المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حصوننا مهددة من داخلها* - حصوننا مهددة من داخلها

[محمد محمد حسين]

الفصل: ‌حصوننا مهددة من داخلها*

‌حُصُوننَا مُهَدَّدة مِن دَاخِلهَا*

يظن بعض الناس أن الدول القوية هي التي تملك عدداً ضخمًا من عدد القتال وآلاته، وتنتج مقادير هائلة من الصناعات التي تغمر أسواق العالم. وحقيقة الأمر أن هذه الدول لا تتاح لها القوة حتى يكون من وراء كل هذه العدة الهائلة وذلك الإِنتاج الضخم خلق متين يجمع أهلها ويشد بعضهم إلى بعض، ويعطف كل واحد منهم على أخيه، ويمنع عناصر الفساد وأسباب الفرقة والخلاف أن تتسرب إلى صفوفهم وتنخر عظامهم. إن الدول لا تسود ولا تعلو بالحديد والنار ولا بالمال، ولكنها تسود وتعلو بالخلق المتماسك. وأعلى مصادر الخلق المتماسك وأعمقها جذوراً وأدومها أثراً هو الدين، فهو الذي يجمع الناس على التواد والتراحم ويقيهم ما طبعت عليه النفس البشرية من الشح، ويكف بعضهم عن بعض. وهذه هي دول الغرب، يستطيع كل ذي بصر أن يرى - كما رأى المؤرخ الإِنجليزي توينبي من قبل، منذ الحرب العالمية الأولى - مظاهر تدهورها وإنحلالها وهي في كامل مجدها الصناعي والآلي، لم يعوزها المال ولم تنقصها الآلات ولا المعارف الفنية ولا العلوم العقلية، ولكن أعوزها الخلق والدين، فسرى الفساد في جسدها ودب الخلاف في صفوفها. إن مظهر هذه الدول الضخم قد يخدع كثيراً من الناس فيظنون أن نهايتها بعيدة، والحقيقة أن الدول الكبيرة لا تضمر ولا تذوي ولا تنكمش، ولكنها تنهار كما ينهار عمود الخشب الضخم الذي نخر السوس لبه.

(*) نشرت في عدد المحرم وصفر سنة 1377 من مجلة الأزهر.

ص: 17

كذلك انتهت كل الدول الكبرى من قبل، في أثينا وفي روما وفي بغداد وفي الأندلس وفي الأستانة. انتهت حين كانت ضخامتها ومظاهر الترف فيها تخدع الناظر عن السوس الذين ينخر عظامها.

وما ينبغي لنا أن نغفل عن هذا الدرس الماثل أمام أعيننا إن غفلنا عما حفظه التاريخ من دروس ومن عظات. يجب أن نعرف معرفة اليقين أن المتقدم الصناعي لا يغني عنا شيئاً إذا دبّ فينا دبيبُ الخلاف، فتفرقت بنا السبل وتوزعتنا الأهواء والآراء، ومزقتنا الدعوات المتنافرة التي ينقض بعضها بعضاً. والدين واللغة هما أهم دواعي الألفة والتماسك في كل مجتمع إنساني. فالدين هو الذي يوحّد العادات والأمزجة، فيجتمع الناس فيما يحبون وفيما يكرهون، وفيما يألفون وفيما يعافون، وفيما يستحسنونه وفيما ينفرون منه، على ألوان معينة من غذاء الأبدان والنفوس. واللغة هي الوعاء الذي يشتمل على ذلك كله، وهي أداة التفاهم التي لا يتم بدونها تواصل. ثم إنها بعد ذلك تجمع أمزجة الناس وأذواقهم على ألوان معينة من الأساليب البيانية في الجمال الفني. لذلك كانت المعاهد والمؤسسات التي تقوم على صيانة الدين واللغة هي بمثابة الحصون والمعاقل التي تسهر على حمايتنا وسلامتنا، وكانت العناية بأمرها خليقة أن تنال من اهتمامنا مثل ما تناله العناية بإِعداد العدة الحربية والصناعية بل أشد. وشر ما يطرأ على هذه المعاقل من الوهن أن تؤتىَ من بعض الذين وُكِلَ إليهم حمايتُها والدفاع عنها حين يخونون الأمانة، فيتسللون متلصصين إلى الأبواب يفتحونها للأعداء المهاجمين بِلَيْلٍ، والحماة الساهرون في غفلة لا يشعرون. من أجل ذلك سوف أتناول في هذه السلسلة بعض معاقل الدين واللغة، منبهاً إلى ما طرأ عليها من انحراف بعض حراسها.

ولا شك أن وزارات التربية والتعليم هي أهم هذه المعاقل والحصون الساهرة على أمن الشعوب وكيانها، لأنها هي المؤتمنة على أثمن ما تملكه الأمة من كنوز، وهى الثروة البشرية بما تنطوي عليه من قوى مادية ومن ملكات عقلية وخلقية، ممثلة في رجال الغد الذين تشرف على تربيتهم، وهي ثروة تتضاءل إلى جانبها كل كنوز الأرض، لأن كنوز الأرض لا تساوي شيئاً بدونها.

ص: 18

فالعقل هو الذي يستخرجها من مكامنها ويحيلها من مادة صماء جامدة إلى قوة حية منتجة، والخلق المديني هو الذي يدفع الناس إلى إعمال هذا العقل في الطريق الصحيح، وإلى بذل الجهد فيما وكل إليهم من أمور، أداءًا للأمانة، وابتغاءاً للعزة والسيادة وإعلاء الحق.

وقد أصبحت مطامع أمريكا في هذه المنطقة وعداوتُها لحماتها الذين يتصدون لحراستها ويتزعمون نهضتها مشهورة لا تخفى ولا تحتاج إلى تنبيه. فاتصال القائمين على شؤون التربية والتعليم في هذه الأمة العربية بالؤسسات الأمريكية، والتعاوُن معها في ترويج مبادئ وأساليب يقال إن المقصود بها هو رفع مستوى التعليم وإصلاح شؤون الجيل الجديد، أمر لا يصدّقه العقل ولا يتفق مع ما يبذلون من محاولات ظاهرة وخفية لابتلاع هذه الأمة والكيد لها. فالذين يشتركون في المؤتمرات الأمريكية، والذين يتعاونون مع دور النشر الأمريكية، وكلها يموَّل من مصادر مريبة، يَسْخرون من عقولنا، ويخدعون أنفسهم إن زعموا أنهم يخدمون أمتهم بالاشتراك في هذه المؤسسات، لأن الأموال الأمريكية التي تنفق بسخاء يبلغ حد السّفه على هذه المؤتمرات وعلى هذه الدور لا يمكن أن تستهدف خير هذه الأمة ونفع أهلها.

وقد وقع بين يدي في هذه الأيام كتاب أصدرته الجامعة الأمريكية ببيروت في العام الماضي (يوليو 1956)، يحتوي على محاضرات في نظم التربية، هي سجل لما دار في مؤتمر دعت إليه هذه الجامعة، واشترك فيه جماعة من كبار المسؤولين عن التربية في مصر وفي سوريا والعراق والاردن ولبنان. وقد مُثِّلت ثلاثة من هذه البلاد في ذلك المؤتمر الأمريكي بثلاثة وزراء سابقين للتربية والتعليم. فمثلت مصر باسماعيل القباني، ومثلت العراق بعبد الحميد كاظم، ومثلت الأردن بأحمد طوقان، والأخيران من تلاميذ الجامعة الأمريكية الداعية لعقد هذا المؤتمر، وقد كان العضو الأردني يشغل عند عقد هذا المؤتمر منصب مستشار لشؤون اللاجئين الفلسطينيين في منظمة الإِغاثة الدولية. أما البلدان الباقيان - سوريا ولبنان - فقد مثلهما رجلان من كبار المسؤولين عن التعليم وهما جميل صليبا عميد كلية التربية في الجامعة السورية، ونجيب صدقة المدير العام لوزارة التربية الوطنية والفنون في لبنان. وقد اشترك مع إسماعيل القباني

ص: 19

في هذا المؤتمر عضو مصري آخر هو حامد عمار الأستاذ في معهد التربية العالي بجامعة عين شمس ورئيس قسم التدريب في المركز الدولي للتربية الأساسية في العالم العربي بسرس الليان.

وهذا المركز الدولي للتربية الأساسية في العالم العربي لا عمل له إلا (سلخ) الريف العربي من دينه وخلقه وعروبته، و (طبعه) بالطابع الأمريكي، وهو يتولى هذه المهمة إتماماً لما بذله الغرب من جهود في فرنجة هذه المنطقة، بعد أن تبين المستشرقون الذين يبحثون في شؤون هذا الشرق الإِسلامي والعربي أن تأثير الفرنجة أو ما يسمون (westernization) لم يتجاوز المدن، لأن كل الوسائل والأساليب التي يستخدمها الغربيون في هذا الصدد من صحافة ودعاية ومؤسسات علمية أو اجتماعية وسينما وشراء للأقلام وللذمم وللرجال إلى آخر ما هنالك، كل ذلك لا يصل إلى الريف، ولا يتجاوز حدود المدن. فما الذي صنعته امريكا لتلافي هذا النقص، والاحتيال لدخول الريف الذي عجز التبشير وعجزت الأساليب الاستعمارية العتيقة عن اقتحامه إلى ما قبل الحرب العالمية الأخيرة؟ اخترعت أمريكا تحت ستار (الدولية) وعن طريق (الأمم المتحدة) شيئاً اسمه "التربية الأساسية". وما هي التربية الأساسية؟ يقول الدكتور حامد عمار في بحثه الذي ألقاه في هذا المؤتمر الأمريكي:"التربية الأساسية منهج من مناهج الإِصلاح الاجتماعي لرفع مستوى المعيشة يؤكد قيمة العملية التربوية وتغيير الأفكار والنزعات إلى جانب تغيير الأوضاع المادية - ص 92 محاضرات في نظم التربية". ويقول في موضع آخر: "تسعى التربية الأساسية إلى محاولة تغيير الأفكار والنزعات والاتجاهات، كما تسعى إلى تغيير في الأوضاع المادية في الدائرة التي تلتزمها. ويؤمن دعاة التربية الأساسية أن كل عمل أو مشروع مادي لا بد أن يسبقه ويصاحبه ويتبعه تغيير في تفكير الناسِ، وفي الاتجاهات الفكرية والنفسية، حتى يمكن أن يكون العمل منتجاً إنتاجاً كاملًا - ص 85".

وواضح أن تغيير الأفكار والنزعات والاتجاهات الذي أشار إليه الباحث يقوم على أسس غريبة خالصة، تروَّج باسم العلم - علم مزعوم لا يستقر له قرار ولا يقطع في ظاهرة برأيٍ يتفق عليه أصحابُ الرأي، يسمونه "علم

ص: 20

النفس" - وواضح أيضاً أن هذا (التغيير) - تغيير الأفكار والنزعات والاتجاهات - لا يبالي أن يخالف الإِسلام وتعاليمه في الريف المسلم، لأن القائم على هذا (التغيير) ليس هو مشيخة الأزهر، ولكن القائم عليه هم مجموعة من الخواجات) يختفون خلف الشخوص العربية التي تبدو للناظر وكأنها تتحرك بإرادتها، وواقع الأمر أنها لا إرادة لها، وأنها تسير في خطوط مرسومة، وحسب خطط مدبرة قدرها أناس أقل ما يوصفون به أنهم لا يبالون بإِلاسلام وتعاليمه، دائماً يكونوا معادين لها يعملون على محوها واستئصالها من نفوس الناس. ولهم في ذلك أساليب خبيثة يتسللون عن طريقها إلى قلوب أهل الريف السذج الغافلين. وسوف لا أصف لك أنا هذه الأساليب ولكني سأدع العضو العربي المحترم في هذا المؤتمر الأمريكي يقدم لك صوراً منها بألفاظه كما جاءت في الكتاب الذي بين يدي.

فأول مراحل العمل في الريف هي "مرحلة التعرف"، (وهدفها أن يتحسس العامل الاجتماعي طريقه في القرية بصورة عامة وأن يألفه الناس ويألفهم

ومن المستحسن أن تكون هذه المرحلة من العمل مرحلة فيها شىِء من الاسترخاء وأخذ الأمور بمأخذ غير محدد، إذ أن هذا الهدوء والاسترخاء ضروريان لتأسيس العلاقات الاجتماعية وتنميتها، وبخاصة إذا تذكرنا أن الفلاح سريعاً ما تأخذه الريبة ويتولاه الشك إذا تعيين إلحاحاً من غريب عليه في أمر من الأمور

ثم إنه لا بد من التعرف على قادة القرية الطبيعيين الذين يعتبرون عناصر فعالة في تكوين الرأي العام والتأثير فيه

وليس من المهم أن يكون هؤلاء القادة من النوع الذي يرغب فيه المصلح، لكنه لا بد من الاعتراف بهم واستغلالهم).

(وإذا كان التعرف يتطلب الاتصال والزيارة ومبادلة الحديث فإِن هذا شرط لازم، وليس بكاف في كثير من الأحيان. وربما كان القيام بعمل إنشائي سريع من أنجح الوسائل لكسب الثقة وتأسيس علاقة طيبة مع الأهلين

وقد تبين بالتجربة أن دق طلمبة مياه بالقرية، أو إصلاح خزان المياه بالجامع، أو مقاومة الآفات الحشرية في الزراعة، كان من أقوى العوامل التي وثَّقت الصلة بين أهل القرية ويبن المشرفين على مختلف جوانب الخدمة الاجتماعية

ص: 21

فيها. وأذكر أن زجاجات قطرة العيون كانت من أهم الوسائل التي اكتسبت بها آنسات المركز الدولي للتربية الأساسية ثقة نساء القرية - ص 98 إلى 100).

ويتكلم الدكتور حامد عمار بعد ذلك عن المرحلة الثانية وهي "مرحلة الدراسة والبحث" التي "يقوم فيها المشتغل بميدان التربية الأساسية أو الخدمة الاجتماعية بجمع المعلومات والبيانات اللازمة جمعاً منظمًا، بحيث تكون معرفته لظروف القرية معرفة لا تقوم على مجرد الإِحساس، بل على الاستقصاء للحقائق وتنظيمها، حتى يستعين بها في رسم خطته وتنفيذ برنامجه

ومن البحوث المفيدة أيضاً تشكيل مختلف العادات والطقوس التقليدية التي تشكل حياة الريفيين وتعالج كثيراً من نواحي نشاطهم

ومن الأمور العملية المفيدة في هذه البحوث الكيفية الاحتفاظ بمذكرات أو يوميات يسجل فيها الباحث ملاحظاته ومجريات الحوادث وظروف العمل أثناء إقامته في الريف. ولا شك أن مثل هذه المذكرات هي المادة الخام التي تستطيع أن تعتمد عليها في فهم ظروف الحياة الريفية فهمًا ديناميكياً يتميز بغنى الواقع وتفاصيل الحياة اليومية - ص 100 إلى 101".

من الذي يشرف على إدارة هذا الجهاز، وعلى جمع كل هذه المعلومات والدقائق؟ هيئة أجنبية، وليكن إسمها ما يكون. لتكن هي "التربية الأساسية" أو "النقطة الرابعة" أو ما شئت من هذه العناوين المختلفة.

هل هناك وسيلة للجاسوسية أضمن وأرخص وآمن من هذه؟ تجمع الهيئة وسماسرتها، الخبيث منهم والغفل، ما شاءت من المعلومات في هدوء واطمئنان، دون أن يثير عملها ريبة أحد. بل إنها تلقى المساعدة الكاملة من الجهاز الحكومي، وتيسر لها سبل توثيق الصلات بالناس، وتترك لها الفرص لتعمل في بطء وفي مهل وفي غير عجلة. فهم جواسيس في ثياب أطباء، يؤتمنون على كل أسرار المريض الذي لا يخفي منها شيئاً طلباً للشفاء؛ فإِذا هذه الأسرار تُستغل في الغدر به. وإذا هي تدرس لاختيار أفعل الوسائل لقتله وأمثل السبل لامتصاص ما بقي في عروقه من دم.

أتريد بعد ذلك أن أحدثك عن هدف آخر مهم من أهداف هذه

ص: 22

المؤسسات الأجنبية المريبة؟ إن هذه المؤسسات تريد إفساد المرأة الريفية وفرنجتها. إنها تقوم باستئصال (حياء) المرأة الريفية المسلمة في النهار المبصر، وعلى مسمع من كل ذي أذنين. هل تريد دليلاً على ذلك؟ إذن فاقرأ بحث الدكتور هارولد ألن مدير التربية بمؤسسة الشرق الأوسط الذي ألقاه في مؤتمر أمريكي آخر تحدثت عنه من قبل وهو مؤتمر (الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة (1)، وقد تولت نشره مؤسسة فرانكلين الأمريكية. راجع في هذا الكتاب مقال الدكتور ألن عن (العامل الريفي في الحضارة الإِسلامية - ص 261 إلى 288). وسوف تتبين بعد قراءته أن الأساليب التي وصفها هذا الامريكي مما اتُّبع في سوريا هي الأساليب نفسها التي وصفها الدكتور حامد عمار مما أتُّبع في مصر. وهذا الأسلوب الواحد الذي يذكرنا بأساليب الجواسيس والمبشرين يؤكد ما أسلفته من أن هذه الشخوص التي تبدو للناظر وكأنها تتحرك بإِرادتها لا تتحرك إلا حسب خطة واحدة قدرها الذين فضلوا أن يجذبوا الخيوط من خلف ستار. ولنقف قليلاً عند صفحتي 267، 268 من هذا المقال، حيث يقدم الكاتب صورة من بعوث أمريكا - أو البعوث الدولية إن شئت - التي تتغلغل إلى صميم البيئات الإِسلامية في الريف باسم الخدمات الاقتصادية والخدمات الفنية، أو الخدمات الاجتماعية، وسوف تدرك بسهولة أن الهدف الكبير لهذه المؤسسات - إلى جانب ما تنتفع به من معلومات تفيد الجاسوسية السياسية والحربية هو (أمركة الريف)، والاهتمام فيه بالمرأة خاصة وبتوجيه الحركة النسوية. سترى في هذا المقال أن هذه المؤسسة تختار موظفيها الذين يتعاملون مباشرة مع القرويين من الوطنيين ليكونوا أقرب إلى قلوب الناس. وسيروي لك الكاتب ما حدث في (قبر الست) وهي إحدى قرى سوريا. ذهب مبعوث المؤسسة الدولية - أو الأمريكية إن شئت - وهو شاب عربي أسمه "فؤاد فرج" إلى القرية ليعيش فيها، واستطاع أن يقيم في حجرة من الحجرات المخصصة لِإقامة زوار ضريح الست (والمقصود بها هي السيدة زينب رضي الله عنها حفيدة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ يتلمس طريقه لممارسة نشاطه بعد أن وثق به أهل المنطقة واطمأنوا إليه،

(1) انظر في هذا المؤتمر الطبعة الثالثة من كتابنا "الإِسلام والحضارة الغربية".

ص: 23

فنجح في إدخال بعض التحسينات الزراعية، وقدَّم ألواناً مختلفة من الخدمات الصحية بمعاونة السكان وتنظيمهم. رش المدينة كلها بمسحوق د. د. ت. للقضاء على الذباب والبعوض، وجفف الشوارع، وأنشأ نادياً للشبان: كما أنشأ دراسات مسائية في القراءة والكتابة للبالغين من الأميين، وكوَّن جمعية تعاونية. وبعد أن سرد الدكتور هارولد ألن ضروب النشاط التي قامت بها هذه المؤسسة الأجنبية ختم وصفه لهذه التجربة بالسطور التالية، التي تدل على الهدف الحقيقي لهذه البعثات. قال:"وفي السنة الماضية بدأ الرجال الذين يعيشون في محيط هذا الرائد - بعد أن تحسن اقتصادهم وصحتهم تحسناً كبيراً نتيجة لجهوده العلمية - يفكرون في حاجات نسائهم، وهذا هو ما ظل فؤاد فرج ينتظره زماناً. وقد أحيل الاقتراحِ إلى قسم رعاية المنزل بالمؤسسة المسؤولة عن هذا العمل. فأعدَّ برنامجاً للنساء والأطفال يدار من مكاتب قدمتها القرية بلا إيجار (1) ". ثم يعقب على ذلك بقوله: "إن المشروع الذي وصفناه هو جزء من تجربة تشمل اثنين وستين قرية، يبلغ مجموع سكانها ستة وعشرين ألفاً. وهو مثال لعشرات غيره من الجهود الفعالة المماثلة التي يمكن القيام بها -

ص 268".

وهدف ثالث من أهداف مؤسسات "التربية الأساسية" ربما كان أخطر من الهدفين السابقين وأعمق أثراً، هو تخريج جيل من الخبراء الاجتماعيين.

(1) من القواعد الأساسية في مؤسسة (التربية الأساسية) حسب ما جاء في ص 88 من الكتاب الذي نتكلم عنه في هذا القال - "محاضرات في نظم التربية". مساهمة (الناس بالجهد أو بالمال أو في الفكرة أو في التنفيذ في أي عمل من الأعمال. ولا شك أن هذا يدعوهم إلى الشعور بأن. هذا العمل أو المشروع جزء متهم وأنهم أصحاب حق فيه: وهو ما يحفزهم إلى رعايته واستغلاله والاهتمام به). ويذكرنا هذا الأسلوب بأسلوب الجاسوس الإنجليزي المشهور لورانس حيث يصفه في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" فيقول أنه كان يعيش بين العرب كأنه واحد منهم. ولم يزل يمعن في تقليدهم حتى أحسوا أنه واحد منهم. وعند ذلك وجدوا أنفسهم منساقين إلى مجاملته وتقليده. فهو لم يفعل - كما يقول - شيئاً بنفسه. وليس هناك عمل يمكن أن ينسب صراحة إليه. إلا أن يكون من تأثيره في أفكار غيره وتحويلها إلى أغراضه. على أن العرب - كما يقول - كانوا يبدون في كل تصرفاتهم أحراراً يتأثرون بالقدوة الصامتة إيجاباً وسلباً حسبما يحلو لهم (ص 29 من النسخة الانجليزية طبعة اكسفورد سنة 1943).

ص: 24

المصبوبين في قوالب أمريكية، أو قوالب صهيونية على الأصح، يلبس ثياب الغرب والمسلمين، ويتسمى بأسماء العرب والمسلمين، ويعمل في حكومات العرب والمسلمين لغير أهداف العرب والمسلمين. ولا يمضي وقت طويل حتى يصبح المشتغلون بشؤون الخدمة الاجتماعية وتنظيم الحياة العربية والاسلامية في شتى مناحيها من هؤلاء المتأمركين الذين يفسدون حين يزعمون أنهم يصلحون، ويهدمون حين يظنون ويظن المخدوعون بهم أنهم يبنون ويشيدون.

والآن بعد أن طال الحديث عن المركز الدولي للتربية الأساسية أنتقل إلى مقالات الأعضاء الذين تحدثوا عن شؤون التربية والتعليم في البلاد العربية، وهي الأساس في عقد هذا المؤتمر. والهدف من هذه البحوث التي دعي أصحابها لِإلقائها لا يخرج عن الهدفين السابقين اللذين أشرت إليهما من قبل: الجاسوسية، والسيطرة على توجيه المجتمع. ففي مثل هذه المؤتمرات يتيسر استقاء معلومات دقيقة من مصادر موثوق بها، كما يمكن معرفة الاتجاهات الفكرية لقادة الرأي والمسؤولين في هذه البلاد. وهذه المؤتمرات - مثل المؤسسات الأمريكية والدولية التي أشرت إليها من قبل - هي أضمن الوسائل وأرخصها وأوثقها لجمع المعلوماث الصحيحة الدقيقة التي تخدم الذين يرسمون الخطط السياسية والحربية لهذه المنطقة.

ثم إن هذه المؤتمرات هي - من ناحية أخرى - وسيلة، للاتصال القريب المباشر بالمسؤولين، يَعْجِمون عودهم، ويدرسونهم عن قرب، ويختبرون مدى مناعتهم ومدى استعدادهم للتجاوب مع الأهداف الخفية للسياسة الاستعمارية، كما يختبرون مواطن القوة ومواطن الضعف في كل واحد منهم لمعرفة أنجح الوسائل للاتصال بهم والتأثير عليهم. هذا إلى أن الكلام الذي يلقى في هذه المؤتمرات - وهو مجامل لا شك لوجهة نظر الداعي إلى المؤتمر - لا بد أن يلقى صدى في نفوس كثير من هؤلاء المسؤولين من المدعوين.

أما خدمة هذا المؤتمر لأغراض الجاسوسية الأمريكية التي ترسم الخطط السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه المنطقة، فهي واضحة في كلمة الدكتور عبد الحميد كاظم وزير معارف العراق السابق، التي ألقاها في هذا المؤتمر، حيث أشار إلى ما طُلب منه إعداده حين وجهت إليه الدعوة، فقال: "إن

ص: 25

خطاب الزميل الدكتور حبيب كوراني يشير إلى الرغبة في أن أتكلم عن تطور التربية في المملكة العراقية خلال السنوات العشر الأخيرة (1) مشيراً إلى أهم الاتجاهات الحديثة من حيث: التنظيم، والمنهج، وإعداد المدرسين، والتفتيش، والامتحان، وكذلك المشكلات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، التي تجابه التعليم في العراق، مع بعض الحلول التي اتخذت أو يجب أن تُتخذ لمعالجتها، على أن تأتي هذه في محاضرتين. هذا هو المطلوب مني حسبما جاء في الدعوة الموجهة إلى- ص 125 إلى 126".

والذي يراجع ما ألقي في هذا المؤتمر من بحوث يتبين دقة المدعوين في التزام الوفاء بما طلب إليهم التحدث فيه على أكمل ما يطلبه الأمريكيون ويريدونه. فبحوثهم مدعمة بجداول إحصائية لا حصر لها في كل جانب من جوانب التعليم، مما يقدم صورة دقيقة للحياة الاجتماعية والاقتصادية في بلادهم، إلى جانب النظم التعليمية. والواقع أن أعضاء المؤتمر لم يقدموا هذه الجداول الإِحصائية تبرعاً من عند أنفسهم، ولكنهم قدموها استجابة لطلب الذين دَعَوا إلى هذا المؤتمر ونظموه. فالدكتور حبيب أمين كوراني رئيس دائرة التربية في الجامعة الأميركية ببيروت - وهو الذي وجّه الدعوة لهذا المؤتمر - يقول في تقديم الكتاب الذي ضم ما أُلقي فيه من بحوث: "

فدعونا لذلك نخبة من قادة الفكر وكبار رجال التربية في مختلف الأقطار العربية للمساهمة في هذه الدراسة، وذلك بتقديم محاضرات تتناول أهم الأبحاث الحديثة في التربية في أقطارهم من حيث الأسس الفلسفية والاجتماعية والنفسية التي ترتكز عليها التربية، ومن حيث التنظيم والمنهج وإعداد المعلمين والتفتيش والامتحان بالاستناد إلى بعض الإِحصائيات التربوية الهامة، ويتناول أيضاً عرض المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تجابه التعليم، مع بعض الحلول التي اتخذت والتي يجب أن تتخذ".

(1) السنوات العشر الأخيرة هي السنوات التي تبدأ بانتهاء الحرب العالمية الثانية. وهي الفترة التي اتسمت بتدخل أمريكا في شؤون هذه المنطقة. فأصحاب هذا المؤتمر يريدون الاطمئنان على مدى نجاح خططهم في خلال هذه السنوات العشر. والواقع أن أمريكا قد حققت بدولاراتها خلال هذه المدة ما لم تستطع الدبلوماسية الانجليزية والدبلوماسية الفرنسية ومؤامرات التبشير الظاهرة والخفية مجتمعة أن تحققه في قرن كامل.

ص: 26

أما الهدف التوجيهي من هذا المؤتمر فهو واضح في هذه المقدمة أيضاً وفي سائر البحوث. يقول رئيس دائرة التربية في الجامعة الأميركية ببيروت في مقدمته: "لقد بدأ قادة التربية في البلدان العربية يتحسسون بالحاجة إلى تربية فعالة كوسيلة لمعالجة الوضع الخطير الذي أحدثته عوامل التطور في هذه البلدان". ثم يقول بعد أن يعرض هذه العوامل باختصار: "فنتج عن هذه تبديلات عديدة هي تبديلات جوهرية لا يمكن أن تحدث في مجتمع ما دون أن تحدث فيه تضارباً بالأفكار والمثل والقيم، ودون أن تتطلب تعديلًا في مفاهيم ذلك المجتمع وآرائه ومعتقداته وطرق تنظيم معيشته. لذلك نجد أنفسنا في هذا الوضع مرغمين على إعادة النظر في مؤسساتنا التي تكونت ضمن الوضع القديم، وفي المبادىء والافتراضات والأهداف التي بنيت عليها تلك المؤسسات وتعديلها على ضوء الوضع العلمي والحضاري الحديث، والوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم في مختلف مجتمعاتنا، كي نتمكن من إعادة بناء حياتنا على أساس مبادئ وآراء ومثُلُ بنّاءة منسجمة تتماشى مع الحضارة الإِنسانية الراقية (1)، وتمكننا من المساهمة الفعلية في تقدم ركب المدَنية البشرية ورقيه".

ولست أريد بعد ذلك أن أقدم صوراً مما ألقي في هذا المؤتمر من بحوث، فقد يطول بي الحديث إن أخذت فيه. هذا إلى أنه حديث بغيض يملأ النفس مرارة وضيقاً بالواقع الراهن للتعليم في هذه البلاد، بما فيه من كلام كثير عن فضل أمريكا في إنشاء مؤسسات التعليم المختلفة ومعاهده المتباينة في شرق الأردن وفي لبنان خاصة، وبما فيه من استخفاف بآدابنا ومواريثنا يَلَبس في أوهام المتكلمين ثوب العلم حين يؤكدون أهمية الدراسة الفنية في معاهد التربية لمن يباشرون وظيفة التدريس، ليُخفوا الهدف الحقيقي من ذلك، وهو إفساد التعليم بإِقامته على أساس من الآراء الفاسدة والنظم الهدامة، التي تروجها الصهيونية العالمية في غلاف أمريكي، عن طريق المتأمركين الذين يسيطرون الآن على هذه المعاهد في كل البلاد العربية،

(1) لست أدري ما هو مفهوم "الرقي" و"الحضارة الإنسانية الراقية" في وهم صاحب هذا الكلام. هل هو كل ما جاء من الغرب المنحل وكل ما أخرجته فنون الجنون الأمريكي؟

ص: 27

يروجون هذه السموم ويزعمون أنها علوم. وكأن أحلام ما يسمونه علم النفس ودعاواه المتغيرة المتناقضة التي لا تكاد تستقر قد أصبحت شيئاً مقطوعاً بصحته. فباسمه يدعو المخدوعون إلى (تحطيم) ما توارثناه في آدابنا من توقير الصغير للكبير، غير مكتفين بما حاق بنظم التعليم وخلق المتعلمين من خسران بعد أن فسدت صلات التلاميذ بمدرسيهم نتيجة للتقليد الأعمى وللنقل الَجهُول. وباسمه يتخطون أوامر ديننا ويتجاهلون آدابه الصالحة الرشيدة حين يدعون إلى خلط الذكور بإِلاناث، وإلى إخراج المرأة للأسواق وامتهانها بين الرجال، مما يعرضها ويعرض المجتمع الإِنساني كله للفساد والانحلال ثم الانهيار، ومما يحقق أحلام الداعين لهذا المؤتمر في هجر تعاليم ديننا والتمرد على الصالح من تقاليدنا، إقتداءاً بالخلق الأمريكي المنحل، وسيراً في أعقاب تجاريب أثبت الواقع فشلها في حل مشاكل الناس في مَواطنها الأصلية التي ننقل عنها، بل لقد عَقّدت مشاكلهم وزادتها كما تدل عليه جداولهم الإِحصائية التي أثبتت اطراد الزيادة في النسب المئوية للانحراف والشذوذ وللجرائم على اختلاف ألوانها، وكما يصوره الواقع الملموس في انحلال أخلاق شبابهم، واستهلاكهم قواهم وملكاتهم في العكوف على الشهوات، وضعفهم عن حمل الأمانات والنهوض بالواجبات.

لا أريد أن أخوض في تفاصيل ما ألقاه المؤتمرون في هذا المؤتمر لأقدم صوراً دقيقة مؤلمة مما ألقي فيه من بحوث، ولكني لا أستطيع أن أختم الكلام عنه دون الإِشارة إلى أن هؤلاء المدعوين الكبار من الوزراء ومن في مستواهم قد ظلوا في ضيافة المؤتمر أربعة شهور كاملة، بدأت بمحاضرة العضو اللبناني الأولى في نادي وست هول بالجامعة الأمريكية في 26 كانون الثاني (يناير) 1955 وانتهت بمحاضرة العضو العراقي في 26 أيار (مايو) 1955. وسيعجب القارئ للسخاء الذي أُنفقت به الأموال على هذا المؤتمر وأمثاله. ولست أدري أيزول عجبه أم يزداد حين يعلم أن مؤسسة روكفلر هي التي قامت بكل النفقات. ولكي يطمئن القارئ إلى صدق ما أقوله أنقل له السطرين الأخيرين من مقدمة حبيب كوراني رئيس دائرة التربية في الجامعة الأمريكية ببيروت حيث يقول: "إننا مدينون بالشكر أيضاً إلى مؤسسة روكفلر

ص: 28

(Rockfeller Brother's Fund) التي قدّمت جميع نفقات هذا المشروع". ولقد كان يكفي أن أقول منذ البداية: إن الجامعة الأمريكية في بيروت هي التي دعت إلى هذا المؤتمر، وأن جلساته عقدت في مقرها، وأن مؤسسة روكفلر هي التي تكفلت بكل نفقاته، لكي يغنيني ذلك عن كل تفصيل (1).

وننتقل الآن من مؤسسة روكفلر إلى مؤسسة أمريكية أخرى سبق أن قدَّمتُ كتاباً من الكتب التي أخرجتها دولاراتها (2) وهي مؤسسة فرانكلين. أصدرت هذه المؤسسة فيما أصدرته من مطبوعات (3) سلسلة عنوانها (كيف نفهم الأطفال - سلسلة دراسات سيكولوجية). وأشرف على هذه السلسلة وقدم لكل كتاب من كتبها الدكتور عبد العزيز القوصي المستشار الفني لوزارة التربية والتعليم في مصر. والحديث في هذه السلسلة موجه إلى الآباء والمدرسين حسب ما هو مبين على غلاف كل عدد من أعداد هذه السلسلة، إذ رُسِم في أعلى الجانب الأيسر كتاب مفتوح، في إحدى صفحتيه "الطريق إلى حياة أفضل" وفي الصفحة الأخرى "علم النفس للآباء والمدرّسين". ويؤكد الدكتور القوصي هذا الهدف، إذ يقول في تقديم العدد الأول من أعداد هذه السلسلة الذي صدر في مارس 1954، وأعيد طبعه في أكتوبر 1955، مما يدل على الرواج الذي تلقاه هذه السموم الأمريكية، يقول في هذه المقدمة: "هذا هو الكتاب الأول في مجموعة من الكتب تهدف إلى توجيه الآباء والمدرسين إلى

(1) من المعروف أن نلسون روكفلر المعاصر يهودي يتستر تحت النصرانية فهو عضو مؤسس في اللجنة (القومية المسيحية) التي وحدت صفوف اليهود الذين اعتنقوا المسيحية، والتي تساهم بالنصيب الأكبر في جمع النفقات التي تساعد اليهود على الهجرة من أوروبا إلى فلسطين. وجدّ هذه الأسرة الأول هو جوهان روكفلر اليهودي الألماني الذي نزح إلى أمريكا في أوائل القرن الثامن عشر. وقد أنفق ابنه جون روكفلر ملايين الدولارات في تأسيس الجمعيات والمنظمات اليهودية المختلفة في أمريكا. وكان من المتعصبين لِإحياء الامبراطورية اليهودية (أمريكا مستعمرة صهيونية ص 11، 12).

(2)

كتاب (الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة) في جزء شعبان ورمضان سنة 1376 ويراجع في ذلك كتابنا (الإِسلام والحضارة الغربية) في طبعته الثالثة.

(3)

الكتب التي تخرجها هذه المؤسسه لمؤلفين أمريكيين كما هو معروف وهي مختارة اختياراً خاصاً يبرر إنفاق ما ينفق عليها من المال الأمريكي.

ص: 29

حياة أحسن من تلك التي يعيشونها. ولا نقصد بالحياة الأحسن أن تكون كذلك من الناحية المادية، وإنما هي حياة أحسن من حيث الأداء لرسالة الأبوة ورسالة التربية". فالمشرف على هذه السلسلة - وهو من كبار رجال التربية في مصر - يعرف أن هذه المؤسسة الأمريكية تهدف إلى توجيه الآباء والمدرسين. وهو يقر هذا الهدف وترضى نفسه أن يعين الأموال الأمريكية عليه، وهو يعرف - كما يعرف كل عاقل - أن الناس لا يصدرون فيما يأتون من أعمال إلا عن دوافع تدفعهم إلى العمل، وأن هذه الدوافع مهما تختلف وتتنوع فهي تشترك في أنها تحقق نفع الفرد أو الجماعة التي تنتمي إليها. فمن الواضح أن الفرد أو الجماعة لا تبذل الجهد والمال إلا فيما يعود عليها بالمنفعة. فليت شعري ألم يَرِدْ على خاطر الأذكياء الذين يشاركون في هذه الأعمال - كتباً كانت أو مقالات أو مؤتمرات - هذا السؤال الذي لا ينبغي أن يغيب عن البال: ما هو النفع الذي يعود على هذه المؤسسة، والذي يدفعها إلى بذل ما تبذله من جهد ومن مال؟ إذا لم يكن هذا السؤال قد ورد على أذهان هؤلاء الأذكياء فقد ورد على ذهني، وأظنه قد ورد على أذهان الكثير من الأذكياء وغير الأذكياء. وقد تكون الإِجابة على هذا السؤال طويلة، وقد لا تكون واضحة في أذهان الذين يتساءلون. ولكن من الأهداف الواضحة التي لا تخفي أن مثل هذه المشروعات تحقق أول ما تحققه توثيق الصلات بنفر من ذوي النفوذ وكسب ودهم وولائهم بالبذل السخي الذي يقدم في صورة مهذبة مؤدبة جداً. فهو لا يعدو أن يكون أجراً على مجهود قد بذل، وقد لا يكون هناك مجهود، وقد يكون المجهود تافهاً وصورياً. وقد يكون الأجر مضاعفاً أضعافاً كثيرة. ولكن المأجور لا يقول عادة إن الأجر كبير. وصاحب العمل مهذب رقيق يقدم عطاءه السخي في أدب جم وفي حياء (كأنك تعطيه الذي أنت سائله) - كما يقول شاعرنا العربي القديم زهير.

وهدف آخر من هذه الأهداف الواضحة هو السيطرة على توجيه المجتمع، عن طريق هؤلاء الأصدقاء من أصحاب النفوذ وعن طريق المخدوعين بأسمائهم ممن يقرءون ما ينشرون، والذي ينشرونه ليس باطلاً كله، بل إن فيه حقا كثيراً، بل إن الباطل فيه يلبس ثوب الحق فيصعب على

ص: 30

غير الخبير الاهتداء إلى موضع الخطر فيه. ولكن بعض الأباطيل عارية لا تخفى ولاتلبس غير أثوابها، فمن هذه الأباطيل العارية ما جاء في العدد 12 من هذه السلسلة. وعنوان هذا العدد هو (الطفل والأمور الجنسية). وسأنقل في السطور التالية صوراً من هذه الأباطيل مكتفياً بهذا النقل عن التعليق.

قدّم الكتاب في صفحتي 22، 23 مجموعة من الأسئلة في صورة اختبار يساعد الآباء - فيما يزعمه المؤلف - على تبين اتجاه الأبناء الخاص في وضوح وفي جلاء، وعلى تقدير ما تنطوي عليه تصرفاتهم من خطأ وصواب، وأثبت المؤلف الإِجابة الصحيحة المزعومة على كل سؤال من هذه الأسئلة في ذيل صفحة 23. ومن بين هذه الأسئلة السؤال رقم 6 ونصه وهو:"هل ترى في التعبير السافر عن المحبة ما ينبىء عن ذوق رديء أو ما يثير الحرج؟ ". والجواب الصحيح فيما يزعمه الكتاب الامريكي هو "لا". والسؤال التالي هو: "هل تعتقد أن المواقف التي تتضمن ناحية جنسية تثير الضحك؟ " والجواب الصحيح الذي أثبته الكتاب هو "نعم".

وجاء في ص 46: "إن الكثير من الآباء اليوم لا يكترثون للظهور مجردين من الثياب أمام أطفالهم الصغار. وهذا أمر لم يكن يحدث في الماضي إلا نادراً، كذلك أصبحت أبواب الحمامات وغرفِ النوم تترك مفتوحة أحياناً فيرى الصغار أبويهم وهم يخلعون ملابسهم أو يرتدونها، فإِذا كان في وسع الآباء أن يفعلوا ذلك بصورةٍ طبيعيةٍ ودون شعور بالحرج أو الاضطراب فإِن ذلك يكون مراناً طبيعياً، لأنه يعوّد الطفل على الشعور بأن الجنس ليس أمراً مَشيناً، كما يساعد على إشباع فضوله فيما يتعلق بأجسام الكبار (1).

وجاء في صفحة 60: "إذا حدث التجريب في النواحي الجنسية في الفترة الواقعة بين سن 8، 12 فمن المحتمل أن يقع بين أفراد الجنس الواحد، إذ نجد الصبية مثلاً يعرضون أعضاءهم التناسلية بعضهم على بعض، ويعتبر ذلك محاولة من الطفل لتحديد مدى مشابهته أقرانه. كذلك قد

(1) أرأيت إلى الذين يريدون أن يعودوا بنا إلى الهمجية الأولى والجاهيلة الجهلاء، هل ترى كبير فرق بين مذهبهم هذا وبين مذهب الذين يمارسون العري في مدن العراة.

ص: 31

يلجأ البعض إلى ممارسة العادة السرية - كمحاولة لتخفيف ما يشعرون به من توتر جسمي وانفعالي - ومرة أخرى نقول: إن هذا السلوك لا يعتبر غير طبيعي، ولا يدمغ الطفل بالشذوذ أو الإِجرام أو الانحراف، كما أنه لا يستدعي عقابه أو تهديده بأنه سيصاب بأمراض خبيثة، ولا يتطلب محاضرات خلقية تلقى عليه، كما لا يبرر نبذه وتحقيره".

وجاء في صفحتي 62 و63: "فبدلاً من فصل البنين عن البنات يجب علينا أن نعمل على إشراكهم معاً في الأعمال المتعة ومواقف اللعب، وأن نحاول مساعدتهم على تكوين مشاعر طبيعية مريحة نحو أفراد الجنس الآخر. وعلى الآباء تشجيع أطفالهم على المساهمة في نواحي النشاط المشتركة بين البنين والبنات مما تشرف عليه المدرسة والجمعيات الرياضية أو المراكز الاجتماعية. فهذا النشاط المشترك ليس "مواعيد غرامية" بل هو فرص لاشتراك البنين مع البنات في متع الرياضة وركوب الخيل أو الدراجات والسباحة وغير ذلك. وإذا حدث "استلطاف" بين بعض البنين والبنات فينبغي النظر إليه على أنه نوع من الصداقة وليس "غراماً" أو "عشقاً". والمعاكسات البريئة التي من نوع "مراد وسهير صديقان حميمان" قد تبعث في صداقتهما دفئاً كانا يفتقران إليه، وقد تولّد فيهما الشعور بأننا نتوقع منهما أن يسلكا مسلك الكبار".

وجاء في صفحة 78: "إن خروج الفتيات في صحبة الفتيان من الأمور الطبيعية التي يستطيع معظم الآباء تقبلها - في الوقت المناسب على أي حال - باعتبارها جانباً من جوانب النمو الجسمي للمراهق".

وجاء في صفحتي 87، 88:"في كل علاقة تقوم بين فتى وفتاة يشعر كل منهما في بعض الأحيان بدافع يحفزه إلى التعبير عن حبه وتقديره للآخر بلمسة أو ضغطة على اليد أو قبلة، والرغبة في الكشف عن المشاعر بهذه الطريقة والاستجابة لها أمر طبيعي".

وأخيراً يقترح مؤلف الكتاب برامج للدراسة في مراحل التعليم المختلفة ويضع تحت كل برنامج من هذه البرامج ما يرى أنه خليق بالدراسة، ومن بين ما يراه خليقاً بالدراسة في برنامج "المواد الاجتماعية" (ص 104): "المعايير

ص: 32

الخلقية والأخلاق الحديثة، وأساليب المجتمع في تقرير الخطأ والصواب (1)" و"المركز الاقتصادي والقانوني للمرأة وكيف تأثر بتغير الظروف الاقتصادية في المجتمع وآثار هذا التغير على حياة الأسرة والزواج". ومن بين ما يقترحه المؤلف في برنامج (العلاقات العائلية) ص 105 - 106 "كيف تعرف أن ما تشعر به هو الحب؟ - كيف تختار رفيق حياتك؟ - فترة الخطوبة - العلاقات السابقة على الزواج

الخ". ومن بين ما ذكره تحت عنوان: "النشاط غير المنهجي" ص 106 - 107 في بيان أهداف هذا البرنامج وأساليبه: "والغرض منها مساعدة الطلاب والطالبات على تنمية علاقات طيبة، يشرف على توجيهها المدرسون بصورة بعيدة عن الرسميات، وهي تتضمن: أندية الشباب - صحيفة المدرسة - جمعيات الهوايات والميول - التمثيليات - مجالس إدارة الطلبة - حفلات السمر والرقص". وجاء فيه أيضاً: "فمن حق الآباء أن يهتموا بمدى كفاءة الذين يقومون على تعليم أبنائهم وبناتهم الأمور الجنسية، فهم يريدون مدرّساً يستطيع تزويد التلاميذ بنظرة عامة عن الزواج والتكيف الجنسي، وقد يشعر البعض منهم أن خير من يستطيع ذلك هم المتزوجون والمتزوجات، ولكن ليس هناك ما يدل على أن هذا شرط ضروري، وإن كان له بعض المزايا".

فإِذا لم تنفعك كل هذه النماذج فهاك نموذجاً من كتاب آخر أصدرته مؤسسة فرانكلين نفسها وأشرف على إخراجه وقدَّم له الدكتور القوصي أيضاً حين كان عميداً لمعهد التربية العالي للمعلمين بجامعة عين شمس، واسم الكتاب هو (كيف تتكامل الشخصية).

جاء في صفحة 65 من هذا الكتاب: "إن جميع الحاجات الإِنسانية سواء كانت عضوية ينبغي إشباعها للِإبقاء على الحياة، أم اجتماعية يقتضي إشباعها أيضاً لتضمن عيشة راضية، أو جنسية تشتمل على الحاجتين الاجتماعية والعضوية - كلها ما هي إلا قوى دافعة إلى النشاط، تحض على

(1) تأمل معي قوله: "الأخلاق الحديثة" وكأن في الخلق قدياً موروثاً جاءت به الأديان، وجديداً يخالف ما تواضعت عليه الأديان والمجتمع في تقرير الخطأ والصواب.

ص: 33

العمل بدلاً من مجرد التطلع أو التفكير فيه. وكلنا نعرف أنه عندما تستيقظ حاجة ما، سواء أكان نشاطها شعورياً أم لا شعورياً، فإِننا نحسّ بحالة من التوتر، وأن هذا الشعور يُفقدنا الهدوء والراحة، ويستفزنا للعمل على الحد من شدة هذا التوتر أو التخلص منه كلية، وعندئذٍ نعود إلى الهدوء مرة أخرى، أي إنه متى تم إشباع حاجة من حاجاتنا زال التوتر، وهذا القول يصدق على جميع الحاجات البشرية".

وجاء في صفحة 72 تحت عنوان (المشاعر الجنسية مشاعر طبيعية): "ولنصور المسألة الآن تصويراً واضحاً، إن الطبيعة الجنسية ليست بالشيء الشاذ أو المشوّه، بل إنها الحياة الجنسية التي تقوم عليها الأسرة، تلك الأسرة التي تعتمد عليها ثقافتنا. والشيء الطبيعي الصائب أن يحب الفتيان الفتيات وأن تحب الفتيات الفتيان. والواقع أن أغلب المشكلات التي هي مصدر لشقاء شباب العقد الثاني من العمر ومن يكبرهم من إخوة وأخوات يمكن ردّها إلى الثقافة والمدنية التي نعيش فيها، أو على الأقل يمكن أن نقتفي أثرها في الاتجاهات السائدة في هذه الثقافة أو المدنية، وإنها لحقيقة على جانب عظيم من الأهمية أن الثقافات التي يتعلم النشء في ظلها الحقائق الجنسية في سن مبكرة وبطريق عرضي بحيث لا يكتنفها إبهام أو غموض لا يتعرض الأطفال ولا الشباب فيها لتلك المشكلات المألوفة في حياتنا وحياة أصدقائنا". ثم يقول بعد ذلك في صفحة 75: "فالشوق إلى القبلة أو بعض الغزل الرقيق أو الإِنصات إلى قصة فيها تلميحات جنسية - كل هذه ليست أموراً شائنة، فليهدأ الشباب بالاً، فليس كل ما يدور حول الجنس يدخل في باب المحرَّمات، ولعل كثيراً مما نكتبه كان ضحية سوء التوجيه".

هذه نماذج من الآراء التي يشرف المستشار الفني لوزارة التربية والتعليم على ترويجها، فهل تجد فيها الكفاية لتعليل بعض ما يجري من حولنا في هذه الأيام؟

وبعد: فهذه الدعوات وأمثالها مما ننزعج له لأنه ينافي الدين والخلق القويم، وبما نسميه نحن بذاء أو فجوراً، ويسميه أصحابه (علمًا) ويضعونه تحت عنوان جميل اسمه (علم النفس)، ويُغْوون الناس باسم العلم فيما فشل

ص: 34

فيه التبشير والدعوات الهدامة طوال قرن من الزمان. نعم، هذا البذاء وهذه الدعوة السافرة إلى هدم الخلق ونقضه، والقضاء على الحياء الذي لا يقوم بغيره مجتمع ولا خلق ولا دين، وإشاعة الفاحشة بين خلق الله، تسمى عند الأمريكيين وسماسرتهم (علمًا). فقد كتب بالخط الفارسي الجميل على غلاف هذا الكتاب وعلى غلاف كل كتاب من كتب هذه المجموعة - وهي على اختلافها تشترك في الكلام عن الجنس والاهتمام به - "سلسلة دراسات سيكولوجية". والسيكولوجيا هي ما يترجمه الذين رزئت بهم هذه الأمة بـ "علم النفس".

وعلماء النفس هؤلاء يبنون قواعدهم وقوانينهم على تجارب مهما يظنوا بها لدقة فهي معرضة للخطأ من نواح كثيرة، ومهما يظن الناس بها الأمانة فهي معرضة للتحيز، ولأن تكون أداة في يد أصحاب المذاهب السياسية والاقتصادية والدينية (1). إذ من الواضح أن هذه التجارب - مهما ادعى أصحابها شمولها - هي غير شاملة لأفراد الجنس الذي تُجرَي عليه. ثم إن نجاحها بعد ذلك يتوقف في كثير من الأحيان على صراحة الأفراد المستجوبين وصدقهم، وعلى أمانة الباحثين وبعدهم عن التحيز، وصحة إدراكهم لدلالات ما يشاهدون وما يحسون، وعلى توافر كل ما يستلزمه الحكم الصحيح من شروط، ومهما يحرص صاحب التجارب النفسية والاجتماعية على التنوع وعلى الشمول في اختيار الذين يُجري عليهم تجاربه، فليس هناك وسيلة للقطع بأن الأفراد الذين جرت عليهم التجارب أو الِإحصاءات يمثلون الجنس الذي ينتمون إليه تمثيلًا صحيحاً. ثم إن هذه التجارب محدودة بحدود الزمان والمكان. فهي تمثل جيلاً من الجنس الذي تجري عليه التجارب وليس هناك ضمان لصحة الحكم المستنبط بالقياس إلى الأجيال السابقة أو اللاحقة، لأن الحكم الذي يصلون إليه هو في أكثر الأحيان خاضع لظروف معينة مرتبطة بالمكان والزمان والملابسات. ومن الأهمية بمكان في مثل هذه البحوث أن نتأكد من نزاهة

(1) راجع (الحرية والثقافة) لجون ديوى، ط. الجامعة العربية 1955 ص 40 - 41، خبراء النفوس للمليجي ط مصر 1956 ص 17 - 28، وراجع كذلك على سبيل المثال الفصلين الرابع عشر والخامس عشر من كتاب "ميادين علم النفس التطبيقية والعملية"؟. ط المعارف بمصر 1956 - ج 2 ص 523 - 626.

ص: 35

الباحث وأنه غير مسخّر لخدمة مذهب معين من المذاهب السياسية أو الدينية. فإِذا استوثقنا من ذلك كله بقي أن نستوثق من أنه غير واقع تحت تأثير آراء معينة تحيد به في تجاربه وفي استنباطه عن الحق، وأنه قد التزم الدقة والأمانة واعتصم بالصبر والأناة في هذه التجارب.

من أجل ذلك كثرت مذاهب النفسيين والاجتماعيين وتعدّدت آراؤهم، وأصبح كل فريق منهم ينكر آراء الآخرين أشد الإِنكار ويسفهها أشد التسفيه. فما أكثر ما نشاهد بين النفسيين والاجتماعيين من خلاف، وما أعظم ما نجد بين مذاهبهم من تفاوت يبلغ حد الطرفين المتناقضين في كثير من الأحيان. والواقع أن بحوث النفس والاجتماع ليست علوماً بالمعنى الدقيق كما يتوهم كثير من المخدوعين بها، وجل ما توصف به أنها فروض علمية يحاول مفترضوها أن يعللوا بها بعض الظواهر النفسية والاجتماعية. ولو عرف هؤلاء المخدوعون ما تتعرض له من تغير دائم لا يستقر لعلموا أن من المجازفة الخطرة الهدامة أن نترك نصوص الدين الثابتة المسلَّمة إلى هذه الفروض المتغيرة التي ينقص بعضها بعضاً، وأن كل سند أصحاب هذه الدعاوى النفسية والاجتماعية الشاردة هو الظن الذي أضل مَنْ قبلهم من الكافرين، والذي وصفه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بأنه لا يغني من الحق شيئاً.

وحقيقة الأمر في ذلك كله أن العقل ليس هو الأداة الصحيحة لبحث المسائل النفسية كلها، لأن النفس تدخل في عالم الغيب الذي لا يخضع لحاسة من الحواس، ولأن تقرير الخطأ والصواب في علم الأخلاق يحتاج لمعرفة العلة الأولى والهدف الأخير، ونحن لا نعرفهما في هذه الحياة الدنيا أو فيما وراءها. من أين جئنا وإلى أين نصير؟ وهل ذلك الذي يبدو ضاراً في اللحظة الراهنة يمكن أن يكون نافعاً في مستقبل الزمان قريبة أو بعيدة - والقرب والبعد في الزمان مسألة نسبية؟ وهل يمكن أن ندرك وجهاً من وجوه النفع فيه لو أتيح لنا معرفة ما غاب عن علمنا من بعض الظروف الملابسة له في الماضي أو الحاضر أو المستقبل؟ (وقصة العبد الصالح مع موسى عليهما السلام في سورة الكهف من أروع الأمثلة لتصوير هذا القصور البشري في إدراك الخير والشر).

ص: 36

هذا إلى أن عجز الحواس البشرية أصبح شيئاً محسوساً ملموساً تؤيده التجربة العلمية الآن. فالعين البشرية مثلاً ينحصر مدى إدراكها فيما بين الوجات الضوئية التي طولها 0.00007 والموجات الضوئية التي طولها 0.00004 من السنتيمتر، وهي الموجات المحصورة بين اللون الأحمر واللون البنفسجي، وهي لا تدرك بعد ذلك شيئاً مما فوق البنفسجي، ولا تدرك شيئاً مما تحت الأحمر. وقُلْ مثل ذلك في حاسة السمع وفي سائر الحواس. وإذا ثبت قصور الحواس فقد ثبت قصور التفكير البشري المبني على مشاهدات هذه الحواس.

فالتجارب والإِحصاءات إذن ليست هي الوسيلة الصحيحة لتقرير الحقيقة في مذاهب الناس وسلوكهم، لأنها محدودة بحدود الزمان والمكان والحواس. ولذلك لم يكن هناك مندوحة من الاستناد في التنظيم الاجتماعي والتقنين التربوي الخلقي إلى الشرائع السماوية، لأن موضوعها هو هذا التنظيم وجمع الناس عليه. أما العقل فميدانه المسائل المادية الخالصة كالهندسة والكيمياء، وكل ما اصطلح الغربيون في هذا العصر على تسميته بالـ (Science) ـ (1) لذلك لم تنزل الشرائع والأديان السماوية إلّا بما يدخل في عالم الغيب مما يتصل بالسلوك الذي يترتب على إدراك الخير المطلق والشر المطلق، لأن العقل البشري عاجز بطبيعة تكوينه عن إدراكه، ولو أخذ فيه لخبط في أودية من الظن والوهم الذي لا يستند إلى دليل، ولاختلف الناس فيما بينهم اختلافاً شديداً لا يجتمعون معه على رأي ولا يلتقون عند غاية. وقد ترك الدين بعد ذلك للعقل أن يسرح ويمرح كيف شاء فيما هو صالح له من ميادين البحث والمعرفة. فلم ينزل نبي من أنبياء الله بنظريات في الهندسة أو في الطبيعة أو الكيمياء - إلّا ما يكون من ذلك على سبيل إظهار العجزة - لأن ذلك من شأن العقل، وهو مهيأ له.

(1) على أن العقل لا يستطيع في كل هذه العلوم إلّا إثبات مشاهدات. وهو بعد ذلك عاجز عن معرفة حقيقة أي شيء. فالفاصل بين الِإنسان والحقيقة - كما يقول العالم الأمريكي المعاصر لنكولن بارنت - قد اتسعت فجوته بعد أن اتضح عجز حواس الإِنسان. فعلماء الطبيعة مثلاً يمكنهم أن يصفوا كيف تعمل الأشياء، ولكنهم لا يعرفون ولا يحتاجون أن يعرفوا حقيقة هذه الأشياء (راجع "العالم وأينشتين" - رقم 154 سلسلة "إقرأ" - داى المعارف. ص 34، 38، 39، 67).

ص: 37

أما ما وراء ذلك من عالم الغيب الذي لا يخضع لمشاهدته وحسه فهو خارج عن حدود طاقته وقدرته بحكم فطرته التي فطره الله عليها. وذلك هو معنى قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، لأن الله سبحانه وتعالى حين علم عجز العقل وقصوره أرشدنا فيما هو خارج عن حدوده إلى ما فيه صالحنا رحمةً بنا. وذلك أيضاً هو السبب في جعل التسليم لحكمة الله والانقياد لأوامره ولزوم حدوده هو الأصل في التدين وهو الخطوة الأولى فيه:(إن الدِّينَ عندَ اللهِ الإِسلام). والمثل المضروب لذلك في القرآن هو قصة أبينا إبراهيم، إذ أُمر أن يذبح ابنه فانقاد للأمر هو وابنه دون أن يعرفا وجه الحكمة فيه أو يسألا عنه، فحققا بذلك ما أراد الله سبحانه من اختبارهما:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الصافات 103 - 105.

جمع الدين الناس على قِيَم الخير ومُثُله، وهي قِيَم موحدة متفق عليها، ثم جاء هؤلاء الباحثون باسم علم النفس والاجتماع ففرقوا الناس ومزقوا وحدتهم وشكّكوهم في قِيَمهم، ثم لم يستطع واحد منهم أن يجمعهم على مذهبه بعد أن فرّقهم في الدين، ولم يستطيع واحد منهم أن يقدم البرهان الحاسم على صدق مذهبه، فماج بعض الناس في بعض، وبغى بعضهم على بعض، وأصبح العلم والمعرفة عامل فرقة وفساد وإنحلال بدل أن يكون عامل سعادة ووئام، وأصبح كل مجرم لا يعدم سنداً له في تبرير دوافعه إلى الإِجرام من قواعد علم النفس المزعوم، الذي يتعقب كل ما أجمعت الأديان والأخلاق على أنه فضيلة بالنقض والتسفيه، وكأن وظيفته هي تسفيه الفضائل وتبرير الجرائم.

وليس يُفهم من ذلك كله أننا ندعو إلى مصادرة البحوث النفسية والاجتماعية والأخلاقية، فذلك ما لا يدعو إليه عاقل يؤمن بنعمة العقل والتفكير، ولكن الذي ندعو إليه أن ندرك حق الإِدراك مدى طاقتنا العقلية والفكرية، فنقيِّد أنفسنا في هذه البحوث وأمثالها مما يتصل بعالم الغيب - والتقنين الخلقي جزء منه - بقيود الدين، نلتزم حدوده ولا نعتسف الطريق حتى لا نتعرض للضلال والهلاك. فنحن إذن لا نعطل العقل، ولكننا نحفظه

ص: 38

من الضلال، ونلزمه أصولاً وقواعد هي كالسور الذي يعصم السالك في الظلام من التردي في الهاوية، وهي مثل قوانين المنطق التي لا يعتبر التزامها حداً للتفكير ولكنه عصمة له، وهي مثل الدستور الذي لا يعتبر تقيد المشرِّعين به في كل ما يشرِّعون حداً من سلطتهم ولكنه ضمان لهذه السلطة أن لا تزيغ عن القصد عن علم أو عن غير علم.

ونحن إن احتجنا إلى الاستفادة من خبرة الغرب وتفوقه في الصناعات الآلية التي كانت سبباً في مجده وسيادته، فمن المؤكد أننا في غير حاجة إلى استيراد قواعد السلوك والتربية والأخلاق التي تدل الأمارات والبوادر على أنها ستؤدي إلى تدمير حضارته والقضاء عليها قضاء تاماً في القريب العاجل. إننا نحتاج إلى مواد البناء، لأن لدينا من عوامل الضعف والهدم ما يكفي.

ومع ذلك كله تجد فينا من لا يُصيخون السمع إلى صوت الدين، وهم يلحدون في آيات الله فيميلون بها عن وجهها حيناً ويجادلون فيها أشد المجادلة حيناً آخر، ولكنهم يخضعون لهذه المزاعم الداعرة ويرونها فوق النقاش واِلمراء. هؤلاء قوم لا تقوم عندهم الحجة بالقرآن، ولكنها تقوم بهذه الظنون والأوهام. فإِذا عارضتهم بالثابت من قول الله سبحانه وتعالى وهم يزعمون أنهم مسلمون - لَوَّوا رؤوسهم وقالوا: نحدثك في العلم فتحدثنا في الدين؟ كأن هذه الأوهام أثبت عندهم من القرآن، أترى فرقاً بين هؤلاء، وبين أمم قد خِلت من الضالين كانوا يقولون إذا ذكّروا بآيات الله:{قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}

ص: 39