الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهله وأتباعه يهدّدون، فلا يزيده ذلك إلا صبرا وإمعانا في الدعوة. وامتلأت نفوس المؤمنين الذين اتّبعوه بقوله:
«والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» . وهانت عليهم جميعا التضحيات الجسام، وهان عليهم الموت في سبيل الحق وهداية قريش له. وقد تعجب لهذا الإيمان الآخذ بنفوس أولئك المكيين ولمّا يكن الدين قد كمل، ولمّا يكن قد نزل من القرآن إلا القليل. وقد تحسب أن شخصية محمد ودماثة طبعه وجميل خلقه وما عرف من صدقه وما بدا من صلابة عوده وقوة عزمه وثبات إرادته، كان السبب في كل هذا. ولا ريب قد كان لهذا كله حظه ونصيبه، لكن عوامل أخرى جديرة بالتقدير والاعتبار كان لها هي أيضا نصيب في ذلك غير قليل.
فقد كان محمد في بلاد حرّة هي أشبه ما تكون بالجمهورية. وكان في الذّروة والسنام منها حسبا ونسبا.
وكان قد وصل من المال إلى ما يشاء. وكان إلى ذلك من بني هاشم. اجتمعت لهم سدانة الكعبة وسقاية الحاجّ وما شاؤا من مجد الألقاب الدينيّة. فلم يكن لذلك في حاجة إلى المال أو الجاه أو المكانة السياسية أو الدينية.
وكان في ذلك على خلاف من سبقه من الرسل والأنبياء. فقد ولد موسى في مصر وفيها فرعون يدين له أهلها بالألوهية وينادي هو فيهم «أنا ربكم الأعلى» ، وتعاونه طائفة رجال الدين على سوم الناس ألوان الظلم والاستغلال والعسف، فكانت الثورة التي قام بها موسى بأمر ربه ثورة نظام سياسيّ وديني معا. أليس يريد أن يكون فرعون والرجل الذي يرفع الماء بالشادوف من النيل أمام الله سيّين؟ إذا فما هي ألوهيّة فرعون وما هذا النظام القائم! يجب أن يحطم ذلك كله، ويجب أن تكون الثورة سياسية أولا. لهذا لقيت الدعوة الموسويّة منذ بداءتها حربا من فرعون شعواء، ولذلك آزرت المعجزات موسى ليؤمن الناس بدعوته. ألقى عصاه فإذا هي حيّة تسعى تلقف ما صنع سحرة فرعون. ولم يجد ذلك موسى شيئا، فاضطرّ إلى مغادرة وطنه مصر؛ وقد آزرته في هجرته معجزة إنفلاق الطريق في البحر خلال الماء. وقد ولد عيسى في النّاصرة من أعمال فلسطين، وهي يومئذ ولاية رومانية خاضعة لحكم القياصرة ولظلم المستعمرين بها ولآلهة رومية؛ فدعا الناس إلى الصبر على الظلم، وإلى المغفرة للتائب المنيب، وإلى ألوان من الرحمة اعتبرها القائمون بالأمر ثورة على تجبرهم، فازرت عيسى معجزات إحياء الموتى وإبراء المرضى وسائر ما أيده به روح القدس من عنده. صحيح أن تعاليمهم تنتهي في جوهرها إلى ما تنتهي إليه تعاليم محمد في جوهرها، مع خلال في التفاصيل ليس هنا موضع إيضاحه. لكنّ هذه العوامل المختلفة، والعامل السياسيّ في مقدّمتها، وجّهت دعوتهما اتجاهها. أمّا محمد، وكانت ظروفه ما قدّمنا، فكانت رسالته عقليّة روحيّة، أساسها الدعوة إلى الحق والخير والجمال، دعوة مجرّدة في بدئها وفي غايتها. ولبعدها عن كل خصومة سياسية لم تزعج النظام الجمهوري الذي كان قائما بمكة بأية صورة من صور الإزعاج.
دعوة محمد والطريقة العلمية الحديثة
وقد تأخذ القارئ الدهشة إذا ذكر ما بين دعوة محمد والطريقة العلمية الحديثة من شبه قويّ؛ فهذه الطريقة العلمية تقتضيك إذا أردت بحثا أن تمحو من نفسك كل رأي وكل عقيدة سابقة لك في هذا البحث، وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على المقدّمات العلمية. فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص، ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمي تسرّب الخطأ إلى ناحية من نواحيها. وهذه الطريقة العلمية هي أسمى ما وصلت إليه الإنسانية في سبيل تحرير الفكر، وها هي ذي مع ذلك طريقة محمد وأساس دعوته، فكيف اقتنع الذين اتبعوه بدعوته وآمنوا بها؟ نزعوا من نفوسهم كل عقيدة سابقة وبدؤا يفكرون فيما أمامهم. لقد كان لكل قبيلة من قبائل
العرب صنم. فأي صنم هو الحق وأي صنم هو الباطل؟ وكان في بلاد العرب وفي البلاد التي تجاورها صابئة ومجوس يعبدون النار، وكان فيها الذين يعبدون الشمس فأيّ هؤلاء على الحق، وأيهم على الباطل؟ لنذر هذا كله إذا جانبا، ولنمح أثره من نفوسنا، ولنتجرد من كل رأي ومن كل عقيدة سابقة ولننظر. والنظر والملاحظة بطبيعة الحال سيّان. مما لا شبهة فيه أن لكل موجود بسائر الموجودات اتصالا؛ فالإنسان تتصل قبائله بعضها ببعض وأممه بعضها ببعض. والإنسان يتصل بالحيوان والجماد. وأرضنا تتصل بالشمس وبالقمر وبسائر الأفلاك. وذلك كله يتصل في سنن مطّردة لا تحويل لها ولا تبديل. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار. ولو أن إحدى موجودات الكون تحوّلت لتبدّل ما في الكون. فلو أن الشمس لم تسعد الأرض بالنور والحرارة، على السنّة التي تجري عليها منذ ملايين السنين، لتبدّلت الأرض غير الأرض والسماء. وما دام ذلك لم يحدث. فلا بد لهذا الكل من روح يمسكه؛ منه نشأ، وعنه تطوّر، وإليه يعود. هذا الروح وحده هو الذي يجب أن يخضع له الإنسان. أمّا سائر ما في الكون فهو خاضع لهذا الروح كالإنسان سواء. والإنسان والكون والزمان والمكان وحدة، وهذا الروح جوهرها ومصدرها. وإذا فلتكن لهذا الروح وحده العبادة. ولهذا الروح يجب أن تتجه القلوب والأفئدة. وفي الكون كله يجب أن نلتمس من طريق النظر والتأمل سننه الخالدة. وإذا فما يعبد الناس من دون الله أصناما وملوكا وفراعنة ونارا وشمسا إنما هو وهم باطل غير جدير بالكرامة الإنسانية، ولا هو يتفق مع عقل الإنسان وما كرّم به من القدرة على استنباط سنّة الله من طريق النظر في خلقه.
هذا جوهر الدعوة المحمدية على ما عرفها المسلمون الأولون. وقد أبلغهم الوحي إياها على لسان محمد في آي من البلاغة كانت ولن تزال معجزة؛ فجمع لهم بذلك بين الحق وتصويره في كمال جماله. وهنالك ارتقت نفوسهم وسمت قلوبهم تريد الاتصال بهذا الروح الكريم؛ فهداهم محمد إلى أن الخير هو طريق الوصول، وأنهم مجزيّون عن هذا الخير يوم يتمون واجبهم في الحياة بالتقوى، ويوم تجزى كلّ نفس بما كسبت.
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)«1» .
أيّ سموّ بالعقل الإنساني أعظم من هذا السموّ! وأي تحطيم لقيوده أشدّ من هذا التحطيم!! حسب الإنسان أن يفهم هذا وأن يؤمن به وأن يعمل عليه ليبلغ الذروة من مراتب الإنسان. وفي سبيل هذه المكانة تهون كل تضحية على من يؤمن بها.
وقد كان من جلال موقف محمد ومن اتبعه أن ازداد بنو هاشم وبنو المطلب منعا له ودفعا للأذى عنه. مرّ أبو جهل بمحمد يوما فاذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتوهين من أمره، فأعرض محمد عنه وانصرف ولم يكلمه. وكان حمزة عمه وأخوه من الرضاعة، لا يزال على دين قريش، وكان رجلا قويّا مخوفا.
وكان ذا ولع بالصيد، فإذا رجع من صيده طاف بالكعبة قبل أن يعود إلى داره. فلما جاء في ذلك اليوم وعلم بما أصاب ابن أخيه من أذى أبي جهل ملأه الغضب؛ وذهب إلى الكعبة ولم يقف مسلما على أحد ممن كان عندها كعادته، ودخل المسجد فألقى أبا جهل فقصد إليه، حتى إذا بلغه رفع القوس فضربه بها فشجّه شجة منكرة.
وأراد رجال من بني مخزوم أن ينصروا أبا جهل فمنعهم حسما للشر ومخافة استفحاله معترفا أنه سبّ محمدا سبّا قبيحا، ثم أعلن حمزة إسلامه، وعاهد محمدا على نصرته والتضحية في سبيل الله حتى النهاية.
(1) سورة الزلزلة آيتا 7 و 8.