الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-2 -
في الكتبِ المترجمَةِ*
تقوم اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية على ترجمة عدد من الكتب الأوربية والأمريكية إلى العربية وتنفق على طبعها ونشرها. فما هي الصفات والميزات التي تتوخاها اللجنة فيما تختاره للترجمة من هذه الكتب؟ لا شك في أن الميزة التي ينبغي أن تراعى في اختيار هذه الكتب هي مصلحة العرب. وذلك باستكمال ما ينقصهم وتدارك ما فاتهم مما سبق إليه غيرهم، فكان سبقه فيه سبب تفوقه وسيادته، وكان تخلفنا فيه سبب ضعفنا واستعبادنا. ولا شك في أن العرب أنفسهم هم أقدر الناس على إدراك ما يصلحهم وهم أحرص الناس عليه. فليس من المعقول مثلًا أن نكل أمر هذا الاختيار إلى إحدى دول الاستعباد الغربي مثل أمريكا أو إنجلترا أو فرنسا أو أسبانيا أو هولندا أو بلجيكا، ثم نطمع أن يرشد خبراؤهم العرب مخلصين إلى ما ينفعهم، وما يترتب عليه استغناؤهم عن خبرائهم، واستقلالهُم باستغلال خيراتهم، وخرابُ ما يعيث في بلادهم من شركات، وبوارُ ما يروج في أسواقهم من المنتجات الصناعية على اختلافها، وانقطاعُ ما تنتفخ به جيوبهم وبطونهم من بنزول هذه البلاد وخيراتها المعدنية والزراعية.
ومن الواضح أني حين أتكلم عن الغرب أعني الغرب كله، غربيَّة وشرقيَّة، الذين استغلونا واستعبدونا في الأمس الغابر ولا يزالون، والذين
(*) نشرت في العدد الأخير من سنة 1377 والعدد الأول من سنة 1378 في مجلة الأزهر. وقد حجبت الجامعة الكتاب وجمعته من الأسواق بعد صدور هذا المقال.
يطمعون في استغلالنا واستبعادنا في الغد القريب أو البعيد، والذين يغزون أسواقنا ويغزون عقائدنا. من الواضح أنهم جميعاً سواء، وإنما يبدو حديثي في معظمه موجهاً إلى فريق منهم دون فريق، لأن ذلك الفريق - والمقصود به هو المعسكر الأمريكي وحلفاؤه من الإِنجليز والفرنسيين خاصة - يمثل الخطر الراهن الماثل، ولأن عملاء هذا المعسكر هم أقدم السماسرة وأعرقهم في هذه الحرفة الدنيئة، وقد رشحهم هذا القدم وهذه العراقة - بعون سادتهم وتضامن عصابتهم - لاحتلال كثير من المراكز الخطيرة في حصوننا. ونحن حين نوجه النظر إلى الخطر الراهن الماثل لا ينبغي أن نغفل عن الخط المتربص الذي يتحين الفرص. ولهذا الخطر المتربص سماسرة من نوع آخر لا أحتاج لأن أكشف القناع عن وجوههم لأنهم غير معنَّعين.
ونعود لما كنا فيه فنقول: إن من غير المعقول أن تُخْلِص دولة من دول الاستعباد فيما تنصح به للعرب من اختيار النافع من الكتب، الذي يؤدي إلى نهضة حقيقية. وليس من الإِنصاف أن نؤاخذهم على التقصير في ذلك أو الغش فيه، فلا ينبغىِ أن نتوقع منهم أن يخربوا بيوتهم بأيديهم، وأن يضعوا رقابهم في حبال المشانق طائعين مختارين. العرب وحدهم هم الأمناء على مصالحهم، لا يصلح للقيام عليها سواهم ولا يؤتمن على هذه الأمانة غيرهم. فاختيار الكتب التي نترجمها إلى العربية يجب أن يوكل إلى علماء العرب وحدهم. تلك كلها من المسلَّمات التي لم أكن أحتاج لأن أفصِّل القول فيها، لولا أن هذا الذي يبدو في عقول كل الناس من الحقائق الواضحة التي تبلغ درجة المسلَّمات لم يكن يبدو كذلك في عقول المشرفين على التوجيه الثقافي لجامعة الدول العربية. هل يعقل عاقل منصف أن يلجأ العرب إلى السفارة الأمريكية مثلاً لتختار لهم ما تراه نافعاً للعرب ومحققاً لنهضتهم، ومعيناً على طرد اليهود وإجلائهم؛ وتصفية شركات البترول وخرابها؟ لقد فعلت اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية ذلك! استوحت السفارة الأمريكية في بعض ما اختارته مما ترجمته، واستوحت اليونسكو في بعضه الآخر. وهي نفسها تعترف بذلك حيث تقول في نشرتها الثقافية التي عرضت فيها نشاطها بين سنتي 1946 - 1956) كذلك أتفقت الِإدارة الثقافية بعد موافقة المكتب
الدائم على أن تتولى نشر بعض الكتب الهامة المترجمة بمعرفة القسم الثقافي بالسفارة الأمريكية. وقد قُدِّمت فعلاً إلى الطبع على هذا الأساس أصول كتاب مترجم إلى العربية، ويشتمل على مقالات للكاتب الأمريكي الكبير إيمرسون - ص 25) (1). وتقول كذلك:(اتصلت الإِدارة الثقافية ببعض الهيئات العالمية المختصة (2)، وحصلت منها على كشوف بأسماء الكتب التي تراها تلك الهيئات داخلة في إطار هذا البرنامج). وسوف أعرض في هذا المقال نموذجين من هذه السموم التي تدس على العرب باسم جامعتهم في كتابين، أحدهما مما أوحت به السفارة الأمريكية وهو (مختارات من إمرسون)، والآخر مما أوصت به اليونسكو وهو (قصة الحضارة) لوِلْ ديورانت. وقبل أن أتناوت هذين الكتابين أحب أن أؤكد لجامعة الدول العربية وللجنتها الثقافية الموقرة التي يرأسها طه حسين أن الجرب لم يُغلَبوا من ضعف في الفلسفة ولا الآداب ولا التاريخ. ولكنهم غُلبوا وضربت عليهم الذلة لأنهم متخلفون في العلوم التجريبية المادية بكل فروعها الكيميائية والطبيعية والميكانيكية، النظرية منها والتطبيقية. غَلبوا لأنهم لا يملكون من المصانع ومن أدوات القتال ما يناهضون به عدوهم وما يتحررون به من سجنه الاقتصادي، الذي يسخّرهم فيه لجمع الثروات له كما يسخَّر العبيد ثم يحاربهم بهذه الثروات نفسها، ويشتري بها من رجالهم من يقوم على حراسة هذا السجن الكبير، فيقيم فيه معبداً يسبِّح كهنتهُ بحمد آلهتهم التي يعبدونها من دون الله. وينكل بالذين ينبِّهون النائمين والغافلين والمخدوعين، أو يطاردهم بالإِشاعات الكاذبة والأضاليل الباطلة حتى يُلَبِّس على الناس أمرَهم ويجعلهم موضع السخرية والاستهزاء.
إن الجماعات البشرية في الدول والحكومات، والجيوشَ في ميادين القتال، والفرقَ الرياضية في الساحات، يتميز نفسها بمختلف الشارات، فتتخذ الأعلام
(1) طبعت اللجنة بعد ذلك كتابين مما أوحت به السفارة الأمريكية. وهما (الثقافة والحرية) لجون ديوي، الذي أفسد المتأمركون تربية شبابنا باسمه، و (انتصار الحضارة) لبرستد الذي أوفده المليونير اليهودي المتستر تحت النصرانية روكفلر في سنة 1926 ليعرض على مصر عشرة ملايين من الدولارات لتأسيس معهد للدراسات الفرعونية يعين على سلخ مصر من عروبتها.
(2)
المقصود بها هيئة اليونسكو التي يسيطر عليها - كما هو الشأن في أكثر مؤسسات الأمم المتحدة - الصهيونية العالمية الهدَّامة.
والأناشيد وأنماط الأزياء والعلامات والأشعرة. تفعل ذلك لتميِّز نفسها من غيرها فلا تضل في الزحام ولا تذوب عند الاختلاط، ولا تنحلَّ رابطتها عند الصادمة والنزال.
وللعرب طابع يميزهم، ولهم شخصية قد ضلوا عنها في عصور الضعف والخمول وأضلهم عنها المستبعِدون وأذنابهم. ولن تتحقق لهم نهضة إلَّا إذا أحيوا هذه الشخصية، وتمسكوا بمقوماتها، وتعصبوا لرموزها وشاراتها، وميزوا أنفسهم بطابعهم الخاص. وسيظلون بغير ذلك أذناباً للمستعبدين ينقادون ولا يقودون، وأبواقاً ينشرون ما يلقى إليهم من قول ويرددونه في الأجواء، لا يزيد عملهم فيه عن مجرد تضخيمه. ذلك لأنهم إلا يبتكرون حتى يحسوا في أنفسهم القدرة على الابتكار، وحتى يكونوا جميعاً متماسكين فيتولد من اجتماعهم وتماسكهم قوة. وهم لا يحسُّون القدرة على الابتكار إلَّا إذا استيقنوا أنهم عريقون في هذا الباب. ولا يجتمعون ويتماسكون إلَّا إذا عرفوا خصائصَهم الأصيلة التي تمنعهم من أن يذوبوا في غيرهم فتذهب قواهم شَعَاعاً وتتفرق بَدَداً.
لا يبلغ العرب درجة الأستاذية في هذه العلوم الجديدة التي أذلّهم عدوهم بتفوقه عليهم فيها إلَّا إذا أصبحت هذه العلوم ملكاً لهم، وهم لا يملكون هذه العلوم ولا يحسون أنها علوم عربية إلَّا إذا قرءوها بالعربية وكتبوها بالعربية. وسيظلون يحسون أنهم غرباء عليها وأنهم متطفلون على أصحابها - طالما ظلوا يقرءونها ويكتبونها بغير لغتهم.
ولكن اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية، وعلى رأسها طه حسين الذي تشهد كتبُه أنه لم يكن إلَّا بوقاً من أبواق الغرب، وواحداً من عملائه الذين أقامهم على حراسة السجن الكبير، يروِّج لثقافاته ويعظمها، ويؤلف قلوب العبيد ليجمعهم على عبادة جلاديهم. طه حسين الذي لم يملّ من الكلام عن جامعة البحر الأبيض المتوسط، التي دعت إليها فرنسا بالأمس والتي تدعو إليها أمريكا اليوم. طه حسين الذي يزعم لمصر أنها جزء من البحر الأبيض التوسط في مقوِّمات شخصيتها، وليست جزءاً من عرب نجد واليمن والبحرين والعراق والسودان. طه حسين الذي لم يَبْدُ العربُ في وهمه أمة،
لأن قِوام الدول في زعمه هو المنافع المادية، ولأن (تطور الحياة الإِنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية، ولا قِواماً لتكوين الدول)(1). طه حسين هذا لا يُقِر معنا هذه الحقيقة، لأنه يزعم للعرب أن السبيل إلى نهضتهم ليس هو ترجمةَ العلوم، ولكن السبيل إلى نهضتهم أن يذوبوا في الغرب، وأن يُخلَعوا من أنسابهم ويُقلَعوا من تُربتهم ليُغرَسوا في تربة الغرب، ولذلك فهو يهلك أموالهم في ترجمة شكسبير الذي ترجمت رواياته من قبلُ أكثر من مرة ليحابي بها بطانته وحزبه فيغدق عليهم مما تحت يده، بل هو يهلك أموالهم في ترجمة ما لُعِن به أجدادهم، وما سُبَّ فيه أسلافُهم، وسُفِّه دينهم، وافتُرِيَ على نبيهم.
ولو أنصف طه حسين، ولو أنصف كل القائمين على الترجمة في هذا البلد من مثل إدارة الثقافة بوزارة التربية ومجلس الآداب وغيرهما، لجعلوا كل همهم مصروفاً إلى نقل العلوم التجريبية والرياضية وحدها لا يشتغلون بترجمة غيرها حتى نستكمل نقصنا فيها، لأن الاشتغال بنقل كتب الأدب والفلسفة والتاريخ والتربية والأخلاق وما شاءوا من الثقافات الإِنسانية، على هذا النحو الذي تسوده الفوضى وسوء الاختيار - بل سوء القصد في كثير من الأحيان - يضر مرتين: يضر بإِفساد أذواق شبابنا وتدمير كيانهم، وتحويل شخصيتهم بحيتَ يصبحون غرباء بين قومهم، ثم يصبح قومهم بعد قليل هم الغرباء بينهم حين يكثر عددهم ويَكْثُف جْمَعُهم، ويضر مرة ثانية بتبديد الجهد والمال في غير وجهه وصرف العرب عن الطريق الصحيح إلى تحررهم ثم سيادتهم. ولو كان لي أن أقترح على اللجان الثقافية والهيئات الجامعية على اختلافها، لاقترحت أن يبدءوا بترجمة كتب المَراجع في الطب والهندسة والعلوم والزراعة التي يدرسها طلاب الجامعات العربية. فهم بذلك يصيبون غرضين: إنهم ييسرون سبل العلم للطلبة العرب ويخففون عن آبائهم بعض الأعباء، بإِغنائهم عن الطبعات الأوروبية الباهظة الثمن، والتي لا يتيسر وجودها في كثير من الأحيان، لأن أصحابها يستطيعون أن يمنعوا تصديرها إلينا حين
(1) مستقبل الثقافة في مصر ص 19. ويراجع في بسطه الفكرة كلها الفقرتان الثانية والثالثة ص 12 - 20 من طبعة المعارف سنة 1944.
يشاءون وهم في الوقت نفسه يخطون بهذا العمل خطوة واسعة نحو تعريب هذه العلوم التىِ لا تزال تدرَّس في جامعات مصر باللغة الإِنجليزية.
وقد كان أنصار اللهجات السوقية ودعاة تطوير العربية الفصحى في قواعدها وأساليبها ومفرداتها، من غربيين ومن عرب مستغربين، كانوا ولا يزالون يستندون في دعوتهم إلى ما يسميه بعضهم (ازدواجاً)، فيزعمون أننا نقرأ ونكتب بغير اللغة التي نتكلمها، وذلك عندهم هو السبب في تخلفنا العلمي والثقافي الذي يَحُول بيننا وبين التفوق والنبوغ. ومن عجيب أن هؤلاء العباقرة قد اكتشفوا هذا العيب الخطير في عربيتنا الفصحى وحدها ولم يكتشفوه في الإِنجليزية أو الفرنسية، فلم نسمع صوتاً واحداً منهم ينبه إلى الازدواج الناشىء عن قراءة الجامعيين العرب - أساتذة وطلاباً - وكتابتهم بالإِنجليزية أو بالفرنسية، فهل يرون الازدواج في المرواحة بين السوقية والفصحى مع قرب ما بينهما، ولا يرونه في المراوحة بين الإِنجليزية والعربية، أو الفرنسية والعربية، مع بُعْدِ ما بينها وبينهما؟
ولنعد من بعد إلى حديثنا عن الكتابين اللذين أشرت إليهما من قبل لأقول: إن جامعة الدول العربية حين استوحت السفارة الأمريكية في أحدهما، واستوحت اليونسكو في الكتاب الآخر، قد لجأت في حقيقة الأمر إلى السفارة الأمريكية مرتين. لجأت مرة إلى السفارة الأمريكية التي ترفع فوق دارها العلم الأمريكي، ثم لجأت مرة أُخرى إلى السفارة الأمريكية التي ترفع علم الأمم المتحدة. وإن شئنا الدقة قلنا: إنها لجأت إلى اليهودية العالمية الهدامة في الحالين، لتختار لها أشد الكتب فتكاً بالدبن والأخلاق وأفعلها في قتل الشخصية العربية ومحو مقوماتها وتدمير تفكيرها وتسميم ينابيع الثقافة فيها، ومن أراد الدليل على صدق ما أقول فليرجع إلى الكتابين اللذين أشرت إليهما، فسيجد فيهما الكيد للإِسلام وللمسيحية ولكل دين صحيح ظاهراً وخفياً، وسيجد أن اليهودية وحدها هي التي سلمت من كيد المؤلَفيْن وبذاءتهما، وسيجد الثناء على اليهودية واليهود تصريحاً وتلميحاً. يجد ذلك في مثل إشارة إمرسون إلى يوم السبت الذي يسميه (يوم الدين)، والذي يُظهِر الحزن والأسى لأنه (فقد الآن عند القسس سناء الطبيعة - ص 77) ويجده في مثل قوله (إني لأتطلع إلى الساعة التي يتكلم فيها في الغرب كل ذلك
الجمال العلوي الذي افتتنت به أرواح أولئك الشرقيين، وبخاصة أولئك العبريين الذين تحدث الأنبياء من خلال شفاههم لكل زمان
…
وإني لأتطلع إلى المعلم الجديد الذي يتابع هذه القوانين المشرقة - ص 90). ويجده كذلك في عرض ول ديورانت لتاريخ اليهود عرضاً جذاباً مشرباً بالعطف والمحاباة في الجزء الثاني من هذه الترجمة التي أتناولها بالحديث (ص 321 وما بعدها)، وفي اعتماد المؤلف الشديد على المؤرخ اليهودي يوسيفوس، وعرضه تاريخ اليهود من زوايا تثير العطف والإِعجاب في كل مكان من الكتاب (1). وذلك في مقابل ما يصبه "ول ديورانت" من التهم البذيئة على شخصي مُحَمَّدْ والمسيح الكريمين عليهما صلوات الله وسلامه في الجزءين الحادي عشر والثالث عشر من هذه الترجمة، وفي مقابل تهكم إمرسون اللاذع وسخريته المرة بالمسيحية وبرجالها وطقوسها. ألا يذكّرنا ذلك كله بالتهم البذيئة الموجّهة إلى شخصي المسيح عليه السلام وأمه رضي الله عنها في التلمود الذي يقدسه اليهود أكثر من تقديسهم للتوراة، ثم ألا يذكّرنا كذلك بالمادة الخامسة من خطة الصهيونية السرية التي عرفت فيما بعد باسم (بروتوكول حكماء صهيون) حيث تتحدث عن (حكم الجماهير والأفراد عن طريق عبارات ونظريات وقواعد للحياة معدة إعداداً ماهراً وعن طريق شتى أنواع الخداع والحيل)، ثم تقول بعد قليل:(وبقدر ما نعلم فإِن المجتمع الوحيد الذي يستطيع الوقوف في وجهنا في مضمار هذا العلم هو مجتمع اليسوعيين، إلَّا أننا قد توصلنا إلى الحط من قدرهم في نظر الجماهير الحمقاء بتوكيدنا لهم أنهم منظمة زائلة، بينما وقفنا نحن وراء الكواليس وحرصنا على أن تبقى منظمتنا مستترة خفية)(2).
(1) تراجع أمثلة لذلك في صفحات 13، 14، 33، 36، 39، 204، 216 من الجزء الحادي عشر (الجزء الثالث من المجلد الثالث).
(2)
الترجمة العربية ص 46 - 47 من طبعة "كتب سياسية" - العدد الخامس. ويجب أن يتنبه المسلمون إلى أن الأساليب التي استخدمتها الصهيونية في هدم المسيحية ومحو سلطانها وسلطان رجال الكنيسة من قلوب المسيحيين هي نفسها التي تتخذها الصهيونية الآن لمحاربة الإِسلام وإفساد دين ناشئتهم وجماهيرهم وإضعاف سلطان الإِسلام على نفوس عامتهم. ويقوم هذا الأسلوب على السخرية بعلماء الدين وتصويرهم بصورة الجهلاء الجامدين تارة، والمنافقين المستغلين لسلطان وظائفهم تارة أُخرى، وبإِثارة المشاكل الوهمية حول قواعد الإِسلام وأحكامه ليوهموا ضحاياهم أنها لم تعد كافية لسد حاجات المجتمع الحديث.
يهدم إمرسون الدين والتدين من جذوره تحت ستار الدعوة إلى الحرية وإلى استقلال الشخصية. وأما ول ديورانت فهو يهدمه عن طريق تجريح الرسل الأطهار وإثارة الغبار حول سيرهم. على أن الكاتبين كليهما يشتركان في هدم النبوات وإنزال الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه إلى مرتبة الفلاسفة والكتاب والمصلحين.
يستدرج إمرسون السذج من القراء وضعاف الإِيمان بالثناء على موسى وعيسى عليهما السلام، ولكنه يزعم لهم أن الدين يتجدد دائمًا، وأن الأنبياء كانوا ولا يزالون (ص 69، 70). ولذلك فهو يسمي المسيحية التي أنزلت على المسيح عليه السلام (المسيحية التاريخية - ص 71)، ويعد فيما يعدده من أخطائها أنها تهتم بشخص المسيح اهتماماً مبالغاً فيه، وأنها تبالغ كذلك في الاهتمام بالطقوس دون جوهر الروح. ومن أجل ذلك صار الناس في زعمه (يتحدثون عن الوحي كأنه قد أوحي به وانتهى من عهد قديم، كأن الله قد مات - ص 71 إلى 74). ولا يزال هذا الصهيوني الهدام يستدرج قارئه حتى ينتهي به إلى النتيجة الخطيرة التي يريد أن يسوقه إليها، وهي هدم كل الديانات، باعتبار الوحي ظاهرة مألوفة تتكرر في كل زمان ومكان، وذلك حين يقول:(ومن واجبي أن أقول لكم إن الحاجة إلى إلهام جديد لم تكن في أي وقت من الأوقات أشد مما هي الآن ص 75) وحين يقول بعد ذلك: (إن جمود الدين، والزعم أن عصر الإِلهام قد ولىّ، وأن الإِنجيل قد استغلق، والخوف من الحط من شخصية المسيح بتمثيله في صورة رجل، كل ذلك يدل في وضوح كاف على خطأ علمنا بالدين. وواجبُ العلم الصادق أن يرينا أن الله كائن اليوم، لا كان فيما مضى، وأنه يتكلم لا تكلم وانتهى- ص 83). ما الفرق بين كلام هذا الرجل وبين كلام القسيس الأمريكي ميلر بروز في الكتاب الذي نشرته مؤسسة فرانكلين باسم "الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة"؟ وما الفرق بينه وبين كلام القسيس الأمريكي الآخر هارولد سمث في ذلك الكتاب نفسه (ص 47، 74 (*)؟ ألا ترى أن واردات أمريكا تهدف جميعاً إلى زعزعة إيمان الناس بدياناتهم، وجعل المسلمين في هذه المنطقة
(*) يراجع مقال (الثقافة الإِسلامية والحياة العاصرة) في كتابتا (الإِسلام والحضارة الغربية).
مسلمين بأسمائهم وألقابهم وشهادات ميلادهم، لا يزيدون عن ذلك ولا يتجاوزونه؟ هذا هو الهدف الهدام الذي تخفيه أردية الكهنوت السوداء - وإمرسون أحد أصحاب هذه الأردية. فهو ينتمي إلى أسرة يحترف كثير من أفرادها الكهنوت، وقد تخرج هو نفسه في مدرسة هارفارد الدينية سنة 1829، وبدأ حياته راعياً لكنيسة كان أبوه يقوم بالوعظ فيها، تم طردته الكنيسة لما شاع إلحاده. وما ينبغي لهذه الأردية السوداء أن تخدع الناس عن حقيقة الذين يلبسونها. إنهم مدسوسون على القسس، دستهم عليهم الصهيونية العالمية الهدامة.
ومن وجد في هذه الحقيقة شيئاً من الغرابة فليقرأ الرسالة التي بعث بها كبير حاخامي اليهود في القسطنطينية إلى يهود فرنسا سنة 1489 حين تعرضوا لاضطهاد لويس الثاني عشر. فقد قال لهم: (إنكم تذكرون أن ملك فرنسا يريد أن تصبحوا مسيحيين فعليكم إذن أن تفعلوا
…
إنكم تذكرون أنهم يريدون الاستيلاء على ممتلكاتكم، فاجعلوا من أبنائكم تجاراً، وبواسطة التهريب تستطيعون شيئاً فشيئاً الاستيلاء على ممتلكاتهم، إنكم تشكون من أنهم يحاولون اغتيالكم، فاجعلوا من أبنائكم أطباء وصيادلة حتى يتمكنوا من القضاء على حياتهم دون أن يخشوا عقاباً. إنكم تؤكدون أنهم يهدمون معابدكم، فحاولوا أن تجعلوا من أبنائكم كهنة، ورجال دين، لكي يدمروا كنائسهم .. إلخ) (1).
يقرن هذا الصهيوني الهدام رسالات الأنبياء في كل موضع من كتابه بآراء الفلاسفة والكتاب وأصحاب المذاهب الضالة الفاسدة في بعض الأحيان - مثل ما جاء في صفحات 84، 128، 157 - فهي في زعمه ليست منزلة من عند الله، ولكنها نابعة من عقولهم بعد أن تحرروا من أسر الآراء السائدة في عصرهم. ولذلك فهو يحض على الاقتداء بهم حسب تصويره المزعوم لهم - في الخروج على كل ما هو ثابت مقرر مما توقره التقاليد وتقدسه الأديان. وذلك هو ما يسميه ذلك الهدام: بالحرية وباستقلال الشخصية.
(1) راجع "عدو فرنسا رقم 1" ص 13 - العدد 19 من سلسلة "كتب سياسية".
والحرية أو استقلال الشخصية التي يدعو إليها هذا الهدام هي حرية تقوم على الغلو المفرط في الفردية، ويستطيع القارئ أن يلمس بوضوح في كل مقالات الكتاب أن وراء كل سطورها إسرافاً في تقدير الفرد والفردية والحرية الشخصية في السلوك وفي التعبير عن الرأي، ينتهي إلى أن يسمح كل إنسان لنفسه بأن يبني عالماً مستقلاً به من القيم لا يستوحي فيه غير خياله وأوهامه. مثل هذا الكلام لا يصدر إلَّا من هدام محترف، لأنه يقتل الروح الجماعية التي هي أساس كل تماسك اجتماعي، والتي أدَّى فقدانها إلى ما يعانيه الناس الآن من فوضى واضطراب. فلو سُمِح لكل فرد من الناس أن يبني لنفسه عالماً مستقلاً من القيم لأصبحت مقاييس الخير والشر مقاييس فردية، فلا يكون هناك شر هو عند كل الناس شر، ولا يكون هناك خير هو عند كل الناس خير، وعندئذ لا يصبح هناك مجتمع، ولا يكون هناك إلَّا الفوضى والخراب.
والأمثلة على هذه الدعوة اطيدأمة التي هي بمكان اللب من هذه المقالات التي ترجمتها الجامعة العربية بمشورة السفارة الأمريكية تملأ الكتاب، أستطيع أن أقدم بعض نماذج منها على سبيل التوضيح لا الحصر.
يقول إمرسون مخاطباً قراءه (وإني أنصحكم قبل كل شيء أن تسيروا وحدكم وأن ترفضوا النماذج الطيبة، حتى تلك التي يقدسها الناس في خيالهم، وتشجعوا على محبة الله بغير وسيط أو حجاب، وسوف تجدون من الأصدقاء من يكفي لأن يطلعكم على أمثال وزلي وأوبرلين والقديسين والأنبياء - وتأمل أين يضع هذا الملحد الهدَّام الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه - لكي تقتدوا بهم. أشكروا الله على هؤلاء الرجال الأخيار، ولكن ليقل كل منكم "أنا كذلك إنسان"
…
إن التقليد لا يمكن أن يرتفع فوق النموذج
…
كل منكم مُنْشِدٌ من منشدي الروح التدليل وُلد حديثاً، فلينبذ وراءه كل تقليد وليعرِّف الناس مباشرة بالله - ص 85). وواضح من هذا الكلام أن ذلك المفسد المضل يريد أن يجعل كل الناس أنبياء، معتمدًا على ضعف المغرورين والمفتونين، الذين يريد أن يخيِّل إليهم أنهم لا يُثِبتون وجودهم إلَّا عن طريق
نبذ الدين، ويزعم لهم أنهم جميعاً على صلة صحيحة وثيقة بالله سبحانه وتعالى تمكنهم من معرفته ومن تعريف الناس به.
ومن أمثلة هذه الآراء الهدَّامة التي تستتر وراء الدعوة الخلابة إلى التحرر الفكري كذلك قوله: (من أراد أن يكون رجلاً ينبغي أن ينشقَّ على السائد المألوف، ومن أراد أن يجمع ثمر النخيل الخالد ينبغي أن لا يعوقه ما يسميه الناس خيراً، بل يجب عليه أن يكتشف إنْ كان ذلك خيراً حقاً. لا شيء في النهاية مقدَّس سوى نزاهة عقلك. حرر نفسك لنفسك يؤيدك العالم
…
الخير والشر اسمان يمكن في سهولة شديدة أن ينتقلا إلى هذا أو ذاك، والشيء الوحيد الصحيح هو ما يتبع تكويني، والشيء الوحيد الخطأ هو ما يقاومه ص 132).
ومن سفسطة ذلك المفسد الهدَّام قوله (إن الثبات على رأي واحد هو غول العقول الصغيرة الذي يقدسه صغار السياسيين والفلاسفة ورجال الدين. أما الروح العظيمة فليس لها ألبتة شأن بهذا الثبات، وإلَّا فإِنها تَأْبه لظلها فوق الحائط. انطق بما تفكر فيه الآن في ألفاظ قوية، وانطق بما تفكر فيه غداً في ألفاظ قوية كذلك، حتى إن ناقض ما قلته اليوم، وإذن فثق أنك سوف يساء فهمك، وهل من شر الأمور أن يساء فهمك؟ لقد أسيء فهم فيثاغورس وكذلك سقراط ويسوع وكوبرنكس وغاليلو ونيوتن وكل روح طاهرة عاقلة تجسدت. لكي تكون عظيمًا لا بد أن يُساء فهمك - ص 139).
فلينظر القارئ أي دعوة هذه إلى التخبط والغرور، وإغراء ضعاف العقول بما يجرئهم على خوض كل مجهول، وتناول كل مُغيَّبٍ مستور، وهتك كل مقدَّس مصون والخبط في كل تيه واعتساف كل طريق، بما يفسد عليهم وعلى الناس الحياة ويحولها إلا جحيم لا سكن فيه ولا قرار، يتنابذ أهلها ويتدابرون ويعتركون ولا يتفقون على رأي ولا يسكنون ولا يطمئنون، حتى لكأنهم أهل جهنم. {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}
على هذا الغرور الشديد المفسد في تقدير الفرد يقوم الكتاب كله. ويبلغ هذا الفساد وهذا الغرور حد الكافر المجنون في بعض الأحيان، وذلك في مثل
قوله (إن من ينبذ الدوافع العامة الإنسانية ويجرؤ على الثقة العامة فيما تمليه عليه نفسه لا بد أن يتميز ببعض صفات الآلهة - ص 154).
فهل تعرف خَرَفاً وراء هذه الخرف؟ ومعِ ذلك فقد يظن بعض صغار العقول وضعاف النفوس هذا الجنون ضرباً من ضروب الفلسفة، لأنهم لا ينسبون عجزهم عن فهمه إلى فساده، ولكنهم ينسبون إلى ضعف عقولهم عن إدراكه. وهذا الكاتب وأمثاله يعتمدون على أن الأذكياء سوف يجدون في كلامه ما يرضي غرورهم. أما الأغبياء فسوف يقفون أمامه مشدوهين كأنهم أمام مُعجزة. أما الشباب فسوف يجدون فيما يتضمنه من الثورة التي تحطم ولا تبقي ولا تذر مجالاً للتنفيس عن نشاطهم ونزوعهم إلى إثبات وجودهم من كل وجه.
ويتعقب ذلك الصهيوني الهدام فضائل الدين كلَّها بالتسفيه والسخرية اللاذعة. فالصلاة عنده وَهْم ليس فيه من الشجاعة أو الرجوله بمقدار ما فيه من القداسة (ص 156). والتوبة والندم نوع آخر من الصلاة الزائفة ونقص في الاعتماد على النفس وعجز في الإِرادة. والرحمة والعطف لا تقل عن الندم وضاعة (ص 157)، (والعقائد الدينية الشائعة قد تفوقت على الخرافات التي حلت محلها في الظاهر فقط لا في المبدأ- ص 173). ألا ترى من ذلك كله أن هذا المفسد يريد ثورة تقلب موازين الدين والخلق وكلَّ شيء؟ بلى. وهو نفسه يعرف ذلك، فهو يفسد، ويعلم أنه يفسد، أي أنه هدام محترف يفسد عن وعي منه وقصد، والدليل على ذلك قوله (نريد رجالاً ونساء يجددون الحياة ويجددون حالتنا الاجتماعية. ولكنا نجد أن أكثر المطابع مفلسة - ص 154) وقوله (إن تدبيرنا المنزلي ضعيف، وفنوننا، وأعمالنا، وزواجنا، وديننا، لم نختره لأنفسنا، وإنما نحن جنود في غرفة الاستقبال، نتحاشى معركة القدر الحامية التي تتولد فيها القوة - ص 155). وقوله. (ومن اليسير أن نرى أن مزيداً من الثقة بالنفس لا بد أن يحدث انقلاباً في جميع وظائف الناس وعلاقاتهم ودياناتهم، وفي تربيتهم، وفي أهدافهم وأساليب عيشهم واجتماعهم وفي امتلاكهم وفي آرائهم التي يتدبرون - 156).
ذلك هو لب الكتاب الذي أوحت به السفارة الأمريكية لطه حسين،
فترجمه بأموال العرب، وأهداه إلى شبابهم ومفكريهم. ولعنة الله على شياطين الإِنس والجن {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}
وقد يبدو في بعض مقالات الكتاب - كما هي العادة في كل نشرات الهدامين - صورة خداعة للإِيمان، في مثل مقالات (الحب) و (الصداقة). ولكن هذا الإيمان الزائف ليس إلا الشرَك الخداع الذي يجذب الأغرار، إذ يوهم القارئ أن الرجل صادق الإِيمان، وأن ضلالاته وإلحاده ليست إلا ضرباً من التصوف، وأن سخطه على الأديان وطقوسها هو ضرب من السمو الروحي الذي يستهدف إصلاحها وتنقيتها من الشوائب كما يزعم كل أمثاله من الهدامين.
أما (قصة الحضارة) لـ (ول ديورانت)(Will durant) فقد أصدرت منه اللجنة الثقافية حتى الآن ستة عشر جزءاً، ويكفي أن نراجع من هذه الأجزاء العديدة الجزءين اللذين تناولا حياة سيدنا عيسى وحياة سيدنا مُحَمَّدْ عليهما الصلاة والسلام لنتبين أن اختيار هذا الكتاب للترجمة جريمة دبرتها الصهيونية الهدامة المتخفية في زوايا اليونسكو ونفذتها بيد طه حسين وأمثاله في جامعة الدول العربية.
يتساءل مؤلف الكتاب إن كان المسيح عليه السلام قد وجد حقاً (11: 202 - 205) ويثير حول الأناجيل مختلف الشبهات (11: 206 - 211)، ويشكك في نسبه وفي أنه ولد من عذراء (ص 214). وينكر كل معجزاته فينسبها جميعاً إلى الكذب والتلفيق، أو يردها إلى خداع الحواس والوهم أو ما سماه "العلاج النفسي"(ص 221 - 222) ويتناول شخص المسيح عليه السلام وكلماته وروايات الأناجيل بالسخرية فيقول مثلاً (إن الإنسان ليجد في الأناجيل فقرات قاسية مريرة لا توائم قط ما يقال لنا عن المسيح في مواضع أخرى منها، ويبدو أنه قَبِل دون بحث وتمحيص أقسى ما كان يؤمن به معاصروه عن جهنم السرمدية التي يعذب فيها من لا يتوبون من الكفار
والمذنبين بالنار التي لا تنطفىء أبداً والديدان التي لا تشبع من نهش أجسامهم).
(وهو يقول دون أن يحتج عليه أحد: إن رجلاً فقيراً في الجنة لم يسمح له بأن يترك نقطة واحدة من الماء تسقط على لسان غني في الجحيم
…
ويلعن شجرة التين التي لم تكن تحمل ثمراً، ولعله كان قاسياً بعض القسوة على أمه. وكان يتصف بحماسة النبي العبراني المتزمت أكثر من اتصافه بالهدوء الشامل الذي يمتاز به الحكيم اليوناني - ص 219). وأكثرُ هذه المفتريات التي حشدها ذلك الصهيوني الهدام في كتابه، مروية عن المؤرخ اليهودي يوسيفوس.
وبمثل هذا الأسلوب الإِلحادي الهدام عالج المؤلف حياة نبينا عليه الصلاة والسلام في الجزء الثالث عشر. ففي هذا الجزء من الكتاب أخبث أساليب الكيد والدس للإِسلام. والمؤلف لا يلجأ هنا إلى الهجوم البذيء الصريح كما فعل مع شخص المسيح الكريم عليه السلام. ولكنه يتظاهر هنا بالإنصاف، بل يبدو في بعض الأحيان كأنه معجب بشخص النبي عليه الصلاة والسلام. فيقول مثلاً (وكان مُحَمَّدْ، كما كان كل داعٍ ناجحٍ في دعوته، الناطق بلسان أهل زمانه والمعبرَ عن حاجاتهم وآمالهم ص 24).
ويقول في موضع آخر: (ذلك أن النبي كان ينشىء حكومة مدنية في المدينة. واضطر بحكم الظروف أن يخصص جزءاً متزايداً من وقته للمشاكل العملية المتصلة بالتنظيم الاجتماعي والأخلاقي والعلاقات السياسية بين القبائل ص 33) ويقول: (وحتى شؤون الحياة العادية كانت أوامره فيها تعرض في بعض الأحيان كأنها موحى بها من عند الله، وكان اضطراره إلى تكييف هذه الوسيلة السامية بحيث تتفق مع الشؤون الدنيوية، مما أفقد أسلوبه بعض ما كان يتصف به من بلاغة وشاعرية. ولكن لعله كان يشعر بأنه بهذه التضحية القليلة جعل كل تشريعاته تصطبغ بالصبغة الدينية الرهيبة - ص 42).
وهو في هذه المواضع كلها يتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثه عن أي مصلح سياسي تصدر دعوته عن حاجات عصره وتُشكِّلها ظروفُه. ومع ذالك فإِن
كلامه هذا قد يخدع ضعاف المسلمين وأغرارهم حين يرون الكاتب - وهو غير مسلم - يبدي ميلاً مصطنعاً إلى إنصاف نبي لا يدين هو بدينه. فهذا الكلام المشبع في ظاهره بروح المودة يخدع كثيراً من المسلمين فيتقبلونه بقبول حسن. وينتهي بهم ذلك إلى اعتبار نبيهم واحداً من الزعماء والفلاسفة والمفكرين والمصلحين الذين يزخر بهم تاريخ الشرق والغرب في العصور القديمة والحديثة، فيخرجهم ذلك عن إسلامهم لا شك، لأنهم لا يُسْلمون حتى يعتقدوا اعتقاداً خالصاً لا يدخله ريب أن نبوة مُحَمَّدْ صلى الله عليه وسلم كانت بوحي يلاحقه ويقوده ويصحح كل أعماله. ولست أبالغ ولا أدَّعي غير الحق حين أقول: إن هذه الروح اللادينية - مع شديد الأسف- قد أصبحت هي التي تسود دراسات التاريخ الإِسلامي في أكثر جامعاتنا. وذلك شيء يلمسه كل من تخرج في كليات الآداب أو اتصل بها عن قريب. وما لي أذهب بعيداً وهذا هو مُحَمَّدْ بدران - مترجم هذا الجزء - يقدم لي الدليل هو نفسه على صدق ما أقول، حين يقرر في مقدمته أن المؤلف قد (أنصف الحضارة الإِسلامية فشاد بفضلها).
يقرر المترجم المسلم ذلك في سذاجة تبلغ حد الغفلة والبله، مع أن ذلك الصهيوني الخبيث لا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا الغرائب التي يخلعها من سياقها وظروفها حتى تبدو لغير الخبير بالتاريخ الإِسلامي في صورة تثير السخط وتدعو إلى الاشمئزاز، كالذي يصف المجرم وهو يساق إلى القتل ويعلق في الحبل، ويخفي ما اجترح من مفاسد وما أزهق من أرواح بريئة. تجد ذلك في مثل كلامه عن قتله صلى الله عليه وسلم امرأة، وعن قتله شيخاً ناهز المائة، لأنهما هجواه (ص 35). وهو يسوق ذلك في أسلوب هادىء رزين كأنه يسوق خبراً من الأخبار العادية دون أن يعلق عليه أو يحتفل به، فلا يكاد القارئ المسلم يتنبه إلى غرضه الخبيث الذي هو في حقيقة الأمر التشنيع بالنبي عليه الصلاة والسلام عند المخدوعين بما تزوّره الصهيونية الهدامة من كلمات برّاقة، حين تدعو إلى (حرية الهدم) وإلى (حرية الإِفساد) وتسمي ذلك (حرية الرأي)، وليوهم أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يرعى حرمة للنساء ولا للشيوخ. ومثل ذلك أيضاً قوله:(وضُمَّت صفية - وهي فتاة يهودية في السابعة عشرة من عمرها كانت مخطوبة. لكنانة - إلى نساء النبي ص 39).
فمثلُ هذه الألغام التي يدسها الرجل في ثنايا سطوره تترك أسوأ الأثر في نفوس القراء من الغربيين ومن ضعاف الإِيمان من المسلمين، والمنتحلين منهم للحضارة الغربية المتخلقين بها خاصة. شيخ جاوز الخمسين يتزوج فتاة في السابعة عشرة! وليس هذا فحسب. بل إنها كانت مخطوبة لرجل يهودي من بني جنسها فأضافها إلى نسائه العديدات! هل هذا تاريخ؟ أم أنه تشنيع في أخطر صوره، لأن صاحبه يتصنع الهدوء ويتظاهر بالاتزان والإِنصاف، ويخدع الناس بمثل كلامه عن براعة النبي في القيادة وفي شؤون الحكم وفي التنظيم الاجتماعي.
ومن أمثلة هذا الاسلوب الخبيث وصفه النبي صلوات الله وسلامه عليه بأنه كان (يُعنىَ بمظهرد الشخصي ويقضي في تلك العناية كثيراً من الوقت. فكان يتعطر ويكتحل ويصبغ شعره ويلبس خاتماً نقش عليه "مُحَمَّدْ رسول الله". وربما كان الغرض من هذا الخاتم هو توقيع الوثائق والرسائل. وكان صوته موسيقياً حلواً يأسر القلوب. وكان مرهف الحس إلى أقصى حد، لا يطيق الروائح الكريهة ولا صلصلة الأجراس والأصوات العالية. وكان قلقاً عصبي المزاج، يُرى أحياناً كاسف البال، ثم ينقلب فجأة مَرِحاً كثير الحديث - ص 45). فهذا الأسلوب المسموم في التصوير إنما يريد أن يصور النبي صلى الله عليه وسلم في صورة المتصابي وفي صورة العصبي المزاج، المريض الأعصاب، المصاب بالصرع. ويؤكد هذا الصهيوني الهدام تلك الصورة المفتراة بعد ذلك بقوله:(وقد أعانه نشاطه وصحته على أداء واجبات الحب والحرب. ولكنه أخذ يضعف حين بلغ التاسعة والخمسين من عمره. وظن أن يهود خبير قد دسوا السم في اللحم قبل عام من ذلك الوقت (1)، فأصبح بعد ذلك الحين عرضة لحميات ونوبات غريبة. وتقول عائشة: إنه كان يخرج من بيته في ظلام الليل، ويزور القبور ويطلب المغفرة للأموات، ويدعو الله لهم جهرة، ويهنئهم على أنهم موتى. ولما بلغ الثالثة والستين من عمره اشتدت عليه الحمِّيات - ص 46).
(1) تأمل حرص هذا الصهيوني على تبرئة اليهود من تهمة دس السم للنبي صلى الله عليه وسلم في الشاة إذ يقول: "وظن أن يهود خيبر".
وجاء في هذا الجزء من الكتاب أيضاً: (وهاجرت إلى المدينة مائتا أسرة من مكة فنشأت فيها من براء هذه الهجرة مشكلة الحصوك على ما يكفي أهلها من الطعام. وحل مُحَمَّدْ هذه المشكلة كما يحلها كل الأقوام الجياع بالحصول على الطعام أنَّى وجد. ومن ذلك أنه أمر أتباعه بالإِغارة على القوافل المارة بالمدينة - ص 34). ويحاول المؤلف أن يلبس هذه الأكاذيب وهذا التشنيع المفتري ثوب العلم فيقول: (واجتمعت أسباب عدة عملت كلها على اتساع ملك العرب. فمهت الإسباب الاقتصادية أن ضعف الحكومة النظامية في القرن السابق لظهور النبي قد أدى إلى انهيار نظم الري في جزيرة العرب فضعفت من جراء ذلك غلاّت الأرض الزراعية وحاقت بالسكان المتزايدين أشد الأخطار. ولهذا فقد تكون الحاجة إلى أرض صالحة للزرع والرعي من العوامل التي دفعت جيوش المسلمين إلى الفتح والغزو - ص 71، 72).
أترى إلى هذا الكلام المسموم الذي يصور المسلمين الأولين وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورة عصابات اللصوص وقطّاع الطرق، والذي ينزل بدوافع الفتح النبيلة إلى أغراض مادية، فينقلب ذلك النفر الكريم من المجاهدين الأولين في نشر كلمة الله الذين لم يكونوا يبالون بحياتهم الدنيا في سبيل ما أعده الله لهم من ثواب الجهاد في نشر دينه، ينقلب ذلك النفر الكريم إلى جماعة من اللصوص وقطاع الطرق. لماذا تؤذي جامعة الدول العربية المسلمين والعرب بسماعه؟ لماذا تنفق على نقله إليهم من أموالهم، كأن مهمتها هي إسماعهم ما يكرهون وإحصاء ما قيل فيهم من الشتائم وإذاعته على الناس؟ إن الحكومات تمنع شعوبها من الاستماع إلى الدعايات التي تفتري عليهم والتي تثبط عزائمهم وتفرق كلمتهم، وتنفق في مقاومة مثل هذه الإذاعات الآلاف والملايين في بعض الأحيان. فهل دين الناس أقل قداسة وأهون مقاماً؟
لا يكفي في دفع ضرر هذا الكتاب وأمثاله أن تكلف الإِدارة الثقافية الدكتور الشيخ مُحَمَّدْ يوسف موسى بالتعليق على ما يراه مستحقاً للتعليق، فيعلق على بعضٍ ويهمل بعضاً، لأن السذّج والغافلين وقليلي الخبرة بتاريخ المسلمين - وليست لدينا وسيلة لمنع وصول الكتاب إلى أيديهم - إن قرءوا
ما في هذه الحواشي واقتنعوا به مرة فقد يهملونها وقد تستغويهم أباطيل الكتاب مرات. فما هي حاجتنا أصلاً إلى ترجمة مثل هذه المفتريات، أي فائدة تعود على العرب من نقل مثل هذا الكلام، حتى يَغُضُّوا الطرف عما فيه من الأذى؟ هل هذا مما يزيد العرب تماسكاً؟ أم هو مما يعينهم على النهوض؟ لماذا تُنقَل إلى لغتنا هذه الكتب التي تتكلم على نبينا عليه الصلاة والسلام بوصفه مصلحاً لا نبياً، وقد كان من آثار هذه الدعايات - ولا أقول البحوث - أن افتتن بها جماعة من المسلمين فاتخذوها نموذجاً لبحوثهم الإِسلامية، وظنوا أن تجردهم من إسلامهم شرط لسلامة البحث وعلميته، كما زعم لهم طه حسين في كتابه (الشعر الجاهلي) الذي سيق بسببه إلى المحاكمة. وقد أصبح التاريخ الإِسلامي، بل الدراسات الإِسلامية في كل فروعها، لا تدرَّس في الجامعات العربية الآن على اختلافها إلا على هذا النمط الفاسد المفسد الهدام. إن طه حسين الذي بدأ حياته العلمية متهمًا في دينه، يتسلق إلى الشهرة بمخالفة كل مقدس مصون وكل مقرر ثابت، حين كان الِإلحاد بدعَ العصر يجاهر به الملحدون، ويتظاهر به صغار النفوس والعقول من الأدعياء، هذا الرجل نفسه هو الذي يشرف على اختيار مثل هذا الكتب لتترجم على نفقة العرب، وليثقفَ بها ناشئتهم ويشدَّ بها أزر جامعتهم. وأي جامعة قد بقيت للعرب، ولجنتُهم الثقافية تؤذي إيمان المؤمنين مسلمهم ومسيحيهم؟ تؤذي المسيحيين مرة وتؤذي المسلمين مرتين، تؤذيهم في نبيهم عليه الصلاة والسلام مرة، وتؤذيهم في شخص المسيح الكريم عليه السلام مرة أخرى، ثم تعتذر لهم عن جرأة المؤلف على الإِسلام وافترائه على نبيه الكريم بجرأته على اليهودية والمسيحية وافترائه على رسوليهما الكريمين (ص 31). فهل سمع الناس عذراً أقبح من هذا العذر الذي لا يصدر إلا عن جهول؟ هل يُعتَذر عن رجل سب أبي بأنه لم يسب أبي وحده، ولكنه سب آبائي كلَّهم أجمعين؟!
وبعد، فإِني أستغفر الله سبحانه وتعالى لنفسي ولقارىء هذه المفتريات، فإِنما قصدت أن أضع بين يديه جسم الجريمة، ليرى رأي العين طه حسين يحمل أوزاره فوق ظهره، وليطالب الناس المسؤولين بكف أذاه إن كان فيهم بقية من غيرة على إسلامهم وعلى شخص نبيهم الطاهر الكريم.