الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المهاجرين والأنصار على مشاركته في بنائه، حتى أتموه وأقاموا من حوله مساكن الرسول، وما كان بناء المسجد ولا كان بناء المساكن ليرهق أحدا وقد كانت كلها البساطة بما يتفق وتعاليم محمد. كان المسجد فناء فسيحا، بنيت جدرانه الأربعة من الآجر والتراب، وسقف جزء منه بسعف النخل وترك الجزء الآخو مكشوفا وخصصت إحدى نواحيه لإيواء الفقراء الذين لم يكونوا يملكون سكنا. ولم يكن المسجد يضاء ليلا إلا ساعة صلاة العشاء إذ توقد فيه أنوار من القش أثناءها. وكذلك ظل تسع سنوات متتالية شدت بعدها مصابيح إلى جذوع النخل التي كان يعتمد سقفه عليها. ولم تكن مساكن النبي أكثر من المسجد ترفا، وإن كان بطبيعتها أكثر منه استتارا.
بنى محمد مسجده ومساكنه، وأوى من بيت أبي أيوب إليها. ثم جعل يفكر في هذه الحياة الجديدة التي استفتح، والتي نقلته ونقلت دعوته خطوة جديدة واسعة. فقد ألفى هذه المدينة وبين عشائرها من التنافر ما لم تعرف مكة؛ لكنه ألفى قبائلها وبطونها تصبو إلى حياة فيها من السكينة ما يجنبها الخلاف والحزازات التي مزقتها في الماضي شر ممزّق، وما يهيئ لها في المستقبل طمأنينة تطمع معها أن تكون أوفر من مكة ثروة وأعظم جاها. وما كانت ثروة يثرب ولا كان جاهها أول ما يعني محمدا وإن كان بعض ما يعنيه. إنما كان همه الأول والآخر هذه الرسالة التي عهد الله إليه في تبليغها والدعوة إليها والإنذار بها. لقد حاربها أهل مكة من يوم بعثه إلى يوم هجرته أهول الحرب، فحال ذلك دون امتلاء كل القلوب بنورها وكل الأنفس إيمانا بها من خوف أذى قريش وعنتها. والأذى والعنت يحولان بين الإيمان والقلوب التي لما يدخل الإيمان فيها. فيجب أن يؤمن المسلمون وأن يؤمن غيرهم بأن من اتبع الهدى ودخل في دين الله بمأمن من أن يصيبه الأذى، ليزداد المؤمنون إيمانا، وليقبل على الإيمان المتردد والخائف والضعيف. في هذا كان يفكر محمد أول طمأنينته إلى مسكنه بيثرب، وإلى هذا كانت تتجه سياسته، وفي هذا الاتجاه يجب أن يترجم لحياته. هو لم يكن يفكر في ملك ولا في مال ولا في تجارة؛ بل كان كل همه توفير الطمأنينة لمن يتبعون رسالته، وكفالة الحرية لهم في عقيدتهم ككفالتها لغيرهم في عقيدتهم. يجب أن يكون المسلم واليهودي والنصراني سواء في حرية العقيدة، وفي حرية الرأي وحرية الدعوة إليه. فالحرية وحدها هي الكفيلة بانتصار الحق وبتقدم العالم نحو الكمال في وحدته العليا، وكل حرب على الحرية تمكين للباطل ونشر لجيوش الظلام لتقضي على جذوة النور المضيئة في النفس الإنسانية، والتي تصل بينها وبين الكون كله، من أزله إلى أبده، صلة اتساق ومحبة ووحدة، لا صلة نفور وفناء.
رغبة محمد عن القتال
هذه الوجهة في التفكير هي التي نزل بها الوحي على محمد منذ الهجرة، وهي التي جعلته جنوحا للسلم، راغبا عن القتال، مقتصدا طول حياته أشد القصد فيه، غير لاجئ إليه إلا لضرورة تقتضيه الدفاع عن الحرية دفاعا عن الدين وعن العقيدة. ألم يقل له أهل يثرب ممن بايعوه في العقبة الثانية حين سمعوا المتجسس عليهم يصيح بقريش ينبهها لأمرهم:«والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منىّ غدا بأسيافنا» ، فكان جوابه:«لم نؤمر بذلك» ؟ ألم تكن أول آية نزلت في القتال: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)«1» . ألم تكن الآية التي تلت هذه في أمر القتال قوله تعالى: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)«2» .
(1) سورة الحج آية 39.
(2)
سورة الأنفال آية 39.
فتفكير محمد إذا إنما كان متجها إلى غاية واحدة عليا؛ هي كفالة حرية العقيدة والرأي كفالة في سبيلها وحدها أحلّ القتال، ودفاعا عنها أبيح دفع المعتدي حتى لا يفتن أحد عن دينه، ولا يظلم أحد بسبب عقيدته أو رأيه.
بينما كانت هذه وجهة محمد في التفكير في أمر يثرب وما يجب لكفالة الحرية فيها، كان أهل هذه المدينة ممن استقبلوه يفكرون، وإن كان كل فريق يفكر على نحو يخالف تفكير غيره. فقد كان بيثرب يومئذ المسلمون من مهاجرين وأنصار، وكان بها المشركون من سائر الأوس والخزرج، وكان بين هؤلاء وأولئك ما علمت. ثم كان بها اليهود، يقيم منهم بنو قينقاع في داخلها، ويقيم بنو قريظة في فدك، وبنو النّضير على مقربة منها، ويهود خيبر في شمالها. أما المهاجرون والأنصار فقد آلف الدين الجديد بينهم بأوثق رباط، وإن بقيت في نفس محمد بعض المخاوف أن تثور البغضاء القديمة بينهم يوما، مما جعله يفكر في وسيلة للقضاء على كل شبهة من هذا النوع تفكيرا كان له من بعد أثره. وأما المشركون من سائر الأوس والخزرج، فقد ألفوا أنفسهم بين المسلمين واليهود ضعافا نهكتهم الحروب الماضية، فاتجه همهم للوقيعة بين هؤلاء وأولئك. وأمّا اليهود فبادروا بادئ الرأي إلى حسن استقبال محمد ظنّا منهم أن في مقدورهم استمالته إليهم وإدخاله في حلفهم والاستعانة به على تأليف جزيرة العرب حتى تقف في وجه النصرانية التي أجلت اليهود، شعب الله المختار، عن فلسطين أرض المعاد ووطنهم القومي. وانطلق كلّ على أساس تفكيره يمهد أسباب النجاح لبلوغ غايته.
هنا يبدأ طور جديد من أطوار حياة محمد لم يسبقهن إليه أحد من الأنبياء والرسل. هنا يبدأ طور السياسىّ الذي أبدى محمد فيه من المهارة والمقدرة والحنكة ما يجعل الإنسان يقف دهشا ثم يطأطئ الرأس إجلالا وإكبارا. كان أكبر همه أن يصل بيثرب، موطنه الجديد، إلى وحدة سياسية ونظامية لم تكن معروفة من قبل في سائر أنحاء الحجاز، وإن كانت قد عرفت قبل ذلك بكثير في بلاد اليمن. فتشاور هو ووزيراه أبو بكر وعمر؛ فكذلك كان يسميهما. وقد كان أول ما انصرف إليه تفكيره بطبيعة الحال تنظيم صفوف المسلمين وتوكيد وحدتهم، للقضاء على كل شبهة في أن تثور العداوة القديمة بينهم. ولتحقيق هذه الغاية دعا المسلمين ليتاخوا في الله أخوين أخوين. فكان هو وعليّ بن أبي طالب أخوين. وكان عمه حمزة ومولاه زيد أخوين، وكان أبو بكر وخارجة بن زيد أخوين. وكان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الخزرجي أخوين. وتاخى كذلك كل واحد من المهاجرين الذين كثر عددهم بيثرب، بعد أن تلاحق إليها سائر من كان منهم بمكة في أعقاب هجرة الرسول إياها، مع واحد من الأنصار إخاء جعل له الرسول حكم إخاء الدم والنسب. وبهذه المؤاخاة إزدادت وحدة المسلمين توكيدا.
وأظهر الأنصار من كرم الضيافة لإخوانهم المهاجرين ما تقبله هؤلاء أول الأمر مغتبطين. ذلك أنهم تركوا مكة، وتركوا وراءهم ما يملكون فيها من مال ومتاع، ودخلوا المدينة ولا يكاد الكثيرون منهم يجدون قوتهم.
ولم يكن منهم على جانب من الثراء والنعمة غير عثمان بن عفان؛ أما الآخرون فقليل منهم من احتمل من مكة شيئا ينفعه. وقد ذهب حمزة عم الرسول يوما يطلب إليه أن يجد له ما يقنات به. وكان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، ولم يكن عبد الرحمن يملك بيثرب شيئا. فعرض عليه سعد أن يشاطره ماله؛ فأبى عبد الرحمن وطلب إليه أن يدله على السوق، وفيها بدأ يبيع الزّبد والجبن، واستطاع بمهارته التجارية أن يصل إلى الثروة في زمن قصير وأن يمهر إحدى نساء المدينة، وأن تكون له قوافل تذهب في التجارة وتجيء. وصنع كثير غير عبد الرحمن من المهاجرين صنيعه،؛ فقد كان لهؤلاء المكيين من الدراية في شؤون التجارة ما قيل معه عن أحدهم: إنه ليحيل بالتجارة رمل الصحراء ذهبا.