الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشعب ليدلّ عباده على أن الحقيقة ليست في ملك الأغنياء ولا الأقوياء بل هي في ملك من يبتغي الحق لوجه الحق وحده. والحقيقة الأزلية الخالدة أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم؛ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ولا تجزون إلا ما كنتم تكسبون. والحقيقة الكبرى أن الله حق، لا إله إلا هو.
الموت خاتمة حياة وبدء حياة؛ خاتمة الحياة الدنيا وبدء الحياة الآخرة. ولسنا نعلم من أمر الحياة الدنيا إلا قليلا. لسنا نعلم إلا ما تتصل به حواسّنا، وترشدنا إليه عقولنا، وتكشف لنا عنه قلوبنا. أمّا الحياة الآخرة فلا علم لنا من أمرها إلا ما علّمنا الله منه. وسنن الكون فيها غيب علينا، علمه عند عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. فحسبنا ما ذكر الله في كتابه العزيز من أمرها وأنها دار الجزاء، ولنعدّ أنفسنا في الدار الدنيا بعملنا وبعزمنا أمورنا وبتوكلنا بعد ذلك على الله لهذا الجزاء العدل؛ فأمّا ما وراء ذلك فأمره لله وحده.
أفيرى الذين يلفون لفّ واشنطون إيرفنج من المستشرقين وغير المستشرقين مبلغ خطئهم في تصوير الجبرية الإسلامية؟ إننا لم نثبت هنا شيئا غير ما ورد في القرآن الكريم؛ لأننا لا نريد أن نضع الأمر موضع مجادلة في آراء المتكلمين والمتصوّفة وغيرهم من فرق المسلمين وفلاسفتهم. وإيرفنج أبلغ خطأ حين يزعم أن القضاء والقدر وكتاب الأجل إنما نزل ما نزل من القرآن فيه بعد غزوة أحد ومقتل حمزة سيّد الشهداء فيها. فمن الآيات التي اقتبسنا هنا آيات مكية نزلت قبل الهجرة وقبل أن تبدأ غزوات المسلمين. وإنما يقع إيرفنج ومن على شاكلته في هذا الخطأ لأنهم لا يعنّون أنفسهم ببحث مسألة هذا مبلغ خطرها بحثا علميّا دقيقا، بل يصوّرون لأنفسهم عن الإسلام الفكرة التي تتفق مع ميولهم المسيحية ثم يلفقون لها الدليل بما تهوى أنفسهم، ظنّا منهم أن دليلهم يقنع قرّاءهم ثم لا يفنده بعدهم أحد.
الفكرة الفلسفية في الجبرية الإسلامية
ولو أدرك المستشرقون الجبرية الإسلامية على نحو ما صوّرناها هنا لقدّروا فكرتها الفلسفية البالغة غاية السموّ، العميقة غاية العمق، والتي تصوّر الحياة تصويرا يصف أدق النظريات العلمية والفلسفيّة التي وصل إليها التفكير في مختلف عصوره، وما ناله فيها من تطوّر وتقدّم. وهذه الفكرة الفلسفيّة الإسلامية فكرة توفيقية لا تضيق بالجبرية العلمية، ولا بالعالم كإرادة وتمثّل، ولا بالتطور المنشئ «1» ، بل هي تسلك هذه المذاهب جميعا في نظامها على أنها بعض سنن الكون والحياة. ولئن لم يتّسع المقام هنا لبسط هذه الصورة لأحاولنّ مع ذلك إيجازها بكل ما أستطيع من دقة ووضوح. وأحسب الذين يتلون ما أكتب يوافقونني على أن سموّ الفكرة وانفساح مداها وعمقها قد بلغ الغاية من كل ما نعرف من نظريات حتى اليوم، وأنها تفسح الطريق إلى ما قد يسمو إليه الفكر الإنساني من بعد.
وأريد قبل أن أبدأ هذا الإيضاح الوجيز أن أثبت هنا ملاحظتين أرجو ألّا ينساهما في هذا المقام أحد:
أولاهما أنني لا أقصد من ذلك إلى معارضة نظرية مسيحية. فما جاء به عيسى قد أقرّه الإسلام كما ذكرت غير مرة في غضون هذا الكتاب. وإنما جاء الإسلام جامعا ومتّوجا للنبوّات والرسالات التي سبقته. ولقد أثبتت الأناجيل قول المسيح لأصحابه: «ما جئت لأنقض الناموس ولكن جئت لأكمله» . كذلك أثبت القرآن إيمان المسلمين بإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين من قبل. وإنما جاء الإسلام مكملا لما أرسلهم الله به، مصححا لما
(1) الجبرية العلمية، والعالم كإرادة وتمثل، والتطور المنشئ، مذاهب فلسفية غربية يقول بأولها الفلاسفة الواقعيون، (positivistes) ، ويقول شوبنهور بالثاني، ويقول برجسن بالثالث، ولا يتسع المقام لشرحها.
حدث من تحريف أتباعهم الكلم عن مواضعه والثانية أن المذهب الفلسفي الإسلامي الذي استنبطته من القرآن قد سبقني إليه غيري، ولكن على نحو غير النحو الذي أقرره اليوم؛ وإنما اهتديت في هذا النحو بهدى القرآن ونهجت فيه نهج الطريقة العلمية الحديثة. فإن وفّقني الله للصواب فله جل شأنه الفضل والمنة. وإن جفاني التوفيق في شيء منه كان من أكبر التحدث بنعمة الله أن يهديناي أولو العلم إلى ما جفاني التوفيق فيه.
وأوّل ما يقرّره القرآن أن لله في الكون سننا ثابتة لا تحويل لها ولا تبديل. والكون ليس أرضنا وما عليها وكفى، ولا هو محصور فيما يقع عليه حسّنا من كواكب وأفلاك، وإنما الكون مجموع ما خلق الله من محسوس وغير محسوس، حاضر وغيب. وحسبك أن تتصوّر هذا لتدرك حقّا أننا لم نؤت من العلم إلا قليلا. فهذا الأثير بيننا وبين الكواكب، وهذه الكهربا التي تملأ الأثير وتملأ أرضنا، وهذه الأبعاد الشاسعة التي تفصل بيننا وبين الشمس وما هو أبعد من الشمس من أفلاك. وما وراء الأفلاك التي تبعد عن الشمس بألوف السنين الضوئية؛ ثم ما وراء ذلك من لا نهايات لا سبيل لخيالنا أن يحيط بها وعند الله علمها- هذا كله يجري على سنّة ثابتة لا تتغيّر. وما مع نعرفه من هذا كله معرفة علمية، على حدّ تعبيرنا اليوم، قليل يختلط فيه الخيال بالواقع، ثم يتضاءل الواقع إلى جانب الخيال حتى يبلغ غاية الضالة، ثم يبقى هذا الواقع مع ذلك غاية ما نعلم وما نقيم عليه أقيستنا وما نقرّر على ضوئه ما نسميه سنن الكون والحياة. ولو أننا أردنا أن نطلق للخيال عنانه لنتصوّر ضالة هذا الذي نعرف لانفسح أمامنا مجال الأمثال بما يضيق عنه هذا المقام. افترض مثلا أن أهل المرّيخ أقاموا عندهم «مذيعا» قوّته مائة مليون كيلوات ليسمعونا أهل الأرض ما يدور عندهم وليرونا إياه من طريق (التليفيزيون) أترانا بعد ذلك نستطيع أن نمسك علينا عقولنا؟ والمرّيخ ليس أبعد الكواكب عنا ولا أشدّها ازورارا عن الاتصال بنا.
وهذا الكون الذي لم نؤت من علمه إلا قليلا يؤثّر كلّ ما فيه في وجود أرضنا وما عليها. فلو أنّ واحدا من هذه الأفلاك اختلف بقدر من الله مداره، لتغيّرت سنّة الكون، ولتغيرت لذلك حياتنا القصيرة الضئيلة المتأثرة بكل ما حولنا، وبأتفه ما حولنا. وهي أكثر تأثرا وخضوعا بطبيعة الكون لعظائم ما في الكون وجلائله.
وهي في تأثرها ذاك قد تسلك سبيل الخير وقد تنحرف عنها. وهي في سلوكها هذه السبيل وفي انحرافها عنها لا تندفع في هذه أو أو تلك من الناحيتين بحكم ما يؤثر فيها من عوامل الحياة وحده، بل بحكم استعدادها كذلك لتلقّي آثار الحياة، وسلطانها على ذاتها في تلقي هذه الآثار. ورب عامل معيّن أثر في نفوس كثيرين آثارا مختلفة، فاندفعت كل واحدة منها إلى ناحية، كانت إحداها الفيصل بين الخير والشر، ثم كانت سائرها درجات نحو الخير ودرجات نحو الشر.
فما في الحياة من خير أو شرّ إنما هو أثر لما يقع بين عوامل الحياة والنفس الإنسانية من تفاعل. ومن ثمّ كان الخير والشر بعض ما في الكون من آثار سننه الثابتة، وكان لذلك من مستلزمات وجوده، كما أن السالب والموجب من مستلزمات وجود الكهربا، وكما أن وجود بعض المكروبات من مستلزمات الحياة لجسم الإنسان.
وليس شيء شرّا لذاته ولا خيرا لذاته، بل للغاية التي يوجّه إليها، وللأثر الذي يترتب عليه. فما يكون شرّا أحيانا يكون ضرورة ملحّة وخيرا محضا أحيانا أخرى. ومن المدمّرات التي تستعمل في الحروب لإهلاك ملايين بني الإنسان وتخريب أبدع ما أقام الناس من الآثار ما له أيام السلم أكبر الفائدة. فلولا الديناميت لتعذّر شق الأنفاق ومدّ السكك الحديدية خلالها؛ ولتعذّر الكشف عن المناجم التي تحتوي أثمن الكنوز وأنفس الأحجار والمعادن. والغازات الخانقة التي يلقي المحاربون قذائفها على الوادعين من أبناء الأمة التي تحاربهم،