الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حُصُوننَا مُهَدَّدة مِن دَاخِلهَا*
تعددت مصادر الثقافة في عصرنا وتنوعت ألوانها، فلم تعد المدرسة وحدها هي المصنع الذي يُصنَع فيه الرجال وتصاغ الأجيال. فقد أصبح ينافسها في هذا الميدان كثير من القوى الجديدة التي ولدتها المدينة الحديثة، ينافسها في ذلك المطبعة بما تخرجه من كتب ومن صحف ومن نشرات، وتنافسها فيه الإِذاعة بما توجهه من كلمات وألحان في مختلف الصور والألوان، وتنافسها فيه السينما بما تجسمه لوحتها الخداعة من حكايات وما تَعْرِضه من فنون وشؤون، وتنافسها ألوان أُخرى أقل أهمية، مثل المحاضرات والندوات والمسامرات والمؤتمرات، التي تعقد في الأندية وفي المواسم بمختلف صورها وفي الجماعات، ومثل شركات تسجيل الأغاني، ودور اللهو والتمثيل.
كل هذه الألوان من مصادر الثقافة في عصرنا تبين أن وزارة التربية والتعليم لم تعد وحدها في هذا الميدان، وأنها لا تستطيع أن تنهض بعبئها ما لم تجد عوناً يشد أزرها من كل هذه الأدوات الضخمة. ومن العبث الساخر والجهد الضائع أن تنفق هذه الوزارة ما تنفقه من جهد ومن مال بينما الأدوات الأُخرى تتعقب جهودها وآثارها، تنقض ما أبرمته، وتشكك فيما قررته، وتدعو إلى ما حذرت منه وحرّمته، وتقيم للناس مُثُلاً وتبتدع لهم طرائق وعادات مما تقترحه أو تختلقه، هي على نقيض ما تريد المدارس أن تزرعه وأن تؤسسه في أخلاق النشء، وتصرف القراء عن الجد من القول إلى الهزل،
(*) نشرت في عدد ربيع الأول وربيع الثاني سنة 1377 من مجلة الأزهر.
وعن النافع المثمر إلى التافه الغث، فتخلق أمزجة فاسدة باردة لا تجد لذة ومتاعاً إلّا في الساقط من القول واللهو من الحديث. من الواضح أن الدولة التي تنفق أموالها وتستهلك جهودها وقواها في إنشاء المدارس وفي إعداد القائمين عليها وفي إحكام نظمها وبرامجها وألوان النشاط فيها، ثم تسهو بعد ذلك عن هذه القوى الخطيرة التي تشاركها في هذا الميدان، فتترك سبلها ومنافذها مفتوحة لشهوات المأجورين والمخدوعين ومطايا الشياطين من الفاسدين والفسدين، تفعل ذلك تقديساً للوهم الذي أقامته الثورة الفرنسية اليهودية وزخرفت له اسمًا خداعاً خلاباً فسمته "حرية الرأي" أو "حرية النشر" أو "حرية الفرد"، وما هو في حقيقة الأمر إلّا وسيلة اليهودية العالمية لإِفساد الجماعات وهدم كل الأديان، حتى يتمكنوا من السيطرة عليها جميعاً بعد أن يقضوا عليها قضاء مبرماً (1). إن الدولة التي تفعل هذا هي كالنافخ في قِرْبةٍ مقطوعة، أو الجابي في حوضٍ مثقوب.
وقد أُنشئت وفي مصر وزارة للإِرشاد القومي نرجو أن يكتب لها التوفيق فيما تنهض به من عبء ليس بالهين ولا بالقليل. وواضح من اسم الوزارة أن
(1) أكثر الناس يجهلون أن شعار الثورة الفرنسية اليهودية: "الحرية والإِخاء والمساواة" هو من وضع مجمع بوردو الماسوني. وهو شعار لم يخدم إلّا الأقلية اليهودية. إذ سمح لسماسرتها بنشر الفساد، وأعانها على هدم سلطة الكنيسة وتقويض كل القيم، باسم الحرية. وحماها في الوقت نفسه من تعصب المسيحيين على الأقلية اليهودية التي تستأثر بالسلطة عن طريق المال، باسم الإِخاء والمساواة. ومن أعجب ما يخضع له الناس من أوهام، مما روجه اليهود، تسمية الصحافة. "صاحبة الجلالة". وإحاطتها بهالة من القداسة تسمح لأي مدسوس على قومه، أو فاسق مريض القلب واللسان، أن يلفق من الأضاليل ما يريد وما يراد له، وأن يدسها على عقول السذج من الأحداث والأغرار، والحمقى من ضعاف العقول، باسم العلم والثقافة والحرية والتمدن، ما دام قادراً على تأثيث دار للصحافة، بماله أو بمال غيره. وسيطرة التنظيمات اليهودية على الصحافة العالمية وعلى وسائل النشر ووكالات الأنباء مشهورة معروفة. فرواج هذا الوهم بين الناس باسم "حرية الرأي" هو أكبر ما يمكن للدعاية اليهودية ويدعم سلطانها، حتى يصبح سوطاً يلهب ظهر كل حر، ومقراضاً يقطع عرض كل ذي خلق أو دين؛ ويجعله سخرية الساخرين وأضحوكة اللاهين، في الوقت الذي يمكِّن فيه للمفسدين والفارغين من الظهور، حتى يصبحوا ملء العيون والآذان، فلا يرى الناس إلّا صورهم ولا يسمعون إلّا أصواتهم، ولا يصبحون ويمسون إلّا في أخبارهم وأقوالهم.
مهمتها هي الإِرشاد، أىِ الهداية التي تنقذ من الغَيِّ والضلال، وتهذب الطبائع والخصال. فليس من عملها أن تستجيب لأهواء الناس وتتبعهم فيما يشتهون، لأنها تقود ولا تقاد، ولأن مهمتها - كما يدل عليها اسمها - هو الإِرشاد، وليس التسرية ولا التلهية والترفيه، وإن كان بعض ذلك قد يُتخَذ وسيلهَ للإِرشاد، فلا يكون مقصوداً لنفسه، ولكنه وسيلة لما انتدبت له هذه الوزارة الخطيرة من أمر. ثم إن هذا الإِرشاد محدود بحدود، مقيد بقيود، فهو إرشاد قومي، أي أنه يخدم هدفاً معيناً هو خدمة قوم بعينهم، لهم دين معروف ولهم قيم خلقية واجتماعية محددة مقررة، ولهم سياسة ومصالح رسمتها الدولة في دستورها وفي قوانينها. فإِرشاد هذه الوزارة إذن هو في حدود واضحة بينة المعالم والمناهج، وليس متروكاً لشطحات الشاطحين ونزغات النازغين من كل ذي هوى يزعم أن ضلاله هو عين الرشاد، ويضع للهداية وللإِرشاد مقاييس لا يدري أحد من أين جاء بها، ويعّرف الخير والجمال تعريفات ينكرها ديننا وخلقنا، ويسوق القول في مضايق ومآزق تعارض ما رسمت الدولة لنفسها من سياسة وما رضيت الأمة لنفسها من دستور.
ومع ما يدل عليه اسم الوزارة من معنى محدَّد يرسم منهجها بما لا يكاد يحتمل لبساً أو غموضاً فالمتأمل فيما يخضع لها من مصالح وأقسام وإدارات يجد عجباً فيما يمر به من متناقضات، يخيل إليه معها في كثير من الأحيان أن مخالفة المنهاج أمر مقصود من فاعليه، لم يتورطوا فيه عن خطأ أو نسيان.
خذ لذلك مثلاً من الإِذاعة. فالسياسة التي تجري عليها هي إشباع الشهوات لا الإِرشاد، وهي في كثير مما تهز به أجواء الأرض من كلمات أو أصوات تُفسد ولا تصلح، وتغوي ولا تهدي، وتحتاج للمرشد مع أن مهمتها هي الإِرشاد. فقصصها المسلسلة مثار للفزع الذي يقلق النفوس ويسقم الناشئة ويجنح بطبائعهم إلى الانحراف، بما يدور حوله سياقها من جرائم تظهر عتاة الأشقياء في مظهر الأبطال، وبما تعرضه من نماذج لنفوس فظة مريضة، وبما توحي إلى أبنائنا وبناتنا من سلوك منحط سافل يتحدى خلقنا الإِسلامي بما تزوره وتزيفه من مبتكرات الوهم الكبير الذي يسمى "علم النفس"، وبما تقدمه هم من نماذح لأساليب الكتابة والخطاب في أحاديث
الغرام ورسائله وتأوهات المغرمين والمغرمات، وتماوت المتهالكين والمتهالكات من الممثلين والممثلات، وبما تحدث من تفكك هدَّام في كيان الأسر، حين تنزل ضيفاً ثقيلًا على كل بيت، وتفرض نفسها سلطة ثانية إلى جانب سلطة الوالدين، بل تفرض نفسها رقيباً عليهما، إذ تصحح تصرفاتهما، تمحو منها ما تشاء وتثبت ما تشاء، وتصورهم أمام أبنائهم وكانهم ينتمون إلى جيل رجعي لا بد أن يعدل عن آرائه الجامدة أو يتحطم أمام سيل التطور الجارف. وذلك في الوقت الذي تغذِّي فيه سخط الأبناء وتمردهم المتزايد الذي ينمو يوماً بعد يوم.
وقد يكون تأثير مثل هذه الحكايات الملفقة والحوادث المصنوعة ضعيفاً على كبار النفوس وناضجي العقول من ذوي التجربة والمثقفين، لأنهم لا يندمجون فيما يسمعون، فهم دائما على ذكر من أن الذي يسمعونه هو مجرد أوهام لا تمت للواقع بصلة. ولكن الشباب والأطفال وضعاف العقول لا يفرقون بين ما يسمعون في الإِذاعة وبين ما يشاهدونه في الحياة، ولا يميزون بين القصة التي يشاهدونها على لوحة الخيالة وبين واقع الأمر في الحياة. فهم يندمجون اندماجاً كاملًا فيما يرون وما يسمعون من ذلك كله، فتجذبهم الأحداث إلى الهياج تارة وإلى البكاء تارة أُخرى، وتنطبع آثارها في نفوسهم فتصبح جزءاً أصيلاً من مشاهداتهم وتجاربهم، بل إنها تصبح آصل من كل ما شاهدوا وما جربوا لا يحيطها من عوامل الإِغراء والإِقناع والتأثير التي افتن فيها مخرجوها وبلغوا في ذلك أقصى الطاقة والجهد.
فإِذا انتقلنا من القصص إلى البرامج على اختلاف أسمائها سمعنا أسئلة توجه إلى الريفية الساذجة وإلى "بنت البلد" الحافظة عن العشق والغرام تطمئننا إجاباتها إلى تقدم المرأة المصرية بعد أن زالت عنها أعراض (داء) الحياء القديم. كما نسمع نصائح من المخمورين والحشاشين وعُتقَاء السجون، ونسمع خلال ذلك أبغض الأغاني إلى أصحاب الطبائع السليمة المستقيمة مما يطلبه هذا الحشد الذي لا أدري أهو مصنوع، أم أن الصدفة وحدها هي التي ألفت بينه وجمعته.
وإذا أرادت الإِذاعة أن تسري عن سامعيها وتذهب عنهم ما ألم بهم من
الملل، من آثار ذلك (الجدّ) الذي عرضنا بعض نماذجه، أسمعونا في "ساعة لقلبك" - وما أظن أن القلوب المقصودة بالخطاب إلّا قلوب الفارغين والغافلين - سيلاً من الشتائم النابية، والمهارشات الفظّة الهابطة، التي لا ترعى حرمة ولا تعف عن لفظ، ورأينا تسفلاً إلى أحط المستويات الخلقية والاجتماعية، تقدمه هيئة كان يُظَن أن مهمتها هي الارتفاع بالمتخلفين إلى مستويات فكرية أرقي، وليست هي النزول بالمستمعين إلى مستواهم.
وأعجب ما يحتج به القائمون على هذه البرامج وعلى غيرها من ضروب التلهية شيء جديد من مبتكرات هذا العصر، أفتتن به القرود المقلدون أيما افتتان، ورصدت له مصلحة الفنون ومجلس الآداب شطراً كبيراً من جهودهما، اسمه "الفولكلور".
والفلكلور (Folklore) اصطلاح ظهر في أوروبا في منتصف القرن الميلادي الماضي ليدل على الدراسات التاريخية التي تتصل بعادات الشعوب وتقاليدهم وطقوسهم وخرافاتهم وأساطيرهم ومعتقداتهم وفنونهم وما يجري على ألسنتهم من أغان أو أمثال أو شتائم أو مَرَاثٍ أو أهازيج. يُدْرسُ ذلك كله من خلال الآثار والعاديات، كما تُستقصَى آثارُه الباقية في الجماعات البشرية المعاصرة. وقد انصرفت هذه الدراسة في أكثر الأحيان إلى المجتمعات المتخلفة وإلى المستعمرات، بقصد التعمق في تحليل نفوس أصحابها وإدراك دوافعها ونوازعها، وفهم ما ينتظم عواطفها وتفكيرها من منطق، بغية الوصول إلى أمثل الطرق وأحذق الخطط للتمكن منهم واستغلالهم واستدامة عبوديتهم (1). ولما استولى علينا حب التقليد للأجنبي في الشر والخير، كان من بين ما ابتُلِينا به أننا أصبحنا لا نُعجَب بأثر من آثارنا أو عادة من عاداتنا حتى نسمع تقريظ الأجنبي لها فنقرظها تبعاً له، أو نرى اهتمامه بها وعنايته بدراستها فندرسها اقتداء به. وقد ظلت "ألف ليلة وليلة" دهوراً لا يكترث لها إلّا السوقة والفارغون وأصحاب المجنون، حتى رأينا الأجانب يترجمونها ويوهمون الناس أن حياة الشرقيين ليست إلّا صورة مما تسوقه أقاصيصها، فتنبه باحثونا عند ذلك
(1) كذلك نشأت هذه الدراسات في أول أمرها، وإن كان هذا لا يمنع من أنها قد امتدت في السنوات الأخيرة إلى دراسة المجتمع الأوروبي في مختلف البلدان والبيئات.
لها، وتناولتها أقلامهم بالدراسة والتنقيح والتهذيب والاقتباس. وكذلك كان شأننا مع دراسات "الفولكلور". ولما كنا نجهل أهدافها الحقيقية الأولى ظننا أن المقصود هو الإِشادة بهذه الألوان الشاذة حيناً، والبذيئة حيناً آخر، والمتخلفة تارة أُخرى، فاتجه همنا إلى الدفاع عنها وتمجيدها، والمحافظة عليها وتجميدها، بزعم أنها طابعنا القومي المميز الذي لا ينفك عنا ولا ننفك عنه. وكثر خلط المخلِّطين وتهريج المهرِّجين باسم الشعب والشعبية. وأصبح الداعي إلى الترفع عن الشناعات والبذاءات وقبيح العادات وساقط الأساليب والفنون يُتهم عند سفهائهم بعداوة الشعب وبالترفع عن عامة الناس وبأنه من بقايا الإِقطاعيين والأمراء والباشوات أو من خدامهم في العهد البائد. وأصبح قصارى ما ينضح به أحدُ هؤلاء عن نفسه وما يتخذه من حجة إذا عارضك فيما تبينه من الحرام والحلال، وما تضعه من الحدود بين المحظور والمباح، أن يسوق إليك جملًا من عادات بعض الجهال أو مذاهب الفراعنة. يعارضون بذلك الإِسلام، كأن الفرعونية دين أو مذهب خلقي، وليست مجرد عصر تاريخي يجوز عليه الفساد والضلال. وكأن عرف الجاهلين والدهماء تنزيل يُعارَض به التنزيل، ومثَل أعلى يحُمل عليه ناشئةُ هذا الجيل.
وأكثر ما كان هذا الشطط في مذاهب دعاة العزلة والانفصال الذين كانوا يعارضون الإِسلام والعروبة بالفرعونية في الفترة التي تلت إلغاء الخلافة الإِسلامية بعد الحرب العالمية الأولى. فقد كان يزعم هؤلاء الغلاة من الانفصاليين والهدامين أن تغير الدين في مصر من الوثنية إلى المسيحية ثم الإِسلام، وتغيير الكتابة واللغة فيها من الهيروغليفية إلى العربية لم يقطع ما بين مصر الحديثة وبين مصر القديمة من صلات. وكانوا يحتالون لرد حياتنا المعاصرة في مختلف مظاهرها إلى أصل فرعوني قديم، ويَدْعون إلى أن تقوم نهضتنا على بعث المجد الفرعوني القديم مثلما قامت النهضة الأوروبية الحديثة على بعث التراث اليوناني والروماني في عصور الوثنية السابقة على المسيحية.
ومن هنا كان اتصال هذه الجماعة من المارقين الموكلين بتفريق شمل جماعة العرب والمسلمين بما يسمون "الدراسات الشعبية" أو "الفولكلور"، إذ دعوا الأدباء والكتاب إلى البحث عن مواضع الاتصال بين مصر القديمة ومصر
الحديثة في ميادين الأدب وكتب العقائد وطقوس العبادة وموروث التقاليد والعادات في شتى نواحي الحياة، كما دعوا إلى إنشاء أدب خاص وفن مستقل في التصوير والنحت والموسيقى، يتميز بطابعه المصري المحلّي. وقد وصف أحدُ دعاة هذا المذهب وقتذاك الأدب الذي يعنيه بأنه (مستقل عن آداب الشعوب الشرقية الأخرى الناطقة بالضاد) لأن (اللغة العربية ليست لغة شعب فحسب، بل هي لغة شعوب وأمم عدة تنطق وتكتب بها. فنحن في حاجة إذن إلى تقريب هذه اللغة إلى أذهاننا لتعبر عن خواطرنا، وليس أدل على ذلك من ضرورة خلق أدب قومي تكون لنا غيرة عليه، ويكون في استقلاله بعيداً عن كل المؤثرات التي تجعله اشتراكياً محضاً).
ولم يكن هؤلاء يخفون أنهم متأثرون بالأوروبيين شرقيهم وغربيهم في دعوتهم هذه، ولم يكونوا يتحفظون في دعوة أنصارهم إلى الاستفادة بكل ما جمعه الأوروبيون وما ألفوه في هذا الباب. وكانوا يجاهرون باتخاذ القدوة من اللغات الأوروبية الحديثة التي نشأت على أنقاض اللغة اللاتينية، حين كانت هي اللغة التي يكتب بها الشعر والنثر والقصة والأدب في أوروبا كلها (ولكن شعور كل شعب بقوميته واعتزازه بوطنيته واعتداده بنفسه، حدا به إلى أن يتحرر من إسار اللغة اللاتينية وإلى أن يكون مستقلاً في آدابه عنها، موحداً جهوده في سبيل تهذيب لغته وطبعها بطابع قومي خاص له روعته وجماله). وفي سبيل تحقيق هذا المثال كان هؤلاء يقولون: (إن واجبنا هو أن نبث في الشعب روح القومية وروح الإِنتاج المحلي) وأن (أول ما نولي وجوهنا، فليكن شطر الأدب الفرعوني قبل كل شيء فهو تراث الآباء والأجداد
…
فإِن لم يكن للكاتب ملكة ينميها أو وجدان يستمده من الأدب الفرعوني فليول وجهه شطر الأدب الريفي). وكان دعاتهم لا يملون من تأكيد أن (الأدب المصري الذي نعنيه هو أدب محلي يصور الحياة المصرية والقومية المصرية وحدهما، فلا نعني به أدباً شرقياً، كما أبهم على بعض الكتاب الأفاضل، يتناول حياة الشرق العربي أو البلاد الشقيقة المجاورة).
وكانت هذه الجماعة التي تتخذ (السياسة الأسبوعية) لساناً لها تريد أن تكون (جماعةً تقتصر على الكتّاب الناشئين، تُعنى بتهذيب ملكاتهم وجعلهم
أكثر إنتاجاً وأكثر استقلالاً في الفكر واعتماداً على أنفسهم وعلى مصريتهم). وكانوا يتخذون الدكتور هيكل رئيس تحرير تلك الصحيفة قدوة لهم، ويشيدون بقصة له ظهرت وقتذاك تحكي عن الريف ويجري الحوار فيها بالعامية، وهي قصة "زينب" التي كانت أول ما ظهر على لوحة الخيالة من الإِنتاج المصري حين كانت صورها صامتة، وكان من بين ما يقترحونه من الوسائل إلى خلق هذه الروح المصرية في النشء (توجيه المسرح المصري إلى الناحية القومية وجعله مسرحاً مصرياً روحاً وقوة وإنتاجاً، والعناية بالأناشيد القومية وجعلها تصور على قدر الإِمكان أماني المصريين وآمالهم، والعناية بالأدب الفكه والأدب الريفي)(1).
ولعل هذا القدر الذي قدَّمته كاف في توضيح خصائص هذه الدعوة والكشف عن خطورة أهدافها، التي لا تخدم إلَّا مطامع الاستعمار، الذي يتوسل إليها في البلاد العربية وفي العالم الإِسلامي بتقطيع أوصالها وبث روح التنافر والتدابر والتقاطع بين أفرادها وجماعاتها، استدامةً للوضع الراهن الذليل الذي كانت فيه، وتحاشياً لاتحادها الذي يؤدي إلى قوتها وتمردها على هذا الوضع. وقد أشرت في مقال سابق إلى أهداف الأوروبيين والأمريكيين من الدعوة إلى إحياء الحضارات السابقة علي الإِسلام، تلك الدعوة التي ظهرت في وقت واحد في كل من تركيا ومصر والشام والعراق وشمال أفريقية وفارس والهند وأندونيسيا. وكان مظهرها في كل هذه البلاد واحداً وكانت أساليبها متشابهة (2).
(1) لمن شاء التوسع في ذلك أن يعود إلى صحيفة (السياسة الأسبوعة) في أعداد 27 نوفمبر سنة 1926، 17 ديسمبر سنة 1927، 7 يناير 1928، 18 يونيه 1930، 12 يوليه سنة 1930، 19 يولية 1930. وعناوين المقالات المشار إليها مرتبة حسب التواريخ السابقة هي:(مصر الحديثة ومصر القديمة)، و (الفن المصري) ، و (هل من خطوة جديدة في سبيل الفن الصرفى)، و (دعوة إلى خلق الأدب القومي) ، و (في سبيل الدعوة إلى الأدب القومي)، و (دعوة الأدب القومىِ). وإلى الفقرة 3من الفصل الثاني في الجزء الثاني من (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) لكاتب هذه السطور.
(2)
راجع مجلة (الأزهر) في جزء رمضان سنة 1376 - ص (816 - 818). تحت عنوان (الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة). والمقال منشور في كتابنا (الإِسلام والحضارة الغربية).
ومن الواضح أن ألاعيب الاستعمار في هذا الباب قد انكشف أمرها ولم تعد تخفى على ذي بصر. فقد تنبهنا إلى ما يراد من تفريق شمل العرب والمسلمين، كما بصّرتنا التجارب الأخيرة بما يمكن أن يعود على ذلك المجموع العربي والإِسلامي من خير نتيجة لتضامنه واتحاده. فكل ما يقصد إلى زيادة هذا الاتحاد قوة فهو صادر عن باعثٍ خيرِّ يستهدف صالح ذلك المجموع. وكل ما قصد إلى توهين هذا الاتحاد وبثّ روح الفرقة والعصبية القبلية والشعوبية الجاهلية بين أفراده فهو لا يخدم إلَّا أهداف العدو ولا يورثنا إلَّا الضعف.
ومن الواضح البينّ أن هذه الدعوات الشعوبية قد أصبحت تخالف دستورنا مخالفة صريحة تُوقِع أصحابها تحت طائلة العقاب. فلم يعد هناك مجال للكلام عن الفرعونية التي تَعتبِر العرب دخلاء بعد أن قررت المادة الأولى من الدستور أن (مصر دولة عربية) وأن (الشعب المصري جزء من الأمة العربية)، ولم يعد هناك مجال للكلام عن (الفولكلور) المصري القديم أو الحديث والدعوة إلى إقامة حياتنا وفنوننا على أساسه، بعد أن نصت المادة الثالثة من الدستور على أن (الإِسلام دين الدولة) تم نصت المادة الخامسة على أن (الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية). فنظام مجتمعنا لا يستمد مقوِّماته إذن من ذلك (الفولكلور) قديمه أو حديثه، ولكنه يستمدها من ديننا الِإسلامي ومن أخلاقنا الإِسلامية ومن وطنيتنا العربية.
ولكن العجب الذي لا يشبهه عجيب أن هذه الدعوة التي قَتَلَ الدستورُ جراثيمها واستأصل سرطانها الفتاك قد أطلت برأسها من جديد تلتمس الحياة في صحيفة "المجلة".
ويكفي أن تراجع العدد الأول من هذه الصحيفة لكي تتبين أن العصبية الشعوبية والفرعونية الجاهلية تسيطر عليها سيطرة كاملة، وأنها تتجاهل تجاهلًا كاملًا أنها في بلد عربي أو إسلامي. فهي تكاد تخلو من المواضيع الِإسلامية أو العربية، وهي مطبوعة بطابع شعوبي انفصالي يتحدى دستور الدولة، لأنه يتحدث عن العرب بوصفهم غزاة دخلاء في بلد تنص
المادة الأولى من دستوره على أنه عربي (1)، وهي تقدس الفرعونية إلى حد الغُلوّ الذي يخرج بها إلى الوثنية والكفر والتهكم بقيم الإِسلام وأبطاله وتشويه سيرتهم. فإِذا خرجت "المجلة" عن هذا الطابع الانفصالي الذي هو خليق أن يدعم مزاعم الدعايات الأجنبية التي تريد أن تصور سياسة مصر الحالية سياسةً إمبراطوريةً استعمارية، إذا خرجت "المجلة" عن هذا الطابع لم تتحدث إلَّا عن أدب الغرب وموسيقى الغرب ورقص الغرب وفنون الغرب، ذلك الغرب الذي وصفه أحد كتابها بأنه (العالم المتحضر)، حين تحدث عن الاحتفال ببرنارد شو، فقال في صدر مقاله:"احتفل العالم المتحضر بالعيد المئوي لميلاد برنارد شو"، وكأن من عدا هؤلاء المحتفلين ببرنارد شو - ممن يزعم الكاتب أنهم هم المتمدنون - رعاع وهمج.
يتحدث المقال الأول في هذا العدد عن (قناة السويس بين التأميم والتدويل)، فيزعم أن (تقاطيع رئيس جمهورية مصر الشاب تشبه تقاطيع الشخصيات والرجال الذين خُلّدت صورهم على جدران المعابد والهياكل الفرعونية منذ آلاف السنين). وجمال عبد الناصر - مثله في ذلك مثل ملايين عديدة من المصريين - عربي الأصل من بني مر. فمن أين يجيئه العِرْق الفرعوني؟ وأي فخر في أن يكون جَدّه أحدَ هؤلاء الكفار الجبابرة الذين قطع الإِسلام ما بيننا وبينهم؟
ويمضي الدكتور حسين فوزي كاتب المقال على هذا النمط في سائر مقاله، تقوده نزعة فرعونية غالية، فيتحدث عن (عودة التاريخ الفرعوني فجأة ودبيب الحياة فيه، وتحرك الحضارة المصرية القديمة وسيرها على الأقدام وزحفها في العربات السريعة الرشيقة التي نرى صورها في الكتب ونعجب منها ومن راكبها وفارسها). والحضارة كما هو معلوم دين وتفكير وأسلوب في الحياة، فهل هناك نية للانسلاخ من حضارتنا الإِسلامية والارتداد إلى الوثنية الفرعونية؟ أم ماذا تكون الحضارة الفرعونية؟ وكيف يكون تحركها وزحفها وبعثها؟ ويتحدث
(1) راجع مقال "صراع القومية المصرية من غزو الاسكندر حتى الفتح الإِسلامي" في العدد
الأول من "المجلة" ص 30 - 43،
المقال كذلك عن واجب مصر الأول نحو الناس.، وهو نشر الحضارة بينهم، فيخيل للقارىء أن الكاتب يتحدث بلسان الإِمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر. أبمثل هذا تدعّم القومية العربية وتحارَب أكاذيب المفسدين والدساسين الذين ينفثون سموم الفرقة بين العرب، حين يزعمون لإِخواننا أن مصر دولة ذات مطامع استعمارية تتذرع إلى مطامعها بين العرب والمسلمين باسم العروبة والإِسلام؟
وإذا شئت المزيد من هذه العصبية ومن هذا التهور فاقرأ نص خطاب كاتب هذا المقال في الاحتفال بافتتاح البرنامج الثاني (العدد 6 ص 123 - 127)، حيث يردُّ إلى الفراعنة مظاهر الحضارة الِإنسانية بكل ألوانها وبكل فروعها وصورها، وينسب إليهم (صنع فكرة الإِيمان بالله) على حد تعبيره، ؤحيث يقول:"إن مصر الآن لا يُشَك في أنها تلعب دوراً رسالياً، دوراً ذا رسالة. ونحن لا نستطيع أن نضطلع بهذا الدور إلَّا إذا شَحَنّا بطاريتنا، لأن بطاريتنا فارغة". ثم يروي قصة القبطان الذي نفد ما في سفينته من الماء الحلو، فأخذ يلح في طلبه، ثم تبين له أن الماء الحلو تحته وهو لا يدري، بعد أن قطعت سفينته المحيط ودخلت في مصب أحد الأنهار. ويشبه حالنا في مصر بحال ذلك القبطان "الماء الحلو عندنا، الماء الحلو في ثقافتنا .. في بعض هذه الهياكل والمعابد التي نستطيع أن نشاهدها، فنرى كيف صنع أجدادنا من هذه الأرض وبهذه الأدوات". ثم يقول: "وأرجو أن يكون البرنامج الثاني إحدى هذه الوسائل في أعماق حياتنا التي امتدت ستة آلاف سنة بل أكثر. ونستطيع أن نخرج منها ماءً حلواً لا لنشرب منه فقط، وإنما نشرب ونوزّع منه على العالم". فهل هذا هو الدور الرسالي الذي ستقوم به مصر بين العرب؟ هل رسالتها في إحياء الفرعونية وفرعنة العرب جميعاً؟ وماذا يحدث لو أراد إخواننا المغاربة بالمثل أن يُبّرْبِرُوا العرب، ونازعهم في ذلك كل من العراقيين والشاميين واليمنيين، كل واحد منهم يباهي بجاهليته ويزعم أنها أحق بالسيادة؟ هلِ هذا هو السبيل الصحيح لجمع العرب، وهم بحمد الله وفضله مجتمعون فعلاً على الإِسلام، لم تفرقهم إلَّا أمثال هذه الدعوات؟!.
وتجد مثل هذا الانحراف المنفر في التعليق على العصر الفرعوني في مقال
(تي - سيدة من الشعب وجهت أحداث عصرها - العدد الثاني ص 25 - 42)، حيث يتكلم الكاتب عن تقوية النفوذ المصري خارج الحدود، وعن منافسة الأشوريين والبابليين والحيثيين لمصر في ذلك، وعن أساليب مصر الفرعونية في نشر نفوذها عن طريق نشر التعليم المصري. وكل ذلك لا يعين على تدعيم الثقة بين العرب ولا يلد إلَّا الشر، لأنه يدعم مزاعم الذين يعيثون بالتفريق بينهم ويشكك في أهداف مصر من وراء مساعدة إخوانها العرب ومدّهم بالمدرسين. ولا سيما إذا كان الذي ينشر هذا الكلام صحيفة تصدرها وزارة الإِرشاد القومي.
ومن أمثلة هذه المقالات المنحرفة مقال عنوانه (صراع القومية الصرية من غزو الاسكندر حتى الفتح الإِسلامي - العدد الأول ص 30 - 43). وهو مقال طويل كله تقديس جنوني للفرعونية وحط من قدر العرب والإِسلام، ونزول بدوافع الفتح الإِسلامي الأول في عهد الخلفاء الراشدين الذين أنقذنا الله بهم. من النار وهدى آباءنا وأجدادنا، إلى مرتبة السطو والقرصنة واللصوصية، انظر إليه كيف يتحدث عن ذي النورين، عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، حين يضعه بين جبابرة الرومان والماليك، حيث يقول:(فالخليفة يعزل عاملاً من أعدل عماله على مصر، ثم يعرّض بسياسته المعتدلة في فرض الضرائب، قائلاً: لقد دَرَّت اللِقْحَةُ بعدك يا عَمْرو. فيجيبه أعدلُ مَنْ وَلِيَ مصر بما يُفيد أنها أضرَّت بوليدها - العدد الأول ص 31) ويردف ذلك بحديث مثله عن أباطرة الرومان وبكوات الماليك، يصوّر أن همهم كله كان مصروفاً لاستغلال الشعب المستعبَد والتمتع على حساب كدِّه وشقائه. والمقال كله يشف عن عداوة عميقة لكل فكرة إسلامية أو عربية. فهو يرفع ذلك العهد الفرعوني الإِقطاعي إلى مرتبة من القداسة تكاد ترد الناس إلى ضرب من الوثنية. وهو لا يوقر صحابة رسول الله الذين كان فتحهم لمصر خيراً وبركة على المصريين، إذ أنقذهم من الضلال وأدخلهم في رحمة الله بدخولهم في الإِسلام، فهو حين يتحدث عن أولئك المجاهدين في نشر كلمة الله وهداية خَلْقه، الذين عاشوا زاهدين، ثم خرجوا من الدنيا لا يملكون من حطامها شيئاً، يقرنهم بالوثنيين من الرومان واليونان، وبالفسقة
والجبابرة من الطغاة، كلهم عنده سواء. تجد ذلك في مثل قوله:"ولم تكن بيزنطة أرحم بالشعب المغلوب، ولا كان الولاةُ العرب- ص 31". وفي قوله: "لم يكن المصري يملكِ شيئاً من أرضه ولا من غير أرضه. كلها إقطاعات للفرعون وأسرته، وللمعبد وسدنته، ثم للبطليموس فالإِمبراطور في رومة وبيزنطة، ثم للخلفاء في شبه جزيرة العرب جنوباً وشمالاً (1). ولمن جاء بعدهم من حكام مصر الأجانب - ص 31". وفي قوله: "وأنت تجد أمثلة لهذه الاضطرابات والثورات على طول التاريخ المصري في العهد القديم، وبعد استتباب الأمر للبطالسة وإبان الحكم الروماني والبيزنطي والعربي والعثماني والفرنسي والأرنؤودي والاحتلال البريطاني - ص 33". وقوله: "حدث هذا بعد احتلال الرومان وبعد الفتح الإِسلامي والغزو العثماني - ص 35". وقوله: "وكل همه إرضاء الملك البعيد إمبراطوراً أو خليفة أو سلطاناً - ص 35".
ولقد بلغ بالكاتب تقديسه للوطنية المصرية بهذا المعنى الشعوبي المتطرف حدَّاً يقرب من الشرك، فكان من سوء اختياره للألفاظ أن وصفها بما اختاره الله جل وعلا لنفسه فقال: إنها لا تدركها سِنَّةٌ ولا نوم (ص 26)، وأنزل الدين منزلة تلي في قداستها وسلطانها على النفوس هذه الوطنية، إذ جعل اعتناق المصريين للمسيحية مظهراً من مظاهر المقاومة الوطنية للاحتلال الروماني، وأظهر عجبه لتحول المصري عن الوثنية إلى المسيحية متسائلاً:"كيف لم يحرص المصري على ديانته العتيقة وهي آخر صلة له بمجده الغابر؟ - ص 26".
وفي "المجلة" بعد ذلك صور كثيرة من هذه الشعوبية البغيضة، في مثل مقال "فن التصوير المصري - العدد الأول ص 44 - 46" الذي يقدس فن الفراعنة الوثني وما اتخذوه لأنفسهم من آلهة بزعمهم، وفي مثل مقال "الفن المصري - إدراك القانون - العدد الرابع 29 - 33"، بما يتخلله من مجازفات مارقة في تعريف الدين والتدين والخلط بينهما وبين فنون الوثنية.
(1) من الحقائق العلمية والتاريخية أن الفتح الإِسلامي هو الذي ألغى نظام الطبقات للمرة الأولى في مصر وبه تحررت الطبقة الكادحة في الزراعة وصار حتى تملك الأرض عاماً لكل الطبقات. والذي يجهل هذه الحقيقة يجهل تاريخ الِإسلام في مصر.
وفي مثل مقال "الرقص الشعبي في الاتحاد السوفيتي - العدد الرابع 72 - 77"، الذي يدور حول حديث لراقص روسي عن "خلق رقص مصري ذي طابع مميز". بل إن الموضوعات الِإسلامية التي تتناولها "المجلة" تنحو بها نحو هذه الغاية، فلا تتحدث عن الإِسلام وأبطاله إن تحدثت - وقليلًا ما تفعل - إلَّا من هذه الزاوية الشعوبية المنافية لروح الإِسلام منافاة صريحة. تجد ذلك في مثل مقال "الخلافة المصرية الأولى - العدد السادس 81 - 84"، الذي يدور حول تمجيد ثورة دِحْية بن المعصَّب في مصر على الخلافة العباسية سنة 167 هـ فيسميها كاتب المقال (الخلافة المصرية الأولى)، كأن خلافة المسلمين التي هي خلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجمع شملهم على اختلاف أجناسهم، مُلْكٌ ينسَب إلى البلاد لا إلى الإِسلام نفسه، ويمجّد فيه المارقون المفتونون ممن يشعبون كلمة المسلمين ويبثون الفرقة بين صفوفهم.
وتجد في "المجلة" مع ذلك كله حفاوة شديدة بتفاهات هابطة وبألوان من العبث الساذج "الفنون الشعبية". تريد المجلة أن ترفع من قدر هذه التفاهات وتنادي بدراستها وتسجيلها باسم الفن وباسم الشعبية. وبطلانُ مثل هذه الدعوات ظاهر. فمن المعروف أن الفن يتعلق دائمًا بمقاييس رفيعة. وهو يهدف إلى ترقية الذوق الساذج التخلف وتثقيفه، لا الهبوط بالذوق إلى مستوى الأذواق الفجة التي لم يهذبها التثقيف باسم الشعبية. وأوضح ما يبدو ذلك في مقال (الفنون الشعبية في مصر - العدد الرابع 46 - 49)، الذي يدعو إلى إحياء الشخصية المصرية، ولا يعتبر الوثنية والسيحية والإِسلام إلَّا أعراضاً لا تغير من جوهر الشخصية المصرية بزعمه. فهي وثنية حيناً وهي مسيحية حيناً آخر وهي مسلمة تارة أُخرى ولكنها في كل هذه الأحوال مصرية دائمًا. وهذا هو ما أسميه جنون (الفولكلور) والانحراف في فهمه وتوجيهه. وذلك الغرض المسموم المريض هو الحافز الحقيقي لكل ما نسمعه عن الدعوات التي تصدر عن الجامعات حيناً ومن مصلحة الفنون حيناً ومن مجلس الآداب تارة أُخرى، وكلها تدعو إلى الاهتمام بأدب العوامِّ وأغانيهم وعاداتهم والاستعانة على تسجيل ذلك بكل ما أخرج العلم الحديث من وسائل وأدوات، كما تدعو إلى تكريم من عُرِفوا بإِبراز هذه النزعة من الفنانين الذين سايروا هذه الدعوة
حين طغى مَدّها بعد الحرب العالمية الأولى، عن وعيٍ منهم أو عن غير وعي، مثل حافظ إبراهيم الشاعر، ومختار المثّال، وسيد درويش المغَنّي.
ولهذه الدعوة بعد ذلك جانب آخر هدَّام هو الجانب اللغوي. فأصحاب هذه الدعوة من غلاة الشعوبية الموكلين بالتفريق والتشتيت، يدعون دائمًا إلى اتخاذ اللهجات السوقية (1) التي يطلق عليها "العامية"، لأنها بزعمهم أصدق تعبيراً عن روح الشعب - وكأن الشعبية عندهم مرادف للجهل - ولأن (تراث الأدب العربي) كما يقولُ أحدهم:"ليس ولا يمكن أن يكون تراث لهجةٍ بعينها من اللهجات، وأن التفنن الأدبي لا شأن له إطلاقاً بالقواعد النحوية المصطلح عليها، وأن الإِعراب ليس شرطاً أساسياً لازماً للتفنن الأدبي. فللبدو شعرهم وسمرهم الذي يصدر عنهم عفو الخاطر، والذي يفهمونه بعضهم عن بعض. وللعوام في المدن شعرهم ونثرهم الذي يتفاعلون هم وهو ولا يتفاعلون هم وغيره - العدد الأول تحت عنوان (الملحمة المصرية) ص 55".
ومن الواضح أن هذا الكلام وأمثاله فاسد من الناحية الفنية الخالصة التي يحمّلها الداعون بهذه الدعوة أوزار دعوتهم في أغلب الأحيان. فالفن في صورته الكاملة وسيلة من وسائل السمو فوق الواقع اُلمسِفّ. والفن الذي يستحق أن يجهد النقاد أنفسهم في تذوقه ونقده، هو الأثر الذي أجهد الفنان نفسه في إنتاجه. فالنقاد غيُر مكلّفين بعَفْوِ خواطر البدو والعوام، لأن عَفْوَ خواطرِ العوامِّ لا يصلح إلَّا للهو أمثالهم من العوام. أما عقول المثقفين، فهي لا تجد في مثل هذا الإِنتاج لذة ولا متاعاً. فالفن الراقي دائمًا، في كل عصر وفي كل مكان وفي كل لغة، مقصور على الخواص، لأن الأثر الذي يستحق الاعتبار والبقاء لا يصدر إلَّا عن قِلَّةٍ موهوبة. ومن المسلّم به أن الموهبة
(1) تسمية هذه اللجهات بالسوقية نسبة إلى "السوق" لا إلى "السوقة" لأنها لا تصلح إلا أن تكون لغة للتعامل في الأسواق، ووجودها طبيعي في كل الأمم واللغات، ولكن في داخل هذا النطاق. فهي لغة عملية تتوافر فيها السرعة التي تصل إلى ما يقرب من الرمز في بعض الأحيان، بينما تتوافر في لغة الأدب الفصحى الأناقة والموسيقى والدقة. وكل منهما صالح في ميدانه، فلا تنافس ولا ازدواج كما يزعم الزاعمون.
والاستعداد الحسن لا تنمو وتنضج وتُخْصِب إلَّا على اِلمرَانِ والتثقيف والعكوف على الدرس والتجويد.
أما الجانب الأشد خطورة في هذه الدعوة، فهو أن ضررَها لا يقف عند تمييز كل جماعة بطابع خاص تتعصب له مما لا يعين على تدعيم الوحدة العربية المرجوة، ولكنه يتجاوز ذلك إلى أن يقطِّع ما بينهم من الوشائج تقطعياً، فيصبحون ولا يفهم بعضهم عن بعض. ومن المؤكد أن العرب في مختلف البلدان لا يجتمعون على فهم شيء من الإِذاعة المصرية إلَّا فيما يذيعه "صوت العرب" بالفصحى. ومن المؤكد أيضاً أنهم لا يفهمون من بعض صحفنا ما تحرص على تسجيله بالعامية مما يدور في مجلس الأمة أو في قاعات المحاكم.
والعجيب في الأمر أن جرأة الإِذاعة وجرأة الصحف على الإِلقاء بالسوقية والكتابة بها شيء جديد لم يجرؤ عليه أحد حين كانت القومية العربية حلمًا يتمناه المخلصون ويعارضه كثير من المفسدين والمخدوعين، ولكنهم تجرأوا عليه بعد أن أصبح هذا الحُلْمُ حقيقةً واقعة مسجلة في المادة الأولى من مواد الدستور. أليس ذلك مما يدعو حقاً إلى العجب؟
وأعجب منه أن البرنامج الذي ابتدعته الِإذاعة حديثاً وسمّته "البرنامج الثاني" وزعمت أنه برنامج الخاصة من هواة الفكر الرفيع يخاطب مستمعيه بهذه السوقية التي تسمى بالعامية. فإِذا كانت العربية الفصحى لا تصلح لخطاب عامة الناس في البرامج العامة ولا تصلح لخطاب خاصتهم في البرامج الخاصة، فأين ومتى تتعامل الشعوب العربية بلغتها العربية الصحيحة التي هي عنوان قوميتها، ووعاء أمجادها، والتي هي وسيلتها الوحيدة للتفاهم؟
يبدو أن القائمين على هذا البرنامج مشغولون عن ترويج اللغة العربية بموسيقى (السمفونيات) القديمة التي يُكْرِهون المصريين على سماعها، ويتهمون الزاهدين فيها بالتخلف وبلادة الذوق، لاهُونَ عن تدعيم عروبتنا وثقافتنا القومية بأدباء الغرب وفنّانيه وبما يثيرون من غبار حول مقومات فنوننا وآدابنا. فهل نسي هؤلاء أنهم يتبعون وزارة الإِرشاد القومي في بلد عربي؟