الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جهد فيه جامعوه الأوّلون ما جهدوا، فما بالك بما ورد في المتأخر من كتب السيرة؟ وكيف يستطاع الأخذ به دون التدقيق العلمي في تمحيصه!
أثر المنازعات السياسية الإسلامية
والواقع أن المنازعات السياسية التي حدثت بعد الصدر الأوّل من الإسلام أدّت إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييدا لها. فلم يكن الحديث قد دوّن إلى عهد متأخر من عصر الأمويين. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بجمعه، ثم لم يجمع إلا في عهد المأمون بعد أن أصبح «الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود» على قول الدارقطنيّ. ولعل الحديث لم يجمع في الصدر الأوّل من الإسلام لما كان يروى عن النبي أنه قال:«لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن. ومن كتب شيئا غير القرآن فليمحه» . على أن أحاديث النبيّ كانت متداولة على الألسن من يومئذ، وكانت الروايات تختلف فيها. ولقد أراد عمر بن الخطاب أثناء خلافته أن يتدارك الحال في ذلك بأن يكتب السنن؛ فاستفتى أصحاب النبي في ذلك فأشاروا عليه بأن يكتبها. فطفق عمر يستخير الله شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له «1» فقال:«إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا» وعدل عن كتابتها، وكتب في الأمصار عنها:
«من كان عنده شيء فليمحه» . وظلّت الأحاديث بعد ذلك تتوالد وتتداول، حتى جمع ما صح لدى الجامعين منها في عهد المأمون.
ومع ما أبداه جامعو الحديث من حرص على الدقّة لا ريب فيه، فقد جرّح بعض العلماء كثيرا من الأحاديث التي أثبتها جامعوها على أنها صحيحة. قال النوويّ في شرح مسلم:«استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلّاد بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه» . ذلك أن الجامعين قد جعلوا مقياس السّند والثقة بالرواية أساسهم في قبول الحديث أو رفضه؛ وهو مقياس له قيمته؛ لكنه وحده غير كاف. وعندنا أنّ خير مقياس يقاس به الحديث، وتقاس به سائر الأنباء التي ذكرت عن النبيّ، ما روي عنه عليه السلام أنه قال:«إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله. فما وافقه فمني، وما خالفه فليس عني» . وهذا مقياس دقيق أخذ به أئمة المسلمين منذ العصور الأولى، وما زال المفكرون منهم يأخذون به إلى يومنا الحاضر. قال ابن خالدون:«وإنني لا أعتقد صحة سند حديث ولا قول عالم صحابيّ يخالف ظاهر القرآن وإن وثّقوا رجاله؛ فرب راو يوثّق للاغترار بظاهر حاله وهو سيء الباطن. ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها، كما تنتقد من جهة سندها، لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض. وقد قالوا: إن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو البرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات» . وهذا المقياس الذي جاء في حديث النبي، والذي ذكره ابن خالدون فيما تقدّم، يتفق مع قواعد النقد العلمي الحديث أدقّ اتفاق.
ومن الحق أن المسلمين قد بلغ اختلافهم بعد وفاة النبي حدّا دعا الدعاة فيهم إلى اختلاق الآلاف المؤلفة من الأحاديث والروايات. ومنذ قتل أبو لؤلؤة غلام المغيرة عمر بن الخطاب، ومنذ تولّى عثمان بن عفان الخلافة، بدأت الخصومة التي كانت بين بني هاشم وبني أمية قبل رسالة النبيّ العربي تظهر من جديد. فلما قتل عثمان وقامت الحرب الأهليّة بين المسلمين وخاصمت عائشة عليّا وأيّد عليّا من أيّد، بدأت الأحاديث الموضوعة تكثر إلى حد أنكره عليّ بن أبي طالب، حتى روي عنه أنه قال: «ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا ما في القرآن
(1) أي خلق له أسباب العزم من القوة والصبر.
وما في هذه الصحيفة أخذتها من رسول الله فيها فرائض الصّدقة» . على أن ذلك لم يقف رواة الحديث عن روايته، ولم يقف قوما عن وضع الحديث لهوى يدعون الناس إليه، أو لفضائل يزعمون أن الناس أحرص على اتباعها حين ينسب إلى رسول الله حديثها. فلما استتبّ الأمر لبني أميّة جعل المحدثون المتصلون ببني أمية يضعفون ما يروى عن عليّ بن أبي طالب وفضائله، في حين جعل أنصار عليّ وأهل بيت النبيّ يزيدون في هذه الأحاديث ويحاولون إذاعتها بكل الوسائل، كما جعلوا يعرضون عما يروى عن عائشة أمّ المؤمنين. ومن طريف ما يروى في ذلك ما رواه ابن عساكر عن أبي سعد إسماعيل ابن المثنّى الإستراباذيّ؛ إذ كان يعظ بدمشق فقام إليه رجل فسأله عن قول النبي: أنا مدينة العلم وعليّ بابها. فأطرق إسماعيل لحظة ثم رفع رأسه وقال: نعم، لا يعرف هذا الحديث عن النبي إلا من كان صدرا في الإسلام، إنما قال النبيّ: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعليّ بابها. وقد سر الحاضرون بذلك وطلبوا إلى إسماعيل أن يذكر لهم إسناده فاغتمّ لعجزه. وكذلك كانت الأحاديث تلفق لأغراض سياسية ولأهواء عاجلة. وقد كثرت هذه الأحاديث الموضوعة كثرة راعت المسلمين، لمنافاة الكثير منها لما في كتاب الله. ولم تنجح المحاولات التي بذلت لوقفها في زمن الأمويين. فلما كانت الدولة العباسية، وجاء المأمون بعد قرابة قرنين من وفاة النبيّ كان قد أذيع من هذه الأحاديث الموضوعة عشرات الألوف ومئاتها، وكان بينها من التضارب وفيها من التهافت ما لا يخطر بالبال. إذ ذاك قام الجامعون بجمع الحديث وتولّى كتّاب السيرة كتابتها. فقد عاش الواقدي وابن هشام والمدائني وكتبوا كتبهم أيام المأمون. وما كان لهم ولا لغيرهم أن ينازعوا الخليفة في آرائه مخافة ما يحلّ بهم. لذلك لم يطبقوا، بما يجب من الدقة، هذا المقياس الذي روي عن النبي عليه السلام من وجوب عرض ما يروى عنه على القرآن فما وافق القرآن فمن الرسول وما خالفه فليس عنه.
ولو أن هذا المقياس طبق بما يجب من دقة لتغير بعض ما كتب هؤلاء الأعلام. فالنقد العلمي على الطريقة الحديثة لا يختلف عن هذا المقياس في شيء
…
لكن أحوال العصر إقتضت هؤلاء الأعلام أن يطبقوا هذا المقياس على طائفة مما كتبوا ثم لا يطبقونه على طائفة أخرى. وقد ورث المتأخرون عن السلف هذه الطريقة في كتابة السيرة لاعتبارات غير اعتباراتهم. ولو أنهم أنصفوا التاريخ لطبّقوا الحديث على سيرة النبيّ العربي في جملتها وفي تفصيلها، دون استثناء لأي نبأ روي عنها لا يتفق مع ما ورد في القرآن الكريم؛ فما لم يكن مما تجري به سنّة الكون ولم يرد ذكره في كتاب الله لم يثبتوه وما كان مما تجري به سنّة الكون محصّوه، ثم أثبتوا منه ما ثبت لديهم بالدليل اليقيني، وتركوا ما لم يقم الدليل عليه.
وقد أخذ بهذا الرأي جماعة من كبار الأئمة من سلف المسلمين، وتابعهم عليه أئمة الإسلام إلى يومنا هذا. قال الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغيّ في التعريف بهذا الكتاب ما يأتي: «لم تكن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم القاهرة إلا في القرآن، وهي معجزة عقلية. وما أبدع قول البوصيري:
لم يمتحنّا بما تعيا العقول به
…
حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم
وقال المرحوم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار (في عددها الذي صدر في 3 من مايو سنة 1935) ، ردّا على الذين اعترضوا على كتابنا هذا، ما نصه: «أهمّ ما ينكره الأزهريون والطّرقيون على هيكل أو أكثره مسألة المعجزات أو خوارق العادات. وقد حرزتها في كتاب الوحي المحمدي من جميع مناحيها ومطاويها في الفصل الثاني وفي المقصد الثاني من الفصل الخامس، بما أثبت به أن القرآن وحده هو حجة الله القطيعة على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالذات، ونبوّة غيره من الأنبياء وآياتهم بشهادته لا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا بها، وأن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة؛ لأنها موجودة في زماننا ككل زمان مضى، وأن المفتونين بها هم