المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

- 3 -   ‌ ‌في المؤتمَرَاتِ* بقي مما وعدت بالكلام عنه من النشاط - حصوننا مهددة من داخلها

[محمد محمد حسين]

الفصل: - 3 -   ‌ ‌في المؤتمَرَاتِ* بقي مما وعدت بالكلام عنه من النشاط

- 3 -

‌في المؤتمَرَاتِ*

بقي مما وعدت بالكلام عنه من النشاط الثقافي لجامعة الدول العربية الكلام عن المؤتمرات التي أعدت لها الإِدارة الثقافية وأشرفت عليها أو شاركت فيها. وحديث المؤتمرات في هذه الإِدارة حديث يثير العجب. فلو عرض القارئ ما سجلته هذه الِإدارة من نشاط المؤتمرات تحت عنوان (التعاون بين الإِدارة الثقافية واليونسكو والهيئات الثقافية الدولية - ص 45 إلى 53 من النشرة الثقافية 1946 - 1956) لخيل إليه أن هذه الإِدارة فرع من اليونسكو يعمل تحت سيطرته وتوجيهه. وسيطرة أمريكا - واليهود خاصة - على اليونسكو شيء لا أحتاج إلى أن أنبه له فهو مشهور معروف، يؤكده ما أثبتته النشرة الثقافية لجامعة الدول العربية في بيانها العام عن هذه المؤتمرات. فهي تستهدف السيطرة على توجيه الثقافة والتعليم في البلاد العربية. والترويج لآراء اجتماعية ومذاهب سياسية لا تخدم إلا مشاريع اليهود والغرب. فمن ذلك مؤتمر تبادل المدرسين بين البلاد العربية الذي انعقد في القاهرة سنة 1956 بدعوة من اليونسكو (ص 46)، ومؤتمر التعليم الثانوي في مصر الذي انعقد في مصر سنة 1955 واشتركت في الدعوة إليه الجامعة الأمريكية بالقاهرة (ص 49)، والحلقة التربوية التي دعت إليها الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1954 وكان موضوعها "فلسفة تربوية متحدة في عالم عربي متحد"(ص 50)، وحلقة دراسات التربية للتفاهم العالمي التي انعقدت في اليونسكو ببيروت سنة

(*) نشرت في عدد صفر سنة 1378 من مجلة الأزهر.

ص: 137

1955 ورأسها عبد العزيز القوصي (ص50). فمثل هذه المؤتمرات لا يقصد بها إلا السيطرة على التعليم في العالم العربي، وتوجيهه وجهة لا دينية تؤدي إلى ضياع الجيل القائم والجيل القادم ضياعاً لا تقوم معه نهضة في هذه المنطقة، مما يمكن لليهود ولشيعتهم الذين يتولونهم من دول الاستعباد الغربي والأمريكان منهم خاصة، وذلك بترويج بعض الآراء والأساليب التربوية والنفسية المنحرفة الفاسدة. ومن هذه المؤتمرات ما يروِّج لأساليب أمريكية من التنظيم الاجتماعي تخفي في ثناياها مذاهب فكرية هدامة باسم العلم الحديث من ورائها اليهودية العالمية، مثل مؤتمر العلوم الاجتماعية الذي انعقد في دمشق سنة 1954 بدعوة من اليونسكو لدراسة الشؤون الاجتماعية بالشرق الأوسط (ص 48). فقد عني هذا المؤتمر عناية شديدة بالترويج لما يسمونه (علم الاجتماع) ووضع تعاليمه وأوهامه في مكان التقديس الذي كان يحظى به الدين، وإسلام المجتمع برمته إلى نفر من الناس لا يمت للثقافة الإِسلامية أو العربية بسبب، يُقدِّس تلك الأوهام التِي تشيع فيها سموم اليهودية العالية الهدامة ويتخذها دستوراً، ولا يعرف أصولاً يصدر عنها تفكيره وتشريعه سوى دعاواها. فالمؤتمر يحثُّ على تأليف الكتب المدرسية في علم الاجتماع. ويروِّج لأصحاب هذه الثقافات التي يتسع فيها المجال أمام ذوي الأغراض والهدامين، بالدعوة إلى (تأمين العمل للأخصائيين في الشؤون الاجتماعية، وضمان مستقبلهم المادي والأدبي)، كما يعمل على حماية الهدم والهدامين من كل صوت يرتفع للحد من نشاطهم الهدام باسم الدين في دعوته إلى (تأمين حرية الدرس والبحث والتفكير والتأليف في الشؤون الاجتماعية). ومن هذه الؤتمرات ما يتستر تحت اسم العلم والبحث، ولكنه لا يبحث المسائل في حقيقة الأمر إلا من زاوية تخدم اليهود خاصة، مثل الكلام (عن موقف الإِسلام من العنصرية - ص 45). ومنها ما يدعم مشروعات الغرب السياسية مثل مؤتمر التضامن الثقافي والاقتصادي بين دول البحر الأبيض المتوسط الذي انعقد في باليرمو سنة 1954. فالهدف الحقيقي من ورائه هو إقرار النفوذ الغربي في حوض هذا البحر، وربط دوله العربية بدول الاستعباد الغربية. فكل الذين يتحدثون عن رابطة البحر الأبيض وثقافة البحر الأبيض وحضارة البحر الأبيض - من طه حسين فنازلاً - كانوا يروجون لمشاريع فرنسا التي تعتبر شمال

ص: 138

إفريقية جزءاً لا يتجزأ منها. وقد زاحمتها إيطاليا وأسبانيا حيناً، ثم ورثتهم أمريكا جميعاً. فالكلام في هذا لا يقصد به إلا صرف العرب عن جامعتهم العربية وصِبْغَتِهم الإِسلامية. وأي رابطة بين فرنسا والمغرب سوى الدم المسفوك؟ وأي رابطة بين إيطاليا وطرابلس، وبين أسبانيا وريف مراكش، سوى ما يحفظه التاريخ من مظالمهم ومفاسدهم وما سفكوه من دماء الشهداء؟ وهل نسي العرب عمر المختار الشهيد؟

وأدَعُ ذلك كله مما لا سبيل إلى الخوض في تفاصيله، لأني لا أجد بين

يدي نصوص ما دار في هذه المؤتمرات من مناقشات، لأنتقل إلى الكلام عن

مؤتمر نشرت الجامعة العربية محاضر جلساته، وهو مؤتمر يتوسم القارئ الخير

في عنوانه ولا يكاد يخطر له سوء الظن فيه ببال، وذلك هو (المؤتمر الأول

للمجامع اللغوية العلمية - دمشق 1956).

اجتمع في هذا المؤتمر مندوبون من المجامع اللغوية العلمية في مختلف بلاد العرب. فشهده وقد من مجمع اللغة العربية في القاهرة، ووفد من المجمع العلمي العراقي، ووفد من المجمع العلمي العربي في دمشق، كما شهده مراقبون من الدول العربية التي لم تؤسس فيها مجامع وهي الأردن والسعودية ولبنان وليبيا وتونس. وشهده مع ذلك كله وقد يمثل الأمانة العامة لجامعة الدول العربية ومندوب يمثل هيئة اليونسكو (شفيق شمَّاس).

واللغة العربية التِى بحث هذا المؤتمر شؤونها هي أقوى ما تقوم عليه الوحدة العربية من الروابط، وهي الرابطة التي ارتفعت حتى الآن فوق كل مراء. فقد مارى أعداء العروبة زمناً في أن العرب ينتمون إلى جنس واحد، فسمعنا أصوات المنكرين من الشعوبيين دعاة الجاهلية الأولى بين فرعونية وفينيقية وآشورية وبابلية. وماروا حيناً في ارتباط القومية العربية بالاسلام فسمعنا من يزعم أن هذه الصبغة تنفر غير المسلمين من العرب. وظلت رابطة اللغة بعد ذلك تسمو على كل مِراء، لا ينازع منازغ في أنها هي الرباط الأقوى بين العرب.

لذلك كان آخر ما يتوقعه القارئ في الكتاب الذي جمع ما ألقي في

ص: 139

هذا المؤتمر من بحوث أن يجد فيه ما يعين على توهين هذه الرابطة، أو تفريق المجتمعين عليها، من مثل الدعوات المريبة الهدامة إلى مسخ اللغة الفصحى أو تبديل قواعدها وخطها.

ولكن واقع الأمر جاء مختلفاً عما يتوقعه القارئ وما يرجوه، فامتلأ الكتاب في مواضع مختلفة بالدعوة إلى العامية، وإلى تبديل الخط العربي، وقواعد النحو والصرف والبلاغة. إذا أعوزك أن تجد ذلك سافراً صريحاً فستجده مستوراً خفياً يلبس زي الناصح الغيور، في مثل مقال أحمد حسن الزيات عضو مجمع القاهرة عن (مجمع اللغة العربية بين الفصحى والعامية: ص 81 - 88)، ومقال علي حسن مندوب الأردن (بين العربية الفصحى والعامية ص 181 - 184)، ومقال أحمد عبد السلام مندوب تونس (الفصحى والعامية: 202 - 211)، ومحاضرة منير العجلاني عضو مجمع دمشق عن (أثر اللغة في وحدة الأمة 217 - 277)، واقتراح إبراهيم مصطفى في (كتابة الهمزة والألف اللينة: 160 - 165)، ومقاله عن (تيسير قواعد اللغة العربية 166 - 171)، ومقال طه حسين مدير الإِدارة الثقافية عن (تيسير القواعد في اللغة: 228 - 240). ولم يشذ عن هؤلاء إلا صوت واحد بدا وسط هؤلاء غريباً في دعوته إلى التزام الفصحى في المدارس وفي القضاء وفي الصحافة وفي المجالس النيابية، منبهاً إلى أن هذا هو السبيل الوحيد إلى علاج ما يسمونه "مشكلة الفصحى والعامية". ذلك هو صوت الأستاذ عارف النكدي عضو وقد مجمع دمشق في بحثه (اللغة العربية بين الفصحى والعامية: 89 - 104).

وسأعرض نماذج مما جاء في هذا الكتاب ليتأكد القارئ أني لا أتزيَّد في القول ولا أبالغ في التصوير ولا أتجنى على أحد. ثم أعود بعد ذلك إلى مناقشة بعض هذه الدعاوى العريضة التي انخدع بها كثير من السذج الغافلين. وقبل أن أشرع في ذلك أحب أن أبادر ببعث الطمأنينة إلى قلوب من أزعجتهم هذه المقدمة فأقول: إن المؤتمر قد رفض الأخذ بشيء من هذه الآراء المعوجة والدعوات السقيمة. ولكني أحب أيضاً أن أنبه إلى أن الداعين بهذه الدعوات قد استطاعوا أن ينفذوا إلى بعض قرارات المؤتمر، ويتركوا فيها أثراً من

ص: 140

سمومهم ومسحة من أمراضهم وأسقامهم تكشف عن الخطر الذي يتهدد حصوننا من داخلها.

يروي أحمد حسن الزيات قصة مجمع اللغة العربية في القاهرة بين الفصحى والعامية، فيقول: إن المحافظين من شيوخ الأدب قد سيطروا عليه في أول نشأته، ثم انتهى زمامه إلى الكتاب والصحفيين الذين نبهوا المجمع إلى أهمية العامية وإلى خطورة جمود اللغة بتخلفها عن مسايرة الزمن (ص 81 - 82). ويقدم مثالاً من جهود هؤلاء (المجددين) بالبحث الذي ألقاه أحدهم في دورة 46 - 47 عن موقف اللغة العامية من اللغة الفصحى (فدعا فيه إلى التساهل في بعض قواعد الإِعراب وعدم التشدد في قبول المستحدث من الألفاظ والأساليب التي تجري على كل لسان لكي (يسهل علينا تطوير الفصحى حتى تقترب من العامية)، ودعا كذلك إلى أن نشرع في دراسات عاميات الأقطار العربية المختلفة لإِقرار ما هو مشترك منها، سواء صح في معاجم اللغة وكتبها أو لم يصح (ص 83 - 84). وذكر الزيات أنه ألقى بعد ذلك بحثاً عن (الوضع اللغوي وحق المحدثين فيه) ذهب فيه إلى إباحة استعمال الموَلد، وإزالة السد القائم بين الفصحى والعامية، لكي ينتج (من تداخل اللغتين وتفاعلهما لغة تجمع بين محاسن هذه ومحاسن تلك- ص 85)، كما اقترح التقريب الخلاف بين العامية والفصحى أن يفتح باب الوضع للمحدثين على مصراعيه .. وأن يُرَدّ الاعتبار على المولد ليرتفع إلى مستوى الكلمات القديمة، وأن يطلق القياس في الفصحى ليشمل ما قاسه العرب وما لم يقيسوه، وأن يطلق السماع من قيود الزمان والمكان ليشمل ما نسمع من طوائف المجتمع كالحدادين والنجارين والبنائين وغيرهم من كل ذي حرفة - ص 85). ويقول الزيات: إن مجمع القاهرة قد أقر هذه المقترحات وأخذ في تطبيقها (1).

أما علي حسن عودة مندوب حكومة الأردن فقد ظن أن هدف هذا المؤتمر هو (أن نقضي على اللغة العامية ونُحِل محلّها لغةَ تعبير وتخاطب عربيةً

(1) اعترف منصور فهمي بذلك في محاضراته التي ألقاها في هذا المؤتمر عن أهداف مجمع مصر في خدمة اللغة العربية (ص 241 - 256).

ص: 141

فصيحةً سهلة التناول يستعملها الكبير والصغير، ويكون فيها الغناء في الحياة الاجتماعية في كافة مرافقها - ص 181). وتصوُّر المسألة على هذا النحو خطأ كما سأبيّنه فيما بعد، لأنه غير ممكن ولا ميسور ولا هو مطلوب، ولأنه يخالف طبائع الأشياء.

ويكاد القارئ أن يطمئن إلى سلامة قصد لم. لكاتب رغم خطأ تصوُّره حين يظن أن هدفه هو القضاء على العامية. ولكنه لا يلبث أن يتبين أن هدفه - في حقيقة الأمر هو اختراع لغة عربية جديدة ونشرها بين الناس بكل وسائل النشر (فإِن لدينا اليوم من الوسائل الحديثة ما يضمن النجاح لمجهود يبذل في سبيل ترقية لغة التخاطب في البلاد العربية ويضمن البقاء والتقدم أيضاً لكل لغة عربية فصيحة يتواضع عليها، تستوعب مصطلحات للمستجد من آثار العلوم والفنون- ص 182). وهو يقترح تبسيط اللغة واختصارها. كما يقترح على جامعة الدول العربية (أن تعنى بوضع معجم يسمى معجم العامة، أو غير ذلك من الأسماء، يكتفي فيه بالمفردات التي يحتاج إليها في كافة مرافق الحياة، وتحشد فيه أوضاع جديدة للدلالة على مستحدثات العصر الفنية المتداولة. ثم يلجأ في تعميم هذه اللغة العربية الفصيحة العامة إلى كل الوسائل الكفيلة بتعميمها ابتداء من المدارس الليلية التي يُحمَل العمال والمشتغلون في النهار على غشيانها، وفي المدارس الابتدائية التي يتكفل القائمون فيها بتعليم الأطفال في كتب خاصة تقيَّد مؤلفوها بألفاظ هذه اللغة، وبتعويد هؤلاء الأطفال التحدث بالفصيح المقترح فضلاً عن القراءة. ص 183 - 184).

من الواضح أن هذا الرجل، يريد أن يخترع لغة فصيحة جديدة، ثم يدعو إلى تعميمها بتقييد مؤلفي الكتب الدرسية أن يكتبوا (بالفصيح المقترح)، أي أنه يلزمهم أن لا يستعملوا "الفصحى القديمة" التي يدعو إلى اختصارها واستبعاد غير المألوف من مفرداتها وإضافة ما يرى إضافته إليها. ولست أدري ما هو الحد الفاصل بين المألوف وغير المألوف في اعتباره؟ ومن هو الحكم في التمييز بينهما؟ هل هو الأمي الجاهل، أم هو المثقف من غير محترفي الأدب، أم هو الكاتب الممارس للكتابة في الصحف اليومية، أم هو

ص: 142

الشاعر والناقد، أم هو عالم اللغة؟ أليس الأسهل تعميم الفصحى القائمة الموجودة الموروثة بدل التواضع على فصحى جديدة نقيد بها الكتّاب والمؤلفين، مع وجود لغة متواضع عليها هي حقيقة قائمة ثابتة حية ماثلة فيما يتداول العرب جميعاً من كتب ومن صحف يلتقون ويلتقي معهم المسلمون من غير العرب عند فهمها والتعبير بها، وهي نفسها اللغة التي تفاهم بها العرب في مؤتمرهم هذا والتي عبر بها صاحب هذا الاقتراح العجيب ففهمنا وفهم كل الناس عنه؟.

واقتراح أحمد عبد السلام مندوب حكومة تونس قريب من اقتراح مندوب حكومة الأردن السابق حتى لكأن شيطانهما واحد. فهو يقترح على المجامع اللغوية (أن تؤلّف لكل قطر معجمًا صغيراً لا يتضمن إلا الألفاظ العربية الفصيحة التي بقيت مستعملة بمعناها الأصلي في لغة ذلك القطر، وأن يوصى معلمو الأحداث والعامة بالاقتصار عليها قدر المستطاع (1) - ص 208). واقتراحه هذا ينتهي إلى إيجاد لغات عربية متعددة تمثلها هذه المعاجم المقترحة التي تحيى دارس اللهجات وميت اللغات بعد أن جمع الله العرب - بل المسلمين - على فصحى القرآن. ويزيد في توسيع الهوة بين هذه المعاجم أن صاحب هذا الاقتراح يوصي بالتوسع في قبول الكلمات المولدة والدخيلة فيها، كما يوصي (لزيادة الخبرة بعربيتنا وبمدى حيويتها، أن يشتغل عدد من علمائنا باللغات العامية وأن يدرسوها دراسة دقيقة - ص 209) وهو يخفي حقيقة أهدافه وخطورة آرائه بالقناع الذي يتقنع به طه حسين وشيعته حين يتظاهرون بعدائهم للعامية ثم يزعمون للناس أن هناك خطراً على العربية الفصحى أن يهجرها الناس إلى العامية إذا لم تخضع لما يسعون إليه من تطور مزعوم!

والذي يفضح هؤلاء الناس ويكشف عن مصدر هذه الوساوس في نفوسهم وحقيقة الذي ألقى هذه الأوهام في رؤوسهم وحرَّك بها ألسنتهم ودفعهم إلى ترويجها هو أنك تجد فريقاً منهم يفكرون بالانجليزية أو بالفرنسية

(1) وهذه الروح نفسها هي التي سادت في فترة من الزمن كتب المرحلة الابتدائية المشهورة بكتب "شرشر" التي أشرف عليها عبد العزيز القوصي.

ص: 143

ثم يترجمون تفكيرهم إلى العربية. تجد ذلك في محاضرات أنيس فريحة عن (اللهجات وأسلوب دراستها)، التي نشرها معهد الدراسات العربية العالية بجامعة الدول العربية، حين يفكر للغة العربية باللغة الانجليزية ويريد أن يُلبِس لغتنا أثواباً لم تُقَدَّ على قَدِّها ولم تجُعَل لها، إذ يُثبِت الاصطلاح الإِنجليزي ثم يصطنع له اصطلاحاً عربياً يقابله. وتجده كذلك في محاضرة منير العجلاني التي ألقاها في مؤتمرنا هذا عن (رابطة اللغة والأمة ص 217 - 227)، حين يصب تفكيره في قوالب فرنسية، فلا يكاد يأخذ في تعريف الدولة أو الحكومة أو الأمة أو الشعب أو أثر اللغة في وحدة الأمة حتى يبني كلامه على رأي لهريو أو رينان أو ماتسيني أو فلان وفلان من أصحاب المذاهب الغربية عموماً والفرنسية بخاصة. ومنير العجلاني هذا لا يعترف بأن الإِسلام رحِمٌ وصلةٌ بين المسلمين وأنه جامعة من أوثق الجامعات، لأنه يجري في تعريف القومية العربية على قياسها بمقاييس أوروبا اللادينية التي روّجها اليهود منذ الثورة الفرنسية اليهودية. يقول عند كلامه عن الدين بوصفه عنصراً من مقوِّمات القومية:(كان الدين في العصور الوسطى يجمع الشعوب ويفرقها، ولكن أثره في تكوين الأمم تضاءل في الزمان الحاضر. وربما أسقطه غلاة القومية من حسابهم - ص 224).

وترديد المحاضر لاصطلاح "العصور الوسطى" هو أثر من آثار الاستعباد الغربي الذي يخضع له تفكيره. فتعبير "العصور الوسطى" تعبير أوروبي يقترن في أذهان أصحابه بالتخلف والهمجية؛ لأنه يقترن بالظلم والنظام الإِقطاعي وبالرق وباستبداد الكنيسة وطغيانها. والذين يفكرون برؤوس الأوربية يستعملون هذا الاصطلاح بمعناه ذاك، رغم الاختلاف الواضح بين ظروفنا وظروفهم. فالعصور الوسطى تقابل عندنا عصر الرسالة المحمدية وأزهى عصور الإِسلام. فهي بالقياس إلى العربي وإلى المسلم عصر النور والمجد والعدل، في الوقت الذي يعتبرها الأوروبي عصر الظلام والظلم والتخلف. أليس ذلك ضرباً من ضروب الاستعباد الفكري، وهو شر ألوان الاستعباد، بل هو أخطر ما خلفه الاستعباد الفرنسي والاستعباد الإِنجليزي في الشعوب الإِسلامية التي استعبدوها.

ص: 144

ذلك هو مجمل ما عرضه أصحاب ذلك المشكل الذي توهموه فابتدعوه، وزعموه ثم أوجدوه، بين العامية والفصحى.

أما الاقتراحات التي تدعو إلى مسخ قواعدنا في اللغة وفي النحو وفي الإِملاء والخط، فقد جاءت على لسان طه حسين، وصفيِّه إبراهيم مصطفى الذي صدع بوحيه حين ألف منذ عشرين عاماً كتاباً ميتاً في النحو سماه "إحياء النحو". ألقى طه حسين محاضرة دعا فيها إلى العدول عن قواعد النحو الثابتة المتدارسة التي اجتمع عليها العرب والمسلمون زاعمًا أنها لم تعد صالحة وأنها هي السبب في ضعف الطلاب وتخلفهم (228 - 240). وتقدم إبراهيم مصطفى باقتراحين، أحدهما في (كتابة الهمزة والألف اللينة: ص 160 - 165) دعا فيه إلى توحيد الصور الكتابية للهمزة، والآخر في (تيسير قواعد النحو:(ص 166 - 171) مهد به لاقتراحات تيسير النحو والصرف: (ص 172 - 180) المقدمة باسم مجمع القاهرة والتي تحمل طابع إبراهيم مصطفى المعروف في (إحياء النحو)، الذي دعا فيه إلى تبويب جديد للنحو من ابتكاره. وقد سحب إبراهيم مصطفى اقتراح الهمزة قبل أن ينظر في جلسة المؤتمر العامة، ويبدو أنه لم يجد الظرف مهيأ لقبوله فخشي أن يتخذ قرارٌ برفضه وآثر أن يدع الباب مفتوحاً حتى يستطيع هو أو آخرُ من عصابته العودة إلى ذلك في فرصة أكثر ملاءمة. أما مقترحات تيسير النحو فقد قرر المؤتمر في شأنها أنه (نظر في مقترحات تيسير النحو التي أعدتها وزارة التربية والتعليم في مصر فوجد بعد دراستها أنها تحتاج إلى زيادة في البحث والتمحيص، وقرر تاجيل النظر فيها إلى مؤتمر آخر: (ص 278). وقد كنت أرجو أن يقضي فيها المؤتمر قضاءاً حاسمًا صريحاً يقرر فيه فسادها وضررها، لأن هذا القرار الذي يظهر فيه نفوذ دعاة الهدم والتبديل لم يمنع القائمين على برامج التدريس في مصر من أن يضعوا هذه المقترحات الفاسدة موضع التنفيذ.

وبعد، فقد شغل هؤلاء المحاضرون والقترحون بمشاكلهم الوهمية ما يقرب من نصف وقت المؤتمر (1). على أن أكثر ما جاء في مقالاتهم بضاعة

(1) استغرقت محاضراتهم واقتراحاتهم تسعاً وتسعين صفحة من سجل المؤتمر الذي يزيد قليلاً عن مائتي صفحة.

ص: 145

مزجاة بارت في كل سوق، وكلام معاد مكرر ليس فيه جديد. ولكن أصحاب هذه المذاهب المنحرفة يعتمدون في أسلوبهم على أن الناس إذا تكرر سماعهم للباطل أوشكوا أن يصدقوه. لذلك فهم يكررون القول حيناً بعد حين ودفعةً بعد فترة، ولا يَنْضَبُ لهم مَعين في إلباس مقالهم أليق الأثواب بالمقام وعرضه من جوانب جديدة تقرِّبه من نفوس الناس.

وهم لا يسأمون من هذا التكرار، لأنهم يعرفون أنهم يخاطبون في كل مرة جيلاً جديداً غير الذي سمعهم من قبل. وقد ينجحون في إغواء بعض من ضاقت عنه حيلهم من قبل. وهم يعتمدون مع ذلك كله على أفراد عصابتهم ممن وصلوا إلى مراكز تسمح لهم بمدِّ يد العون في ترويج هذه الدعاوى وفي وضعها موضع التنفيذ، وفيهم من يشغل مراكز خطيرة تسمح لهم بالسيطرة على الصحافة والإِذاعة ووزارات التعليم والجامعات. لذلك كان فرضاً لازماً على كل عارف بحيلهم أن لا يمل من تكرار الرد عليهم ركوناً إلى أنه قد أذاع الرد من قبل، حتى لا تنفرد دعاياتهم المفسدة بالشباب فتستأثر به ثم لا يجد ما يصححها وينتشله من تيارها ويبطل فعل سمومها.

وأول ما يلفت النظر في هذه الكلمات والمقترحات ما أنحدرت إليه مجامع اللغة العربية - ومجمع القاهرة منها بخاصة - من ترويج الدعوات المريبة إلى تطوير اللغة وقواعدها ورسمها. وهو تطوير يختلف أصحابه في تسميته، ولكنهم لا يختلفون في حقيقته. يسمون تارة تهذيباً وتارة تيسيراً وتارة إصلاحاً وتارة تجديداً، ولكنهم في كل الأحوال وعلى اختلاف الأسماء يعنون شيئاً واحداً هو التحلل من القوانين والأصول التي صانت اللغة خلال خمسة عشر قرناً أو يزيد، فضمنت لجيلنا وللأجيال القبلة أن تسرح بفكرها وتمرح في معارض فنون القول وآثار العبقريات الفنية والعقلية لا تحس قيود الزمان ولا المكان، فكأنما القرآن قد أنزل فينا اليوم وكأنما شعراء العربية وفقهاؤها وفلاسفتها وكتابها وأطباؤها ورياضيوها وطبيعيوها وكيميائيوها على اختلاف أزمانهم قد كتبوا ما كتبوا وألّفوا ما ألّفوا في الأمس القريب، وكأنما المتنبي أو البحتري يخاطب جيلنا لا تمييز بينه وبين شاعرٍ معاصر كالبارودي أو شوقي أو حافظ، وكأنما الرصافي يكتب شعره للقاهريين، وكأنما الشابي يكتب شعره

ص: 146

للشآميين، وكأنما شوقي يخاطب بشعره أهل المغرب. وهذه ميزة منّ الله بها علينا ولم تحظ بمثلها أمة من الأمم. فإِذا تحللنا من القوانين والأصول التي صانت لغتنا خلال هذه القرون المتطاولة تبلبلتْ الألسن وأضاف كلُّ يوم جديد تطلع على الناس شمسُه مسافةً جديدة توسِّع الخُلْفَ بين المختلفين، حتى يصبح بين الشآمي والمغربي مثلُ ما بين الايطالي والأسباني، وتصبح عربية الغد شيئاً آخر يختلف كل الاختلاف عن عربية القرن الأول، بل عربية اليوم والأمس القريب، وتصبح قراءة القرآن والتراث العربي والإِسلامي كلِّه متعذرة على غير المتخصصين من دارسي الآثار ومفسري الطلاسم. وعند ذلك يصبح كل جهد سياسي أو حربي أو أدبي مما يبذل اليوم في جمع شمل العرب وتدعيم القومية العربية عبثاً لا طائل تحته، لأنه كالنفخ في قربة مقطوعة أو بناء القلاع فوق الرمال أو الارتفاع بالأبراج التي تناطح السحاب على غير أساس.

وليس الخطر الكبير في الدعوة إلى العامية، ولا هو في الدعوة إلى الحروف اللاتينية، أو الدعوة إلى إبطال النحو وقواعد الإِعراب أو إسقاط بعضها، فالداعون بهذه الدعوات من صغار الهدامين ومغفليهم الذين ليس لهم خطر العتاة ممن يعرفون كيف يخدعون الصيد بإِخفاء الشِّراك. وكيف يستدرجون الناس بتزوير الكلام. إن الخطر الحقيقي هو في الدعوات التي يتولاها خبثاء الهدامين ممن يخفون أغراضهم الخطيرة ويضعونها في أحب الصور إلى الناس، ولا يطمعون في كسب عاجل، ولا يطلبون انقلاباً كاملاً سريعاً. الخطر الحقيقي هو في قبول مبدأ التطوير نفسه. لأن التسليم به والأخذ فيه لا ينتهي إلى حدٍّ معينٍ أو مدى معروف يقف عنده المُطوِّرون، ولأن التزحزح عن الحق كالتفريط في العرض، فالذي يقبل التزحزح عن الحق قيد أنملة مرة واحدة يهون عليه أمثالها مرة ثم مرات حتى يسقط إلى الحضيض. ومن اعتراه شك في حقيقة ما يراد بقرآننا وبلغته وبإِسلامنا وكل تراثه فليقرأ قول طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر": (وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون، وليست أقل منا إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه، ولكنها تقبل في غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها، ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخالصة التي

ص: 147

تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلواتها. فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى، واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر، والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث، والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع (1) .. وبين المسلمين أنفسهم أمم لا تتكلم العربية ولا تفهمها ولا تتخذها أداة للفهم والتفاهم، ولغتها الدينية هي اللغة العربية، ومن المحقق أنها ليست أقل منا إيماناً بالاسلام وإكباراً له وذياداً عنه وحرصاً عليه - الفقرة 46 ص 229 - 230 من طبعة المعارف 1944). فإِذا وَعَى القارئ هذا القول وما وراءة فليُلْق بكل ما سواه في وجه صاحبه، لأنه ضرب من النفاق، وأسلوب في الكيد.

على أن تقديس لغة القرآن والتزامَ أصولها وقواعدها وأساليبها لم يكن في يوم من الأيام داعياً إِلى تحجر اللغة، وجمود مذاهب الفن فيها، ووقوفها عند حدٍّ تعجز معه عن مسايرة الحياة، كما يشنع به الهدامون ويخدعون به الأغرار وصغار العقول وقصار الهمم. فليس التطور نفسه هو المحظور، ولكن المحظور هو أن يخرج هذا التطور عن الأساليب المقررة المرسومة. وذلك يشبه تقيد الناس في حياتهم الاجتماعية بقوانين الدين والأخلاق. فليس يعني ذلك أنهم قد استُعبِدوا لهذه القوانين، وأنها قد أصبحت تَحُول بينهم وبين مسايرة الحياة أو الاستمتاع بخيراتها ولذائذها. ولكنه يعني أنهم يستطيعون أن يَغْدُوا وأن يروحوا كيف شاءوا، وأن يستمتعوا بخيرات الدنيا وطيباتها ويتصرفوا في مسالكها ويمشوا في مناكبها، كلُّ ذلك في حدود ما أحَل الله، وكل ذلك مع التزام الوقوف عند حدود الله. كذلك اللغة، وضع اللغويون والنحاة والبلاغيون لها حدوداً طابقوا بها مذهب القرآن وكلام العرب وتركوا للناس من بعد أن يستحدثوا ما شاءوا من أساليب، وأن يتصرفوا فيما أرادوا من أعْراض، وأن يجددوا ما أحبوا مما يشتهون ومما تتفتق عنه عبقرياتهم. ولكن كل ذلك لا ينبغي أن يخرج بهم عن الحدود المرسومة. فماذا في ذلك غيرُ ضمان

(1) ليس هذا الكلام من صنع طه حسين فهو ترديد لما قاله القاضي الإِنجليزي ولمور (1. Selden Willmore) من قبل في كتابه "عامية مصر"(The Spoken Arabic of Egypt) ص 15 من طبعة لندن 1901.

ص: 148

الاستقرار والحرص على جمع الشمل؟ وهل عاق ذلك عرب بغداد وعرب الأندلس عن الافتنان في القول وفي مذاهب الفن؟ وهل ضاقت معه عربية البدو عن الاتساع لما نقل العرب وما استحدثوا من معارف وعلوم؟.

أما ما جاء على لسان بعض المشتركين في هذا المؤتمر مثل أحمد حسن الزيات (ص 81 - 88). ومنصور فهمي (ص 241 - 256) في تصوير انحراف مجمع اللغة العربية عن القصد فليس إلا قليلاً من كثير. ومن شاء فليرجع إلى مجلة المجمع ليرى صورة أوضح وأكثر تفصيلاً لما يُهدَر من جهد في الكلام عن العامية وعن مسخ الخط العربي وقواعد النحو. أليس ذلك عجباً من العجب؟ وأعجب منه أن يصير إلى مركز القيادة في ذلك الحصن رجل يشهد ماضيه الثابت المسجَّل فيما نُشِر على الناس من صحف أنه كان حرباً على الجامعة الإِسلامية وعلى الجامعية العربية لا يراهما إلا وهماً من الأوهام، وأنه كان أول من رفع صوته بالدعوة إلى تمصير اللغة العربية. ألمثل هذه الغاية يَعمَل مجمع القاهرة وقد دارت الأيام واستقام عِوَجُ الزمان؟

أما ما زعمه علي حسن عوده مندوب حكومة الأردن في المؤتمر - أو ما تخيله - من أن هدفنا هو توحيدُ العامية والفحصى وجعلهما لغة واحدة فهو خطأ أساسي في تصور الموضوع. فليس مطلوباً أن تصبح لغة الحديث والأسواق والتعامل بين الناس هي نفُسها لغةَ الشعر والأدب والعلم والفلسفة، لأن التعامل يحتاج إلى لغة سريعة الوفاء بالغرض، ولكنه لا يحتاج إلى لغة دقيقة كحاجة العلم إليها، ولا يحتاج إلى لغة جميلة مؤثرة كحاجة الشعر والأدب عموماً إليها. إذ يكفي في لغة التعامل أن يَفهم بعضُ الناس عن بعض من أقرب طريق وأخصره. وقد يستعين المتعاملون على إتمام ما في العامية من قصور بإِشارات اليدين وبتلوين نغمة الكلام وتنويعها، وبالتعبير بقسمات الوجه. ومن الواضح أن لغة الأسواق لا تناسبها لغة راقية معقدة التركيب - ككل ما هو راق، فالبساطة تلازم الحالات الفطرية الساذجة - لأن قواعد اللغة الراقية تضيع وقت المتعاملين الذين لا يحتاجون للدقة أو الجمال حاجتهم إلى السرعة. فاستعمالهم الفصحى في التعامل يشبه استعمال الموازين الدقيقة التي يوزن بها الذهب والأحجار الكريمة في وزن الخبز والملح،

ص: 149

أو استعمال المقاييس الهندسية الدقيقة في قياس الأقمشة ومسح الطرقات، فهو إسراف في التأنق وبعثرةٌ للجهد وتضييع للوقت، لا يصبر عليه البائع ولا المشتري. ثم إن اللغة الراقية التي تنظمها القواعد لا تصلح لحاجات الحياة اليومية من وجه آخر. فقواعد اللغة الفصحى تجعل تطورها بطيئاً وصعباً، بينما لغة التعامل والأسواق تسد حاجات متغيرة يطرأ عليها كل يوم جديد لم يكن بالأمس. أما لغة الأدب فهي سجل لحالات عقلية ونفسية ثابتة متصلة، من الخير أن نحرص فيها على صلة الخلف بالسلف إلى أبعد مدى ممكن، لكي ينتفع بتجاربه فيزداد بذلك علماً ودرايةً ومتعة وذوقاً. فنحن نقرأ ما كتب في الأدب منذ آلاف. السنين فنجد فيه صورة من تفكيرنا الراهن ومن أحاسيسنا الحية. ولذلك فالأدب محتاج إلى لغةٍ أكثر استقراراً لتحقيق هذه الصلات بين القديم والجديد. وهو يحتاج إلى لغة مُصَفاة منتقاة، للكلمات فيها وللعبارات تاريخ وظلال تعوِّض بعض ما في اللغة من قصورٍ في التعبير عن مكنونات النفس وخطرات الفكر. فاللغة محدودة بكلمات المعاجم، أما الأحاسيس والأفكار التي يموج بها عالم النفس والعقل فهي خفيّة متعددة متجددة لا تكاد تدخل تحت حصرٍ في تنوعها وفي دقة الفوارق بين بعضها وبين البعض الآخر. لذلك كان لا بد للأديب أن يستعين على إتمام قصور اللغة هذا باستغلال خصائص الكلمات الصوتية واستغلال ظلال الكلمات مفردةً ومركبة. وإنما تنشأ ظلال الكلمات مما ترتبط به في تاريخها الطويل من استعمالات ومما في طبيعة تركيبها الصوتي من أسرار. وذلك كله لا يتوافر إلا في الكلمات التي صفّاها طول الاستعمال فأثبت بقاؤها على تقلب الظروف والأحوال والأزمان صلاحيتها للبقاء، والتي صقلتها ألسن القائلين وآذان السامعين وأذواق النقاد، والتي شحنها وأغناها ما تراكم حولها من المعاني والأطياف التي تقلبت بينها في تنقلها الطويل عبر التاريخ.

من ذلك كله يتضح أن لغة الأسواق شيء وأن لغة الأدب شيء آخر. وكلٌّ منهما صحيحة في ميدانها. فهما كلباس المصنع أو المهنة ولباس المسجد أو المحافل، يتخذهما العامل ويقتنيهما جميعاً، ولكنه يستعمل كلاً منهما في موضعه، فلا يلبس للمصنع لباس المسجد والمحافل، ولا يلبس للمساجد

ص: 150

والمحافل لباس المصنع والمهنة. كذلك الشأن في لغة التعامل اليومي وفي لغة الأدب، تمتاز إحداهما من الأخرى حسب طبيعة كلٍّ منهما ووظيفتها. وهذه ظاهرة مطَّرِدة التحقق واللزوم في كل اللغات قديمها وحديثها، شرقيها وغربيها. فقد كان للناس دائمًا لغةٌ للأدب تختلف عن لغة الحديث والمساومة والتعامل منذ كان لهم أدب رفيع، لأن البدائيين وحدهم هم الذين يكتبون أدبهم بلغة الحديث. فإِذا تطور هذا الأدب وسما ارتفع عن لغة الحديث وخلَّف لغة الأسواق والتعامل وراءه. ولو اتخُذت لغةُ الأسواق لغةً للأدب على ما يريده الخادعون والمخدوعون، فتطورت وارتقت، لنشأ إلى جانبها حتمًا لغةٌ أخرى للأسواق تتحرر من قواعد اللغة الأدبية وقيودها، وتنزع عنها ما لا يُحتاج إليه مما يفيد الدقة أو الجمال حتى تُسعف البائع والمشتري والصانع والزارع والسائل والمسؤول من ناحية، ولكي تساير حاجات الحياة وشؤؤنها المتجددة من ناحية أخرى. وإذن لا نكون قد قَربنا بين اللغتين على ما يزعم أصحاب ذلك المذهب، ولكن كل ما نبوء به عند ذلك هو قطع الصلات بيننا وبين الماضي كله بما فيه من دين ومن علم ومن أدب ومن تاريخ ومن تجارب إنسانية متعددة، فهو بمثابة إعدام هذه السجلات الحافلة، مما يجعل مهمة الأحياء والأجيال القبلة صعبة جداً إلى درجة التعذر في تَقصِّي حقائق الأشياء وتأريخها.

ومع ذلك كله فالأدب بطبعه متعة عقلية وروحية. وهو بهذا الاعتبار ليس هواية شعبية. وليست الشكلة فيه هي مشكلة الألفاظ فحسب ولكنها مشكلة الأفكار والأخيلة التي تحتاج في تذوقها إلى مستوى ثقافي معين. فمهما نعمل على تيسير الألفاظ وجعلها في متناول عامة الناس فلن يستطيعوا إلا فهم ما يلائم عقولهم وثقافاتهم من الآداب السطحية التي لا تعبِّر عن أغوار الحقائق وأعماقها. ذلك هو المدلول الحقيقي لكلمة (الأدب الشعبي). فالأدب الشعبي لايتميز بلغته فحسب، ولكنه يتميز أولًا وقبل كل شيء بسطحيته في التفكير وبساطته التي تلائم السذج من البدائيين، ولكنها لا تشبع حاجات المثقفين وطلاب المعرفة من أصحاب الفكر الرفيع والذوق المرهف والمزاج الصافي الصقيل.

ص: 151

زعم رئيف أبو اللمع الأمين العام المساعد للشؤون الثقافية في مقدمة الكتاب (أن على اللغة أن تساير المجاري المتدفقة المسرعة من تحوير وتبديل وتعديل وتجديد، فإِذا لم تتبع اللغة العربية سُنَّةَ النشوء والارتقاء فقدت عناصر الحياة - ص 2). وزعم الزيات عضو مجمع القاهرة أن إزالة السد القائم بين الفصحى والعامية سيقضي على (مساوئ الفصحى أو عُنْجُهِيَّتها فتموت كما يموت الحوشى المهجور من كل لغة - ص 85)، والواقع أن هذا التطور الذي يتحدث عنه الأمين على ثقافة العرب حادث فعلاً، وهو يحدث كل يوم، ولكنه يحدث من تلقاء نفسه ولا تحُشد له المؤتمرات لتصطنعه.

والتطور على كل حال ينبغي أن يكون بالقدر الذي لا يقطع صلتنا بالماضي، وبالقدر الذي لا يُخشَى معه أن يتطور إلى قطع صلة الأجيال المقبلة بالجيل الماضي أيضاً بحيث يتحول قرآننا وحديثُ نبينا وفقهُ فقهائنا إلى طلسم لا يقرؤه إلا طبقة من الكهان يحتكرون تفسير الإِسلام. هذا التطور واقع، لأن حاجات الحياة تدفع إليه، فالناس مضطرون إلى التعبير عن أنفسهم وعن الحياة في مختلف نواحيها: في أدبهم وفي صحفهم وفي إذاعاتهم التي تحكي ما يجري في الحرب والسلم، وفي قصصهم وفي كتبهم العلمية التي تضطر إلى استحداث الألفاظ لما يُستحدث من آلات أو أدوات أو متاع، ومن كشوف جديدة أو حقائق أو نظريات. والمهم في ذلك كله هو أن يحرص العرب على استعمال لغتهم العربية في كل هذه الميادين، كما دعا إلى ذلك بحق وإخلاص عارف النكدي عضو الوفد السوري (ص 89 - 104) وكما انتهى إليه المؤتمر في توصياته (ص 278)، فتحرص الإِذاعات والصحف ومنابر العلم بعامةٍ والجامعات بخاصة والقضاءُ والمؤتمرات على اللغة الفصحى. هذا هو السبيل الطبيعي للتطور، وما عداه فهو وسائل صناعية لا تؤدي إلا إلى البلبلة، وهي جَعْجَعة بلا طحن. أما ما زعمه عضو مجمع القاهرة من موت الحوشي وتصفية اللغة وتنقيتها فهو لا يتوقف على تفاعل الفصحى مع العامية كما يزعمه. فالحوشي يموت بطبعه كما يذهب كل باطلٍ وكل ثقيل وكل مستهجن غير صالح، لأن الأدباء والشعراء والعلماء ينفرون من استعماله. وهؤلاء هم في الحقيقة - بما وُهبوا من ذوق - صُنَّاعُ اللغة. وهم الذين يقومون بمهمة

ص: 152

التصفية التي يتحدث عنها الكاتب. ومن وراء هؤلاء الأدباءِ والشعراء والعلماء الذوقُ العربي العام الممثَّل في جمهور القراء والرواة. فهم الذين يحكمون على الصالح بالبقاء لأنهم يتناقلونه خلفاً عن سلف، وينشرونه في الآفاق، بينما يحكمون على الساقط والسخيف الركيك بالموت، لأنهم يهملونه ولايكترثون له. وهؤلاء هم المحكمة الصادقة التي لا تخضع للأهواء، ولا يجوز عليها التزييف والتزوير.

وطه حسين ومَنْ ذهب مذهبه مثل مندوب حكومة تونس في هذا المؤتمر يوهمون الناس بأن هناك خطراً على العربية الفصحى أن يهجرها الناس إلى العامية إذا لم تخضع لما يريدونه من تطور (ص 283، 209). ويبني مندوب الحكومة التونسية على هذا الوهم أو الإِيهام اقتراحاً بأن (يشتغل عدد من علمائنا باللغات العامية وأن يدرسوها دراسة دقيقة - ص 209) كما يقترح على المجامع اللغوية (أن تؤلف لكل قطرٍ معجمًا صغيراً - ص 208). والذي يَنقض هذا الزعم الباطل من أساسه هو الواقع المشاهد في القديم السالف وفي الحاضر الراهن، الذي أثبت أن العربية قد عاشت جنباً إلى جنب مع هذه اللهجات المحلية أكثر من ألف عام حتى الآن.

فالخوف من إعراض أصحاب اللغة العربية عنها هو وهمٌ اخترعه هؤلاء المغرضون، أو اخترعه لهم سادتهم ثم قاموا هم بترويجه. وينقض هذا الوهم أو هذا الزعم أن العربية قد استطاعت أن تحيا خلال بيئات متفاوتة وعصور متطاولة ودرجات من الحضارة والمدنية أدناها البداوة وأعلاها ما وصلت إليه في بغداد والأندلس. استطاعت - وهي اللغة البدوية - أن تكفي حاجات ما جدَّ من علوم ودراسات. وظلت مع ذلك كله هي هي. نقرأ القرآن بعد أربعة عشر قرناً من نزوله فكأنه أُنزل اليوم، ونقرأ الجاحظ والمتنبي بعد ألف سنة أو أكثر فكأنما نقرأ لكتّابٍ ولشعراء معاصرين. وقد تجاورَت لغةُ الأدب الرفيعة ولغةُ الحديث العامية طوال هذه القرون على اختلاف البيئات فلم تَطْغَ إحداهما على الأخرى، ولم تنفر إحداهما من مجاورة صاحبتها. ومع ذلك فإِن هذا الخطر الموهوم المزعوم يكفي في دفعة - إنْ كان - أن تحُسِن الدولة القيام على تعليم العربية في مدارسها وأن تُلزِم باستعمالها في المجالس النيابية وفي دور القضاء

ص: 153

وفي الاذاعة وفي المحافل والمجامع على إختلافها. ولا أظنني محتاجاً إلى أن أنبه للخطورة التي ينطوي عليها اقتراح مندوب تونس. وما أظن أن أحداً سينخدع بما يبدو في ظاهر قوله من البراءة حين يتظاهر - مِثْلَ طه حسين - بأنه معارض في استعمال اللغة العامية للكتابة الأدبية، وحين يشترط في المعاجم المقترحة أن (لا تتضمن - إلا الألفاظ العربية الفصيحة التي بقيت مستعملة بمعناها الأصلي في لغة ذلك القطر - ص 208). فالمهم في الأمر هو أن معاجم اللغة العربية سوف تختلف باختلاف بلاد العرب وأقطارهم، وأن المعجم التونسي والمعجم المصري والمعجم العراقي والمعجم الشامي والمعجم الحجازي والمعجم اليمني سوف تصبح بتنفيذ هذا الاقتراح حقيقة واقعة. وهذه المعاجم المقترحة نفسها سوف تصبح بدورها موضع تنقيح وتغيير وتعديل، وسوف ينأى بها كل تنقيح جديد عن أصلها الأول، حتى يتناكر المتعارفون ويتفرق المجتمعون ثم لا يُرجَى لصدْعهم رَأْب. ذلك هو الضمير المظلم الذي يبدأ بدعوةٍ خلابة براقة بريئة الظاهر إلى دراسة اللهجات والعناية بما يسمون تمويهاً على الشعوب بالآداب الشعبية.

وقد اعتمد طه حسين على هذا الأسلوب نفسه في الدعوة إلى تبديل النحو والخط حين قال (إنْ أبينا إلا أن نمضي كما كان النحو وكما كانت الكتابة فلا بد أن تنشأ عن هذه اللغة العربية الفصحى القديمة لغات مختلفة كما نشأت الفرنسية والايطالية والبرتغالية عن اللغة اللاتينية القديمة - ص 238). وهو يخدع الناس عن حقيقة ما يدعوهم إليه حين يعقب ذلك بقوله: (وبعد فلا أدعو أن تهجروا القديم مطلقاً، وعسى أن أكون من أشد الناس محافظة على قديمنا العربي، ولا سيما في الأدب واللغة. ولكن لمَ لا يكون النحو القديم والكتابة القديمة والبلاغة القديمة وكل هذه العلوم العربية التي أُنشئت في عصرٍ غير هذا العصر الذي نعيش فيه

لم لا يكون هذا كله متطوراً كما تطورت اللغة؟ نحفظ قديمه لدرس المتخصصين في الجامعات وفي المعاهد وتتيح للملايين البائسة من الصبية والشباب أن يتعلموا تعلمًا قريباً سهلاً - ص 238).

والعجيب في الأمر أن منصور فهمي يشيد بعد ذلك فيما أحصاه من

ص: 154

محاسن مجمع القاهرة بجهوده في (تيسير النحو والصرف والإِملاء) و (دراسة اللهجات العربية) و (تيسير الكتابة والخط). فهك أصبحت مهمة مجمع اللغة العربية في القاهرة هي دراسة اللهجات العامية وتبديلَ قواعد النحو والصرف والإِملاء والكتابة بحيث يصبح أي أثر من آثارنا طلسمًا من الطلاسم؟ بل بحيث يكون هذا نفسه هو مصير كل أثرٍ عربي معاصر لا يتبع مذهب مجمع القاهرة في التغيير والتبديل؟ وماذا يحدث إذا نهج مجمعنا في تيسير النحو والصرف والبلاغة على غير منهج المجامع العربية الأخرى؟ بل ماذا يحدث إذا اتفقت مجامع العرب على أشياء ورفضها المسلمون، لأن المسلمين إنما يدرسون هذه العلوم للاطلاع على مصادر دينهم، وهي جميعاً تستعمل اصطلاحات النحاة والبلاغيين التي يسمونها قديمة. وإذا انصرف الناس في مصر عن دراسة كتب (النحو القديم) و (البلاغة القديمة) كما يسميهما طه حسين وحزبه، وجَروا وراء كل ناعق يزعم أن القواعد القديمة معقدة، وذهب كل منهم مذهبه في استنباط قواعد جديدة، وتسمية المسمَّيات بأسماء مبتكرة فقدت الاصطلاحات قيمتها. فإِنما ترجع قيمة الاصطلاح إلى تواضع الناس عليه، فإِذا اختلف الناس فيه لم يعد اصطلاحاً. فإِذا قال أحدهم مثلاً (هذا فاعل) لم يفهم عنه الذي لا يسمي الفاعلِ فاعلاً لأنه قد ابتكر له اسمًا جديداً فسماه (موضوعاً) أو (أساساً) أو (مسنداً إليه) أو (ركناً). وإذا قال أحدهم هذا حال أو تمييز أو ظرف أو مفعول معه أو مفعول لأجله لم يفهم الآخر الذي لا يميز بين حالة من هذه الحالات لأنه يسميها جميعاً (تكملة). وقس على ذلك سائر قواعد النحو والبلاغة (1).

والنحو العربي - ولا أقول "النحو القديم" كما يسمون - ما عيبه؟ وهل هو حقاً كما يزعمون معقّد صعب، وهل ثبت فشله كما يزعمون في تنشئة جيل عربي يقيم عربيته ويحسن تذوقها؟ نَحوُنا وبلاغتنا لا عيب فيهما. ومن الممكن تبسيطهما واختصار المطولات المؤلفة فيهما في حدود القواعد والأقسام التي التزمها القدماء أنفسهم. فالواقع أن اجتماع الناس في كل أمصار العرب

(1) راجع مجلة مجمع اللغة العرببة (6: 188) وراجع كذلك كتاب القواعد الذي تداوله طلبة السنة الأولى من المرحلة الإِعدادية في العام الدراسي المنصرم.

ص: 155

- بل المسلمين - على قواعد موحدة، دون أن تحملهم على ذلك قوة قاهرة أو تلزمهم به سلطةٌ منفذة، أو تقوم على نشره دعاية تروِّجه وعصابات تسوق الناس إليه، هذا الاجتماع على قواعد موحدة في النحو والصرف والبلاغة بعد أن كانت مدارسها متعددة هو وحده الدليل الحي الذي لا يُنقَض على صلاحية هذه القواعد، وعلى أن هذه الدعوات إلى تغييرها بدعوى التيسير أو الِإصلاح هي دعوات مفتعلة يروجها هدامون وينساق وراءها مغفلون. ولو كان القصد هو التيسير حقاً لقنعوا بصنيع لجنة (حفني ناصف، ودياب، وطموم، ومحمود عمر، وسلطان مُحَمَّدْ) في كتاب (قواعد اللغة العربية لتلاميذ المدارس الثانوية)، الذي ظلت مدارسنا تتداوله سنين طويلة. فقد نجحت هذه اللجنة في حصر قواعد النحو والصرف والبلاغة في كتيِّب صغير لا يتجاوز مائة وأربعين صفحة، خال من التعقيد، يفي بحاجة التلاميذ والمتعلمين. وقد كان صنيع الجارم من بعد ذلك حسناً حين يسّر هذه القواعد ومهّد لها بالأمثلة الكثيرة، وأعان على إقرارها بالتمرينات المتعددة، وكان ذلك كله في حدود القواعد التي أثبتت ألف سنة صلاحيتها، والتي استطاع العرب بفضلها وحدها - ولا شيءَ سواها - أن يخرجوا في القرن الأخير هذا الجيش الضخم من الشعراء والأدباء والنقاد الذين بلغ بعضهم مستوى أندادهم الأقدمين في أزهى عصور الشعر والأدب العربي. وذلك من بعد أن أدرك الضعف العربية حتى كاد يدنيها من القبر. كيف وُجد البارودي وشوقي؟ وكيف نشأ مُحَمَّدْ عبده وطبقته من الكتاب؟ وكيف وُجد الرافعي والمنفلوطي؟ بل كيف وُجد المنادون بهذه البدع أنفسُهم أمثالُ طه حسين وإبراهيم مصطفى؟ كيف استقامت ألسنتهم وصحت أساليبهم؟ وذلك من بعد الركاكة التي تتمثل في كاتب كالجبرتي يُعتبر من أحسن كتّاب عصره؟ هل أتقن هؤلاء العربية عن طريق آخر غير قواعد النحو والصرف والبلاغة التي يزعم الزاعمون اليوم أنها معقدة وغير صالحة؟ فأيهما نصدِّق؟ هل نصدق واقعاً قائمًا ماثلًا راسخاً قديماً أثبتته ألف سنة وأعادت إثباته وتأكيده تجربة القرن الأخير؟ أم نصدق مزاعم لم نر من آثارها منذ ظهرت إلا الشر وإلا التدهور والانحطاط في مستوى تدريس العربية؟ إن انحطاط مستوى الجيل الحاضر في اللغة العربية أمر واقع، ولكن سببه ليس هو صعوبة القواعد (القديمة)، بل

ص: 156

إن سببه هو زعم الزاعمين أنها معقدة، لأنه قد صرف الناس عن إتقانها إلى التنقل بين تجارب فجة غير ناضجة، وأعان على إقرار ما يتوهمه التلاميذ والمدرسون من صعوبتها، بل اختلق هذا الوهم نفسه بعد أن لم يكن. والدليل على ذلك أن الجيل السابق لهذا الجيل - وهو جيل لا يزال كثير من أفراده أحياءاً - أحسنُ إتقاناً للعربية، رغم أنه قد نشأ في ظل الاستعباد الإِنجليزي وبرامجه، أو في ظل سياسة التتريك التي جُن بها دعاة الطورانية من الاتحاديين. وحَسْبُ الداعين بهذه الدعوة هزالاً وفشلاً ما اقترحوه على المدارس الإِعدادية في العام الماضي من قواعد بيِّنةِ الضعف والفساد والهزال، مما أرجو أن أعود للحديث عنه في غير هذا المقال. لم يزالوا يطبلون ويزمرون ويطنطنون ويهولون، فلما رأى الناس المولود الذي كانوا يبشرون به من قبل قالوا (تمَخَّضَ الجَبَلُ فَوَلَد فأراً).

ولكي ندرك خطر هذه الدعوات ونفهم حقيقة مغزاها لا بُدَّ لنا أن نقرنها إلى أمثالها. فننظر إليها في ظل ما نسمعه من الدعوة إلى تطوير عاداتنا وتقاليدنا، وتطوير أدبنا، شعرِه ونثره، شكلاً وموضوعاً وأسلوباً، وتطوير ألحاننا وأغانينا، وتطوير زِيِّناً نساءاً ورجالاً، وتطوير قِيَمنا ومُثُلنا الأخلاقية والاجتماعية، وتطوير تشريعنا بل تطوير إسلامنا نفسه. مَن أجال النظر في هذا كله وقرن بعضه إلى بعض عرف أن أصل هذه الفروع واحد، وأن روح الدعوة فيها جميعاً واحدة، وأن أصحابها لا يقنعون إلا بقطع كل ما يربطنا بإِسلامنا وعروبتنا وشرقيتنا من وشائج وصلات. عند ذلك نفقد طابعنا الذي يميزنا بوصفنا جماعة أو قوماً أو أمة. وإذا فقدنا طابعنا فقدنا كياننا، وفقدنا القدرة على التكتل والتجمع، وأصبح من اليسير على الشرق أو الغرب أو كائناً مَنْ كان من خلق الله أن يلحقنا به ويجعلنا تابعين له، ندور في فلكه ونسبِّحُ بحمده من دون الله.

والقائمون على ترويج هذه الدعوات كالجراثيم، تكمن حين تأنس من الجسم مقاومة حتى يظن المريض أن الداء قد ذهب عنه، ولكنها تتحصن في واقع الأمر حتى تجد فرصة أخرى ملائمة للظهور فتثور. وقد نشط أصحاب هذه الدعوات في السنوات الأخيرة، لأنهم يعرفون أن الثورات هي أكثر

ص: 157

الظروف ملاءمة لبث سمومهم، إذ يلبسون ثياب الناصحين، ويندسون في غمار الثائرين الذين يريدون أن يستبدلوا بأسباب الضعف والفساد أسباباً للحياة والقوة والبناء، كما يندس المخرِّبون والمأجورون من عملاء العدو وسط جموع المظاهرات يحطمون المصابيح ويحرقون المنشآت، فيقلدهم غيرهم في صنيعهم دون تمييز بين ما يصلح تحطيمه وما يضر تحطيمه.

بقي بعد ذلك كله أن أشير إشارة موجزة إلى مصدر هذه الدعوة، كيف بدأت ومن أين ثارت، فقد يعين ذلك على تقديرها وعلى تصور مبلغ ما تنطوي عليه من الصدق والِإخلاص والجراءة من الهوى. لم يُسمَع لداعٍ بهذه الدعوة صوتٌ قبل القرن الأخير. وكل ما كان قبل ذلك من إشارة إلى العامية أو ما كان يسميه قدماء المؤلفين (خطأ العوام) فقد كان المقصود منه تقويم اللسان والتنبيه إلى الخطأ، لا الاحتفاء بألفاظ العامة وأساليبهم وتسجيلها والدعوة إلى معارضة لغة القرآن بها. فالدعوة لم تنشأ إلا في ظل استعباد الغرب لبلاد العرب والمسلمين وفي حمايته من ناحية، وفي حضانة التبشير من ناحية أخرى. ويكفي أن أذكر في ذلك على سبيل الاختصار أسماء سبتا (Wilhelm Spitta) وفولارز (K. Vollers) وباول (A.powell). وفيلوت (D.c. Philott) وبوريان (M.Bouriant). وماسبيرو (M.Caston Maspero) الذين قادوا هذه الدعوة في مصر منذ سنة 1880 فظهر صداها في صحيفة المقتطف الشهرية أولاً سنة 1882 (1) ثم انتقل إلى بقية السماسرة.

جمع بعضُ هؤلاء المؤلفين أو الدعاة على الأصح - وكلُّهم ممن شغل وظائف عامة في ظل الاحتلال الإِنجليزي لمصر - طائفة من الأمثال والأغاني والمردَّدات السوقية في مختلف "الموضوعات" ونادوا باتخاذ اللهجة التي كُتبت بها هذه الآثار لغةً للتدوين والتأليف والأدب الرفيع. ووضع بعضهم الآخر كتباً

(1) صلة فارس نمر صاحب المقتطف بالاحتلال الإنجلبزي مشهورة معروفة. وقد كان المستر سمارت مستثار السفارة الإِنجليزية - أو دار المندوب السامي كما كانت تسمى وقتذاك - زوجاً لابنته.

ص: 158

استنبط فيها قواعد للهجة مصر العامية - وقد اقتصر معظمهم على لهجة القاهرة - محاولاً إقناع المصريين بأن لهجتهم هذه لها كل مُقوِّمات اللغة الراقية. ولاك الناس كلامهم من بعد. فردده كل ببغاء وكل بوق وكل سمسار وكل فاسد العقيدة مزعزعَ الإيمان. وليس في كلام هؤلاء جميعاً على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم - من لطفي السيد وحزبه إلى طه حسين وشيعته - فكرة جديدة. فكل ما قالوه وما يقولونه ترديد لما قاله هؤلاء. حتى الذين أكثروا من الكلام فيما سموه (الأدب الشعبي) وادَّعوا أنهم جمعوا فيه ما جمعوا من آثار لم يكونوا إلا ناقلين مما جمعه أمثال ماسبيرو وبوريان. بل لقد اعتمدوا عليهم في تصنيف ما جمعوه وفي ترتيبه وتبويبه أيضاً. ولولا خشية الإِطالة وضيقُ المقام لأوردت النصوص التي تثبت ما أقول.

وبعد، فقد وعد الله سبحانه أن يحفظ قرآنه إذ قال وقوله الحق:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]

وهل يكون حفظه إلا بحفظ لغته؟ وإني لأعرف أن الهدامين من الإِنس والجن أضعف كيداً من أن ينقضوا ما قضاه الله سبحانه. وإنما أقول ما أقول إبراءاً للذمة، واغتناماً للأجر، وخضوعاً لسنة الله الذي يضرب الحق والباطل، والذي ألزم أهل الإِيمان محاربة أهل الكفر والضلال ومكافحتهم ليبلوَ بعض الناس ببعض. وإنما هو قضاءٌ سبق في علم الحكيم العلم وتقديره، يَشقى به المفسدون ومن تبعهم - وبعملهم يشقون - ويسعد به من هداهم الله للذود عن الحق والمنافحة عن الدين، في يوم يتبرأ فيه أئمة الشر ممن تبعوهم، ويقول الذين اتبعوهم {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} (البقرة: 167)

ص: 159