الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس يستطيع هذا السمو إلا قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانية. فإذا جاء بعد ذلك ممن اتّبعوا محمدا من عجز عن متابعته في سمو فكرته وقوة إحاطته بوحدة الكون في كماله وفي جهاده لبلوغ هذا الكمال؛ فلا عجب في ذلك ولا عيب فيه. والممتازون من الناس والموهوبون منهم درجات. وبلوغنا الحقيقة معرّض دائما لهذه الحدود التي تعجز قوانا عن تخطيها. وإذا كان من القياس مع الفارق أن نذكر، لمناسبة ما نحن الآن بصدده، قصة أولئك المكفوفين الذين أرادوا أن يعرّفوا الفيل ما هو، فقال أحدهم: إنه حبل طويل لأنه صادف ذنبه، وقال الآخر: إنه غليظ كالشجرة لأنه صادف رجله، وقال ثالث: إنه مدبب كالرمح لأنه صادف سنه، وقال رابع: إنه مستدير ملتو كثير الحركة لأنه صادف خرطومه- فإن هذا المثل، مقرونا إلى الصورة التي تتكون لدى المبصر من الفيل لأول ما يراه، يسمح لنا بالموازنة بين إدراك محمد كنه وحدة الكون والوجود وتصويره في الإسراء والمعراج حيث يتصل بأول الزمن من قبل آدم إلى آخره يوم البعث، وحيث تنعدم نهائية المكان. إذ يطل بعين البصيرة من لدن سدرة المنتهى إلى هذا الكون يصبح أمامه سديما. وبين ما يستطيع الكثيرون إدراكه من حكمة هذا الإسراء والمعراج؛ إذ يقفون عند تفاصيل ليست من وحدة الكون وحياته إلا كذرات الجسم، بل كالذّرات العالقة به من غير أن يتأثر بها نظامه. أين الواحدة من هذه الذرات من حياة هذا الجسم من نبض قلبه وإشراق روحه وضياء ذهنه وامتلائه بالحياة التي لا تعرف حدّا، لأنها تتصل من الوجود بكل حياة الوجود؟
والإسراء بالروح هو في معناه كالإسراء والمعراج بالروح جميعا سمّوا وجمالا وجلالا. فهو تصوير قويّ للوحدة الروحية من أزل الوجود إلى أبده. فهذا التعريج على جبل سيناء حيث كلم الله موسى تكليما، وعلى بيت لحم حيث ولد عيسى، وهذا الاجتماع الروحيّ ضمّت الصلاة فيه محمدا وعيسى وموسى وإبراهيم، مظهر قويّ لوحدة الحياة الدينية على أنها من قوام وحد الكون في موره الدائم إلى الكمال.
والعلم في عصرنا الحاضر يقرّ هذا الإسراء بالرّوح، ويقرّ المعراج بالروح؛ فحيث تتقابل القوى السليمة يشعّ ضياء الحقيقة؛ كما أن تقابل قوى الكون في صورة معيّنة قد طوّع «لماركوني» ؛ إذ سلّط تيارا كهربيّا خاصّا من سفينته التي كانت راسية بالبندقية، أن يضيء بقوة الأثير مدينة سدني في أستراليا. وفي عصرنا هذا يقرّ العلم نظريات قراءة الأفكار ومعرفة ما تنطوي عليه، كما يقرّ انتقال الأصوات على الأثير بالراديو، وانتقال الصور والمكتوبات كذلك، مما كان يعتبر فيما مضى بعض أفانين الخيال. وما تزال القوى الكمينة في الكون تتكشّف لعلمنا كل يوم عن جديد. فإذا بلغ روح من القوّة ومن السلطان ما بلغت نفس محمد، فأسرى به الله ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته، كان ذلك مما يقرّ العلم، وكانت حكمة ذلك هذه المعاني القوية السامية في جمالها وجلالها، والتي تصور الوحدة الروحية ووحدة الكون في نفس محمد تصويرا صريحا، يستطيع الإنسان أن يصل إلى إدراكه إذا هو حاول السموّ بنفسه عن أوهام العاجلة في الحياة، وحاول الوصول إلى كنه الحقيقة ليعرف مكانه ومكان العالم كله منها.
ريبة قريش وارتداد بعض من أسلم
لم يكن العرب من أهل مكة ليستطيعوا إدراك هذه المعاني؛ لذلك ما لبثوا حين حدثهم محمد بأمر إسرائه أن وقفوا عند الصور المادية من أمر هذا الإسراء وإمكانه أو عدم إمكانه، ثم ساور أتباعه والذين صدقوه أنفسهم بعض الريب فيما يقوله. وقال كثيرون: هذا والله الأمر البين. والله إنّ العير لتطّرد «1» شهرا من مكة
(1) أي تتابع سيرها من غير انقطاع.
إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أيذهب محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة! وارتدّ كثير ممّن أسلم. وذهب من أخذتهم الريبة في الأمر إلى أبي بكر وحدّثوه حديث محمد؛ فقال أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. قالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث الناس. قال أبو بكر: والله لئن كان قد قاله لقد صدق، إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. وجاء أبو بكر إلى النبيّ واستمع إليه يصف بيت المقدس، وكان أبو بكر قد جاءه، فلما أتم النبيّ صفة المسجد قال له أبو بكر: صدقت يا رسول الله. ومن يومئذ دعا محمد أبا بكر بالصديق.
ويدلّل الذين يقولون إن الإسراء بالجسد على رأيهم بأن قريشا لمّا سمعت بأمر إسرائه سألته وسأله الذين آمنوا به عن آية ذلك، فإنهم لم يسمعوا بشيء من مثله؛ فوصف لهم عيرا مرّ بها في الطريق، فضلّت دابّة من العير فدلّهم عليها، وأنه شرب من عير أخرى وغطى الإناء بعد أن شرب منه، فسألت قريش في ذلك فصدّقت العيران ما روى محمد عنهما. وأحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح في هذا لما رأوا فيه عجبا بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدّث عن أشياء واقعة في جهات نائية. ما بالك بروح يجمع الحياة الروحية في الكون كله ويستطيع بما حباه الله من قوة أن يتّصل بسر الحياة من أزل الكون إلى أبده؟