المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقدمة الطبعة الأولى - حصوننا مهددة من داخلها

[محمد محمد حسين]

الفصل: ‌مقدمة الطبعة الأولى

‌مقدمة الطبعة الأولى

الحمد لله

وسلام على عباده الذين اصطفى

الحمد لله وحده، هو الحميد المجيد، منه العون وبه التوفيق. اللهم اهدنا سبلنا، وألهمنا رشدنا، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

وبعد

فهذه كلمات كنت قد نشرتها في مجلة "الأزهر" خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة (1376، 77، 78). وكان أكثرها تحت عنوان "حصوننا مهددة من داخلها"، جمعتها في هذه الصفحات مرتبة بحسب تاريخ نشرها. ولم أتناولها بتغيير أو تبديل، إلّا ما يكون مما لا بد أن يعنَّ لكل كاتب إذا أعاد النظر فيما كتب، وهو من أمارات نقص الإِنسان وعجزه وقصور فكره.

وقد كان الذي دعاني إلى كتابة هذه السلسلة من المقالات أني رأيت الِإلحاد والانحلال في هذه الأيام يشتعل ويسري سريان النار في يابس الحطب، ورأيت دعاته يستفحل أمرهم في كل مكان، ورأيت الناس مشغولين بالجدل والنقاش حول ما يثيرونه من موضوعات يسترون مآربهم الهدَّامة من ورائها تحت أسماء خلَاّبة برَّاقة، كالنهضة، والتحرر، والتطور، ومتابعة ركب الحياة، وهي موضوعات منوعة تشمل الحياة في شتى نواحيها، يخترعونها ثم يهولون من شأنها ويكثرون من الأخذ والرد حولها حتى يلفتوا إليها أنظار الناس، وحتى ينشأ جيل جديد مرنت أذنه منذ وعى على سماع المناقشات حول هذه الموضوعات، فيتوهم أنها مشكلات حقيقية لا بد لها من حل،

ص: 9

ويتجه في أغلب الأحيان - كما جرت عادة الناس - إلى أنصاف الحلول التي ترضي الطرفين المتخاصمين حسب وهمه. والخاسر في حقيقة الأمر هو صاحب الحق. والربح كله للباطل وأصحابه.

ولا يزال أصحاب الباطل ماضين في اتخاذ هذا الأسلوب نفسه جيلًا من بعد جيل، يزحفون ويزحفون، حتى يسدّوا على الناس كل سبيل للحق، أو يفتح الله باباً من أبواب رحمته فيبعث عليهم من ينكّل بهم ويقطع دابر ما يثيرونه من فتن. ولكن الجديد في أمر هؤلاء الدعاة أن شرهم لم يعد مقصوراً في هذه الأيام على الكلام، فقد انتقلوا من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل بعد أن نجحوا في التسرب إلى الحصون التي تحمي قيمنا، وأصبح كثير منهم في مناصب تمكّنهم من أن يدسّوا برامجهم وخططهم على المسؤولين من رؤسائهم وينفذوها في صمت، ودون أن يثيروا ضجة تلفت إليهم المعارضين.

ولهؤلاء المفسدين عصابة تشد أزرهم وتُشِيد بهم وتنوَّه بذكرهم وتحميهم من خصومهم وتقطع ما يهاجمون به مما ينبه الناس إلى شرهم عن كل وسائل النشر، فلا يصل إلى آذان الناس أو عيونهم شيء منه. وأنا حين أزعم أن هؤلاء الدعاة ينتمون إلى عصابة ذات خطر إنما أعني بالعصابة كل مدلولها وكل حرف من حروفها وكل مفهوم من مفاهيمها.

هذه العصابة قليلة العدد. ولا ترجع قوتها إلى كثرة عددها. ولكنها ترجع إلى تماسك أفرادها وتضامنهم، يساعد بعضهم بعضاً، ويحمىِ كبيرهم الصغير، ويمهد السابق منهم للاحق، ويهيىء له فرص الظهور والترقي، بينما يتخلصون بمختلف الوسائل من الخصوم الذين يعارضونهم والذين يقفون في وجه خططهم. يحدث ذلك كله في الظلام وفي صمت. وقد لا يكون هناك تنظيم واحد معروف بعينه يضم الهدامين ودعاة الشر كلهم جميعاً، ولكن المهم في الأمر أنهم جميعاً، على اختلاف نزعاتهم وعلى تباين ساداتهم وشياطينهم، متعارفون متضامنون. والمتدبر لخططهم وتحركاتهم في إحكامها، وفي تناسقها، وفي وحدة أهدافها، وتشابه أساليبها في كثير من الأحيان، وفيما تستند إليه من

ص: 10

نفوذ واسع، لا بد أن ينتهىِ إلى أن هناك هيئات منظمة تنظيمًا دقيقاً من وراء هذه الحركات، وأن بين هذه الهيئات قدراً كبيراً من التفاهم واتفاق المصالح. وعصابة الهدَّامين تستمد قوتها وخطورتها من هذا التنظيم من ناحية، ومن أنها مجهولة الرأس والحدود والأطراف والأساليب والأعوان من ناحية أُخرى. وهذا التنظيم وهذه السريَّة هما مصدر قوة هذه العصابة التي لا تفترق عن عصابات السطو والِإرهاب في شيء. فهي لا تعتمد في تنفيذ خططها على الإِقناع شأنَ أصحاب الرأي، ولا على الكثرة شأن أصحاب (الديموقراطية) المزعومة، ولكنها تعتمد على العمل في الظلام وعلى البطش بالخصوم والتخلص من المعارضين ومؤازرة الأولياء والأصدقاء وتمكينهم من مقاليد السلطة. وهم يسلكون لذلك كل سبيل، ويستغلون فيه كل وسيلة، وعلى رأس هذه الوسائل الصحافة والإِذاعة والمنابر ودور النشر وشراء الذمم والتهديد بالفضائح.

ومن هذه الأساليب التي لا تحصى أسلوب مشهور معروف لم يعد يخفى على بَصير، يُلقي أعضاء هذه العصابة شباكهم حول أصحاب النفوذ والسلطان ويدخلون إليهم من أقرب الأبواب إلى قلوبهم وأضعف الثغرات في نفوسهم، ثم يتظاهرون بالتفاني في حبهم والِإخلاص في خدمتهم، فيلازمونهم ملازمة الظل، لا يغادرونهم طرفة عين، ويراقبون منهم الِإشارة والبادرة، مراقبة الكلب الأمين لصاحبه، حتى يصبح التابع منهم لازمة من لوازم سيده ووهماً مسلطاً عليه لا يتخيل إمكان الاستغناء عنه، وبمرور الأيام تتحول هذه البطانة إلى سور ضخم شاهق يحجب عن بصر صاحب النفوذ كل شيء عداه، فحيثما وجّه البصر لا يرى إلّا هذا السور، وتصبح هذه الدائرة الضيقة هي دنياه، لا يعرف شيئاً مما يجري وراءها في دنيا الناس. وعند ذلك يصبح صاحب النفوذ في حقيقة أمره سجيناً من حيث لا يدري، لأنه لا يرى إلّا ما يسمحون له برؤيته، ولايسمع إلا مايسمحون له بسماعه وحسبك بهذا سجناً، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يصبح صنمًا. معبوداً كعجل الكفار من الفراعنة، يحبس في الظلام، ولا يَنْتفِع بعبادته وتقديسه إلّا سدنتُه.

وأخطر ما في أمر هذه العصابة أن أفرادها يتمتعون بكل ما في حرب

ص: 11

العصابات من مزايا. ومن أخطر هذه الزايا أن الجهاز الحكومي - وهو يشبه الجيش النظامي - لا يستطيع توجيه الضربة القاضية إليهم. لذلك كان من أنجح الأساليب في مكافحتهم أن تدرس خططهم وأساليبهم في الكيد والدس وينبه الناس إليها. عند ذلك ينكشف الستر عن الذين يستمدون قوتهم من العمل في الظلام، ويجدون أنفسهم وقد غمرتهم الأضواء وكشفت أوكارهم وسراديبهم، ولا يجدون بداً من اللجوء إلى سلاحهم القديم الذي بدءوا به وهو سلاح الدعاية. وقد فشلوا فيه من قبل، وسيكون فشلهم في هذه المرة ساحقاً ماحقاً بعد افتضاح أمرهم، لأنهم يسبحون اليوم ضد تيار قوي غلَّاب، ترعاه عناية الله سبحانه، ويحفه توفيقه، ويمده مدده الذي لا ينفد وجنوده التي لا يعلمها إلّا هو. ذلك هو تيار النهضة العربية واليقظة الإِسلامية.

من أجل ذلك كتبت هذه الكلمات لجلة الأزهر، ثَم أعدت نشرها مجموعة وهذه الصفحات. كتبتها لألقي الأضواء على الذين يعملون في الظلام، وأكشف الستر عما يدبرون في الخفاء، ولأفضح دسائسهم التي يلقون عليها حجباً كثيفة من الرياء والنفاق، حين يندسون بين صفوف العاملين على بعث معالم شخصيتنا وإحياء شعائرنا وأشعرتنا، يتظاهرون بالغيرة على إسلامنا وعلى عروبتنا، حين تنطوي ضمائرهم على فساد العقيدة وحين يعملون لحساب العدو الذي يستعبدنا ولحساب الصهيونية الهدامة التي لا تريد أن تبقى على بناء قديم. هؤلاء هم أخطر الأعداء، وهم أول ما ينبغي البدء به في تطهير الحصون وتنظيف الدار، لأن الأعداء والمارقين ظاهر أمرهم لا يخفون، وهم خليقون أن ينفِّروا الناس، فهم كالمريض الظاهر يتحاشاه الناس ولا يقتربون منه. أما هؤلاء فهم كالريض الذي لا يظهر المرض على بدنه، فالمخالطون لا يحتاطون لأنفسهم في مخالطته. وأكثر ما تتعرض الشعوب للخطر من هذا الفريق في أطوار ثورتها ونهضتها، لأنها في هذا الطور تمر في دور انسلاخ تحاول أن تطهير نفسها فيه من الأوضار ومن النقائص، فيُلبِّس هذا الفريق من المنافقين والضالين والمضللين عليها أمرها، ويزينون لها الباطل زاعمين لها أنه هو سبيل النهضة، ويوهمونها أن كثيراً من عاداتها الصحيحة الأصيلة هي من

ص: 12

أسباب تخلفها وضعفها، ويزجون بها فيما رسمته عصابتهم من قبل وما قدَّرته من طرق ومسالك.

كتبت هذه الصفحات حين كتبتها لكي أفضح هذا النفر من المفسدين وأنبه إلى ما انكشف لي من أهدافهم وأساليبهم التي خُدعت بها أنا نفسي حيناً من الزمان مع المخدوعين، أسأل الله أن يغفر لي فيه ما سبق به اللسان والقلم. وإن مد الله في عمري رجوت أن أصلح بعض ما أفسدت مما أصبح الآن في أيدي القراء. وأكثره في بحث حصلت به على درجة (دكتور في الآداب) من جامعة القاهرة (فؤاد الأول وقتذاك)، ثم نشرته تحت اسم "الهجاء والهجاءون"(*).

وقد كان مصابي هذا في نفسي وفي تفكيري مما جعلني أقوى الناس إحساساً بالكارثة التي يتردى فيها ضحايا هؤلاء المفسدين، وأشدهم رغبة في إنقاذهم منها، بالكشف عما خفي من أساليب الهدَّامين وشراكهم.

ومن الواضح أن هذه الصفحات لا تستقصي نشاط الهدامين ولا تستوعب كل ميادينهم ولا تحصيها عدداً، ولكنها تقدم نماذج منها تكشف عن أساليبهم في الدس والتزييف والهدم والتخريب، وهي أساليب لا يقتصر شرها على بلد دون بلد، فهي تعم بلاد العرب، بل بلاد المسلمين، بل الشرق كله، يسقونه السم على حين نهضته حتى لا تصح له نهضة، وليقودوه إلى الهاوية التي يوشك الغرب كله - شرقيه وغربيه - أن يتردى فيها. وسيعلم القارئ من بعد أن اصبع الصهيونية العالمية الهدامة التي تطمع في أن ترث الأرض وتستعبد كل من عليها لليهود من وراء هذه الدعايات والدعوات.

لذلك لم يكن من قصدي في هذه الصفحات أن أقنع الذين أنبه إلى خطورتهم، فأكثر هؤلاء دعاة وليسوا طلاب حق، لا يخرجهم من ضلالهم إلَّا أن يرزقهم الله الهداية، ويشرح صدورهم للِإيمان، ولا حرج عن فضل الله ولا يأس من رحمته. ولكن أكثر قصدي في هذه الكلمات كان إلى الشباب

(*) أصلحت أخطاء الكتاب بقدر ما وسعته الطاقة في الطبعات التي ظهرت في بيروت منذ 1969 م.

ص: 13

خاصة، أنبههم إلى ما قد يخفى عليهم من حيل الهدامين وأساليبهم. وشيء آخر كان بين عيني أيضاً حين كتبت هذه الكلمات، وهو أن أقوم بواجب في عنقي نحو ولاة أمورنا، وأن أعينهم بالنصح فيما أعلم ابتغاء لثواب الله، وإبراءً للذمة من عهدة لا تبرئنى منها إلَّا هذه الكلمات.

ولست أبالي أن يكون المنتفعون بهذه الكلمات والذين يعونها حق الوعي قلة من الناس، بل إني لا أطمع في أكثر من ذلك. ولكني أعلم أن الله سبحانه قد يْجُري خيراً كثيراً على يد نفر قليل إن أعان ووفق وبارك، وأنا أسأل الله العون والتوفيق، وأن يبارك جهود المخلصين ممن يبتغون بعملهم وجهه الكريم.

وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وسلم تسليمًا كثيراً.

في 9 رجب 1378 هـ

(18/ 1/ 1959 م)

محمّد محمّد حسين

ص: 14