المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن - حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة - جـ ١

[محمد بن خليفة التميمي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباع سنته

- ‌الفصل الأول: وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: تعريف الإيمان وبيان معنى شهادة أن محمدا رسول الله

- ‌المطلب الأول: تعريف الإيمان عموما

- ‌المطلب الثاني: تعريف الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: معنى شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الرابع: نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: وجوب الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: معنى النبوة والرسالة

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من القرآن والسنة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثالث: وجوب الإيمان بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن على عموم رسالته

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على عموم رسالته

- ‌المطلب الثالث: دليل الإجماع على عموم رسالته

- ‌المبحث الرابع: وجوب الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين

- ‌المطلب الأول: معنى ختم النبوة

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من القرآن الكريم على ختم النبوة

- ‌المطلب الثالث: الأدلة من السنة على ختم النبوة:

- ‌المطلب الرابع: ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم في تأكيد عقيدة ختم النبوة

- ‌المطلب الخامس: إجماع الأمة

- ‌‌‌المبحث الخامس: وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها

- ‌المبحث الخامس: وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها

- ‌المبحث السادس: وجوب الإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: تعريف العصمة

- ‌المطلب الثاني: الجوانب التي عصم فيها النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: مسألة وقوع الخطأ منه

- ‌الفصل الثاني: وجوب طاعته ولزوم سنته والمحافظة عليها

- ‌المبحث الأول: الأدلة على وجوب طاعته

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: دليل الإجماع على وجوب طاعته

- ‌المبحث الثاني: منهج السلف في اتباعه وطاعته

- ‌المطلب الأول: منهجهم في الاتباع

- ‌المطلب الثاني: محاربة السلف لما يناقض الاتباع

- ‌المبحث الثالث: التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم على التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه:

- ‌الباب الثاني: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الأول: بيان المعنى الصحيح لمحبته والأدلة على وجوبها

- ‌المبحث الأول: المعنى الصحيح لمحبته

- ‌المطلب الأول: تعريف المحبة

- ‌المطلب الثاني: أقسام المحبة:

- ‌المطلب الثالث: حقيقة المحبة الشرعية:

- ‌المطلب الرابع: المعنى الصحيح لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وانقسام الناس فيها:

- ‌المبحث الثاني: الأدلة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: ما جاء عن الصحابة في شأن محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثاني: علامات محبته صلى الله عليه وسلم والثواب المترتب عليها

- ‌المبحث الأول: علامات محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: من علامات محبته اتباعه والأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثاني: من علامات محبته الإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم تمني رؤيته والشوق إلى لقائه

- ‌المطلب الرابع: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين عامتهم

- ‌المطلب الخامس: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن الكريم

- ‌المطلب السادس: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم محبة من أحبهم النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب السابع: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم بغض من أبغض الله ورسوله

- ‌المطلب الثامن: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم الزهد في الدنيا

- ‌المطلب التاسع: التحذير من علامات المحبة البدعية

- ‌المبحث الثاني: ثواب محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: ثمار المحبة في الحياة الدنيا

- ‌المطلب الثاني: ثواب المحبة في الآخرة

الفصل: ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن

‌الفصل الثاني: وجوب طاعته ولزوم سنته والمحافظة عليها

‌المبحث الأول: الأدلة على وجوب طاعته

‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن

تمهيد

ا"فرض الله على جميع الخلق الإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه وإيجاب ما أوجبه وتحريم ما حرمه وشرع ما شرعه. وبه فرق الله بين الهدى، والضلال، والرشاد، والغي، والحق، والباطل، والمعروف، والمنكر. وهو الذي شهد الله له بأنه يدعو إليه بإذنه، ويهدي إلى صراط مستقيم وأنه على صراط مستقيم. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} 1.

وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2.

وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3 وهو الذي جعل الرب طاعته طاعة له في مثل قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 4.

وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 5.

وهو الذي لا سبيل لأحد إلى النجاة إلا بطاعته، ولا يسأل الناس يوم القيامة إلا عن الإيمان به واتباعه وطاعته، وبه يمتحنون في القبور، قال تعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} 6.

1 الآيتان (45، 46) من سورة الأحزاب.

2 الآية (52) من سورة الشورى.

3 الآية (43) من سورة الزخرف.

4 الآية (80) من سورة النساء.

5 الآية (64) من سورة النساء.

6 الآية (6) من سورة الاعراف.

ص: 163

وهو الذي أخذ الله له الميثاق على النبيين وأمرهم أن يأخذوا على أممهم الميثاق أنه إذا جاءهم أن يؤمنوا به ويصدقوه وينصروه.

وهو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار، فمن آمن به وأطاعه كان من أهل الجنة ومن كذبه وعصاه كان من أهل النار.

قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1.

والوعد بسعادة الدنيا والآخرة والوعيد بشقاء الدنيا والآخرة معلق بطاعته. فطاعته هي الصراط المستقيم وهي حبل الله المتين، وهي العروة الوثقى وأصحابها هم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون. والمخالفون له هم أعداء الله حزب إبليس اللعين.

قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} 2.

وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} 3.

وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ

1 الآيات (13، 14) من سورة النساء.

2 الآيات (27، 28، 29) من سورة الفرقان.

3 الآيات (66، 67، 68) من سورة الاحزاب.

ص: 164

الْكَافِرِينَ} 1

وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2.

وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3.

وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} 4.

وجميع الرسل أخبروا أن الله أمر بطاعتهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه} 5.

فهم يأمرون بعبادة الله وحده وخشيته وحده وتقواه وحده، وبأمرون بطاعتهم كما قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 6.

وقال نوح عليه السلام: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 7.

وقال في سورة الشعراء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 8.

1 الآية (32) من سورة آل عمران.

2 الآية (65) من سورة النساء.

3 الآية (63) من سورة النور.

4 الآية (69) من سورة النساء.

5 الآية (64) من سورة النساء.

6 الآية (52) من سورة النور.

7 الآية (3) من سورة نوح.

8 الآية (108) من سورة الشعراء.

ص: 165

وكذلك قال هود وصالح وشعيب ولوط1.

والناس محتاجون إلى الإيمان بالرسول وطاعته في كل مكان، وزمان، ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، سرا وعلانية، جماعة وفرادى، وهم أحوج إلى ذلك من الطعام والشراب بل من النفس، فإنهم متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذب بالرسول وتولى عن طاعته كما قال تعالى:{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى، لَا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 2 أي كذب به وتولى عن طاعته كما قال في موضع آخر: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 3. وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} 4. وقال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} 5. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} 6. والله تعالى قد سماه سراجا منيرا، وسمى الشمس سراجا وهاجا والناس إلى هذا السراج المنير أحوج منهم إلى السراج الوهاج، فإنهم محتاجون إليه سرا وعلانية، ليلا ونهارا، بخلاف الوهاج، وهو أنفع لهم فإنه منير ليس فيه أذى بخلاف الوهاج فإنه ينفع تارة ويضر أخرى"7.

1 انظر الآيات (126، 131، 144، 150، 163، 179) من سورة الشعراء.

2 الآية (14، 15، 16) من سورة الليل.

3 الآية (31، 32) من سورة القيامة.

4 الآية (15، 16) من سورة المزمل.

5 الآية (41) من سورة النساء.

6 الآية (42) من سورة النساء.

7 الرد على الأخنائي (ص 180- 183) .

ص: 166

ولما كانت حاجة الناس إلى الرسول بهذه الدرجة فقد أوجب الله سبحانه وتعالى على العباد طاعة الرسل واتباعهم فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1 فهذا الإلزام ناشئ من ضرورة العباد وحاجتهم للرسالة إذ لابد لهم منها، بل إن حاجتهم إليها فوق، حاجتهم إلى كل شيء، "فالرسالة ضرورية في إصلاح العباد في معاشهم ومعادهم، فكما أنه لا صلاح لهم في آخرتهم إلا باتباع الرسالة، فكذلك لاصلاح لهم في معاشهم ودنياهم إلا باتباع الرسالة.

والإنسان مضطر إلى الشرع لأنه بين حركتين: حراسة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضره.

والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، والشرع نور الله في أرضه، وعدله يين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمنا.

وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم، فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، وإنما المراد بالشرع التمييز بين الأفعال التي تنفع فاعلها والأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده، كنفع الإيمان والتوحيد والعدل والبر والتصدق والإحسان، والأمانة والعفة، والشجاعة والحلم والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق وإخلاص العمل لله والتوكل عليه، والاستعانة به والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وخشيته في

1 الآية (64) من سورة النساء.

ص: 167

الغيب والشهادة، والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، واحتساب الثواب عنده، وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به وطاعتهم في كل ما أمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته.

فلولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، ودون لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة البهائم بل أشر حالا منها.

فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأسْوَءُ حالاً من الكلب والخنزير والحيوان البهيم"1. والرسل هم وسائط يين الله وبين خلقه في أمره ونهيه وهم السفراء بينه وبين عباده، يبلغونهم شرع ربهم ويرشدونهم إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم، وقد جعلهم الله {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 2.

وقد بعث الرسل جميعا بأصول ثلاثة هي:

ا- الدعوة الى الله.

2-

إرشاد العباد وتعريفهم بالطريق الموصل إلى الله.

3-

ييان حال العباد في معادهم.

فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في

1 مجموع الفتاوى (19/ 99، 100) بتصرف.

2 الآية (165) من سورة النساء.

ص: 168

أوليائه وأعدائه وهي القصص التي قصها الله على عباده والأمثال التي ضربها لهم.

والأصل الثاني: يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله ويكرهه.

والأصل الثالث: يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار والثواب والعقاب. فعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر بل السعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل، فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة 1. ومن أجل ذلك فإن الله خص بالفلاح من اتبع رسم له ونصره فقال تعالى:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2 أي لا مفلح إلا هم، كما قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3، فخص هؤلاء بالفلاح كما خص المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم ويؤمنون بما أنزل إلى رسوله وما أنزل من قبله ويوقنون بالآخرة بالهدى والفلاح قال تعالى:{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4 فعلم بذلك أن

1 مجموع الفتاوى (19/ 96) بتصرف.

2 الآية (157) من سورة الأعراف.

3 الآية (104) من سورة آل عمران.

4 الآية (1 إلى هـ) من سورة البقرة.

ص: 169

الهدى والفلاح دائر على الرسالة وجودا وعدما.

كما جعل الله سعادة العباد ونجاتهم في يوم المعاد متعلقة بطاعته وطاعة رسوله وجعل شقاءهم وهلاكهم متعلفا بمعصيته ومعصية رسوله، قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1.

وخاتم المرسلين وسيدهم وأكرمهم على ربه- نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 2، وأرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بصيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فختم به الرسالة وهدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، فأقام بها الملة العوجاء وأوضح بها المحجة البيضاء، فبين عن طريقه صلى الله عليه وسلم الكفر من الإيمان، والربح من الخسران، والهدى من الضلال، وأهل الجنة من أهل النار، والمتقين من الفجار، فهو المبعوث رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين وحجة على الخلائق أجمعين.

وقد أوجب الله وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بحقوقه وأوصاه باتباع شرعه ونهجه والسير على هداه وجعل طريقه هي الطريق الوحيد الموصلة إليه وسد باقي الطرق فلم يفتح لأحد طريقا غير طريقه، وسمى تلك الطرق سبلا تضل عن سبيله فقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا

1 الآية (13، 14) من سورة النساء.

2 الآية (107) من سورة الانبياء.

ص: 170

صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1.

ولذلك فإن الخير كل الخير في اتباعه والاقتداء به، والشر كل الشر في مخالفته والبعدعن شرعه وماجاء به.

والأدلة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم ولزوم سنته واتباع شريعته كثيرة وهذا ما سأتطرق إليه في هذا الفصل باذن الله تعالى والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

1 الآية (153) من سورة الأنعام.

ص: 171

المطلب الأول: الأدلة من القرآن على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: "نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضغا"1.

وقال الآجري2: "فرض على الخلق طاعته صلى الله عليه وسلم في نيف وثلاثين موضعا من كتابه عز وجل"3.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن، وقرن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته، كما قرن بين اسمه واسمه، فلا يذكر الله إلا ذكر معه"4.

قلت: إن الآيات الواردة في الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه والاقتداء به جاءت في مواطن متعددة من القرآن الكريم. واتصفت تلك الآيات بتنوع أساليبها وتعدد صيغها مع اتحادها جميعها في الأمر بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته في جميع ما جاء به من شرائع وأحكام من عند الله عز وجل، وسوف أعرض لهذه الآيات بعد تقسيمها على حسب ما اتحدت به في السياق على النحو التالي:

أ- الآيات التي جاء فيها الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم ومن تلك الآيات قوله تعالى:

1 الصارم المسلول لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 56) .

2 محمد بن الحسين بن عبد الله أبو بكر الآجري، فقيه شافعي، محدث، توفي سنة 360 هـ بمكة وله مصنفات كثيرة منها: كتاب الشريعة. الأعلام (6/ 97) .

3 الشريعة (ص 49) .

4 مجموع الفتاوى (19/ 103) .

ص: 173

{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 1.

وهذه الآية ضمن سلسلة من الآيات ربطت بين طاعة الله تبارك وتعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله طاعته وطاعة رسوله شيئا واحدا، وجعل الأمر بطاعة رسوله مندرجا في الأمر بطاعته سبحانه، وفي ذلك بيان للعباد بأن طاعته سبحانه لا تتحقق إلا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن تلك الآيات الواردة بهذه الصيغة:

1-

قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 2.

2-

وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3.

3-

وقوله تعالى:. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4.

4-

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} 5.

5-

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 6.

1 الآية (80) من سورة النساء.

2 الآية (32) من سورة آل عمران.

3 الآية (132) من سورة آل عمران.

4 الآية (13) من سورة النساء.

5 الآية (20) من سورة الأنفال.

6 الآية (52) من سورة النور.

ص: 174

6-

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 1.

7-

وقوله تعالى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} 2

وفي آيات أخر يأمر الله سبحانه بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم مع إعادة الفعل، وفي ذلك إشارة إلى أن ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه وإن لم يكن مأمورا به بعينه في كلام الله الذي هو القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردة كما تجب مقرونة بأمره سبحانه، ومن هذه الآيات:

ا- قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 3.

2-

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} 4.

3-

وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 5.

4-

وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 6.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ

1 الآية (71) من سورة الأحزاب.

2 الآية (17) من سورة الفتح.

3 الآية (92) من سورة المائدة.

4 الآية (33) من سورة محمد.

5 الآية (54) من سورة النور.

6 الآية (12) من سورة التغابن.

ص: 175

مِنْكُمْ} 1.

ويقول ابن القيم2 عند هذه الآية: "أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه3. ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول، إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر منهم بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف" 4 وقال: "إنما الطاعة في المعروف" 5، وقال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"6.

1 الآية (59) من سورة النساء.

2 محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي المشهور بابن القيم، ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة، تفنن في علوم الإسلام، لازم شيخ الإسلام ابن تيمية، وله مؤلفات كثيرة في الدفاع عن العقيدة والسنة. توفي سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. طبقات المفسرين للداودي (2/ 93، 97) .

3 كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه

" الحديث. أخرجه أبو داود في سننه، كناب السنة، باب في لزوم السنة (5/ 10) ح 4604

4 أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (6/ 15)

5 أخرجه البخاري في صحيحه، كثاب أخبار الآحاد: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد. انظر: فتح الباري (13/ 233) ح 7257، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية. انظر (6/ 15) .

6 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (6/ 12) . وأخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام: باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية. فتح الباري (13/ 121، 122) ح 7144.

ص: 176

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الذين أرادوا دخول النار لما أمرهم أميرهم بدخولها: "إنهم لو دخلوها لما خرجوا منها" مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم، وظنا أن ذلك واجب عليهم، ولكن لما قصروا في الاجتهاد وبادروا إلى طاعة من أمر بمعصية الله وحملوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يرده الأمر صلى الله عليه وسلم وما قد علم من دينه إرادة خلافه، فقصروا في الاجتهاد وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غيرتثبيت وتبين هل ذلك طاعة لله ورسوله أم لا؟، فما الظن بمن أطاع غيره في صريح مخالفة ما بعث الله به رسوله"1.

وأما قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 2 فقد أخبر تعالى في هذه الآية أن الهداية في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا في غيرها، فإنه معلق بالشرط فينتفى بانتفائه، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، كما يغلط فيه كثير من الناس ويظن أنه محتاج في تقرير الدلالة منه لا تقرير كون المفهوم حجة.

بل هذا من الأحكام التي ترتبت على شروط وعلقت فلا وجود لها بدون شروطها، إذ ما علق على الشرط فهو عدم عند عدمه، وإلا لم يكن شرطا له وإذا ثبت هذا: فالآية نص في انتفاء الهداية عند عدم طاعته. وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} الفعل للمخاطبين وأصله فإن تتولوا، فحذفت

1 إعلام الموقعين (1/ 48، 49) .

2 الآية (54) من سورة النور.

ص: 177

إحدى التائين تخفيفا، والمعنى: أنه قد حمل أداء الرسالة وتبليغها، وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم.

روي عن الزهري1 أنه قال: "من الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم".

فإن تركتم أنتم ما حملتم من الإيمان والطاعة فعليكم لا عليه. فإنه لم يحمل إيمانكم وإنما حمل تبليغكم، وإنما حمل أداء الرسالة إليكم.

{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ليس عليه هداهم وتوفيقهم"2

ب- الآيات التي جاء فيها الأمر باتباعه والتأسي به والأخذ بما شرعه:

جاء الأمر من الله تبارك وتعالى باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والتأسي به في مواطن متعددة من كتابه العزيز.

أ- قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.

2-

وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 4.

3-

وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 5.

1 محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه، مات سنة 125 هـ وقيل قبل ذلك. تذكرة الحفاظ (1/ 102) .

2 الرسالة التبوكية (ص 37، 38) .

3 الآية (31) من سورة آل عمران.

4 الآية (158) من سورة الأعراف.

5 الآية (7) من سورة الحشر.

ص: 178

4-

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 1.

وهذه الآيات تضمنت توجيهات عظيمة يجب على المسلم تدبرها ففي الآية الأولى جعل الله الاتباع سبيلا إلى نيل حبه ووسيلة إلى تحقيق رضاه وحصول غفرانه، إذ باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يحصل حب الله تعالى ورضاه ومثوبته، فالخير كل الخير في اتباعه والشر كل الشر في مخالفته والابتعاد عن سنته.

فالاتباع هو دليل المحبة وبرهانها، وبتحققه تكون المحبة التي هي إحدى ثمراته كما قال تعالى:{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} كما أن من ثمراته غفران الذنوب كما جاء في هذه الآية نفسها: {ويغفر لكم ذنوبكم} .

وهذه المنزلة والمكانة لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم نابعة من كون هذا الاتباع إنما هو في الحقيقة اتباع لله، إذ الرسول إنما جاء بهذا الدين من عند الله عز وجل فهو شرع الله ودينه الذي أوحاه لرسوله صلى الله عليه وسلم ليبلغه للعباد، فالرسول إنما هو مبلغ عن الله ولم يأت بشيء من عند نفسه قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} الآية2، وقال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} الآية3.

وفى الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} جاء الأمر بالاتباع عقب الأمر بالإيمان تأكيدا على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فإن الاتباع داخل في الإيمان

1 الآية (21) من سورة الأحزاب.

2 الآية (110) من سورة الكهف، والآية (6) من سورة فصلت.

3 الآية (85) من سورة البقرة.

ص: 179

ولكن أفرد بالذكر هنا تنبيها على أهميته وعظم منزلته.

وأما قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، فهذه الآية أوجبت الاتباع المطلق للنبي صلى الله عليه وسلم، فما أمر به من شيء فإن علينا فعله وما نهى عن شيء فإن علينا تركه واجتنابه، فهو لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر.

وفى هذا الاتباع والانقياد حياتنا وفلاحنا كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 1.

فهنا أمر من الله تعالى للمؤمنين جميعا بأن يستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم عنه، ففي ذلك الحياة النافعة الطيبة وهذه الحياة إنما تحصل بالاستجابة لما جاء به الرسول أمرا ونهيا وأما من لم تحصل منه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، "إذ الحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهرا وباطنا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول"2.

ولقد أعقب هذا الأمر بالاستجابة تحذير من ترك الاستجابة له أو تثاقل وتباطء عنها فقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} والمعنى

1 الآية (24) من سورة الأنفال.

2 الفوائد لابن القيم (ص 88) بتصرف.

ص: 180

: "أنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة عقوبة لكم بعد وضوح الحق واستبانته"1.

وأما قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} فقد جعل الله تبارك وتعالى من رسوله الأسوة والقدوة ليحتذي به الخلق في أقواله وأفعاله وجميع ما جاء به صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله

"2.

ج- الآيات التي جاء فيها وجوب التسليم لحكمه والانقياد له:

قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3.

وفي هذه الآية أقسم سبحانه بأجل مقسم به - وهو نفسه عز وجل على أنه لا يثبت لهم إيمان ولا يكونون من أهله، حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النزاع وفي جميع أبواب الدين فإن لفظة "ما" من صيغ العموم. ولم يقتصر الأمر على مجرد التحاكم بل ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجا - وهو الضيق والحصر - من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالتسليم لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على قذى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لابد أن يكون أخذه بقبول

1 المصدر السابق (ص 95) .

2 تفسير ابن كثير (3/ 474) .

3 الآية (65) من سورة النساء.

ص: 181

ورضا وانشراح صدر.

ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فذكر الفعل مؤكدا بمصدره القائم ذكره مرتين، وهو التسليم والخضوع له والانقياد لما حكم به طوعا ورضا، وتسليما لا قهرا ومصابرة كما يسلم المقهور لمن قهره كرها، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبر به منها وأقدر على تخليصها، كما قال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 1.

فمتى علم العبد هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم واستسلم له، وسلم إليه انقادت له كل علة في قلبه ورأى أن لا سعادة له إلا بهذا التسليم والانقياد.

وتأمل تأكيده سبحانه لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد:

أولها: تصديرها بتضمن المقسم عليه للنفي وهو قوله {لَا يُؤْمِنُونَ} وهذا منهج معروف في كلام العرب، إذا أقسموا على شيء منفي صدروا جملة القسم بأداة نفي مثل هذه الآية.

وثانيها: تأكيده بنفس المقسم.

وثالثها: جميده بالمقسم به وهو إقسامه بنفسه لا بشيء من مخلوقاته، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة وبمخلوقاته تارة.

ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم.

وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر، وما هذا التأكيد إلا لشدة الحاجة إلى هذا

1 الآية (6) من سورة الاحزاب.

ص: 182

الأمر العظيم، وإنه مما يعتنى به ويقرر في نفوس العباد بما هو من أبلغ أنواع التقرير1.

وقال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ولهذا قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة

"2.

وهذه الآية ينبغي لكل مسلم أن يعرض نفسه عليها.

وفى هذا يقول ابن القيم: "ومتى أراد العبد أن يعلم هذا3 فلينظر في حاله ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 4.

فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص بودهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها؟ وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها؟ ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر"5.

1 الرسالة التبوكية لابن القيم (ص 25، 26) .

2 تفسير ابن كثير (1/ 520) .

3 أي قبوله لحكم الرسول والتسليم له.

4 الآية (14، 15) من سورة القيامة.

5 الرسالة التبوكية (ص 25) .

ص: 183

وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} 1.

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 2، وكلا الآيتين توجبان التسليم الكامل والانقياد التام من أهل الإيمان لما حكم به الله تعالى وحكم به رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس في ذلك اختيار، بل السمع والطاعة والقبول والتسليم بما جاء عن الله ورسوله.

ومن الملاحظ في كلا الآيتين أن الخطاب فيهما لأهل الإيمان ففي الآية الأولى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ

} .

وفي الثانية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} ، وهذا التخصيص للمؤمنين فيه من الدلالة ما فيه فاسم الإيمان يشعر بأن هذا المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نسبوا إليه ولذلك فإنه يجب على كل من يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يضع هاتين الآيتين وأمثالهما من الآيات الموجبة للامتثال لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نصب عينيه فيسمع ويطيع، ويؤمن بأنه لا اختيار له في ذلك ولا رأي، بل التسليم المطلق الذي لا يصاحبه شك ولا ارتياب.

فهذه حقيقة الإيمان ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله التي تعني طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع.

ومثل هذه الآيات هي الفاصل بين دعوى الإيمان الحقيقية التي هي للمؤمنين

1 الآية (51) من سورة النور.

2 الآية (36) من سورة الأحزاب.

ص: 184

الصادقين، وبين دعوى الإيمان الزائفة الباطلة التي هي سمة المنافقين الكاذبين المظهرين خلاف ما يبطنون.

ص: 185