الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتور الوحي ونزول سورة الضحى
انتظر هداية الوحي إيّاه في أمره وإنارة سبيله، فإذا الوحي يفتر! وإذا جبريل لا ينزل عليه، وإذا ما حوله سكينة صامتة جعلته في وحدة من الناس ومن نفسه، وردّته إلى مثل مخاوفه قبل نزول الوحي. وقد روي أن خديجة قالت له: ما أرى ربك إلا قد قلاك. وتولاه الخوف والوجل، فهما يبتعثانه من جديد يطوي الجبال وينقطع في حراء يرتفع بكل نفسه ابتغاء وجه ربّه يسأله: لم قلاه بعد أن اصطفاه؟ ولم تكن خديجة أقلّ منه إشفاقا ووجلا. ويتمنى الموت صادقا لولا أنه كان يشعر بما أمر به فيرجع إلى نفسه ثم إلى ربه ولقد قيل: إنه فكر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس. وأي خير في الحياة وهذا أكبر أمله فيها يذوي وينقضي! وإنه لكذلك تساوره هذه المخاوف إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره، ونزل عليه بقوله تعالى:(وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى. أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)«1» .
الدعوة إلى الحق وحده
يا لجلال الله! أيّة سكينة للنفس، وغبطة للقلب، وبهجة للفؤاد! انجابت مخاوف محمد وزال كل روعه، وارتسمت على ثغره ابتسامة الرضا، وافترّت شفتاه عن معاني الحمد وآي التقديس والعبادة، لم يبق لما كانت تخشى خديجة من أن الله قلاه ولم يبق لفزعه وهلعه موضع، بل تولّاه الله وتولاها برحمته، وأزال كل خشية أو ريبة من نفسه. لا انتحار إذا، ولكن حياة ودعوة إلى الله، وإلى الله وحده. إلى الله العليّ الكبير تعنو له الجباه ويسجد له من في السموات والأرض جميعا. هو وحده الحقّ وكل ما يدعون من دونه الباطل. إليه وحده يتوجّه القلب، وبه وحده يجب أن تتعلق النفس، وفيه وحده يجب أن تفنى الرّوح، وللآخرة خير لك من الأولى. الآخرة التي تحيط فيها النفس بكل الوجود في كمال وحدته، والتي يتناهى إليها المكان والزمان وتنسى فيها اعتبارات هذه الحياة الوضيعة الأولى. الآخرة التي يصير فيها الضحى ولألاء شمسه الباهرة، والليل ودجاه الساجي، والسموات والكواكب والأرض والجبال كلّا واحدا تتصل به الروح الراضية المرضية. هذه هي الحياة التي يجب أن تكون إليها الغاية من سفر هذه الحياة. هذا هو الحق وكل ما دونه صور منه لا تغني عنه.
هذا هو الحق الذي أضاء بنوره روح محمد والذي ابتعثه من جديد ليفكر في الدعوة إلى ربّه. وللدعوة إلى ربه يجب أن يطهر ثيابه، وأن يهجر المنكر، وأن يصبر على ما يلاقي من الأذى في سبيل الدعوة إلى الحق، وأن ينير للناس سبيل العلم بما لم يكونوا يعلمون، وألّا ينهر من أجل ذلك سائلا، ولا يقهر يتيما. حسبه اختيار الله إياه لكلمته فليتحدث عنها. وحسبه أن الله وجده يتيما فاواه في كفالة جدّه عبد المطلب وعمه أبي طالب؛ وأنه وجده فقيرا فأغناه بأمانته ويسّر له خديجة شريكة صباه، شريكة تحنثه، شريكة بعثه، شريكة المحبة، الناصحة الرؤف؛ وأنه وجده ضالا فهداه برسالته. حسبه هذا. وليدع إلى الحق جاهدا ما استطاع. ذلك أمر الله إلى نبيه الذي اصطفاه، وما ودّعه وما قلاه.
الصلاة
وعلّم الله نبيه الصلاة فصلّى وصلّت خديجة معه. وكان يقيم معهما غير بناتهما عليّ بن أبي طالب الذي كان صبيّا لمّا يبلغ الحلم. ذلك أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب كثير العيال. فقال محمد لعمه
(1) سورة الضحى.
العباس- وكان من أكثر بني هاشم يسارا-: «إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة: فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفلهما عنه»
…
وكفل العباس جعفرا وكفل محمد عليّا، فلم يزل معه حتى بعثه الله. وفيما محمد وخديجة يصليان يوما دخل عليهما عليّ مفاجأة، فرآهما يركعان ويسجدان ويتلوان ما تيسّر مما أوحاه الله يومئذ من القرآن. فوقف الشابّ دهشا حتى أتما صلاتهما، ثم سأل: لمن تسجدان؟ فأجابه محمد- أو كما قال-: إنما نسجد لله الذي بعثني نبيّا وأمرني أن أدعو الناس إليه. ودعا محمد ابن عمه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى دينه الذي بعث نبيّه به، وإلى إنكار الأصنام من أمثال اللات والعزّى، وتلا محمد ما تيسّر من القرآن، فأخذ عليّ عن نفسه، وسحره جمال الآيات وإعجازها واستمهل ابن عمه حتى يشاور أباه. ثم قضى ليله مضطربا، حتى إذا أصبح أعلن إليهما أنه اتبعهما من غير حاجة لرأي أبي طالب وقال:«لقد خلقني الله من غير أن يشاور أبا طالب، فما حاجتي أنا إلى مشاورته لأعبد الله» . وكذلك كان عليّ أول صبي أسلم، ومن بعده أسلم زيد بن حارثة مولى النبي. وبذلك بقي الإسلام محصورا في بيت محمد: فيه وفي زوجته وابن عمه ومولاه. وظل هو يفكر كيف يدعو قريشا إليه وهو يعلم ما هي عليه من شدة البأس وبالغ التعلق بعبادات آبائها وأصنامهم.
وكان أبو بكر بن أبي قحافة التّيمي صديقا حميما لمحمد، يستريح إليه ويعرف فيه النزاهة والأمانة والصدق. لذلك كان هو أول من دعاه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان، وأول من أفضى إليه بما رأى وبما أوحى إليه: ولم يتردد أبو بكر في إجابة محمد إلى دعوته وفي الإيمان بها. وأيّ نفس تنشرح للحق تتردد في ترك عبادة الأوثان لعبادة الله وحده؟ وأي نفس فيها شيء من السمو ترضى عن عبادة الله عبادة حجر أيّا كانت صورته؟. أو أيّ نفس تقية تتردد في طهر الثياب وطهر النفس وإعطاء السائل والبر باليتيم؟! وأذاع أبو بكر بين أصحابه إيمانه بالله وبرسوله. وكان أبو بكر رجلا وسيما «مألفا لقومه محبّبا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر. وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته» .
وجعل أبو بكر يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه، فتابعه على الإسلام عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، والزّبير بن العوام، ثم أسلم من بعد ذلك أبو عبيدة بن الجراح وكثيرون غيره من أهل مكة.
وكان أحدهم إذا أسلم ذهب إلى النبي فأعلن إليه إسلامه وتلقى عنه تعاليمه. وكان المسلمون الأولون يستخفون لعلمهم بما تضمر قريش من عداوة لكل خارج على أوثانها، فكانوا إذا أرادوا الصلاة انطلقوا إلى شعاب مكة وصلوا فيها. وظلوا على ذلك ثلاث سنوات ازداد الإسلام فيها انتشارا بين أهل مكة، ونزل على محمد فيها من الوحي ما زاد المسلمين إيمانا وتثبيتا.
وكان مثل محمد خير ما يزيد الدعوة انتشارا: كان برّا رحيما، جمّ التواضع كامل الرجولية، عذب الحديث، محبّا للعدل، يعطي كل ذي حق حقه، وينظر إلى الضعيف واليتيم وإلى البائس والمسكين نظرة كلها الأبوّة والحنان والعطف والمودّة. وكان تهجّده وسهره الليل وترتيله ما أنزل عليه ودوام نظره في السموات والأرض وإلتماس العبرة من الوجود كله وكل ما فيه، وفي توجهه الدائم لله وحده، والتماسه حياة الكون كله في أطواء نفسه ودخيلة حياته، مثلا جعل الذين آمنوا به وأسلموا له أحرص على إسلامهم وأشدّ يقينا بإيمانهم، على ما في ذلك من إنكار ما كان عليه آباؤهم واحتمال تعرّضهم لأذى المشركين ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم. آمن