المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الجِنسُ الثَّالِث*   أحسن ما قرأته في وصف النساء المترجِّلات، اللاتي يأبين - حصوننا مهددة من داخلها

[محمد محمد حسين]

الفصل: ‌ ‌الجِنسُ الثَّالِث*   أحسن ما قرأته في وصف النساء المترجِّلات، اللاتي يأبين

‌الجِنسُ الثَّالِث*

أحسن ما قرأته في وصف النساء المترجِّلات، اللاتي يأبين إلَّا الخروج على فطرتهن، والزجَّ بأنفسهن في ميادين الرجال، تسميةُ أحد كتاب الإِنجليز لهن "الجنس الثالث". فالواقع أن هذه التسمية وصف صادق كل الصدق لهذه الطبقة الجديدة من النساء التي برزت مشكلتها في المجتمع الأوروبي منذ أواخر القرن الميلادي الماضي، بعد أن تكاثر عددها فيه وطغى سيلها. ذلك لأنهن قد فقدن أنوثتهن فلم يعدن نساء، وابتذلن أجسادهن وأرْخَضْن مفاتهن حتى عافها الرجال وانصرفوا عنها. ثم إن فطرتهن وخلقتهن تأبى عليهن من بعدُ أن يَدْخلن في عِدَاد الرجال. من أجل ذلك سماهن ذلك الكاتب الإنجليزي الحصيف "الجنس الثالث"، بعد أن أخرجن أنفسهن من عداد النساء واستحال عليهن أن يدخلن في عداد الرجال، فهن يخالفن الرجال طبيعة وتركيباً، ويخالفن النساء وظائف وأعمالاً. "وقد درس هذا الأستاذ أحوالهن درساً مدققاً فوجد أنهن يتركن الزواج. وبانتزاعهن أنفسهن من وظائفهن الطبيعية كالأمومة وما يتبعها قد تغيرت إحساساتهن عن إحساسات بنات جنسهن، وصرن في حالة من الكآبة تشبه أعراض الماليخوليا"(1).

أساءت المرأة إلى نفسها وأساء إليها الذين ظاهروها وأعانوها ممن يزعمون أنهم أنصارها. فقد كانت ريحانة تشَمّ، فأصبحت مشكلًا يتطلب الحل، وكانت عِرْضاً يصان وأمانة تحفظ، فأصبحت حملاً ثقيلا يضيق به الأب

(*) نشرت في عدد جمادي الآخرة سنة 1377 من مجلة الأزهر.

(1)

"تربيهَ المرأة" للاقتصادي المشهور مُحَمَّدْ طلعت حرب ص 28 ط مصر 1317 هـ (1899 م).

ص: 81

والأخ ويتحتم معه على المرأة أن تعمل لتعيش. نشأ الجيل السابق على أن يكفلها ويكفيها حاجتها، وكان هذا التقليد عقيدة مركوزة في أعماق كل نفس، يحرسها الإجماع عليها، ولا يخطر لأب أو ابن أو أخ أو زوج أن يتخلى عنه ويخرج من عهدته، فلما عملت المرأة لنفسها وشاع ذلك في المجتمع ماتت هذه العادة، وماتت معها الروءة التي كانت تدفع إليها، والغيرة التي كانت سبباً في المحافظة عليها، وأصبحت المرأة إذا لم تبحث عن العمل من نفسها دفعها وليها إليه دفعاً وألزمها به إلزاماً. بل لقد أصبح القانون يلزمها بالعمل في النظام الشيوعي، وأصبح الواقع يلزمها به في النظام الرأسمالي. وأصبحت التي لا تعمل في أيامنا لا تجد اللقمة ولا تجد الزوج، لأن الرجال إن عدموا ذوات المال من الزوجات بحثوا عن الكادحات الكاسبات. وكاد ذلك يصبح قانوناً من قوانين حياتنا يقضي على المستعففات بالبوار والهلاك. فهل هذا هو ما يسميه الخادعون والمخدوعون والخادعات والمخدوعات "حقوق المرأة"؟

وفي الوقت الذي يتجرع فيه الغرب آثار خروج المرأة على فطرتها ووظيفتها، كان بعض كتابنا ومفكرينا ينادون بأن نأخذ في ذلك الطريق الذي انتهى بالغرب إلى ما هو فيه من مشاكل اجتماعية واقتصادية هزت دعائم مجتمعه هزَّاً عنيفاً أفقده استقراره واتزانه وعرَّض سلامته وكيانه لأشد الأخطار. ولقد يبدو للدارس المتأمل أن المرأة لا توضع الآن حيث تدعو الحاجة - صحيحة كانت أو مزعومة - إلى أن توضع، ولكنها توضع لإِثبات وجودها في كل مكان، ولإِقحامها على كل ما كان العقل والعرف ينادي بعدم صلاحيتها له. فليس المقصود بتوظيفها في هذه الأيام سد حاجة موجودة، ولكن المقصود هو مخالفة عرف راسخ، وتحطيم قاعدة قائمة مقررة، وإقامة عرف جديد في الدين وفي الأخلاق وفي الذوق، وخلق المبررات والمقومات التي تجعل انسلاخنا من إسلامنا وعروبتنا وشرقيتنا أمراً واقعاً، كما تجعل دخولنا في دين الغرب ومذاهب الغرب وفسق الغرب أمراً واقعاً كذلك.

وأخطر ما في هذه الدعوة وأمثالها مما يراد به حملنا على كل فاسد من مذاهب الغرب أن أصحابها يريدون إقحامها على إسلامنا زاعمين أنها لا تعارضه. وقد كان قاسم أمين هو أول من جرَّأ الناس على تحريف

ص: 82

النصوص حين طلع علينا بطائفة من المزاعم التي تقوم على المجازفة، ومن النصوص الحرفة عن مواضعها والمخلوعة من سياقها خلعاً يخرجها عن مدلولها، وحين تصيَّد من كتب التاريخ ورواياته - على اختلاف درجاتها ودرجات مؤلفيها - كلَّ شاذ غريب فحشدها في حيِّز واحد وضمَّ بعض أشتاتها إلى بعض، حتى خيَّل إلى قارئها أنها - على شذوذها وقلتها - شيء مألوف كثير الوقوع. ومع أن هذا الذي جمعه هو خلاصة ما في الكتب - صحيحها وسقيمها - من غرائب الأخبار والآراء التىِ تصور حالات شاذة نادرة لا تنهض بها حجة ولا يَبْطُلْ بها عرف، ومع أن كثيراً من النصوص التاريخية أو الفقهية التي اقتطفها ناقصة الدلالة غامضة العبارة، فقد استطاع أن يروج ذلك كله بين الناس بمرور الأيام، بفضل قوة حزبه الذي كان يسميه اللورد كرومر. حزب الشيِخ مُحَمَّدْ عبده (1) حتى أصبحت هذه النصوص مِنْ بعدُ - على فساد الاستدلال بها - هي البضاعة المشتركة لمتابعي دعوته ومطوِّريها. وذلك كله هو الذي دعا الشاعر شوقي رحمه الله إلى أن يتساءل عن حقيقة صنيع قاسم أمين: أهو غيرة المدافع عن النصوص الإِسلامية، أم هو إغارة المحرف لها عن مواضعها؟. وذلك من قصيدة له ألقاها سنة 1928 م، وعرض فيها للباقته في الاستدلال، وبراعته في الجدال، فقال:

ولك البيان الجَزْلُ في

أثنائه العلم الغزير

في مطلبٍ خشنٍ كثيـ

رٍ في مزالقه العثور

ما بالكتاب ولا الحديث

إذا ذكرتهما نكير

حتى لنسأل: هل تغا

ر على العقائد أم تغير؟

(1) راجع نص تقارير كرومر المرفوعة إلى البرلمان الإِنجليزي (ط لندن) في تقرير سنة 1905

(المقدم إلى البرلمان الإِنجليزي في أبريل 1906) الفقرة 7 ص 15 - 16. وراجع كذلك

تقرير سنة 1906 (القدم إلى البرلمان في أبريل 1907) في الفقرة 3 ص 8. وقد أوصى

كرومر في هذه التقارير وفي كتابه (Modern Egypt) بذلك الحزب خيراً وعلق على رجاله

الآمال في رعاية المصالح الإِنجليزية عن طريق إنشاء علاقات من الود والتفاهم بين الإِنجليز

وبين المسلمين في مصر.

" Reports by his Majety،s Agent and Consul General on the Finances. Administration، and Condition of Egypt and the Sudan".

ص: 83

وقد لا تكون هناك نصوص صريحة في القرآن أو في الحديث تمنع المرأة من العمل في خارج البيت لكسب عيشها حين تدعو إلى ذلك ضرورة، ولكن من المؤكد أن اتخاذ هذه السنة أصلاً من أصول التنظيم الاجتماعي يخالف روح الشريعة ويناقض كثيراً من نصوصها ويتعارض مع كثير من شرائعها وحدودها تعارضاً واضحاً.

1 -

قال تعالى في كتابه العزيز:

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء 34)

تشير الآية إلى ناموس من نواميس الله الثابتة وهي قوامة الرجال على النساء، وقد ناط سبحانه وتعالى حكمته في ذلك بسببين ظاهرين: أولهما أن فطرة الرجل تخالف فطرة المرأة، فهي تفضله في تدبير شؤون البيت وتربية الولد والقيام عليه، بما جبلت عليه من الحنان والرقة ومن التركيب العضوي الذي يعينها على وظيفتها مثل ضعف جهازها العصبي الذي يقلل إحساسها بآلام الحمل والوضع، وإن كان يجعلها في الوقت نفسه أكثر استهدافاً لأنواع الأمراض وأسرع تهيجاً وأقوى انفعالاً، مما يؤثر في سلامة التقدير وصحة الإِدراك ويجعلها أقل قدرة من الرجل على مجابهة الأزمات والتماسك أمام الشدائد والملمات. أما الرجل فهو يفضلها - لما سلف من الأسباب - في القوة البدنية وفي قوة التفكير وصحة التقدير ورباطة الجأش، مما يعده للكفاح ومعالجة المشاق، والكدح وراء معاش الأسرة، وفي سبيل الحفاظ على كيانها ودفع ما يتهدده من أخطار. والسبب الثاني الذي انبنت عليه هذه القوامة هو أن الرجل يتولى الإِنفاق، لأنه هو الذي يكسب المال حسب ما جبل عليه. فليس من العدل أن يكلف فرد بالانفاق على هيئة أوجماعة ثم لا يكون له رأي في الإِشراف على مصارف هذه النفقة. وعلى ذلك تجري الحكومات النيابية العاصرة، ويعتبر ذلك أصلاً من أصول تشريعاتها.

فإِذا جرينا على اعتبار عمل المرأة في خارج المنزل وكدها في سبيل كسب

ص: 84

المال إلى جانب الرجل أصلاً من أصول تقنيننا الاجتماعي، فقد أخرجناها عن وظيفتها من ناحية، وقد أخللنا بما هو مقرر في الآية الكريمة من قوامة الرجل عليها من ناحية أخرى، لأن هذه القوامة مبنية على أصلين: أحدهما فضل الرجل على المرأة في الصلاحية للعمل خارج البيت، وثانيهما أنه هو الكلف بالانفاق على الأسرة.

ومن المظاهر التشريعية لتطبيق الأصل الأول - وهو فضل الرجل على المرأة في الصلاحية للعمل خارج البيت - أن شهادة المرأة لا تغني عن شهادة الرجل، ولا بد من انضمام امرأتين اثنتين إلى الشاهد الأول لكي تكون شهادتهما معادلة لشهادة رجل واحد وذلك بنص كتاب الله الحكيم في قوله تعالى:

{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (البقرة 282)

فالآية الكريمة تعلل ذلك بأن المرأة التي ليس من شأنها أن تخالط الرجال في شؤون العمل والحياة، والتي تتحفظ في هذا الاختلاط إن دعتها إلى ذلك الحاجة أو ساقتها إليه المصادفة، هي مظنة أن لا تعي تفاصيل الواقعة التي تدلي بشهادتها فيها كما يعيها الرجل. لذلك كانت في حاجة إلى أن تظاهرها امرأة أخرى في هذه الشهادة حتى يقوم اتفاقهما مقام شهادة رجل واحد (1).

ومن المظاهر التشريعية لتطبيق الأصل الثاني - وهو تكليف الرجل بالإِنفاق على الأسرة - أن نصيبه المقرر في الميراث ضعف نصيب المرأة، وذلك بنص قوله تعالى:

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}

(النساء: 11)

(1) وقد اعترف بهذا التفاوت بين الرجال والنساء في الشهادة وأمثالها كثير من حكماء الغرب ولا سيما في ايطاليا، كما بسطه الأسناذ كامل أحمد ثابت من رجال القانون والقضاء في كتابه (علم النفس القضائي) ص 22، 24، 123.

ص: 85

فإِذا قررنا أن تعمل المرأة إلى جانب الرجل في مختلف ميادين العمل والانتاج والوظائف، وجعلنا ذلك - اقتداء بالغرب - أصلاً من أصول التنظيم الاجتماعي، فقد أبطلنا كل هذه التشريعات القرآنية - أصولها وفروعها - لمغايرتها عند ذلك لظروف الحالة الجديدة الطارئة.

ومع ذلك كله فقوامة الرجل على المرأة لا تقتضي تفضيله عليها في الدين أو في الدنيا: فالله سبحانه وتعالى يقول:

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (آل عمران 195)

ولكن هذه القوامة قاعدة تنظيمية تستلزمها هندسة المجتمع واستقرار الأوضاع في الحياة الدنيا، ولا تسلم الحياة في مجموعها إلا بالتزامها. فهي تشبه قوامة الرؤساء وأولي الأمر، التىِ لا تستلزم أن يكون الرؤساء أفضل من كل المحكومين، ولكنها مع ذلك ضرورة يستلزمها المجتمع الإِنساني، ويأثم المسلم بالخروج عليها مهما يكن من فضله على ولي الأمر في العلم أو في الدين.

2 -

يقول تعالى:

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة 228)

ويقول سبحانه:

{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (البقرة 237)

والآيتان كلتاهما تؤكدان ما قررته الآية الأولى من قوامة الرجال على النساء. ومن مظاهرها في الآية الثانية جعل عقدة النكاح في يد الرجل، وهي قوامة تسقط من تلقاء نفسها وتصبح داحضة بوضع المرأة مع الرجل على قدم المساواة في ميادين العمل والكسب.

ص: 86

3 -

انبنت قوامة الرجل - كما سبق - على أصلين، أحدهما أنه هو المكلف بالانفاق على الأسرة، وفي الآية الأخيرة إشارة إلى هذا الواجب المقرر، فالرجل هو الذي يسوق المهر إلى زوجته.- على عكس ما هو مقرر عند الغربيين الذين يزعمون أنهم أكثر إنصافاً للمرأة - ويسقط نصف حقه في هذا المهر إن طلق زوجته قبل أن يدخل بها. وهناك آيات أخرى كثيرة تؤكد هذا الواجب الملقن على عاتق الرجل، واجب الإِنفاق على الأسرة وكفالتها. فمن ذلك قوله تعالى:

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة 233)

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:

{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} [البقرة: 236]

ومنه قوله تعالى.

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)} [البقرة: 240]

في هذه الآيات تأكيد لما هو مقرر من تكليف الرجل بالانفاق. وهو تكليف يقوم على أن المرأة لا تعمل لكسب المال، لأنها مصروفة عنه إلى غيره من الأعمال التي أعدتها لها فطرة الله التي فطر الناس عليها. فإِذا أخذ المجتمع بأن تعمل المرأة عمل الرجال لزم تغيير هذه التشريعات. وتغيير هذه

ص: 87

التشريعات يخرج السلمين من إسلامهم لأنهم مكلفون بالرجوع إلى كتاب الله في شؤون دينهم ودنياهم والإِذعان له والتسليم بما جاء فيه، لا يحيدون عنه ولا يبدلونه، ولأن ما قرره القرآن من القوانين وما وضعه من الحدود منسوب إلى الله سبحانه وتعالى، محكوم على من يتجاوزه بالظلم والفسق بنص كتاب الله العزيز، فالله سبحانه وتعالى يقول في أحد المنافقين، وكان قد احتكم إلى النبي عليه الصلاة والسلام ثم لم يرض حكمه فأعاد الاحتكام إلى كعب بن الأشرف اليهودي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (النساء: 59 - 65)

ويقول تعالى بعد تبيين بعض أحكام الطلاق:

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} [البقرة: 229]

ص: 88

{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1)

ويقول تعالى بعد تبيين أحكام الميراث:

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} (النساء: 13، 14)

ومع ذلك كله فالله سبحانه وتعالى يقول:

{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} [النساء: 32]

نزلت هذه الآية حين قالت أم سلمة ونسوة معها: ليت الله كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجال فيكون لنا من الأجر مثل ما لهم. فالآية تأمر الرجل والمرأة كليهما أن يلزم كل منهما وظيفته التي هيأه الله لها، وتبين لهما أن الله سبحانه وتعالى يثيب المرأة على إخلاصها لوظيفتها مثل ثواب الرجل على إخلاصه لوظيفته.

ثم إني أحب أن أسأل الذين يحاولون أن يُسوِّغوا باطلهم الذي يقحمونه على إسلامنا بمزاعم يتحايلون على إلصاقها بالدين ونصوصه. أحب أن أسأل هؤلاء سؤالاً حاسمًا يفرق بين الحق والباطل: هل تعلمون أن أحداً من المسلمين قد دعا قبل اليوم بدعوتكم؟ فإِذا كان ذلك لم يحدث من قبل فهل تستطيعون أن تزعموا أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهاء المسلمين قد غفلوا

ص: 89

جميعاً عن فهم نصوص دينهم، حتى جاء هؤلاء الذين أوحى إليهم شياطين الجن والإِنس في باريس من أمثال قاسم أمين فانتكس تفكيرهم بين معاهدها ومباذلها، حين لم يعتصموا من دين الله بحبل متين، ولم يأووا بهديه إلى ركن شديد، يذود عنهم كل شيطان مريد، وذلك حين بعثوا إلى تلك البلاد لينقلوا إلينا الصالح النافع من علومها وصناعاتها فضلوا الطريق، وعادوا إلينا بغير الوجه الذي بعثوا به. جاء هؤلاء بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول القرآن ليخرجوا للناس حقائق التنزيل التي غاب علمها عن الأولين والآخرين من الفقهاء والمفسرين، ويضربوا بإِجماع المسلمين في الأجيال المتعاقبة والقرون المتطاولة عُرْضَ الحائط. أليس ابتداع هذه الدعوة في ظل الاحتلال الإِنجليزي وتَزعُّمُ فريق من المتفرنجين الذين عرفوا بموالاة ذلك الأجنبي المحتل، هو وحده دليلاً كافياً على أنها طارئة علينا من الغرب تقليداً لمذاهب أهله المبتدعين في دينهم بأهوائهم وأهواء رؤسائهم والخارجين على نصرانيتهم وكتابها.؟

ولو تدبر الناس الأمور وعقلوها ولم ينقادوا في ذلك وراء شهواتهم ولم يسلموا زمامهم لما يزوِّره المضللون وأصحاب الأهواء من زخرف القول لأدركوا وجه الحق، ولقادهم المنطق السليم النزيه إلى الالتقاء بشرع الله، واكتشاف ما تنطوي عليه أقوال الذين يتصدون للدفاع عما يزعمونه (حقوق المرأة) من أخطاء.

وأول أخطاء هؤلاء أنهم يجعلون أكبر همهم مصروفاً إلى إثبات أن المرأة تستطيع القيام بأعمال الرجل، وأنها إنسان مثله لا فرق بين عقلها وعقله، ويجهدون أنفسهم في حصر الأمثلة التي تؤيد زعمهم ممن نبغ من النساء في مختلف العصور. وليس هذا هو لب المشكل وصميمه، ولا هو بالمقياس الصحيح في تقدير المسألة، ولكن لب المشكل وصميمه هو: هل يؤثر اشتغال المرأة بأعمال الرجال على إتقانها لعملها النسوي الأصيل؟ ثم، ماذا يحدث لو انصرف كل النساء إلى أعمال الرجال؟ هل يتحتم على الرجال عند ذلك أن يقوموا هم بأعمال النساء؟ وإذا قبلوا ذلك فهل يصلحون له وهل يتقنونه؟

من الواضح أن عمل الأنثى الأول الذي لا يصلح له غيرها هو النسل وحفظ النوع، لأن تركيب الذُّكران العضوي لا يسمح لهم يحمل الجنين ولا

ص: 90

بإِرضاعه. ومن الثابت أن إرهاق المرأة بالعمل يترك أثراً في مزاجها وفي أعصابها، ومن الثابت أيضاً أن ذلك الأثر ينتقل إلى جنينها في حالة الحمل، كما ينتقل إلى طفلها في حالة الرضاعة. بل إن بعض علماء الوراثة يتحدثون عن وراثة الصفات والأعراض الطارئة على الأب والأم كليهما في أثناء العلوق والحمل. فالمرأة التي نيط بها حمل الجنين، والسهر على أمنه وسلامته في بطنها ومن بعد أن يخرج إلا الدنيا، محتاجة لأن تُكفى مئونة التعرض للمهيجات العصبية والإِجهاد العضلي أو العقلي، الذي تصل آثاره إلى ربيبها جنيناً ورضيعاً، وتترك فيه أسوأ الآثار. وذلك شيء يقضي به أوجب الواجبات وأهمها، وهو الحافظة على سلامة النوع البشري. ثم إنها محتاجة بعد ذلك إلى أن توفَّر لها الفرصة الكاملة لملازمة طفلها ملازمة كاملة تسمح بأن يُصنع على عينها جسمًا وعقلاً وخُلُقاً، لكي تغرس فيه العادات الفاضلة، وتجنبه ما قد يعرض له أو يطرأ عليه من عادات قبيحة. ومثل ذلك لا يتأتي بالأمر أو النهي مرة أو مرات. ولكن لا بد فيه من المراقبة الدائمة، والإِشراف على تكرار الفعل حتى يرسخ في نفسه. واليقظة على الزجر مرة بعد مرات عن بعض الأفعال الأخرى حتى يحال بينها وبين الرسوخ في نفسه. وهذه المراقبة التي لا تغفل، التي تتسم بالصبر الذي لا يمل، هي وحدها التي تسمح باكتشاف أعراض الداء في البنين والبنات قبل أن يستفحل ويتعذر علاجه. والقول بأن كل صلة الأم بولدها تنحصر في الحمل والوضع هو نزول بالإِنسان إلى مرتبة الحيوان. فالإِنسان يمتاز بطول حضانته لأطفاله. وهي حضانة ليست غذائية فحسب كما هي في سائر الحيوان، ولكنها خلقية وعقلية أيضاً في الإِنسان، وذلك من أهم الأسباب في تقدم البشرية، لأنه يورث الجيل التالي تجارب الأجيال السابقة، بما يمكِّنه من متابعة الشوط وتوفير الوقت والجهد الذي يضيع في تكرار التجارب.

واعتماد المرأة العاملة على الخدم وعلى دور الحضانة في رعاية وليدها لا يؤدي إلى كمال تنشئته، لأن الاخلاص له والحرص على ابتغاء الكمال من كل وجه لا يتوافر في أحدٍ توافره في الأم، لأن من وراء إخلاصها وحرصها غريزة الأمومة. والحرص على الواجب في الخدم وفي دور الحضانة لا يمكن أن

ص: 91

يرتفع إلى مرتبة الغريزة مهما افترضنا فيه من السمو، ومهما عملنا على ترقيته إلى أقصى درجات الكمال، ومهما تجاهلنا جنايات الخيانة والإِهمال والإِفساد التي لا تحصى شواهدها في واقع الحياة.

ولجوء الأم العاملة إلى الوسائل الصناعية في إرضاع طفلها خيانة للأمانة وتفريط فيها وتعطيل لسنة الله، لأن الله سبحانه لم يخلق ثدي الأنثى لتبرزه في السهرات وتكشف عن جماله وتنصبه شركاً في الطرقات، ولكنه أوجده أصلاً للإِرضاع. والرضاعة مع ذلك ليست عملية عضوية آلية فحسب، ولكنها حنان متبادل وميثاق غليظ. وليس لنا أن نتوقع بعد شيوع الرضاعة الصناعية إلا السعي لاختراع وسيلة للحمل الصناعي بعيداً عن بطن الأم - إن أمكن - توفيراً لجهدها وصيانة لجمالها!

وقد كان أنصار تعليم المرأة في أول هذا القرن يحتجون لدعوتهم بأن تعليم المرأة أعونُ لها في حسن القيام على تربية أولادها، فلما تعلمت المرأة نسوا ما كانوا يدعون إليه أو تناسوه، وراحوا يعملون على أن تكون المرأة صورة مكررة من الرجل. وصنيعهم هذا دليل على أنهم غير مخلصين فيما يدعون إليه، وأن لهم من وراء دعواتهم أهدافاً وغايات تخالف ظاهر أقوالهم.

ولو شئنا لقلنا بعد ذلك كله لأعداء المرأة وأعداء أنفسهم ممن جرى عرف الصحف والكتاب في هذه الأيام على تسميتهم (أنصار المرأة): إن المرأة لا تصلح للكد وممارسة الأعمال العامة صلاحية الرجل. لأنها بحكم تكوينها تحيض أسبوعاً في كل شهر، وهي حالة تكاد تكون مرضاً يخرجها عن مألوف عاداتها. وهي بعد ذلك إن حملت ظلت تعاني في الشهور الأولى من حالات (الوحَم) وما يلازمه من أسقام. ثم إنها تعاني في الشهور الأخيرة من ثقل الحمل الذي يقيِّد حركاتها حتى يكاد يشلها. فإِذا لم تكن المرأة العاملة متزوجة كانت مشغولة بالبحث عن الزوج، معرضة للزلل والتفريط عند كل بارقة من الأمل في الظفر به، وهي لا تعدل عن ذلك ولا تتصرف عنه إلا لعلة قد تكون شراً من البحث عن الزوج وأخطر.

وقد زعم أعداء المرأة المتسمين بأنصارها أن لزومها للمنزل انتقاص

ص: 92

لحقوقها وقتل لشخصيتها واعتداء على كيانها. ومن قلب الأوضاع أن نسمي المصون المخدوم المكفَّى الحاجة سجيناً حسب ما توهم صاحب (تحرير المرأة) كما يبدو من عنوان كتابه. وقد عاشت المرأة ما عاشت مكرمة معززة مدللة حاكمة على زوجها من خلف ستار، ولم تحس يوماً أنها مهضومة الحق أو أنها مضطهدة أو سجينة أو مهدرة الكرامة والشخصية، حتى ظهر ذلك النفر من الكتاب فأحلَّ الصراع والتنازع بين الجنسين محل التواد والتراحم. ومن عجيب أن الذين حملوا اللواء في الدعوة إلى ما يسمون (حقوق المرأة) كانوا من الرجال ولم يكونوا من النساء، ولم يكن من وراء صنيعهم إلا إفساد الحياة على المرأة والرجل كليهما. ذلك لأن الحياة تحتاج إلى طمأنينة توفر للناس السعادة والاستقرار، وثورة النساء والرجال كل منها على الآخر تُحِمل القلق والبغضاء محل الطمأنينة والحب بين الجنسين اللذين أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل بينهما مودة ورحمة ينبني عليهما عمران الكون وحفظ النوع البشري. والمجتمع السليم يقوم على التواد والتراحم وعلى إخلاص كل عضو فيه لوظيفته وقيامه بها راضياً لا يمل ولا يتذمر، فهو كالجسم الذي ينصرف كل عضو فيه إلى أداء عمله ووظيفته، لو توقَّفَ أحد أعضائه عن أدائها أو تمرد عليها لاختل. فالله سبحانه وتعالى قد {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . فهيأ كل فرد، بل كل ذرة، من نباتٍ أو حيوان أو جماد، لوظيفةٍ معينة، وركَّب فيه من الطبائع ما يناسبه، وصرفه لأدائها. وعلى ذلك تقوم حياتنا الحديثة في كل شؤونها وفي كل نواحي الصناعة والعلم فيها، فهي تقوم على التخصص الدقيق الذي يتيح دقة المعرفة وحذق المرانة لكل عاكف على فرع بعينه. والتربية الحديثة تحاول أن تكتشف مواهب الأطفال والصبية لتوجه كلًا منهم فيما يلائم استعداده وتكوينه. فلماذا نطبق هذين المبدئين - التخصص والعمل المناسب - في كل شيء، ونأبى أن نطبقهما في الرجل والمرأة؟.

والرجل الذي يكدّ ويجهد نفسه ويرهقها في العمل خارج البيت محتاج إلى زوجة متزينة متعطرة ناعمة البال يأنس بها ويسكن إليها مما يجده من عناء، وتُسرِّي عنه بعض ما يعتريه من السأم والإِجهاد، وما يترك عنف التعامل مع الناس في نفسه من آثار الضيق والملل. وكدحُ المرأة في ميادين الأعمال العامة

ص: 93

يصرفها عن رعاية الزوج والولد كليهما لا شك في ذلك، لأنها تعود إلى البيت مكدودة مرهقة كالرجل، فأيهما هو الذي يسري عن الآخر؟ وأيهما هو الذي سيتسع صدره لمداعبة البنين واحتمال ما لا بد أن يُحتَمل في تربيتهم من ضجيج مرحهم وأنين أَلمِهم وصراخ أوجاعهم؟ وهل تصبح الحياة عند ذلك إلا عناء وشقاء للمرأة وللرجل كليهما؟ وهل يصبح الفرد - رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً - إلا (ترساً) من (تروس) آلة صماء في حياة لا سكن فيها ولا قرار. ويستطيع كل ذي لب وبصيرة أن يدرك آثار الفشل الذي حاق بتجارب المجتع الأوروبي والأمريكي في هذه الناحية. مع أن هذه الآثار لم تبلغ بعد منتهى مداها، ولا تزال سائر عقابيلها في الطريق. فهذا الجيل الغربي من التائهين والضائعين المحطمي الأعصاب المبلبلي الأفكار القلقي النفوس، وهذه النسبة الآخذة في الارتفاع - حسب إحصاء الغربيين أنفسهم - للانحراف والشذوذ بكل ضروبه وألوانه، هذه الظواهر والآثار كلها هي من آثار التجربة التي خاضها الغرب في المرأة، لأن هؤلاء جميعاً هم أبناء العاملات والوظفات الذين عانوا من إرهاق أمهاتهم وهم في بطونهن، ثم تعرضوا لإِهمالهن بعد أن وضعنهم. وماذا يبتغي الناس من تجربة فاشلة كهذه؟ ألا يتدبرون؟!

وللمفسدين والمخدوعين ممن يسمون (أنصار المرأة) حجج ومزاعم أكثرها مبني على المغالطة. وأشهر مغالطاتهم في ذلك ما يزعمونه من أن عكوف المرأة على منزلها فيه تعطيل لنصف المجتمع. وقولهم هذا مبني على أن المرأة ليس لها عمل في المنزل. والواقع أن وظيفتها في تدبير شؤون البيت ورعاية الزوج والولد وقضاء حاجاتهم المتنوعة تستغرق كل وقتها لو أديت على وجهها، بل إن وقتها يضيق بها في بعض الأحيان. والدليل الذي يخرس كل لسان على صدق ما نقول هو أن العاملات يحتجن دائمًا إلى توظيف الخدم من النساء والرجال لسد النقص الناتج عن تخليهن عن وظيفتهن. فأي شيء تكسبه الدولة إذا كانت المرأة تخرج للعمل وتربط مكانها شخصاً أو شخصين تعطلهما عن العمل، أين هو الكسب الاقتصادي المزعوم؟ وهل هذا إلا الخلل عينه؟ تشتغل المرأة خارج البيت بأعمال الرجل، ويسقط من حساب الأيدي العاملة رجل أو رجلان يقومان بأعمالها في المنزل، ويسقط من حساب الدارسين والمشرِّعين جيل مضيَّع لا يقام لضياعه وزن في ميزان الكسب والخسارة؟! ولو

ص: 94

صح أن الاستفادة بنصف المجتمع المعطل هي الدافع الحقيقي إلى توظيف المرأة لوجب أن يستوعب العمل كل المتعطلين من الرجال قبل أن يُسمَح لامرأة واحدة بتولي عمل من الأعمال العامة.

ومن مغالطاتهم كذلك أنهم يتصيدون الأمثلة لمن نبغن من المسلمات في بعض فروع العلم أو شاركن في القتال، ليقيموا بهن الدليل على مطابقة دعوتهم للشرع. والواقع أن للمرأة حقاً غير منكور في طلب العلم إن كان فيها استعداد له، ولم ينكر أحد أن هناك بعض الوظائف التي تلائمها كتدريس البنات وتطبيب النساء، ولم ينكر أحد حق المرأة في السعي الشريف للرزق إن دعتها إلى ذلك ضرورة. والإِسلام سمح، قد أباح للضرورة أشياء كثيرة، حتى الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلَّ به لغير الله، فرفع الإِثم فيها عن المضطر في أكثر من موضع من القرآن الكريم (البقرة 173، المائدة 3، الأنعام 145، النحل 115) بل لقد رفع الإِثم عمن أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإِيمان (النحل 106). واشتراك المرأة في القتال هو من باب الاستثناء الذي تدعو إليه الضرورة، وهو في حدود الأعمال التي تلائم المرأة كالتمريض خلف صفوف القتال. ومصدر الخطأ والخلط في ذلك كله ناشئ عن وضع الاستثناء والشذوذ موضع القاعدة والأصل. واتخاذ أعمال الأفراد حجة على الشرع نفسه.

ومن مغالطاتهم التي ابتدعها قاسم أمين وتابعه فيها كثير من الناس أنهم يقولون: إن بين النساء نابغات وبينهن عانسات وبينهن من فقدت الزوج والعائل. فلماذا لا يشارك هؤلاء في الأعمال العامة في الحياة؟ وليس كل ما يقولونه إلا أعذاراً وحيلًا تنتحل لفتح الباب تمهيداً للزحف. إن الذي يسمح لقدمه أن تنزلق خطوة واحدة في أول الطريق لا يدري إلى أين تسوقه قدماه وإلى أين ينتهي به المسير. إن مدمن الخمر قد سمح لنفسه أولاً بمجالسة الشاربين، ثم سمح لنفسه بأن يشاركهم النّقْل، ثم تدرج من ذلك إلى مشاركتهم في قليل من الشراب لا يبلغ به حد الخلط وفقدان الإِحساس، ولم يزل يخطو في كل مرة خطوة من بعد خطوة حتى أصبح مدمناً. وكذلك الشأن في المرأة وفي كل أمر، ومنحُ صنفٍ من النساء حق الاشتغال بالأعمال العامة هو الانزلاق في أول الطريق الذي يجر إلى السماح لسائر النساء بهذا الحق كما أثبتت التجربة. لذلك كان علينا أن نضع للأشياء حدوداً لا نسمح لأنفسنا

ص: 95

بتخطيها. لأن المسألة في لبها وفي صميمها هي: ما هي وظيفة المرأة؟ ولأن التشريع إنما يوضع دائمًا للأعم الأغلب، ثم ينفذ على كل الناس بلا استثناء.

ومن مغالطاتهم كذلك أنهم يعتذرون بأن نزول المرأة إلى ميدن الأعمال العامة قد أصبح أمراً واقعاً وقاعدة مقررة. وينبغي لهم أن يعرفوا أن الحق واحد لا يتغير. ومهما يتقادم العهد على الباطل فسيظل باطلاً. ومهما يجر العمل على غير الحق فسيظل الحق هو هو وإن حاد عنه كل الناس. ثم إنه لا يبقى على توالي الأزمان إلا الحق. لأن الباطل زهوق لا تدوم له دولة. والحق هو الناموس. هو قانون الله الذي لا يتبدل، هو فطرة الله التي فطر عليها الخلق. هو ما ركَّبه الله سبحانه في طبائع الأشياء حين أعطى كل شيء خلقه ثم هَدَى، وناموس الله ثابت لا يتبدل {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}. ولكن الذي يحول ويزول هو المعاند لسنة الله وفطرتهَ. والذي يعارض الناموس ويخرج على الفطرة كالوعل الأحمق الذي وصفه الأعشى قديماً حين قال:

كناطحٍ صخرةً يوماً ليُوهِنَها

فلم يَضِرْها وأوهَى قرْنَه الوعلُ

إن الأرض لا تستطيع أن تخرج على ما رُسِم لها من مدار، والليل لا يسبق النهار، وكل كوكب يدور في فلكه، وكل كائن يسير فيما رسم له من منهج ومن طريق. والفطرة التي فطر الله عليها كل واحد من خلقه فأعطاه خلقاً خاصاً وأقامه فيما أراد، هي جزء من الناموس. وهي بعض إرادة الله سبحانه. والأمانة التي يحملها كل واحد من خلق الله هي أن يبذل قصارى. جهده في أداء الوظيفة التي أقامه الله فيها. وليس في شيء في خلق الله إلا هو منقاد لإِرادة الله سبحانه وتعالى مسلم لها، يسبِّح خالقه بأداء الدور الذي رُسم له في استسلامٍ لإِرادته، تجد ذلك في النحل وفي النمل وفي الحيوان كله وجب النبات بضروبه والدواب بأنواعها، وفي الكواكب والأجرام وفي مختلف الظواهر. ولا يشذ عن ذلك إلا الانسان الذي ميّزه الله عن سائر خلقه بالعقل، فحمل بذلك أمانة لا يحملها أحد من سائر خلقه، فهو إن استخدم هذا العقل في طاعة الله بلغ به عملُه حداً لا يبلغه شيء من خَلْق الله، وإن شرد به عقله في غير سبيل الله ضل وهوى إلى قرار سحيق. والله سبحانه هو المسؤول أن يهدينا إلى أقوم طريق.

ص: 96