العلمي الدقيق والفني المؤثر الجميل. أما العامية فهي لهجة متطورة مختزلة وميسرة إلى أقصى حدود الاختزال والتيسير لتفي بحاجات التفاهم السريع الذي لا يبالي بالدقة العلمية أو الجمال الفني. ثم إن التقاط الألفاظ الصالحة من العامية ليس من عمل أقسام اللغة العربية، ولكنه من عمل الكتّاب والمترجمين والمجامع والمحافل المعنية بهذا الشأن. ووسيلته هي أن تمارس العربية الفصحى في كل المجالات الاجتماعية والعلمية. وعلى طول الممارسة سوف تظهر كلمات وكلمات، وعبارات وعبارات، يبقى منها الصالح المستقيم ويموت الفاسد المعوج. والمهم في الأمر كله هو أن يظل الذوق العربي صحيحاً غير سقيم، صريحاً غير مشوب، لكي يختار عن بصيرة. والذوق العربي السليم هو الذي ينشأ أصحابه على نصوص عربية سليمة صحيحة.
ثم إن بقاء اللغة العربية الفصحى حية مأنوسة هو الضمان الوحيد لتقريب ما بين هذه اللهجات العربية المختلفة، لأن هذه اللغة الواحدة المشتركة المستعملة في الصحف وفي الإِذاعات وفي المدارس وفي الدواوين وفي المحافل تشد إليها هذه اللهجات، ولا تسمح لها بأن تشرد وتذهب بعيداً وتتشعب بَدَداً.
أما ما قيل عن اهتمام القدماء بتصحيح خطأ العوام فمن الواضح أنه ليس من دراسة العامية في شيء. ونحن لا نزال نفعله بوصفه تقويماً للألسنة المعوجة، لا بوصفه اهتماماً بآثار الألسنة المعوجة.
• اللغة العربية ليست ملكاً للمجتمعين في هذا المؤتمر. بل هي ليست ملكاً للمصريين ولا للعرب ولا لأهل هذا الجيل جميعاً. إنها أمانة قد تلقيناها عمن قبلنا لنؤديها إلى من بعدنا سليمة صحيحة كما تلقيناها، لا نفرط فيها ولا نبددها ولا نبدلها.
وهذه اللغة رابطة قائمة بين العرب من أبناء هذا الجيل، وبينهم وبين التراث العربي الكبير منذ نزل به القرآن، وبينهم وبين المسلمين. وهؤلاء جميعاً يحرصون على قراءة ذلك التراث المكتوب بلغة العرب الفصحى الموحدة (بكسر
الحاء وفتحها) وبمصطلحات اللغويين والنحاة والبلاغيين الأصيلة المتفق عليها عندهم جميعاً. ومن حقهم جميعاً أن يطالبوا باستبعاد كل ما تحوم حوله شبهة تهديد هذه الرابطة، لأنهم يريدون لهذه الرابطة القائمة أن تظل رابطة دائمة ..
والكلام الذي قيل في تحبيذ دراسة اللهجات العامية أو الدراسات الصوتية الحديثة - وهما صنوان لا يفترقان - بعضه صادر ممن لا تعنيهم الفصحى ولا يبالون بها وهو من خارج المشتغلين بالدراسات العربية. وبعضه ممن توجههم اهتمامات خاصة ترجع إلى تخصصهم الضيق في هذه الدراسات في إنجلترا أو في فرنسا، وهؤلاء لا أتهمهم بضعف الغيرة أو سوء النية، ولكني أناشدهم الله أن يستمعوا إلى ملاحظاتي في غير تعصب لتخصصاتهم الضيقة - وأقول الضيقة، لأن تخصصهم الأشمل والأوسع والأكثر أصالة هو قواعد اللغة العربية - أناشدهم الله أن يستمعوا إلى ملاحظاتي وأن يعتبروها، إذا لم تقنعهم، من باب سد الذرائع.
لسنا وحدنا. إننا جزء من أمة ننادي بوحدتها. وبالأمس كانت لنا تجربة في تطوير قواعد العربية لم تقبلها وزارات التربية والتعليم في البلاد العربية لم أخرى فطويناها. ولا أريد لهذا المؤتمر أن يسفر عن تجربة كهذه في الدراسات العربية. وأنا أعلم أن أحد أعضاء هيئة التدريس من المهتمين بالدراسات الصوتية قد انتدب في هذا العام لكلية الآداب بجامعة بغداد وأراد إدخال هذه الدراسة في برامج قسم اللغة العربية فلم يقابل اقتراحه إلَّا بالإِعراض والنفور، وطُلِب إليه أن يدرس قواعد اللغة العربية كما كتبها نحاة العرب ولغويوهم.
إن العرب يحرصون علي فصحاهم وعلى قواعدها التي تشيع مصطلحاتها في كل تراثهم ولا يريدون استبدال غيرها بها. وسيكون مصير أي إقتراح يبعد بالعرب عن هذا الطريق هه المصير نفسه الذي لقيته تجربة (المسند والمسند إليه والتكملة) في النحو.
ومن عجيب المفارقات أن تنشر صحيفة الأهرام في عددها 29281 الصادر في يوم الجمعة غرة ذي القعدة 1386 (10 - 2 - 1967 م) في ص 4
ضمز توصيات مؤتمركم هذا (
…
وإدخال المناهج العلمية الحديثة في الدراسات اللغوية والأدبية. ومن ذلك معامل الأصوات اللغوية ودراسة الأدب الحديث). والأصوات اللغوية مقترنة دائمًا عند أصحابها بدراسة اللهجات العامية. بينما تنشر الصحيفة نفسها في العدد نفسه (ص 8) ما اتفق عليه المجمع) اللغوي المصري والمجمع العلمي العراقي في جلستهما المشتركة من أن (تسعى أجهزة المسرح والإِذاعة والتلفزيون إلى استخدام اللغة العربية الفصحى في التمثيليات التي يقدمونها) لأنها (أحسن سبيل إلى الوحدة العربية).
الإِثنين 4 من ذي القعدة 1386
(13/ 2/ 1967 م)