المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ نص المذكرة - حصوننا مهددة من داخلها

[محمد محمد حسين]

الفصل: ‌ نص المذكرة

مصر، وفيها بيات لأمور أثارتها مناقشة القائمين على مشروع معمل الأصوات لم أعرض فيما كتبته من قبل.

وفيما يلي‌

‌ نص المذكرة

التي تقدمتُ بها إلى معالي وزير التعليم العالي في هذا الشأن.

نص المذكرة

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله وحده. والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.

وبعد

لا بد لي قبل أن أنتقل عن ضيافتكم الكريمة، إبراءاً للذمة، ونصحاً للأمة، أن أنبه إلى ما تبينته من وجوه الضرر الخطِر في قضيتين اثنتين: إحداهما تتعلق بالدراسات اللغوية في قسم اللغة العربية بجامعة الرياض، والأخرى تتعلق بإِنشاء قسم للدراسات الإِسلامية يمُنَح المتخرجُ فيه درجة الليسانس من جامعة الرياض في الدراسات الإِسلامية.

أما عن القضية الأولى، فهي شعبة من الدعوة التي انتشرت في أقسام اللغة العربية ببعض جامعاتنا والتي ينادي أصحابها بتطوير اللغة العربية ودراساتها. وهو تطوير يختلف أصحابه في تسميته، ولكنهم لا يختلفون في حقيقه. يسمونه تارة - تهذيباً، وتارة تيسيراً، وتارة إصلاحاً، وتارة تجديداً. ولكنهم في كل الأحوال وعلى اختلاف الأسماء يعنون شيئاً واحداً، وهو التحلل من القوانين التي صانت اللغة العربية خلال ألف عام أو يزيد.

وقد اقترنت هذه الدعوة بالكلام عن صعوبة اللغة العربية. وهو زعم وهميٌّ يكذبه الواقع الراهن من نهضة اللغة العربية وآدابها في القرن الأخير على يد طائفة من الشعراء والكتاب ردوا عليها نضرتها وجِدّتها بعد أن بلغت من الانحطاط درحة تمثلها لغة الجبرتي، وهو على ما هو معروف من كبار علماء

ص: 201

عصره. فقد حققت هذه الطائفة نهضتنا الأدبية الحديثة من طريق القواعد العربية التي يزعم الزاعمون صعوبتها وعجرها عن تنشئة جيل عربي صالح، صحيح العبارة والفكر، ولم تحققها عن طريق ابتكار قواعد أُخرى. ويكذِّب زعمهم كذلك أن العرب قد غفلوا عن هذا الوهم طوال أربعة عشر قرناً صلحت فيها اللغة لمواكبة الأجواء الحضارية والفِكرية التي تقلبوا فيها بين مشارق الأرض ومغاربها، لم تَضِقْ بشيء منها. ولم ينتبهوا إلى وجود هذا النقص في اللغة إلَّا في نصف القرن الأخير، تقليداً لدعاة المستعمرين الذين أخذوا يؤلفون الكتب في اللهجات المحلية العامية، كلٌّ في منطقة نفوذه. واقترحوا اتخاذ هذه اللهجات لغات تحل محل العربية الموحدة (بفتح الحاء وبكسرها)، في تدوين العلم والأدب، كما اقترحوا كتابتها بالحروف اللاتينية. وكذلك فعل بعض العرب حين ألفوا كتباً في دراسة اللهجات العامية لتدرَّس في المعاهد التي أنشئت لهذا الغرض في نابولي سنة (1727) وفي فينا سنة (1754 م) وفي موسكو (1814 م) وفي لندن في أوائل القرن التاسع عشر، وفي باريس في الثلث الأخير من ذلك القرن.

منذ ذلك الوقت كثر الكلام في صعوبة اللغة العربية، وفي الازدواج الذي تعيش فيه الشعوب العربية. يفكرون بلهجاتهم العربية - كما يزعم الزاعمون - ويكتبون آدابهم وعلومهم بلغة أجنبية أُخرى هي اللغة الفصحى.

تكلم الناس في صعوبة الإِعراب الذي يلحق أواخر الكلمات، فاقترح بعضهم التخلص منه جملةً بتسكين أواخر الكلمات، واقترح بعضهم اختصاره بإِسقاط بعض أبواب اعتبروها غير أساسية والإِبقاء على أبواب أُخرى اعتبروها أساسية. وقال فريق ثالث: إن الصعوبة ليست في الإِعراب نفسه، ولكنها في القواعد التي تضبطه. ودعوا إلى إعادة النظر في تبويب النحو والصرف وفي قواعدهما ومصطلحهما. وخطا أصحاب هذه الدعوة خطوات عملية فاشلة في هذا الطريق، وألفوا في ذلك كتباً بيِّنة الضعف والهزال، فُرِضت حيناً على يختلف المراحل الدراسية في بعض البلاد العربية، ثم لم تلبث أن ألغيت بعد أن ثبت فسادها وعدم جدواها.

ص: 202

وخطرُ هذه الدعوات على التراث الإِسلامي وعلى الأجيال التالية من أبناء المسلمين وأبناء العرب بخاصة واضح لا شك فيه. فكلها يرمي إلى عزل هذه الأجيال عن تراثها، بتغيير رسم الخط تارة، وبتطوير اللغة تارة أُخرى - وهو تطوير يزداد مع توالي الأعوام - وبتغيير مصطلح العلوم اللغوية من نحوية وصرفية وبلاغية تارة ثالثة، وهو مصطلح يشيع استعماله في كل كتب التراث من تفسير القرآن الكريم، وشرح الحديث الشريف، وشرح النصوص الشعرية والنثرية. ويكفي في التدليل على فساد نية الداعين بهذه الدعوة أن نقرأ الفقرة التالية من كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" حيث يدعو إلى فتح باب التطوير في اللغة العربية ودراساتها، فيقول فيما يقول:

"وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون، وليست أقل منا إيثاراً لدينها، ولا احتفاظاً به، ولا حرصاً عليه، ولكنه تقبل في غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها، وتصطنعها لتأدية أغراضها، ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخالصة التي تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلواتها. فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى، واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر، والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث، والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع (1)

وبين المسلمين أنفسهم أمم لا تتكلم العربية، ولا تفهمها، ولا تتخذها أداة للفهم والتفاهم، ولغتُها الدينية هي اللغة العربية. ومن المحقق أنها ليس أقل منا إيماناً بالإِسلام، وإكباراً له، وذِياداً عنه، وحرصاً عليه - الفقرة 46 ص 229 - 230 من طبعة المعارف سنة 1944".

وينبغي لقارىء هذا النص أن لا ينسى الشعار الذي اتخذه طه حسين في صدر كتابه حين أثبت على غلافه أبيات المعري:

خُذي هذا وحسبُكِ ذاكَ منِّي

على ما فيَّ من عِوَجٍ وأمْتِ

(1) هذا الكلام ليس من صنع طه حسبن. فهو ترديد لما قاله القاضي الإِنجليزي ولمور (Selden Willmore l.) من قبل في كتابه "عامية مصر"(The Spoken Arabic of Egypt) ص 15 من طبعة لندن سنة 1901 م.

ص: 203

وماذا يبتغي الجلساءُ منّي

أرادوا مَنْطِقي وأردتْ صمتي

ويوجد بيننا أَمَدٌ بعيد

فأمُّوا سَمْتَهم وأَممتُ سَمْتي

وهي أبيات واضحة الدلالة في أن المؤلف لا يصرح بكل ما في نفسه، وأنه قد أخفى ما يخشى أن يعرِّضه لمثل ما تعرَّض له حين أخرج كتاب (الشعر الجاهلي).

ثم إن أصحاب هذه الدعوات خطَوا خطوة جديدة في السنوات الأخيرة، في محاولة لا تريد أن تعيد النظر في قواعد اللغة العربية، نحوِها وصرفِها فحسب، ولكنها تريد أن تطوي كل ما كتبه العرب في هذا الصدد، لتطبِّق أساليب أُخرى جديدة في دراسة اللغة العربية منقولةٍ عما يحاوله بعض دارسي اللغات الغربيين فيما يسمونه (General Linguistics) أو (علم اللغة العام)، كما يَدْعون إلى إدخال الدراسات الصوتية التي يسميها الغربيون (Phonetics) وهي فرع من دراسات علم اللغة العام عند الغربيين. واللغةُ في هذه الدراسات أصوات تؤدي وظيفة اجتماعية. وهي في عُرفهم ما يتكلمه الناس في واقع حياتهم اليومية، لا ما يجب أن يتكلموه في أدبهم المدون المكتوب. وهم من أجل ذلك لا يفرِّقون بين فصيح وعامي. والدراسات التي يشتمل عليها علم اللغة العام بكل فروعه، ومنها الدراسات الصوتية، دراسات ناشئة عند الغرب لم تستقر بعد. ومصطلحاتها الأساسية غير متفق عليها بين المشتغلين بها. ولا تزال مفاهيم هذه المصطلحات ومعانيها مختلفة بين بلد وآخر. والمدارس الأوربية والأمريكية لا تزال قانعة باتباع النظم التقليدية المستقرة في تعلم اللغات، لا تلقي بالًا إلى ما يقوله المشتغلون بهذه الدراسات وما يدعون إليه من مفاهيم وأساليب جديدة في دراسة اللغات. ولا تزال اللغة الأدبية الفصيحة عندهم هي المخصوصة بالدراسة، لا يلتفتون إلى ما يدعو إليه المشتغلون بعلم اللغة من التسوية بين اللغات واللهجات، وإن كانوا - على عادتهم - يفسحون المجال لكل تجربة جديدة.

يحاول علم اللغة العام عند الغربيين أن يجد طريقة لدراسة (اللغة) باعتبارها ظاهرة إنسانية عامة تضم جميع الأشكال الكلامية التي تتخذها

ص: 204

الجماعات البشرية على اختلافها، وقد يكون لهذه المحاولة ما يسوِّغها في اللغات الأوروبية التي تشترك في طبيعتها اللغوية وتتقارب في ظروفها الاجتماعية، والتي تتغير معاجمها بين الحين والحين، فلا يمر قرن واحد على لغة من لغاتها دون أن يصيبها تغيير أساسي في كثير من مفرداتها وقواعدها يستدعي وضع معجم جديد، ولكن إقحام هذه الدراسة التي تنبع اهتماماتها وقواعدها من طبيعة اللغات الأوربيه على لغة كالعربية، تختلف في طبيعتها وفي ظروفها التاريخية والاجتماعية وارتباطها بالدين اختلافاً أساسياً عن هذه اللغات بِدْعٌ شاذ قليل الجدوى. بل هو إفساد مُضر وقلب للأوضاع، لأنه لا يصدر عن حاجة في واقع الأمر تدعو إليه، ولأنه يحاول أن يفرض قواعد نابعة من خارج اللغة العربية على طبيعتها اللغوية، بَدَلَ أن يستنبط من واقعها اللغوي وطبيعتها المستقرة قواعد تعين على فهمها وضبطها واستخدامها في التعبير. واللغة العربية - بحمد الله - غنية بهذه الدراسات عريقة فيها. وقياسُها على اللغات الأوروبية التي ليس لها مثل هذا التراث العريق الممعن في العراقة طولًا وعرضاً خطأ فادح لا يكون إلَّا عن جهل أو سوء قصد. جهل بسنن الله التي لا تتبدل، والتي قضت أن يختلف الناس في أجناسهم وألوانهم وألسنتهم، ولو شاء لجعلهم أمة واحدة، أو سوء قصد يعمل على تفريق المسلمين، وفصلهم عن مصادر دينهم وعن تراثهم.

واقترنت الدراسات اللغوية الحديثة على الطريقة الغربية، والصوتيةُ منها بنوع خاص، بالدعوة إلى العناية باللهجات العامية وآدابها أو ما يسمونه (الأدب الشعبي). والدعوةُ بشكلها هذا جديدة على الدراسات العربية، لم يُسمَع لداعٍ بها صوتٌ قبل القرن الأخير، وقد نشأت أولَ ما نشأت باقتراح بعض المستشرقين من رجال الاستعمار، حين جمعوا طائفة من الأغاني والمراثي والمواويل والأناشيد العامية، تدعيمًا لدعوتهم، وحين اتخذوا بعض ما يسمونه (الأدب الشعبي) الذي لم يتمثل في قصص (ألف ليلة وليلة) وأمثالها موضوعا للدراسة. ومن المعروف أن أكثر هذه القصص لم يكتب باللهجات العامية المحلية، ولكنّ جماعة عن الجهال القليلي الحظ من الثقافة حاولوا أن يكتبوه باللغة الفصحى بقدر ما سمحت به إمكاناتهم وملكاتهم، فجاء على هذه

ص: 205

الصورة الركيكة. ولذلك تجاوزه مؤرخو الأدب واعتبروا أنه دون المستوى الذي يسمح بدخوله في تاريخ الأدب العربي، وتركوه في موضعه الصحيح لعامة الناس والغوغاء، الذين لا تسمح لهم ثقافاتهم بتذوق الأدب الرفيع. وظل الأمر كذلك حتى جاء هذا الجيل الذي يريد أن يمسخ صورة كل ما هو أصيل في تراثنا، يُعلي من قدر الركاكة وفساد العبارة باسم الشعبية والأدب الشعبي، ويحاول أن يفتش عن مواطن للجمال في هذه القصص والحكايات المتدنية أسلوباً ومضموناً، تقليداً لما فعله الغرب في تشنيعه بالشرق والشرقيين والإِسلام والمسلمين، حين ألّف طائفة من القصص مستوحاة من (ألف ليلة وليلة) تصور ترفهم وتفاهتهم وتهالكهم على الشهوات، وفسادَ أخلاقهم واستبداد ملوكهم ونفاق شعوبهم.

بقي أن أردَّ على بعض ما أثاره الداعون إلى إنشاء هذه الدراسات في قسم اللغة العربية بجامعة الرياض حين اجتمعت بهم.

سلَّموا بأن هذه الدراسات قد نشأت نشأة فاسدة في حضانة الاستعمار، ولكنهم زعموا أن الدعوة قد ماتت وزال خطرها، وأنهم يريدون توجيه هذه الدراسات لخدمة الفصحى. والزعم بأن الدعوة قد ماتت غير صحيح، وخُفوت صوت الداعين إليها ليس مظهراً لموتها، ولكنه في الحقيقة مظهر لاستقرارها. فقد ظلت تسري وتحتل كل يوم أرضاً جديدة وتتقلّب في زحفها من القصة إلى المسرح وإلى السينما وإلى وسائل الإِعلام كلها من صحافة وإذاعة، وإلى منابر المحافل على اختلافها، وإلى قاعات المحاضرات في الجامعات، حتى أعلنت الصحف عن ظهور مجلة يُصدرها أحد اللبنانيين (سعيد عقل) تحرَّر بالعامية مطبوعةً بحروف لاتينية.

ثم إن الناس في كل البلاد العربية يشكون من ضعف المتخرجين في أقسام اللغة العربية وفساد ألسنتهم وانخفاض مستواهم، ومن الواضح أن تقويم اللسان لا يجيء إلَّا بممارسة النصوص الصحيحة. فهل تُعين نصوص (الآداب الشعبية) العقيمة التىِ يشيع فيها اللحن وفساد اللغة وركاكة العبارة على تقويم اللسان؟ من الواضح أن ضعف الملكة العربية يعالج بالمزيد من

ص: 206

النصوص الفصيحة، لا بإِقحام نصوص ركيكة ومردَّدات عامية تحت إسم (الأدب الشعبي).

والأدب الشعبي الذي يختلف باختلاف البلاد، بل الذي يختلف في البلد الواحد باختلاف البيئات، يؤدي وظيفته في مكانه الصحيح، ويشبع رغبات طوائف وطبقات لا تسمو ثقافاتهم وملكاتهم إلى تذوق الآداب الفصحى. وهو أدب شفوي يعتمد على الرواية. وهو قديم لم ير العرب ضرورة لتدوينه حتى لا يختلط بالنصوص العربية الصحيحة. والخطر في تدوينه الآن أعظم مما كان في أي وقت، لأنه يجري في ظل دعوة إلى استبدال العاميات المحلية بالفصحى، وهي دعوة تساندها أجهزة ذات نفوذ وأموال تبذل بسخاء.

وزعموا أن جمعهم للهجات العامية ليس بِدْعاً مستحدَثاً. وأخذوا يعدِّدون بعض ما جمعه قدَماء اللغويين من لهجات القبائل. كما أخذوا يحصون بعض ما يمكن الاستفادة منه في دراسة هذه اللهجات، من مثل تفسير بعض غريب المعاجم الذي لا يزال حياً مستعملاً في اللهجات، ومن مثل الاستعانة بجمع هذه اللهجات على تأليف كتب مدرسية ميسَّرة تعتمد على ما يصحُّ في معاجم اللغة من هذه اللهجات في كل بلد من بلاد العرب، ليكون الكتاب المدرسي مألوفاً غير بعيد عما ألِفَه الطالب المبتدىء من لهجة قومه.

ورداً على هذه المزاعم يقول كاتب هذه السطور:

1 -

جمع لهجات القبائل كان ضمن جمع شامل للغة لم يفرق فيه اللغويون بين لهجة ولهجة، خدمة للقرآن الكريم وللحديث الشريف، عسى أن تكون كلمة من لغة هذه القبيلة أو تلك نافعة في تفسير هذه الآية أوذلك الحديث. وقد عدّ أصحاب اللغة هذه اللهجات على اختلافها فصيحة صحيحة، مع التسليم بفضل بعضها على بعض، واعتبار ما جاء منها في القرآن الكريم أو الحديث الشريف أفصح.

ثم إنهم توقفوا عن الجمع بانتهاء القرن الثالث أو بعده بقليل، وكف جامعو اللغة عن الجمع بعد أن اختلطت الألسن بفعل الهجرة والتغلغل الحضاري. واعتمدت الأجيال التالية من واضعي المعاجم اللغوية على النقل

ص: 207

مما جمعه هؤلاء الرواة الأولون. وإذا كان الجمع قد توقف منذ ألف عام أو يزيد، فأي حاجة جدّت الآن تدعو إلى استئنافه؟ وإذا صح - جدلاً - أن جمع اللهجات في قبائل جزيرة العرب البدوية يجري اليوم لخدمة الفصحى ومعاجمها، فكيف نفسر جمع اللهجات في سائر البلاد العربية الأخرى واستنباطَ قواعد لها؟ ولأي شيء تُستنبط هذه القواعد؟

2 -

الكتب التي أشارت إلى اللهجات فيما أُلف بعد ذلك كلُّها في تصويب أخطاء العامة. فالغرض منها هو إصلاح هذه الأخطاء لا جمعها وتدوينها.

3 -

ما يوافق الغريب والمستهجن من اللهجات المحلية في المعاجم اللغوية قد تخطاه الأدب وأهمله ولا داعي لبعثه أو إحيائه. فقد أصبح المستعمل موضع إجماع العرب والمسلمين. وبعث الغريب والمستهجَن هو محاولةٌ لرد الناس إلى الفرقة القبلية التي سبقت اجتماع العرب على هذه اللغة الموحدة التي نزل بها القرآن الكريم، والتي يمثلها الشعر الجاهلي في آخر حلقاته السابقة على نزوله.

4 -

وضع كتب دراسية تتقيد باستعمال ما صحَّ في معاجم اللغة من عاميات البلاد والأقاليم العربية هو الخطوة الأولى في خلق معاجم محلية متعددة: مصرية وشامية وعراقية وسودانية.

وقد ذكر بعض الذين أثاروا هذا الحديث أنهم قد مارسوا استعمال هذه اللغة في الكتب المدرسية السودانية. ومن المعروف أنها مورست بعضَ الوقت في مصر أيضاً، في الكتب التي ألفها (القوصي والعريان) ثم عُدِل عنها لفشلها. وقد عرض مندوب تونس في مؤتمر مجامع اللغة العربية بدمشق سنة (1956) هذا الاقتراح ولم يؤخذ به، وفي الصفحة 139 وما بعدها نقد تفصيلي لما دار في هذا المؤتمر.

وزعم الداعون لإِنشاء هذه الدراسات في قسم اللغة العربية أن (الآداب الشعبية) المكتوبة باللهجات التي يدعون إلى دراستها ووضع قواعد

ص: 208

لها تشتمل على مضامين فكرية تستحق الدراسة، ففيها صور صادقة من حياة الشعوب وأحاسيسهم بكل ما تموج به من آمال وآلام.

وذلك شيء غير منكور، ولكنَّ مِن الواضح أن قسم اللغة العربية لا يدرس من المضامين الفكرية والأدبية إلَّا ما صيغ باللغة العربية الفصحى. وكل ما صيغ من المضامين بغير هذه اللغة ليس من شأنه أن يدرسه. فالمضامين الفكرية والأدبية المكتوبة باللغة الإِنجليزية من شأن قسم اللغة الإِنجليزية، والمكتوبة بالفرنسية من شأن قسم اللغة الفرنسية، والمكتوبة باللاتينية واليونانية من شأن قسم اللغات القديمة، والمكتوبة بالفارسية أو الأُردية من شأن قسم اللغات الشرقية. فإِنْ رأت الجامعة أن تنشىء قسمًا للهجات العامية كانت هذه (الآداب الشعبية) من بين شؤونه أو شجونه. على أنه يتحتم على الجامعة قبل أن تنشىء قسمًا كهذا - إنْ رأت إنشاءه - أن تسأل نفسها: لأي شيء يصلح المتخرجون فيه؟ ولأي الوظائف يؤهلون؟

ذلك شيء واضح إذا لم تكن هناك سوء نية في مزاحمة ساعات الدراسة المخصصة للغة العربية وقواعدها وآدابها. والمكانُ الطبيعي للاستفادة من هذه المضامين واستنباط دلالاتها الاجتماعية - إنْ صحت النية - هو أقسام الدراسات الاجتماعية.

ولنكن صرحاء - آخر الأمر - مع أنفسنا. من أين جاءتنا هذه الدراسات؟ وكيف نشأت؟ هل نشأت لحاجةٍ نبعت من واقعنا؟ من الواضح أن هذه الدراسات بدأت باقتراح أجهزة الاستعمار والتبشير. ومن الواضح أن الدعاة الأولين من العرب تأثروا بدعايات هذه الأجهزة أو عملوا لمصلحتها. وبعضهم من غير المسلمين الذين لا يرون للغة العربية قداسة أوحرمة. وكانت هذه الدعوات كلها خارج نطاق المعاهد الدراسية والجامعات، لا تتجاوز معارك صحفية بين قلة من الداعين إلى هذه الدراسات وكثرة من الردود التي تسفههم وتسخف دعوتهم. ثم دخلت الدعوة بعد الحرب العالمية الثانية إلى المعاهد العليا والجامعات. كيف دخلت؟

ص: 209

أرسل إبراهيم مصطفى (1) حين كان رئيساً لقسم اللغة العربية بجامعة الإِسكندرية بعثتين إلى إنجلترا لدراسة اللهجات واللغويات على طريقة الغربيين. ثم توسع في هذا الاتجاه حين أصبح عميداً "لدار العلوم" في أواخر الأربعينيات من هذا القرن الميلادي، فأرسل عدداً ضخمًا من البعثات في هذا التخصص. وعاد هؤلاء وكل بضاعتهم التي لا يحسنون سواها هي دراسة اللهجات، ليدرِّسوها في كلية "دار العلوم"، وليوجهوا بعض المتخرجين للتخصص فيها في دراساتهم العليا للماجيستير والدكتوراه. نقطةُ البدء غلطة وخطأ في التوجيه، فهل يظل هذا الخطأ يلد أخطاءاً إلى الأبد؟ أم نضع له حداً حين نكتشفه، ونقطع تسلسله؟ ونقول للذين وقعوا فيه: صححوا مساركم، وليكن الله في عونكم؟

وسارت دراسات (الأدب الشعبي) مُواكِبةً لهذا الاتجاه في الوقت نفسه في كليات الآداب، وفي (دار العلوم) بعد أن أنشىء كرسي أستاذية للأدب الشعبي في كلية الآداب بجامعة القاهرة، سبقه إنشاء كرسي لما سمي "الأدب المصري" كان أمين الخولي أول من شغله.

وزعم المخدوعون والمفسدون أن القصد من دراسة اللهجات ليس هو دراسةَ لهجة بعينها في هذه القرية من بلاد العرب أو تلك، كما يبدو من موضوعات البحوث التي حصل بها المبعوثون على (الماجيستير) أو (الدكتوراه)، ولكن القصد هو تعلم "المنهج". فلأي غرض نريد أن نتعلم "منهجاً" في دراسة لهجات العرب العامية ونضع قواعد لها؟ إذا لم يكن ذلك تمهيداً لِإكسابها شيئاً من الاحترام، يرفع قدرها عند عامة الناس، تمهيداً لاتخاذها لغة للأدب والتدوين، أو تطعيم العربية الفصحى بها على أقل تقدير، للوصول إلى ما يسميه بعضهم (باللغة الثالثة) أو (اللغة الوسط)، وهو ما لا يقل خطورة عن استبدال العامية بالفصحى، لأنه بدء طريق يؤدي إلى النتيجة نفسها.

(1) هو صاحب كتاب "إحياء النحو" واحد مؤلفي الكتب المدرسية التي طبقت منهجه في هذا الكتاب. وقد فُرضت هذه الكتب بضع سنين على الطلبة في مختلف المراحل الدراسية، ثم ألغيت بعد ثبوت فسادها.

ص: 210

وزعموا أن "المنهج" لا يفيد في دراسة اللهجات العامية وحدها، فهو (منهج لغوي) يصلح لأن يطبق على أي لغة وعلى اللغة العربية الفصحى نفسها. فلأي شيءٍ نستورد "منهجاً" غريباً في دراسة اللغة، ولنا منهجنا الخاص الأصيل الذي أثبت ألف عام أو يزيد صلاحيته؟ فقد صان اللغة - بحمد الله - ولا يزال. وواجه احتياجاتها وما جد من شؤونها طوال هذه القرون فاضطلع بها، ولم يَعْيَ ولم يضق بضبط تطوراتها وتوسعاتها العلمية والحضارية، من بغداد شرقاً إلى أقصى بلاد المغرب والأندلس غرباً. وإذا استحدثنا مناهج جديدة ومصطلحات جديدة، فقد حكمنا بالاعدام على تراثنا، لا على تراثنا النحوي والصرفي واللغوي وحده، بل على التراث كله، الذي يستعمل هذه المصطلحات في تفسير القرآن، وفي شروح الحديث، وفي شروح دواوين الشعر ومختاراته. وهو تراث سوف يتمسك به المسلمون من غير العرب، وينفرد بغيره العرب، إن اتفقوا على ذلك المنهج الجديد.

وقالوا إن العلم يُقصَد لذاته، وللذة المعرفة وحدها. فلذة المعرفة هدف مقصود لذاته. وهذا تصور للمعرفة غير إسلامي. فصناعة الخمور معرفة، بل باب واسع لعارف متعددة، فهل ينفق مسلم وقته ويبدده فيه؟ والسحر علم، والمسلمون مَنهيّون عن السعي لمعرفته أو ممارسته. والرقص الزوجي الذي يقترن فيه الرجال بالنساء باب من أبواب المعرفة التي تمُنَحْ فيها الآن درجات جامعية في الغرب، فهل يسعى مسلم لمعرفته؟ و"تحضير الأرواح" باب للمعرفة يمارَس في بعض الجامعات الغربية، فهل يسعى مسلم إليه؟ .. هذا لون من الترف الذي تنتهي به حياة الأمم. فالترف الفكري كالترف المادي سواء بسواء. كلها إفناء للعمر في عبث يضر ولا يفيد، ويُبعِد عن الطريق ولا يُدِني منه. فلنضع السؤال الصريح القاطع إذن دون لفٍّ أو دوران، ففيه فصل الخطاب: هل نريد أن نظل مسلمين تحكُمنا أصول الاسلام، ونراقب وجوه النفع والضرر من وجهة نظر إسلامية؟ أم أننا نخدع أنفسنا وننافق الناس؟ وحقيقة الأمر أننا نضيق بقيود الإِسلام، ونريد أن ننطلق من كل قيد، ونريد أن نحيا يومنا وليكن ما يكون في الغد القريب أو البعيد؟ وليتنا نعرف أننا لا نخرق الناموس، ولا نهرب من حكم الله، وأن الذي يرفض أن يعمل لأمّته حرًّا

ص: 211

مأجوراً عند الله والناس، يضطر في آخر المطاف أن يعمل لعدوه مستعبداً بدون أجر.

الأمر واضح بيِّن، فإذا لم يكن الضرر محققاً في نظر أصحاب هذه الدعوات، فليكن "ضرراً محتملاً" ولنغلق بابه سداً للذرائع.

هذا عن القضية الأولى، أما القضية الأخرى المتعلقة بإنشاء قسم متخصص في "الدراسات الإِسلامية" بجامعة الرياض، فوجه الضرر والخطر فيها أدق وأخفى.

"الدراسات الإِسلامية" تسمية أوروبية، فهي ترجمة حرفية للأقسام التي أنشأتها الجامعات الأوربية لتضم دراسات تتعلق بالمسلمين في تاريخهم وآدابهم ومجتمعاتهم، بكل ما تتسع له هذه الكلمة من معاني الدين والعلوم والفنون والعادات والتقاليد والبيئة. هذه الدراسات التي يطلقون عليها (Islamic Studies) يُقصد بها خدمة المصالح الاستعمارية في تعاملها مع البلاد الإِسلامية والمساعدة على التخطيط لها. أما نحن فغرضنا من هذه الدراسات مختلف تماماً. هذه الدراسات عندنا لها طابع إسلامي وقومي، إنها تتصل بتراثنا الذي هو جزء من شخصيتنا، بل هو قِوام هذه الشخصية. ولذلك فهي لا تكوِّن تخصصاً مستقلاً، ولكنها موزعة في أقسام الدراسات المختلفة من عربية وجغرافية وتاريخية وفلسفية واجتماعية، بل رياضية وكيميائية وهندسية وطبية، لأننا لا نتصور في بلدٍ مسلمٍ عربي أن تقوم دراسة من هذه الدراسات في قسم من الأقسام دون أن يكونَ للجانب الإِسلامي وتاريخه منها نصيب واف. والمهم في هذه الدراسات أن لا ينسى القائمون عليها أنهم مسلمون وأنهم عرب، فلا تجري - كما يحدث في كثير من الأحيان - على الأنماط الغربية التي تمثلها بحوث المستشرقين. فيجب أن يكون هناك فرق واضح بين ما يكتبه المسلم والعربي حين يتكلم عن التراث الإِسلامي، وبين ما يكتبه غير المسلم وغير العربي حين يكتب عنه. و"الموضوعية" التي يُكثر الجامعيون من الكلام عنها ليست إلا حيلة خبيثة لسلخنا من إسلامنا وعروبتنا باسم العلم. تلك هي الموضوعية التي تصوِّرها كلمة طه حسين المشهورة في كتابه عن الشعر

ص: 212

الجاهلي حيث يقول "يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به". إن كل ما ئكتب عن إسلامنا وعروبتنا ينبغي أن يكون وسيلة لتعميق صفتنا الإِسلامية، ولا خير فيه إن لم يؤد إلى هذه النتيجة.

والدراسات الإِسلامية بهذا المعنى موجودة في كلية الآداب، وينبغي أن يستكمل ما فيها من النقص حيثما كان. ولكن ينبغي أن لا نخلط بينها وبين "العلوم الإِسلامية". فالعلوم الإِسلامية هي علوم التفسير والحديث والفقه وما يتصل بها من دراسات مكمِّلة لها ومُعينة عليها. وهذه العلوم لها مكانها الطبيعي في المعاهد الإِسلامية المخصصة لهذه الدراسات، تحيطها ضمانات تصونها من الانحراف وتمنع الانحراف أن يتسرب إليها إن شاء الله.

ولكن الخلط بين (الدراسات الإِسلامية) و (العلوم الإِسلامية) قد وقع في أذهان الناس منذ أخذ الاستعباد الإِمبريالي المسمَّى بالاستعمار يخطط لاستبعاد (الأزهر) والمتخرجين فيه من مجالات العمل والأنشطة العامة للدولة، لكي يحصرهم في المساجد، بعد أن فشل في تطوير العلوم الشرعية فيه. وكان من بين وسائله للوصول إلى هذا الهدف إنشاء مدرسة (دار العلوم) ومدرسة (القضاء الشرعي) لتقوم فيهما دراسات إسلامية متطورة تساير الحضارة الغربية، وتستأثر بوظائف التدريس والقضاء التي كانت من نصيب التخرجين في الأزهر. وعاشت (دار العلوم) وماتت (مدرسة القضاء الشرعي) بعد أن استنفذت أغراضها بدخول التطوير إلى برامج الدراسة في الأزهر نفسه.

ثم كانت الخطوة التالية حين دعا طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" سنة (1936) إلى إنشاء لونين من الدراسة في كلية الآداب، وسعى عند المسئولين في وضع اقتراحه موضع التنفيذ فلم يحالفه النجاح في أيهما. أما أحد المشروعين، فهو يدعو إلى إنشاء معهد للأصوات لدراسة اللهجات قديمها وحديثها. وقد عارض وكيل وزارة المالية الذي كان ممثلاً للدولة في مجلس الجامعة وقتذاك في منحه ما يحتاج إليه من مال، لأنه لم يستطع - على رواية المؤلف - أن يفهم قيمة هذا المعهد وحاجة المتعلمين إليه. أما المشروع الآخر،

ص: 213

فقد كان يدعو إلى إنشاء معهد للدراسات الإِسلامية يلحق بكلية الآداب. ومهمة هذا المعهد كما يصورها طه حسين هي العناية بالدراسة الإِسلامية (على نحو علمي صحيح). والمسوِّغ لإِنشائه عنده هو أن (كلية الآداب متصلة بالحياة العملية الأوربية. وهي تعرف جهود المستشرقين في الدراسات الإِسلامية. ومن الحق عليها أن تأخذ بنصيبها في هذه الدراسات لتلائم بين جهود مصر التي ترى لنفسها زعامة البلاد الإِسلامية، وبين جهود الأمم الأوربية - الفقرة 49 ص 34 من طبعة المعارف سنة 1944 م).

ومضى على هذين الشروعين الفاشلين زمن طويل. ثم دارت الأيام دورتها وظهر المشروعان من جديد حين تقدم أحد أساتذة جامعة الاسكندرية باقتراح إنشاء شعبة (للدراسات العربية الحديثة) وبإنشاء (قسم أو شعبة للدراسات الإِسلامية في كل كلية للآداب بالجامعات المصرية). وقد صدر بالاقتراح الأول مرسوم جمهوري سنة 1955 ولكنه ظل حبراً على ورق لم يأخذ طريقه للتنفيذ إلى أن أعان الله على إلغائه. أما الاقتراح الثاني الذي تقدم به صاحبه سنة (1957) فقد بناه على أن الركن الأكبر من نجاح التربية الدينية (هو المعلم الذي ينبغي أن يعاد النظر في تكوينه وإعداده وأن يُرسَم لذلك منهج جديد يحقق له عمق الثقافة وحرية الفكر). وبناه كذلك على أن (قيام مصر بنصيبها في تقدم الإِنسانية وفي حل مشكلات الحياة المعاصرة يتطلب من المصريين تعمقاً في دراسة دينهم، وتَبَيُّنِ موقفه من مختلف المذاهب والاتجاهات التي يجيء بها التطور الاجتماعي والفكري). واقترح فيما اقترحه من الدراسات في هذا القسم دراسة (سيكولوجية الدين) و (التاريخ المديني والفكري للبشرية قبل الإِسلام) وإما كان لمصر وعلمائها بين الأمم الإِسلامية من آثار علمية خالدة) و (النظم الدينية والأخلاقية المقارنة).

فالدراسة المقترحة تقوم على أساسين: أولهما إستبعاد الأزهر أو المعاهد الدينية من القيام بوظيفة تعليم الدين، لأن مناهجه لا تحقق للدارسين فيه (عمق الثقافة وحرية الفكر). وثانيهما هو الصبغة المصرية التي تبرز في الإِشارة إلى مهمة مصر القيادية في حل مشكلات الحياة المعاصرة ومسايرة التطور الاجتماعي، وهو تطور غربي بالبداهة. كما تَبْرُزُ في إمداد الدارس بما يقوِّي

ص: 214

فيه الاعتزاز بفقهاء الإِسلام وعلمائه من المصريين بخاصة، مما يوجد لوناً من الشعوبية الإِسلامية يشبه الشعوبية السياسية.

ومن صنيع الله للإِسلام أن هذا الاقتراح لم يجد طريقه إلى النجاح أيضاً. ولكن هذا. الاقتراح واقتراح طه حسين السابق يصوران اتجاه الفكر الجامعي في الدراسات الإِسلامية. فالأصل الذي تجري عليه الدراسات الجامعية على وجه العموم في بلاد المسلمين الآن - لسوء الحظ - أنها غير ملتزمة إسلامياً إذا لم نقل إنها لِبْرالية علمانية.

لذلك يجب أن تُتْرك هذه الدراسات حيث هي محوطة بالضمانات التي تحفظها من الانحراف. ومهما تَبْدُ هذه الدراسات الآن سليمة في الجامعة، فليس هناك ما يضمن سلامتها وعدم انحرافها فيما يطرأ من تطورات وتطويرات. ولست أنكر أن بعض الذين يفكرون في إنشاء شعبة أو قسم للدراسات الإِسلامية في كليات الآداب يَصدُرون عن غيرة دينية محمودة، ولكنهم لا يتنبهون إلى بعض الآثار الخطيرة التي تترتب على المشروع.

فدراسة العلوم الإِسلامية تقوم على أوليات لا بد من تحصيلها: حفظِ القرآن وإتقان تفسيره وكلِّ ما يتعلق به من أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والعام والخاص، ودراسةِ الفقه في أقسامه المختلفة وأبوابه المتعددة ومسائله المتشعبة، في العقائد والعبادات والمعاملات. وبدون تحصيل هذه الأسس الأولية لا يمكن أن نبني دراسات إسلامية صحيحة. فالدراسات الإِسلامية التي تُبنىَ على غير هذه الأسس ستكون حتمًا دراسة متحررة، لأن صاحبها - وهو يزعم أنه متخصص في الدراسات الإِسلامية - سيفتي بعقله الحر من عند نفسه إذا استُفتي في شأن من الشؤون الإِسلامية التي لم يسبق له دراستها، أو التي درسها دراسة منحرفة أو ناقصة غير سوية.

فإذا جازفنا بإنشاء مثل هذه الدراسة، وألحقناها بكلية الآداب، أو بمعهد من المعاهد في إحدى الجامعات المنشأة على النمط الغربي، فيجب أن لا يغيب عن بالنا الملاحظات الآتية:

ص: 215

1 -

الأصل في الدراسة الجامعية في هذه الكليات والمعاهد أنها دراسة متحررة لا تتقيد بالدين، أيَّ دين، أو كذلك تبدو الدراسة الجامعية في المقاييس الأوربية التي نقتبس منها ونأخذ عنها. والمثال قائم ومشاهد فيما نريد أن نأخذ به في أقسام اللغة العربية من تطوير للدراسات اللغوية في ضوء الأساليب الغربية. وهو قائم في المشروعين اللذين قُدِّما في هذا الشأن، واللذين أشرت إليهما منذ قليل.

2 -

لا مسوِّغ للازدواجية، طالما أن هناك معاهد متخصصة في هذه العلوم والدراسات لا نفكر في إلغائها أو الاستغناء عنها إلا إذا كان صنيعُنا من باب الاحتيال في التضييق عليها. والأفضل أن نستكمل ما فيها من نقص إن وُجد.

3 -

إذا لم تكن هذه الدراسة في كلية الآداب والتربية منافسة لنظيرتها في الجامعات والمعاهد الدينية المنشأة أصلاً لهذا الغرض، فما هو الهدف منها؟ وما الذي نتصوره لمستقبل المتخرجين فيها؟

- إذا كان المقصود هو تعميمَ الثقافة الإِسلامية والتنبيه إلى ما يسوق الاستعمار والصهيونية والتبشير من دعاوى تستهدف الكيد للإِسلام والمسلمين، فالطريق السليم لذلك هو أن تعمَّم هذه الدراسة في شكل (مقرر دراسي ثابت) في كليات الآداب بل في كليات الجامعة على اختلاف تخصصاتها. فالطبيب والمهندس والمشتغل بالعلوم الطبية والكيميائية لا يستغني عن أن نزوده بما يحصِّنه ضد هذه الأوبئة. وهذا عمل سليم نافع، ومهمة ضخمة تستغرق نشاط (قسم الدراسات الإِسلامية) في كلية التربية.

- المتخرجون في هذا القسم إذا عملوا في الميدان الذي يعمل فيه المتخرجون في المعاهد الدينية، فسينشأ عن ذلك صراع وصدام بين الفريقين، نتيجة لاختلاف أسلوب التحصيل بينهما، ونتيجة لا قد يتورط فيه خريجو هذا القسم من الإِفتاء فيما لا يعلمون، لأن تحصيلهم في الواقع يتعلق بقضايا فكرية عامة، ولا يتعلق بالعلوم الشرعية. والذي يحصلونه منها قد يغري بالتصدي للإِفتاء، ولكنه لا يكفي ولا يصلح ولا يُعِد هذا الغرض.

ص: 216

وقد كان لنا في الجامعات المصرية تجربتان مريرتان: إحداهما عن بحث تقدم به صاحبه للحصول - على درجة الماجيستير من كلية الآداب في جامعة القاهرة موضوعه "القصص القرآني". وقد أثار ضجة انتهت برفضه واعتباره غير صالح للمناقشة. والتجربة الأخرى كانت في بحث تقدمت به صاحبته للحصول على الماجيستير من جامعة الاسكندرية في موضوع (دراسة في أصوات المدَّ في التجويد القرآني). وقد أثار كسابقه ضجة انتهت بحجب الدرجة التي مَنَحتها لجنة المناقشة للطالبة بعد مناقشتها، وحرمانها منها. ولا أريد أن أطيل بذكر تفاصيل هذا الموضوع فقد أثبتها في كتابي "حصوننا مهددة من داخلها".

وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا به

ص: 217