الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المختلفة. ولم يقف أمر هذا التفكير عند التاريخ وكتابته، بل أقامت بعض مذاهب الفلسفة الغربية قواعد الخلق على أسس نفعية مادية بحتة. ومع ما بلغته هذه المذاهب من براعة في التفكير وقوّة في الابتكار، لقد أمسكها التطوّر الفكري في الغرب في حدود المنفعة المادية المشتركة، تقيم عليها قواعد الخلق جميعا، وترى ذلك من المقتضيات المحتومة للبحث العلمي. فأمّا المسألة الروحية فهي في نظر الحضارة الغربية مسألة فردية صرفة، فلا محلّ لأن يعنى الناس أنفسهم جماعة بها. ومن ثمّ كانت الإباحة في العقيدة بعض ما قدّسه أهل الغرب، وكانوا أشدّ تقديسا لها من تقديسهم الإباحة في الخلق؛ وهم أشدّ تقديسا للإباحة في الخلق منهم لحرية الحياة الاقتصادية المقيدة بالقانون تقييدا ينفذه الجندي وتنفذه الدولة بكل ما أوتيت من قوّة.
قصور الحضارة الغربية عن إسعاد الإنسانية
في اعتقادي أن حضارة تجعل الحياة الاقتصادية أساسا، وتقيم قواعد الخلق على أساس هذه الحياة الاقتصادية، ولا تقيم للعقيدة وزنا في الحياة العامة، تقصر عن أن تمهّد للإنسانية سبيل سعادتها المنشودة. بل إن هذا التصوير للحياة لجدير أن يجرّ على الإنسانية ما تعانيه من محن في هذه العصور الأخيرة، جدير أن يجعل كل تفكير في منع الحرب وفي توطيد أركان السلام في العالم قليل الجدوى غير مرجوّ الثمرة. فما دامت صلتي بك أساسها الرغيف الذي آكل أنا أو تأكل أنت وتنازعنا عليه ونضالنا في سبيله، قائمة بذلك على أساس القوّة الحيوانية في كلّ منا، فسيظل كلّ منا يرقب الفرصة التي يحسن فيها الاحتيال للحصول على رغيف صاحبه؛ وسيظلّ كلّ منا ينظر إلى الآخر على أنه خصمه لا على أنه أخوه، وسيظلّ الأساس الخلقي الكمين في النفس أساسا حيوانيّا بحتا، وإن بقي كمينا حتى تدفع الحاجة إلى ظهوره، وستظل المنفعة وحدها قوام هذا الأساس الخلقي، على حين تنزلق عليه المعاني الإنسانية السامية والمبادئ الخلقية الكريمة، مبادئ الإيثار والمحبة والأخوّة، فلا يكاد يمسكها ولا تكاد تعلق به.
وما هو واقع في العالم اليوم خير مصداق عملي لما أذكر؛ فالتنافس والنضال هما المظهر الأول للنظام الاقتصادي، وهما لذلك أوّل مظهر لحضارة الغرب. وهما كذلك في المذهب الفرديّ وفي المذهب الاشتراكي على سواء. في المذهب الفردي ينافس العامل العامل، وينافس رب المال رب المال، والعامل ورب المال فيه خصمان يتنافسان. وأرباب هذا المذهب يرون في هذا التنافس وهذا النضال كلّ خير للإنسانية ولتقدّمها. فهما عندهم الحافز للإتقان والحافز لتقسيم العمل، وهما المعيار العادل لتوزيع الثروة. أمّا المذهب الاشتراكي فيرى في نضال الطوائف، نضالا يفنيها جميعا حتى يردّ الأمر كله للعمال، بعض ما تحتمه الطبيعة، وما دام التنافس والنضال على المال هما جوهر الحياة، وما دام النضال بين الطوائف طبيعيّا، فالنضال بين الأمم طبيعي كذلك، وللغاية التي يقع من أجلها نضال الطوائف. ومن ثمّ كانت فكرة القوميات أثرا محتوما بحكم الطبيعة لهذا النظام الاقتصادي. أمّا ونضال الأمم في سبيل المال طبيعيّ، أمّا والاستعمار لذلك طبيعيّ أيضا، فكيف يمكن أن تمتنع الحرب ويستقرّ السلام في العالم؟! لقد شهدنا في هذا القرن المتمم للعشرين المسيحي وما نزال نشهد البينات على أن السلام في عالم هذا أساس حضارته حلم لا سبيل إلى تحقيقه، وأمنية معسولة، ولكنها سراب كذوب.
أساس الحضارة الإسلامية
تقوم الحضارة الإسلامية على أساس هو النقيض من أساس الحضارة الغربية؛ فهي تقوم على أساس روحي يدعو الإنسان إلى حسن إدراك صلته بالوجود ومكانه منه قبل كل شيء. فإذا بلغ من هذا الإدراك حد
الإيمان، دعاه إيمانه إلى إدامة تهذيب نفسه وتطهير فؤاده، وإلى تغذية قلبه وعقله بالمبادئ السامية: مبادئ الإباء والأنفة والأخوة والمحبة والبر والتقوى. وعلى أساس هذه المبادئ ينظّم الإنسان حياته الاقتصادية. هذا التدرّج هو أساس الحضارة الإسلامية كما نزل الوحي بها على محمد. فهي حضارة روحية أولا. والنظام الروحي فيها هو أساس النظام التهذيبي وأساس قواعد الخلق. والمبادئ الخلقية هي أساس النظام الإقتصادي، فلا يجوز أن يضحّى بشيء من مبادئ الخلق في سبيل التنظيم الاقتصادي.
هذا التصوير الإسلامي للحضارة هو في يقيني التصوير الجدير بالإنسانية الكفيل بسعادتها. ولو أنه استقر في النفوس، وانتظم الحياة انتظام الحضارة الغربية اليوم إياها، لتبدّلت الإنسانية غير الإنسانية، ولانهارت مبادئ يؤمن الناس اليوم بها، ولقامت مبادئ سامية تكفل معالجة أزمات العالم الحاضر على هدى نورها.
والناس اليوم في الغرب والشرق يحاولون حل هذه الأزمات دون أن يتنبه أحد منهم، ودون أن يتنبه المسلمون أنفسهم إلى أن الإسلام كفيل بحلّها؛ فأهل الغرب يتلمسون اليوم جدة روحية تنقذهم من وثنية تورطوا فيها، وكانت سبب شقائهم وعلّة ما ينشب من الحروب بينهم؛ تلك عبادة المال. وأهل الغرب يتلمسون هذه الجدة في مذاهب الهند والشرق الأقصى على حين هي قريبة منهم؛ يجدونها مقرّرة في القرآن، مصورة خير صورة فيما ضربه النبيّ العربي للناس من مثل أثناء حياته.
لست أطمع في أن أصور هنا هذه الحضارة الإسلامية ونظامها؛ فهذا التصوير يقتضي بحثا مستفيضا، ويستغرق كتابا في حجم هذا الكتاب أو أكثر منه؛ وإنما أريد أن أجمل صورة هذه الحضارة، بعد أن أشرت إلى الأساس الروحي الذي تقوم عليه، لعلي بذلك أصوّر الدعوة المحمدية في مجموعها وأمهّد بهذا التصوير لمباحث أكثر استفاضة وعمقا. وإني ليجمل بي قبل ذلك أن أشير إلى أن تاريخ الإسلام خلا من النزاع بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية أي بين الكنيسة والدولة، فأنجاه ذلك مما ترك هذا النزاع في تفكير الغرب وفي اتجاه تاريخه. وترجع نجاة الإسلام من هذا النزاع وآثاره إلى أنه لم يعرف شيئا إسمه الكنيسة أو السلطة الدينية على نحو ما عرفت المسيحية. فليس لأحد من المسلمين، ولو كان خليفة، أن يفرض أمرا على الناس باسم الدين، وأن يزعم أنه قدير مع ذلك على الغفران لمن خالف هذا الأمر. وليس لأحد من المسلمين، ولو كان خليفة، أن يفرض على الناس غير ما فرضه الله في كتابه. بل المسلمون أمام الله سواسية، لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى. وليس لوليّ الأمر على مسلم طاعة في معصية ولا فيما لم يأمر الله به. يقول أبو بكر الصديق حين خطب المسلمين يوم بايعوه بالخلافة: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله. فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. ومع ما آل إليه الأمر في الإسلام بعد ذلك من ملك عضوض، ومع ما قام بين المسلمين من ثورات أهلية، لقد أقام المسلمون على تمسكهم بهذه الحرية الذاتية العظيمة التي قررها لهم دينهم؛ هذه الحرية التي جعلت العقل حكما في كل شيء، والتي جعلته حكما في الدين وفي الإيمان نفسه. لقد تمسكوا بهذه الحرية حتى بعد أن ادعى أمراء المؤمنين أنهم خلفاء الله لا خلفاء رسوله على الأرض، وأنهم يملكون من أمر المسلمين كل شيء حتى الحياة والموت. يشهد بذلك ما حدث في عصر المأمون حين اختلف على القرآن أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فقد خالف الكثيرون رأي الخليفة مع علمهم بما يستهدف له المخالف من عقاب وغضب.
جعل الإسلام العقل حكما في كل شيء، وجعله حكما في الدين وفي الإيمان نفسه. يقول تعالى:
(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)«1» .
(1) سورة البقرة آية 171.