المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم - حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة - جـ ١

[محمد بن خليفة التميمي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباع سنته

- ‌الفصل الأول: وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: تعريف الإيمان وبيان معنى شهادة أن محمدا رسول الله

- ‌المطلب الأول: تعريف الإيمان عموما

- ‌المطلب الثاني: تعريف الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: معنى شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الرابع: نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: وجوب الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: معنى النبوة والرسالة

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من القرآن والسنة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثالث: وجوب الإيمان بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن على عموم رسالته

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على عموم رسالته

- ‌المطلب الثالث: دليل الإجماع على عموم رسالته

- ‌المبحث الرابع: وجوب الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين

- ‌المطلب الأول: معنى ختم النبوة

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من القرآن الكريم على ختم النبوة

- ‌المطلب الثالث: الأدلة من السنة على ختم النبوة:

- ‌المطلب الرابع: ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم في تأكيد عقيدة ختم النبوة

- ‌المطلب الخامس: إجماع الأمة

- ‌‌‌المبحث الخامس: وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها

- ‌المبحث الخامس: وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها

- ‌المبحث السادس: وجوب الإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: تعريف العصمة

- ‌المطلب الثاني: الجوانب التي عصم فيها النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: مسألة وقوع الخطأ منه

- ‌الفصل الثاني: وجوب طاعته ولزوم سنته والمحافظة عليها

- ‌المبحث الأول: الأدلة على وجوب طاعته

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: دليل الإجماع على وجوب طاعته

- ‌المبحث الثاني: منهج السلف في اتباعه وطاعته

- ‌المطلب الأول: منهجهم في الاتباع

- ‌المطلب الثاني: محاربة السلف لما يناقض الاتباع

- ‌المبحث الثالث: التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم على التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه:

- ‌الباب الثاني: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الأول: بيان المعنى الصحيح لمحبته والأدلة على وجوبها

- ‌المبحث الأول: المعنى الصحيح لمحبته

- ‌المطلب الأول: تعريف المحبة

- ‌المطلب الثاني: أقسام المحبة:

- ‌المطلب الثالث: حقيقة المحبة الشرعية:

- ‌المطلب الرابع: المعنى الصحيح لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وانقسام الناس فيها:

- ‌المبحث الثاني: الأدلة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: ما جاء عن الصحابة في شأن محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثاني: علامات محبته صلى الله عليه وسلم والثواب المترتب عليها

- ‌المبحث الأول: علامات محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: من علامات محبته اتباعه والأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثاني: من علامات محبته الإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم تمني رؤيته والشوق إلى لقائه

- ‌المطلب الرابع: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين عامتهم

- ‌المطلب الخامس: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن الكريم

- ‌المطلب السادس: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم محبة من أحبهم النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب السابع: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم بغض من أبغض الله ورسوله

- ‌المطلب الثامن: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم الزهد في الدنيا

- ‌المطلب التاسع: التحذير من علامات المحبة البدعية

- ‌المبحث الثاني: ثواب محبته صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: ثمار المحبة في الحياة الدنيا

- ‌المطلب الثاني: ثواب المحبة في الآخرة

الفصل: ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم

‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم

.

حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على طاعته وامتثال أمره واتباع ما جاء به والسير على سنتة والاقتداء به في كل ما جاء به عن ربه عز وجل.

وأحاديثه صلى الله عليه وسلم في هذا المجال أعطت للأمه توجيهات عظيمة متى ما ساروا عليها وامتثلوا ما فيها واستناروا بها فقد تحققت لهم سعادة الدارين وفازوا وأفلحوا يإذن الله تعالى.

وقد امتازت الأحاديث في هذا الشأن بكثرتها وتنوع عبارتها وتعدد أساليبها واشتمال بعضها على الأمثلة التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته في هذا الشأن، ومما لا شك فيه أن هذه المميزات زادت الأمر توكيدا وتوضيحا وبيانا، بحيث إنها لم تدع مجالا لمتأول يأولها أو محرف يغير معناها بهواه ورأيه الفاسد، وهذه الأحاديث على تنوع عبارتها وتعدد أساليبها اتحدت جميعها في مضمون واحد هو التأكيد على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم واتباع ما جاء به والترغيب في ذلك إضافة إلى التحذير من مخالفته، وتحريم معصيته وبيان الوعيد الشديد في ذلك.

والخطاب في تلك الأحاديث شامل لكل من كان في عصره صلى الله عليه وسلم ومن سيأتي بعده إلى يوم القيامة.

وسأشير ههنا إلى طرف من تلك الأحاديث مع بيان ما فيها من توجيهات وإرشادات تنير الطريق للسالكين الراغبين بالفوز برضى الله وجنات النعيم.

أ- كون طاعته واتباعه صلى الله عليه وسلم سببا لدخول الجنة، ومخالفته ومعصيته سببا

ص: 186

لدخول النار.

أولا: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قالوا: يارسول الله ومن يأبى؟، قال:"من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"1.

ثانيا: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله

" الحديث2.

ثالثا: وعن أبي سعيد الخدري3 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي ييده لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى وشرد على الله كشراد 4 البعير. قال: يارسول الله ومن يأبى أن يدخل الجنة؟، قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى"5.

1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (13/ 249) ح 7285.

2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام: باب قول الله تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ، انظر: فتح الباري (13/ 111) ح 7137. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (6/ 13) .

3 سعد بن مالك بن سنان الأنصاري أبو سعيد الخدري، شهد الغزوات بعد أحد وكان من أفاضل الصحابة وحفظ حديثا كثيرا توفي سنة 74 هـ وقيل غير ذلك. الإصابة (2/ 32، 33) .

4 يقال: شرد البعير، يشرد، شُرودا، وشِرادا: إذا نفر وذهب في الأرض. النهاية (2/ 457) .

5 أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/ 153) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 80)، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وله شاهد من طريق أبي هريرة بنحوه أخرجه الحاكم في مستدركه (4/ 247) وقال صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي. وله شاهد آخر من طريق أبي أمامة بنحوه. أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 247) وقال صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي.

ص: 187

قال ابن حبان1: "طاعة الرسول هي الانقياد لسنته، مع رفض قول كل من قال شيئا في دين الله عز وجل بخلاف سنته، دون الاحتيال في دفع السنن بالتأويلات المضمحلة والخترعات الداحضة

"2

وهذه الأحاديث الثلاثة تؤكد وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثال ما جاء به وذلك بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه.

وتؤكد كذلك على أن هذه الطاعة هي مفتاح الجنة وسبيل النجاة الوحيد التي متى ما سلكها الإنسان فاز برضى الله وجنته ونجى من سخطه وعذابه. فعلى المسلم أن يسلك هذه الطريق - أي طاعة النبي صلى الله عليه وسلم – وألا يحيد عنها يمينا أو شمالا فهذه الطاعة هي صراط الله المستقيم الذي أمر الله باتباعه لقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ومن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"4.

1 محمد بن حبان بن أحمد التميمي، أبو حاتم البستي، الإمام الحافظ الثبت الحجة، كان من أوعية العلم، ولد سنة 270 هـ وتوفي سنة 354 هـ. ميزان الاعتدال (3/ 506) .

2 صحيح ابن حبان (1/ 153) .

3 الآية (153) من سورة الأنعام.

4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (1/ 50، 51) .

ص: 188

وهذه الأحاديث تبين صفة أتباع الأنبياء فهم يطيعون أنبيائهم ويأخذون بسنتهم ويأتمرون بأمرهم ولا يحيدون عن ذلك ولا يخالفونه إلى ما سواه. وأما المخالفون لهم فمنهم الذين ابتدعوا أمورا في الدين لم تشرع لهم وأخذوا يتعبدون الله بها وهم المشار إليهم بقوله: "ويفعلون مالا يؤمرون"، وأمثال هؤلاء يتحدثون عن الطاعة والاتباع ولكن بالقول دون العمل، فهم يقولون مالا يفعلون وهذا الوصف ينطبق تماما على أهل البدع المخالفين لشرع نبي هذه الأمة.

فإن الناظر في أحوال هؤلاء يجدهم متمسكين أشد التمسك بأمور ليست من سنة المصطفى ولا من هديه إذ ليس لهم عليها دليل من الكتاب أو السنة، بينما تجدهم أكثر الناس بعدا عن هدي المصطفى وما جاء به عن ربه، ومع ذلك كله فهم كثيرا ما يتحدثون عن اتباع الرسول والاقتداء به.

ولكن هذا الحديث عن السنة والاتباع لا يتجاوز ألسنتهم، فهم أبعد الناس عن ذلك فصدق على هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم:"يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون".

فانظر أخي المسلم في أحوال الصوفية وعباد القبور والأضرحة وغيرهم من أهل البدع فهل تجد أبلغ من وصفهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا: "يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون".

فالحذر كل الحذر من سبل أهل البدع والأهواء وكن على بصيرة من أمر دينك ولا تغرنك مظاهرهم وطراوة ألسنتهم فكم من إنسان خدعوه بذلك فروجوا عليه بدعتهم، ولكن أمرهم لا يروج إلا على خفافيش الأبصار وكل جاهل بسنة نبيه، من لا يفرق بين ما هو من الدين وما ليس من الدين.

ص: 189

وأما العالم بدينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المتمسك بها فهو على دراية ويقين بحال هؤلاء فلا تنطلي عليه أباطيلهم وأكاذيبهم وما يستندون إليه من المنامات التي جعلوها مصدرا للتشريع والابتداع في دين الإسلام.

وصاحب السنة يعلم كذلك عاقبة بدعهم فيطبق عليهم بذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 1.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"2.

فتلك هي النتيجة الحتمية لكل بدعة، فالله تعالى قد جعل للعمل المقبول شرطين أحدهما: الإخلاص وثانيهما: الاتباع، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 3.

فقوله {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} أي ما كان موافقا لشرع الله، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له وهذان ركنا العمل المتقبل فلابد أن يكون خالضا لله صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم"4.

ب- ضربه صلى الله عليه وسلم الأمثال في الحث على طاعته.

أولا: عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثلي ومثل ما

1 الآيتان (103، 104) من سورة الكهف.

2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح: باب إذا اصطلحوا على جور. فتح الباري (5/ 301) ح 2697، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة (5/ 132) .

3 الآية (110) من سورة الكهف.

4 تفسير ابن كثير (3/ 108) .

ص: 190

بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال: ياقوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء. فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا1 فانطلقوا على مهلهم فنجوا. وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به. ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق" 2.

ثانيا: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "جاءت الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم. وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا، قال: فاضربوا له مثلان فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس"3.

ثالثا: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلي

1 أي ساروا بالليل. النهاية (2/ 129) .

2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام: باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم، انظر: فتح الباري (13/ 250) ح 7283، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته. انظر: (7/ 63) .

3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (13/ 249) ح 7281.

ص: 191

ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يزعهن1 ويغلبنه فيقتحمن فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها" 2.

فهذه ثلاثة أحاديث اشتمل كل حديث منها على مثل معين، والأمثال كما هو معلوم توضع لتقريب المعنى وتوضيحه في ذهن السامع ليكون أسهل في فهم المعنى وأبلغ في ترسخه في ذهنه.

ففي المثل الذي جاء في الحديث الأول ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه مثلا بالنذير الذي جاء لقومه يحذرهم من أن أعداءهم في طريقهم إليهم بعد أن رأى جيشهم على مقربة منهم وطلب منهم أن ينجوا بأنفسهم قبل أن يهلكهم عدوهم ويفنيهم.

وضرب لأمته مثلا بقوم ذلك الرجل الذين انقسموا إلى قسمين فكان منهم من صدقه وأطاعه فساروا من الليل فنجوا بأنفسهم من فتك عدوهم وكان منهم من لم يصدقه فبقوا في منازلهم فصبحهم عدوهم فقضى عليهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم هو النذير لهذه الأمة كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} 3، فقد أرسله الله تعالى {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}

1 بفتح التحتانية والزاي وضم العين المهملة: أي يدفعهن. فتح الباري (13/ 318) .

2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق: باب الانتهاء عن المعاصي. انظر فتح الباري (11/ 316) خ 6483، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته

(7/ 64) .

3 الآية (49) من سورة الحج.

4 الآية (1) من سورة الفرتان.

ص: 192

لينذرهم عذاب ربهم الذي توعد به المخالفين منهم، وبين لهم شرع ربهم وما أمرهم به من قواعد وأحكام.

فمن أطاعه واتبع النور الذي جاء به والتزم شريعته فقد نجا من عذاب الله. ومن عصاه وخالفه ولم يتبع ما جاء به فقد استحق بذلك عذاب الله فله جهنم يصلاها مذموما مدحورا.

وهذا المثل يمثل جانب الإنذار والوعيد وهو جانب من جوانب الرسالة وأما الجانب الثاني وهو جانب البشارة - إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر الله عنه بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 1.

وأما جانب البشارة فهذا ما تحدث عنه الحديث الثاني وهو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه فالمثل يتحدث عن ثلاثة أمور دار ومأدبة وداعي وقد جاء تأويل هذا المثل في الحديث نفسه فالداعي هو النبي صلى الله عليه وسلم والدار هي الجنة فمن أطاعه صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به فقد أجاب الدعوة واستحق دخول الجنة والتمتع في نعيمها. وأما من عصى النبي صلى الله عليه وسلم وخالفه ولم يستجب لما جاء به فذلك الذي لم يستجب لدعوته فحرم من الدخول في الدار التي هي الجنة وحرم من الأكل من المأدبة التي هي النعيم الدائم في الجنة.

وأما الحديث الثالث: فالمثل المضروب فيه يصور مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على حماية الأمة من الوقوع فيما يسخط الرب تبارك وتعالى ويوجب عقابه وأليم عذابه، فهو صلى الله عليه وسلم الموصوف بقوله تعالى:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2.

1 الآية (28) من سورة سبأ.

2 الآية (128) من سورة التوبة.

ص: 193

والشاهد من الحديث قوله: "أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها" ومما لا شك فيه أن اقتحام الناس للنار ناتج عن مخالفتهم لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم ووقوعهم فيما نهى وحذر منه فبهذا يكون هلاكهم وعذابهم.

والمتأمل لهذه الأحاديث الثلاثة وما ضرب فيها من أمثال يدرك - إن كان له قلب وسمع سَلِيمان - ما في هذه الأحاديث من الحث على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه والأجر العظيم المترتب على ذلك، كما يدرك عظم العقوبة والخسارة المترتبة على عصيانه ومخالفته وعدم الانقياد له.

والسؤال الذي يفرض نفسه ههنا هو التالي:

هل أنت ممن أطاع البشير النذير صلى الله عليه وسلم؟

وهل أنت ممن أجاب الداعي صلى الله عليه وسلم؟

وهل أنت ممن استجاب لتحذيره صلى الله عليه وسلم فحمى نفسه من نار جهنم؟.

وقبل أن تعجل بالإجابة انظر إلى أعمالك وأقوالك هل هي وفق شريعته وما جاء به صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فههنا يكمن الجواب.

فيا سعادة من أطاعه واتبعه.

ويا خزي وندامة من خالفه وعصى أمره، والله تعالى يقول:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} 1، وقال تعالى:{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} 2.

ج- حثه صلى الله عليه وسلم لأمته على التمسك بسنته وتحذيره من مخالفتها.

1 الآية (27) من سورة الفرقان.

2 الآية (66) من سورة الأحزاب.

ص: 194

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدا.

وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.

وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"1.

وحديث أنس هذا يعد قاعدة جليلة من قواعد التأسي والاتباع وذلك لما حواه من توجيهات هامة جدا في هذا الشأن منها:

أ- أن الابتداع في الدين أمر مردود وغير مقبول بل يعد من الرغبة عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والخروج عن شريعته، ومن أجل ذلك فليس لأحد كائنا من كان سوى النبي صلى الله عليه وسلم حتى وإن كان من أصحابه - أن يشرع في هذا الدين أو يدخل فيه أمرا حتى وإن كان ذلك بدافع التقرب إلى الله. فأولئك النفر من الصحابة رضوان الله عليهم دفعهم حب التقرب إلى الله إلى أن قالوا ما قالوه من الأمور التي تعد من الرهبانية، ولما كان قولهم ذلك يعد مخالفة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحنيفية السمحة وجههم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصواب وحذرهم من أن يحيدوا

1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح: باب الترغيب في النكاح. انظر: فتح الباري (9/ 104) ح 563 واللفظ له. ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح: باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه

انظر: (4/ 128) .

ص: 195

عن سنته ويرغبوا عنها بقوله "فمن رغب عن سنتي فليس مني" والمراد أن من ترك طريقتي وأخذ طريقة غيري فليس مني.

ومن هذا الحديث يعلم أن كل أمر ليس من سنته صلى الله عليه وسلم والشرع الذي جاء به فهو أمر مبتدع مردود على صاحبه إضافة الى اعتبار فاعله راغبا عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

2-

حثه صلى الله عليه وسلم على التمسك بما هو عليه وهى الحنيفية السمحة فهذا ما دل عليه قوله: "لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء".

فالإسلام دين الفطرة ونبينا صلى الله عليه وسلم حرص بقوله هذا على سد باب التشديد المتمثل في الرهبانية فلا رهبانية في الإسلام، وفى هذا يقول صلى الله عليه وسلم:"إن الرهبانية لم تكتب علينا" 1 فعلى هذا فهي أمر مخالف لسنته وهديه صلى الله عليه وسلم. وعن العرباض بن سارية2 رضي الله عنه قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون. فقلنا: يارسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" 3.

1 أخرجه أحمد بن حنبل في المسند (6/ 226) .

2 العرباض بن سارية السلمي أبو نجيح، صحابي مشهور من أهل الصفة، مات سنة خمس وسبعين للهجرة وقيل قبل ذلك. الإصابة (2/ 466) .

3 أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 126، 127) . وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة: باب في لزوم السنة (5/ 13، 15) ح 4607، وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب العلم: باب في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (5/ 44) ح 2676 وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في سننه، في المقدمة: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/ 16) . وابن حبان في صحيحه (1/ 139) والحاكم في المستدرك (1/ 96) وصححه ووافقه الذهبي، والآجري في الشريعة (46، 47) ، والدارمي في سننه، باب اتباع السنة (1/ 44، 45) وقال الألباني: سنده صحيح، وصححه جماعة منهم الضياء المقدسي في اتباع السنن واجتناب البدع، انظر: مشكاة المصابيح (1/ 58) ح 165.

ص: 196

فوصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ولأمته من بعدهم هي أن يتمسكوا بما سنه من أحكام وتشريعات أشد التمسك وأن يحذروا الابتداع في الدين وحكم على تلك المحدثات بالضلال والانحراف عن الطريق الذي رسمه.

وقد رسم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ركيزتين أساسيتين في هذا الدين هما: 1- الاتباع، 2- ترك الابتداع.

ولقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذه الوصية النبوية وعملوا بها، فلم يحيدوا عن سنته صلى الله عليه وسلم، بل عملوا بها ونقلوها للأمة المحمدية من بعدهم كما سمعوها منه صلى الله عليه وسلم وكذلك فقد كانوا أشد الناس تمسكا بسنته، وأشدهم محاربة للابتداع، في الدين، وقد كان في هذا صلاحهم وفلاحهم ونجاتهم ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها.

ومن المؤسف أن كثيرا من المسلمين في وقتنا الحاضر قد اختلت عندهم كلا الركيزتين فتركوا الاتباع والاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبحت السنة عندهم أمرا مستغربا مستنكرا لجهلهم بها وبعدهم عنها واستبدلوا بذلك البدع التي لا أصل لها ولا دليل عليها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فاتخذوها دينا يدينون به فانعكست بذلك الموازين لديهم فأصبحوا يرون الحق باطلا والباطل حقا، والمعروف منكرا والمنكر معروفا، وما ذلك إلا لكونهم لم يعرفوا من الإسلام

ص: 197

إلا اسمه ولا من الدين إلا رسمه بسبب ما هم عليه من قلة العلم وعدم معرفتهم بالسنة.

فأين هؤلاء من وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن يتبعوا ولا يبتدعوا.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"1.

والشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيءفأتوا منه ما استطعتم ".

وهذا التوجيه النبوي الكريم مماثل لما سبق في الأحاديث السابقة من الحث على لزوم السنة والتأكيد على اتباعها والأخذ بها إلا أنه يضيف أمرا هاما وهو أن الطاعة في جانب المأمورات تجب في حدود الاستطاعة والطاقة، وهذا من اليسر الذي امتازت به الرسالة المحمدية قال تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} 2.

ففي جانب الأوامر علينا السمع والطاعة في حدود ما نطيق ونستطيع، أما في جانب النواهي فيجب التسليم المطلق دون قيد أو شرط.

فبهذه الإضافة يتحدد معلم من معالم الطاعة يجب على المسلم أن يدركه ويعي مضمونه.

1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام: باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (13/ 251) ح 7288، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج: باب فرض الحج مرة في العمر (4/ 102) .

2 الآية (286) من سورة البقرة.

ص: 198

د- بيانه لمواقف الناس من الأخذ بدعوته واتباع سنته صلى الله عليه وسلم.

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله منها الناس، فشربوا منها، وسقوا، وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله به فعَلِم وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"1.

وفى هذا الحديث قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس - فيما يتصل بدعوته - إلى ثلاثة أقسام. وشبه صلى الله عليه وسلم العلم الذي جاء به بالغيث لأن كلا منهما سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان، والعلم سبب حياة القلوب.

وشبه القلوب بالأودية كما في قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} 2.

وكما أن الأراضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث:

إحداها: أرض زكية قابلة للشراب والنبات، فإذا أصابها الغيث ارتوت، ومنه يثمر النبت من كل زوج بهيج.

فذلك مثل القلب الزكي الذكي، فهو يقبل العلم بذكائه، فيثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه، فهو قابل للعلم، مثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه.

والثانية: أرض صلبة قابلة لثبوت ما فيها وحفظه، فهذه تنفع الناس لورودها

1 تقدم تخريجه ص 45

2 الآية (17) من سورة الرعد.

ص: 199

والسقي منها والازدراع.

وهو مثل القلب الحافظ للعلم الذي يحفظه كما سمعه، فلا تصرف فيه، ولا استنبط، بل للحفظ المجرد فهو يؤدي كما سمع، وهو من القسم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غيرفقيه"1.

فالأول: كمثل الغني التاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات فهو يكسب بماله ما شاء.

والثانى: مثل الغني الذي لا خبرة له بوجوه الربح والمكسب، ولكنه حافظ لما لا يحسن التصرف والتقلب فيه.

والأرض الثالثة: أرض قاع، وهو المستوي الذي لا يقبل النبات، ولا يمسك ماء، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع منه بشيء.

فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية، وإنما هو بمنزلة الأرض البور التي لا تنبت ولا تحفظ، وهو مثل الفقير الذي لا مال له ولا يحسن يمسك مالا.

فالأول: عالم معلم، وداع إلى الله على بصيرة، فهذا من ورثة الرسل.

والثاني: حافظ مؤد لما سمعه، فهذا يحمل لغيره ما يتجر به المحمول إليه ويستثمر.

1 أخرجه ابن ماجة في السنن (2/ 188)، كتاب المناسك: باب الخطبة يوم النحر. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 87)، وقال:"وفي الباب عن جماعة من الصحابة"، وقد جمع طرق هذا الحديث الشيخ عبد المحسن العباد في كتاب سماه "دراسة حديث: نضر الله امرءا سمع مقالتي

رواية ودراية" وذكر أن الحديث صحيح وبلغ حد التواتر.

ص: 200

والثالث: لا هذا ولا هذا، فهو الذي لم يقبل هدى الله ولم يرفع به رأسا فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم.

منها قسمان: قسم سعيد، وقسم شقي"1

1 الرسالة التبوكية (ص 55، 56) .

ص: 201