الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تبرىء نفسها منه ومن تبعاته. ولا بد لها من أن تدفع عن نفسها عند الذين شهدوا مناقشته أو قرأوه تهمةً لا يصح أن تعلق بها، وهي الاستخفاف بالدين وإذاعة ما يزعزع يقين الناس به، ومكافأة الذين يفعلون ذلك بمنحهم درجاتها العلمية. إن الجامعة يجب أن ترتفع عند الناس عن مظانّ الشبهة، بتيسير السبل لمثل هذه الآراء الهدامة أو إباحة ساحتها ومنبرها لإِذاعتها، أو استخدام درجاتها العلمية في الدعاية لها. ولا سبيل إلى ذلك إلا بردّ البحث واعتباره كأن لم يكن، أو بإِحالته على الأقل إلى لجنة من المتخصصين في جامعة الأزهر التي هي وحدها جهة الاختصاص.
إن القضية ليست قضية (حرية البحث) كما يزعمه الذين يحتمون بهذا الاسم. فحرية البحث مكفولة في الحدود التي لا يتعرض معها المجتمع للخطر بإِثارة الفتن والتشكيك في الدين ومصادره، وفي الحدود التي لا تتحول عندها إلى عدوان على حقوق المؤمنين وإيذاء لمشاعرهم وضمائرهم. ولكن القضية في حقيقتها هي قضية عدم اختصاص وانتهاك لحرمات الجامعة التي يراد لها أن تسمح لغير متخصص بالبحث في موضوع لا يعرفه، وأن تمنح درجات جامعية ليس من شأنها أن تمنحها، وأن تُيسِّر الأسباب وتسهل السبل لمن يوجه باسم البحث العلمي إهانات لجماعة المسلمين تمسهم في أعز ما يعتزون به، وهي إهانات لا تستند إلى منطق أو علم، ولكنها تقوم على الجهل والمجازفة.
20 من رجب 1385.
(14 - 11 - 1965 م).
المذكرة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الأستاذ الجليل مدير جامعة الاسكندرية.
نشرف صحيفة (المصور) في أعدادها الأربعة الأخيرة (العدد 2172، 2173، 2174، 2175) كلاماً كثيراً في الدفاع عن الطالبة تغريد السيد عنبر وعن بحثها (دراسة في أصوات المد في التجويد القرآني) الذي رفض مجلس الكلية إجازته.
ولا يعنيني هنا أن أردّ على كل ما جاء في هذه السلسلة، فأكثره سباب أو دعاية أو تهويل. ولكني أكتفي هنا ببيان خطورة ما ذهبت إليه الطالبة من نفي التوقيف في النص القرآني وفي الأداء القرآني، وهو ما حاولت بعضُ الآراء المنشورة أن تهوّن من شأنه.
ما هو التوقيف أولاً؟
…
التوقيف هو الاعتماد على الاتصال الشخصي وعلى السماع في حفظ القرآن وتجويده، ذلك بسماع الطالب من شيخه، ثم حفظه اعتماداً على هذا السماع وترديده على الشيخ، ثم إقرار الشيخ لما حفظه وإجازته بقراءته. فالطالب يسمع من شيخه أولاً، فإِذا حفظ سمع الشيخ منه، وذلك كله اعتماداً على المصاحف المدوَّنة، التي ظك حتى الآن بالرسم العثماني الذي كُتبت به في خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه. وهو رسم يختلف في صورته الكتابية أحياناً عن القواعد العصرية للإِملاء، ولكن المسلمين تمسكوا به سدَّاً للذرائع، وقطعاً لكل سبيل يمكن أن يتسلل منها مفسد يشكك في سلامة النص القرآني من كل تحريف.
وقد كان هذا التوقيف هو نفسه الوسيلة لانتقال النص القرآني بوحي من الله عز وجل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فكان سيدنا جبريل عليه السلام يقرأ القرآن على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظه الرسول بأمر الله ووعده له في قوله:
{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)} (الأعلى: 6 - 7)
فإِذا كان شهرُ رمضان منٍ كل عام عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام ما أُنزل عليه من القرآن. فلما كان شهر رمضان من عام
وفاته صلى الله عليه وسلم عَرَض القرآنَ كلَّه على جبريل مرتين.
ومن المعروف أن قراءة القرآن وتجويدَه لا تزال تعتمد حتى الآن على التوقيف، الذي هو نقل التلميذ عن أستاذه، وإقرارُ الأستاذ قراءة تلميذه وإجازته بها.
تقول الطالبة في السطر الأول من خاتمة البحث (ص 288): "أول نتيجة توصل إليها البحث هي رفض فكرة التوقيف في قراءة القرآن" فإِذا أضفنا إلى ذلك ما جاء في الفصلين الأول والثاني من نصوص أوردتُ نماذج منها في المذكرة المقدمة إلى سيادتكم وإلى السيد الأستاذ عميد الكلية في 14/ 11/ 1965، تبين بوضوح أن القول برفض التوقيف شائع في البحث كله من أوله إلى آخره، لأن الفصلين الأول والثاني يمهدان للبحث، والخاتمة تلخص نتائجه. والطالبة تعتبر هذه النتيجة أول النتائج وأهمها، ومعنى ذلك بداهةً أن فصول البحث تدور حول تأكيد هذه النتيجة، وتُساق للوصول إليها وإثباتها. فما هي النتائج التي تترتب على هذا الزعم، الذي وصفه الشيخ علي الخفيف في العدد 2175 من (المصور) بقوله:"ولا شك أن هذه شبهة لا يؤيدها دليل، وهي فيها مخطئة قطعاً. لكن ذلك لا يترتب عليه اتهامُها بأي زيغ، ولا يستتبع إلا نسبة الخطأ إليها، وتهاونها في الحكم بلا سند، بناءً على مجرد ظن واستنتاج شخصي".
والذي وصفه الشيخ فرج السنهوري في العدد نفسه بقوله:
(ما سبق أن كُتِبَ ومِحُيَ ليس من شأنه لو بقي أن يمس عقيدة الكاتبة، فإِنه لم يكتب إلا عن خطأ وعدم فهم لحقيقة ما كتب فيه."
عقيدة الطالبة لا تعنينا، والله وحدَه، سبحانه وتعالى هو الذي يعلم حقيقتها ويحاسبها عليها. ولكن الذي يعنينا هو ما يفهم الناس مما كتبته، والنتائج التي تترتب على ما جازفت بادعائه من القول (برفض فكرة التوقيف في قراءة القرآن).
معنى هذا القول هو أن حفظ القرآن وأداءه قد اعتمد على القراءة في المصاحف - في بعض الفترات على الأقل - لا على التلقين، تلميذاً عن
أستاذ، قراءةً من المصاحف. وهذا الادعاء الفاسد يفتح باباً واسعاً للكلام في سلامة النص القرآني. لأنه يعني أن رواية هذا النص قد اعتمدت أحياناً على المكتوب وحده دون المسموع. فإِذا اتفق مثلاً أن دُسَّ على المسلمين مصحفٌ محرَّف في فترة من فترات الاضطراب والفتنة، أو في إحدى الأطراف النائية من بلاد المسلمين، كالذي حدث في هذه الأيام حين نشرت إسرائيل مصحفاً مُحرفاً بين المسلمين في بعض البلاد الإِفريقية، فمن الجائز - إذا لم يكن حفظ القرآن معتمداً على السماع والقراءة معاً - أن تنتشر هذه القراءة المحرفة بين المسلمين. ومعنى هذا أن رواية النص القرآني كانت تعتمد على ما يسميه علماء مصطلح الحديث (بالوِجَادَة)، أي الإعتماد على المكتوب دون الرواية، بأن يروي الراوي نقلاً عما وجده في كُتب مَنْ ينقل عنه. و (الوِجَادة) عند علماء مصطلح الحديث من أضعف مراتب التَحمُّل. وهي عندهم غيُر معدودة في باب الرواية، لا يحق للراوي أن يروي بها عن أصحابها، بل يقول (وجدتُ بخط فلان). ومعنى هذا أنه لا يحق للذي يعتمد على قراءة الصحف دون توقيف أن يروي القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحق له إلا أن يقول (وجَدتُ في المصحف بخط فلان).
إن الاعتذار عن هذا الخطأ الجسيم الخطير بجهل قضية التوقيف وعدم فهمها
…
كما جاء في العدد 2172 من صحيفة (المصوَّر) - يبرر عدم إجازة البحث ولا يبرر إجازته، لأنه يدل على أن الطالبة لم تعرف الموضوعات الأساسية المتصلة بموضوعها. وقد قررت أن أهم ما توصل إليه بحثها من نتائج هو رفض فكرة التوقيف. وإذا جاز أن تمنح الجامعة درجاتها مع فساد العقيدة، فمما لا شك فيه أنه لا يجوز أن تمنحها مع الجهل.
أما أن الأخطاء قد جاءت على هامش البحث في المقدمة والخاتمة، كما جاء في هذا العدد نفسه من صحيفة (المصوَّر) فغيرُ صحيح. فالتوقيف مسئلة أساسية في الأداء القرآني الذي هو موضوع البحث، لأنه يتعلق بتواتر هذا الأداء واتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعدم اتصاله. والذي انتهت إليه الطالبة هو أنه غير متواتر، وغير متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما أن الطالبة قد أساءت فهم التوقيف بحسن نية، ففي الرسالة نصوص كثيرة تثبت أنها فهمت التوقيف فهمًا صحيحاً، وأنها مصرة على أن النص القرآني والأداء القرآني كليهما غيرُ متصلين برسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي النصوص التي قدمتُها في مذكرتي السابقة ما يكفي.
بل إن الطالبة لتذهب إلى نهاية المدى في مخالفة ما أجمع عليه علماء المسلمين في شأن الأداء القرآني، فتجازف برفضه دون دليل، في عبارة ملؤها الاستخفاف، حين تقول:(وسواءٌ اعترف العلماء أو لم يعترفوا بتأثر الأداء القرآني بالعامل الفني وغيره من العوامل الشخصية التي تؤثر في أي منطوق، فإِن الدرس اللغوي يأبى غير هذه الحقيقة - ص 274).
ومن العجيب أن يقول الشيخ علي الخفيف بعد هذا كله، في صنيع الطالبة:(فليس من الإِنصاف إلا أن يُرى أنها قد بحثت فأخطأت البحث، واجتهدت فأخطأت الاجتهاد - العدد 2175 من المصوّر). وإذا سلمنا جَدَلاً أن نفي التوقيف - في قراءة القرآن مما يصح الاجتهاد فيه، فهل يصح الاجتهاد فيه ممن يجهل معنى التوقيف، فضلاً عن غيره من الأوليات التي ينبغي توافرها لراوي العلوم الإِسلامية، لا المجتهد فيها؟!
وليت الأشرطة التي حفظت ما قيل في المناقشة قد بقيت لنسمع منها ما جاء في كلام أحد أعضاء اللجنة (*)، من الدفع بردها عن النظر في الموضوع وعدم سماع أقوالها فيه لجهلها به. ولكن هذه الأشرطة قد أُفسدت ومُحي ما عليها من تسجيل، في ظروف مُريبة، يشهد بها محضر اللجنة التي تولت فتح معمل الصوتيات للحصول على هذه الأشرطة وسماعها. ويمكن طلب هذا المحضر والاطلاعُ عليه.
* * *
(*) المقصود هو الأستاذ الشيخ أمين الخولي، وقد لا يكفي هذا للدفاع عن موقفه الذي انساق فيه وراء مجاملة المشرف فيما لا يحق له أن يجامل فيه. ولكن من الإِنصاف أن يذكر له ذلك.
وبعد أن وَضَحَتْ خطورة القول بنفي التوقيف، يصبح الكلامُ فيما عدا ذلك لغواً. فلا محل للكلام في التقاليد الجامعية، لأن الحرص على الدين أوْلىَ أن يُراعى ويحُافظ عليه، ما دامت الدولة تعتبره مقوماً من مقوماتها، وما دامت الدولة تحرص على أن لا تمكِّن للذين ينشرون الإِلحاد.
على أن الذين تكلموا في هذه الناحية جعلوا لمجلس الكلية حق الرقابة العامة. ومخالفةُ البحث لنظم الدّولة العامة يدخل في هذه الرقابة العامة بغير شك. ومناقضة ما دار في المناقشة العلنية لنتيجتها يدخل في هذه الرقابة كذلك. ويكفي في هذه المناقضة أن يُعلن عضو اللجنة، الذي تولى من بعد إصلاح الرسالة، ردَّ الطالبة عن النظر في الموضوع لجلهلها به، ثم يشترك بعد ذلك في الإِجماع الذي تقرر فيه منحها درجة الماجستير بمرتبة "جيد جداً".
ولا محل للنقل عن فلان وفلان من القدماء أو المحدثين. فالكتب - قديمها وحديثها - مملوءة بنقول فاسدة، يشير القدماء إلى فسادها حيناً، ويعتمدون على معرفة القارئ بوجوه نقلها وطرق روايتها حيناً آخر. ومن المعروف أن أعداء الدين والمفسدين فيه يعتمدون فيما يذيعونه من شبهاتهم على هذه النصوص، يأخذون منها ما يؤيد دعواهم بعد أن يبتروه من سياقه، ويتجاهلون ما يبطل هذه الدعاوي وينقضها. والاستشهادُ بالنصوص الشرعية والاستنباط منها أمر دقيق ليس بالهين. وهو يخضع لقواعد فقهية وأصولية كثيرة لا محل لبسطها هنا. وللجامعة - إن شاءت - أن تحيل الأمر إلى مشيخة الأزَهر، لتضعه بين أيدي المتخصصين، وليتبين للناس وجهُ الحق في الأمر كله. أما أن يُعتمَد في ذلك على أفرادٍ بأعيانهم، يكفي أن يقال فيهم إن اختيارهم مبني على اعتبار معين، هو الدفاع عن الطالبة، ولا يدري أحد كيف صُوِّر الأمر لهم وقد سمعوه من طرف واحد، فأمر غير جائز، لأن الحيدة تنقصه. فصحيفة (المصور) لم تنشر رأياً واحداً في غير مصلحة الطالبة. وبعض الذين نشرت آراؤهم تربطهم بالمشرف على البحث أو الذين اشتركوا في مناقشته وفي إعداده صلاتٌ تميل بهم إلى محاولة إنقاذهم من ورطتهم، ومدِّ يد
العون لهم في محنتهم. وبعضهم من السذج الذين غُرِّر بهم وصُوِّر لهم الأمر على أنه اتهام بالزيغ والإِلحاد يراد توريط الطالبة فيه، فتكلموا بدائع من العطف عليها، يعترفون بخطئها وجهلها، ولكنهم يهونون من صنيعها ويعتذرون بحسن نيتها .. وبعضهم من المفتونين بالتقاليد الجامعية وبحرية الرأي - كما يفهمها اللبراليون من الغربيين Liberals - لا يرون بعدهما قداسةً لشيء. وهؤلاء لا أقول لهم إلا كلمات:
إن الزمن قد تغير، ولم يعد لهذه الكلمات التي ظل الناس حيناً من الدهر يخرِّبون باسمها مكانٌ في مجتمعنا الراهن. فمجتمعنا الراهن مجتمع ملتزم، لا يُسمح فيه للهيئات ولا للأفراد بممارسة الحرية خارج عقائد الدولة. والدولة مسلمة متدينة. وإذا كانت فرنسا - وهي دولة لا دينية من الناحية الرسمية - قد أعدمت شريطاً سينمائياً لشبهة المساس بكرامة الرهبان ورجال الأديرة، فكيف يطلب من إحدى جامعاتنا - ونحن دولة مسلمة متدينة - أن تجيز رسالة تفتح باباً واسعاً للفتنة، وللتشكيك في صحة النص القرآني وسلامته من كل تحريف؟
ويكفي لتصوير فساد الأسس التي يقوم عليها تفكير هؤلاء أن أنقل بعض ما جاء في كلمة الدكتور محمود محمود مصطفى أستاذ القانون الجنائي بحقوق القاهرة والعميد السابق لها (المصوَّر عدد 2175). يقول الأستاذ الدكتور محمود مصطفى في ختام كلمته:
(وخلاصة الرأي أنه لا شبهة في أن مجلس الكلية لا يستطيع رفض قرار لجنة التحكيم، بحجة أن الرسالة قد تضمنت عبارات غير مناسبة، ولو كانت مخالفة للنظام العام).
فلتسمح الدولة إذن في الرسائل الجامعية، باسم حرية البحث العلمي، وباسم المحافظة على التقاليد الجامعية المقدسة، كلاماً لا أول له ولا آخر، في تفضيل النظام الملكي على النظام الجمهوري. وفي بيان سلامة النظام الرأسمالي وفساد النظام الاشتراكي، وفي غير هذا وذاك مما يخالف النظام العام.
ذلك لون من التفكير الفاسد الذي لا ينبغي أن يقام له وزن أو يحسب له حساب.
وتفضلوا سيادتكم بقبول فائق الاحترام
الثلاثاء 2 ربيع الأول 1386
(21/ 6/ 1966 م)