الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تجري بأن محمدا ركن إلى قريش بالفعل. وأن قريشا فتنته بالفعل فقال على الله ما لم يقل. والآيات هنا تفيد أن الله ثبّته فلم يفعل. فإذا ذكرت كذلك أن كتب التفسير وأسباب النزول جعلت لهذه الآيات موضعا غير مسألة الغرانيق، رأيت أن الاحتجاج بها في مسألة تتنافى مع عصمة الرسل في تبليغ رسالاتهم، وتتنافى مع تاريخ محمد كله، احتجاج متهافت، بل احتجاج سقيم.
أما الآيات (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ
…
) فلا صلة لها بحديث الغرانيق البتة، فضلا عن ذكرها أن الله ينسخ ما يلقي الشيطان ويجعله فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، ويحكم الله آياته والله عليم حكيم.
وندع هذا إلى تمحيص القصة التمحيص العلمي الذي يثبت عدم صحتها. وأوّل ما يدل على ذلك تعدّد الروايات فيها، فقد رويت، كما سبق القول على أنها: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. ورواها بعضهم: «الغرانقة العلا إن شفاعتهم ترتجى» . وروى آخرون: «إن شفاعتهم ترتجى» دون ذكر الغرانقة أو الغرانيق. وفي رواية رابعة: «وإنها لهي الغرانيق العلا» وفي رواية خامسة: «وإنهن لهن الغرانيق العلا.
وإن شفاعتهم لهي التي ترتجى» وقد وردت في بعض كتب الحديث روايات أخرى غير هذه الروايات الخمس.
وهذا التعدّد في الروايات يدلّ على أن الحديث موضوع، وأنه من وضع الزنادقة، كما قال ابن إسحاق، وأن الغرض منه التشكيك في صدق تبليغ محمد رسالات ربه.
ودليل آخر أقوى وأقطع؛ ذلك سياق سورة النجم وعدم احتماله لمسألة الغرانيق. فالسياق يجري بقوله تعالى: (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى. إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى)«1» .
وهذا السياق صريح في أن اللّات والعزّى أسماء سمّاها المشركون هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان. فكيف يحتمل أن يجري السياق بما يأتي: «أفرأيتم اللّات والعزّى. ومناة الثالثة الآخرى. تلك الغرانيق العلا. إن شفاعتهنّ ترتجى. ألكم الذكر وله الأنثى. تلك اذا قسمة ضيزى. إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان» إن في هذا السياق من الفساد والاضطراب والتناقض، ومن مدح اللّات والعزّى ومناة الثالثة الآخرى وذمها في أربع آيات متعاقبة، ما لا يسلّم به عقل ولا يقول به إنسان، ولا تبقى معه شبهة في أن حديث الغرانيق مفترى وضعه الزنادقة لغاياتهم، وصدّقه من يسيغون كل غريب ومن تقبل عقولهم ما لا يسيغ العقل المنطقيّ.
وحجة أخرى ساقها المغفور له الأستاذ محمد عبده حين كتب يفنّد قصة الغرانيق. تلك أن وصف العرب لألهتهم بأنها الغرانيق لم يرد في نظمهم ولا في خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم. وإنما ورد الغرنوق والغرنيق على أنه اسم لطائر مائيّ أسود أو أبيض، والشابّ الأبيض الجميل. ولا شيء من ذلك يلائم معنى الآلهة أو وصفها عند العرب.
صدق محمد يأبى صحة القصة
بقيت حجة قاطعة، نسوقها للدلالة على استحالة قصة الغرانيق هذه من حياة محمد نفسه؛ فهو منذ
(1) الآيات من 18 إلى 23.
طفولته وصباه وشبابه لم يجرّب عليه الكذب قط، حتى سمي الأمين ولمّا يبلغ الخامسة والعشرين من عمره.
وكان صدقه أمرا مسلما به عند الناس جميعا، حتى لقد سأل قريشا يوما بعد بعثه:«أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدّقوني؟» فكان جوابهم: «نعم! أنت عندنا غير متّهم وما جرّبنا عليك كذبا قط» . فالرجل الذي عرف بالصدق في صلاته بالناس منذ نعومة أظفاره إلى كهلوته كيف يصدّق إنسان أنه يقول على ربّه ما لم يقل، ويخشى الناس والله أحق أن يخشاه! هذا أمر مستحيل. يدرك استحالته الذين درسوا هذه النفوس القويّة الممتازة التي تعرف الصلابة في الحق ولا تداجي فيه لأيّ اعتبار. وكيف ترى يقول محمد: لو وضعت قريش الشمس في يمينه والقمر في شماله على أن يترك هذا الأمر أو يموت دونه ما فعل، ثم يقول على الله ما لم يوح إليه، ويقوله لينقض به أساس الدّين الذي بعثه الله به هدى وبشرى للعالمين!
ومتى رجع إلى قريش ليمدح آلهتهم؟ بعد عشر سنوات أو نحوها من بعثه. وبعد أن احتمل هو وأصحابه في سبيل الرسالة من ألوان الأذى وصنوف التضحية ما احتمل، وبعد أن أعزّ الله الإسلام بحمزة وعمر، وبعد أن بدأ المسلمون يصبحون قوّة بمكة، ويمتدّ خبرهم إلى بلاد العرب كلها وإلى الحبشة، وإلى مختلف نواحي العالم. إن القول بذلك حديث خرافة وأكذوبة ممجوجة. ولقد شعر الذين اخترعوها بسهولة افتضاحها، فأرادوا سترها بقولهم: إن محمدا ما كاد يسمع كلام قريش إذ جعل لآلهتهم نصيبا في الشفاعة حتى كبر ذلك عليه. وحتى رجع إلى الله تائبا أوّل ما أمسى ببيته وجاءه جبريل فيه. لكن هذا السّتر أحرى أن يفضحها. فما دام الأمر قد كبر على محمد منذ سمع مقالة قريش، فما كان أحراه أن يراجع الوحي لساعته! وما كان أحراه أن يجري الوحي الصواب على لسانه؟ وإذا فلا أصل لمسألة الغرانيق إلا الوضع والاختراع. قامت بهما طائفة الذين أخذوا أنفسهم بالكيد للإسلام بعد انقضاء الصدر الأول.
وأعجب ما في جرأة هؤلاء المفترين أنهم عرضوا للافتراء في أمّ مسائل الإسلام جميعا: في التوحيد! في المسألة التي بعث محمد لتبليغها للناس منذ اللحظة الأولى، والتي لم يقبل فيها منذ تلك اللحظة هوادة، ولا أماله عنها ما عرضت عليه قريش أن يعطوه ما يشاء من المال أو يجعلوه ملكا عليهم. وعرضوا ذلك عليه حين لم يكن قد اتّبعه من أهل مكة إلا عدد يسير. وما كان أذى قريش لأصحابه ليجعله يرجع عن دعوة أمره ربه أن يبلغها للناس. فاختيار المفترين لهذه المسألة التي كانت صلابة محمد فيها غاية ما عرف عنه من الصلابة، يدلّ على جرأة غير معقولة، ويدلّ في الوقت نفسه على أن الذين مالوا إلى تصديقهم قد خدعوا فيما لا يجوز أن يخدع فيه أحد.
لا أصل إذا لمسألة الغرانيق على الإطلاق، ولا صلة البتة بينها وبين عودة المسلمين من الحبشة، إنما عادوا، كما قدّمنا، بعد أن أسلم عمر ونصر الإسلام بمثل الحميّة التي كان يحاربه من قبل بها، حتى اضطرت قريش لمهادنة المسلمين. وعادوا حين شبّت في بلاد الحبشة ثورة خافوا مغبّتها. فلما علمت قريش بعودتهم إزدادت مخاوفها أن يعظم أمر محمد بينهم، فأتمرت ما تصنع. وقد انتهت بوضع الصحيفة التي قرّروا فيها فيما قرروا ألا يناكحوا بني هاشم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم، كما أجمعوا فيما بينهم أن يقتلوا محمدا إن استطاعوا.