الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: ما جاء عن الصحابة في شأن محبته صلى الله عليه وسلم
.
إن مما لا ريب فيه أن حظ الصحابة من حبه صلى الله عليه وسلم كان أتم وأوفر، ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة، وهم بقدره صلى الله عليه وسلم ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم فبالتالي كان حبهم له صلى الله عليه وسلم أشد وأكبر.
وإن المتأمل لما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم من كلام في هذا الخصوص يلمس صدق تلك المحبة وعظمها في نفوسهم.
فعن عمرو بن العاص1 رضي الله عنه قال: "وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه"2.
وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال:"كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ"3.
وقد سأل أبو سفيان بن حرب - وهو على الشرك حينذاك - زيد بن الدثنة4
1 هو عمرو بن العاص بن وائل القرشي السهمي أسلم قبل الفتح، أحد دهاة العرب في الإسلام، وأحد القادة الفاتحين، فتح مصر وكان أميرا عليها، توفي سنة 43 هـ. الإصابة (3/ 2- 3) .
2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجره (1/ 78) .
3 الشفا (2/ 568) .
4 زيد بن الدثنة - بفتح الدال وكسر المثلثة بعدها نون - ابن معاوية الأنصاري البياضي، شهد بدرا وأحدا، وكان في غزوة بئر معونة فأسره المشركون وقتلته قريش بالتنعيم. الإصابة (1/ 548) .
رضي الله عنه حينما أخرجه أهل مكة من الحرم ليقلتوه - وكان قد أسر يوم الرجيع -1 أنشدك الله يازيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك؟، قال:"والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي".
فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا2.
وعن الشعبي قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي ولولا أني آتيك فأراك لظننت أني سأموت وبكى الأنصاري. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبكاك؟ "، قال: ذكرت أنك ستموت ونموت فترفع مع النبيين ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك.
فلم يخبره النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 3، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" أبشر"4.
1 الرجيع: بفتح الراء وكسر الجيم هو في الأصل اسم للروث، وسمي بذلك لاستحالته، والمراد هنا: اسم موضع من بلاد هذيل كانت الوقعة بالقرب منه. فتح الباري (7/ 379) .
2 البداية لابن كثير (4/ 65) ، وأخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 326) في أمر خبيب.
3 الآيتان (9، 70) من سورة النساء.
4 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (ص 13) بتحقيق محمد بن عبد الوهاب العقيل، رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية. وأورده السيوطي في الدر المنثور وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر. انظر (2/ 182) . والحديث له شاهد آخر من حديث عائشة مرفوعا بنحوه، أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (1/ 26) . وأبو نعيم في الحلية (8/ 125)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 7) : "رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة، وله شاهد آخر من حديث ابن عباس مرفوعا بنحوه، أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 86) ح رقم 12559، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 7) وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط. وله شاهد من طريق آخر عن سعيد بن جبير مرسلا. أخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 163) . وطرق هذا الحديث يقوي بعضها بعضا. والله أعلم.
وقال سعد بن معاذ1 رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كان الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك"، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير2.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد جاض3 أهل المدينة جيضة وقالوا: قتل محمد، حتى كثرت الصوارخ4 في ناحية المدينة. فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاستقبلت5 بأبيها وابنها وزوجها وأخيها لا أدري أيهم استقبلت به أولا فلما مرت على أحدهم قالت: من هذا؟، قالوا: أبوك أخوك زوجك ابنك. تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟،
1 سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري الأشهلي، سيد الأوس، صحابي جليل، شهد بدرا، ورمي بسهم يوم الخندق فعاش بعد ذلك شهرا ثم مات، وذلك سنة خمس من الهجرة. الإصابة (2/ 35) .
2 أورده ابن هشام في السيرة (2/ 192) وعزاه لابن إسحاق، وأورده ابن كثير في البداية (3/ 268)
3 يقال: جاض في القتال: إذا فر. وجاض عن الحق: عدل.
وأصل الجيض: الميل عن الشيء، ويروى بالحاء والصاد المهملتين النهاية (1/ 324) .
4 جمع صارخ: وهو المصوت يعلمه بأمر حادث يستعين به عليه أو ينعي له ميتا. النهاية (3/ 21) .
5 أي أخبرت بمقتل أبيها، وابنها، وزوجها، وأخيها.
يقولون: أمامك حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا أبالي إذا سلمت من عطب1.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نُعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك2 جلل"3.
ولقد حكم الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسهم وأموالهم فقالوا: "هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بما شئت وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه، نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك"4.
وما هذا الإيثار الذي تضمنته هذه الكلمات إلا تعبيرا عما تكنه نفوسهم من المحبة له صلى الله عليه وسلم واسمع إلى قول قيس بن صرمة الأنصاري5 إذ يقول:
1 أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 115) وقال: رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه محمد بن شعيب ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
2 جلل: أي هينة ويسيره، والكلمة من الأضداد تكون للحقير والعظيم النهاية (1/ 289) .
3 رواه ابن هشام في السيرة (3/ 43) . وعنه أورده ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 47) وأخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 302) بنحوه.
4 روضة المحبين (ص 277) .
5 قياس بن صرمة، وقيل صرمة بن قيس، وقيل قيس بن مالك بن صرمة وقيل غير ذلك، الأوسي الأنصاري، أدرك الإسلام شيخا كبيرا فأسلم، وقد قال هذه الأبيات حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة. الإصابة (2/ 176- 177)
ثوى في قريش بضع عشرة حجة
…
يذكر لو يلقى حبيبا مؤاتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
…
فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا واتقرت به النوى
…
وأصبح مسرورا بطيبة راضيا
بذلنا له الأموال من حل مالنا
…
وأنفسنا عند الوغى والتأسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم
…
جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أن الله لا رب غيره
…
وأن رسول الله أصبح هاديا1
1 روضة المحبين (ص 277) .