الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جند المسلمين لا يكاد يغلبه غالب؛ لكنها احتوت كذلك السم الذي يقضي على سلطانه. فمنذ اللحظة التي كفّ فيها خلفاء النبي عن أن يكونوا غزاة فاتحين، ومنذ أغمدوا سيوفهم بصفة نهائية بدأت العقيدة الجبرية تعمل عملها الهدام، فقد أرهف السلم أعصاب المسلمين كما أرهفها المتاع الماديّ الذي أباحه القرآن، والذي يفصل فصلا حاسما بين مبادئه ودين المسيح دين الطهر والإيثار. فصار المسلم ينظر إلى ما يصيبه من بأساء على أنها بعض ما قدر الله عليه وما لا مفر منه، وما يجب الإذعان له واحتماله، ما دام كل جهد وكل حكمة إنسانية عبثا لا نفع له.
ولم تكن قاعدة «أعن نفسك يعنك الله» مما يرى أتباع محمد تنفيذه، بل كان عكسها نصيبهم. من ثمّ محق الصليب الهلال. وبقاء الهلال إلى اليوم في أوروبا حيث كان يوما ما بالغا غاية القوة إنما يرجع إلى اختيار الدول المسيحية الكبرى، أو يرجع بالأحرى إلى تنافسها. ولعل الهلال باق ليكون دليلا جديدا على أن «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ» .
القرآن وإرادة الإنسان في أعماله
هذا كلام واشنجتون إيرفنج. وهو كلام رجل لم تمكنه دراسته من إدراك روح الإسلام وأساس حضارته، فذهب هذا المذهب الخاطئ في تأويل مسألة القضاء والقدر وكتاب الأجل. ولعل له من العذر أنه وقف في بعض الكتب الإسلامية على ما جعله يذهب هذا المذهب: فأما القرآن فلا تقاس إلى جانب ما ورد فيه عبارة «أعن نفسك يعنك الله» ، من حيث القوة في الدعوة إلى التعويل على الذات، وأن الناس مجزيون بأعمالهم وبالنية التي تصدر هذه الأعمال عنها. قال تعالى:(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها)«1» . وقال تعالى: (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)«2» . وقال:
(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)«3» وقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)«4» .
ومثل هذا في القرآن كثير. وهو صريح في الدلالة على أن إرادة الإنسان وعمله هما مصدر مثوبته وعقابه.
وقد حضّ الله الناس أن يسعوا في مناكب الأرض وأن يأكلوا من رزقه، وأمرهم بالجهاد في سبيله بايات قوية غاية القوّة تلوث شيئا منها في أثناء هذا الكتاب. وهذا لا يتفق وما يقوله إيرفنج وما يقول بعض رجال الغرب من أن الإسلام دين تواكل وقعود، وأنه يعلّم أهله أنهم لا يملكون لأنفسهم بعملهم نفعا ولا ضرّا، فلا فائدة لهم من السعي والإرادة؛ لأن السعي والإرادة معلّقان بمشيئة الله؛ فإذا سعينا وكان مقدّرا ألا يثمر سعينا لم يثمر، وإذا لم نسع وكان مقدّرا أن نصبح أغنياء أو أقوياء أو مؤمنين أصبحنا كذلك من غير سعي ولا عمل.
فالآيات التي قدّمنا تناقض هذا الرأي وتنفيه.
القرآن والقضاء والقدر
ألم يعتمد هؤلاء الذين ينسبون تواكل المسلمين في هذه العصور الأخيرة إلى دينهم على ما جاء في القرآن من آيات القدر، كقوله تعالى:(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا)«5» . وكقوله:
(1) سورة يونس آية 108.
(2)
سورة الإسراء آية 15.
(3)
سورة الشورى آية 20.
(4)
سورة الرعد آية 11.
(5)
سورة آل عمران آية 145.
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)«1» . وكقوله: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)«2» . وكقوله: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)«3» .
إن يكن ذلك ما يعتمدون عليه فقد فاتهم معنى هذه الآيات وأمثالها، وما تصوره من صلة وثيقة بين العبد وربه، ودعاهم ذلك إلى الظن بأن الإسلام يدعو إلى التواكل مع أنه الدين الذي يدعو إلى الجهاد وإلى الإستشهاد وإلى الإباء والأنفة، كما يقيم حضارته على أساس من الإخاء والرحمة.
والواقع أن هذه الآيات وما جرى مجراها تصور حقيقة علمية قرّرتها كثرة فلاسفة الغرب وعلمائه وأطلقوا عليها مذهب الجبرية كذلك، ونسبوا الجبر فيها إلى سنّة الكون ومجموع الحياة فيه بدل أن ينسبوها إلى الله وعلمه وقدرته. وهذا المذهب الذي تقرّه كثرة فلاسفة الغرب أقلّ سعة وتسامحا وانطباقا على خير الجماعة الإنسانية من المذهب الفلسفي الذي يستخلص من القرآن الكريم، كما سنرى من بعد. وهذه الجبرية العلمية تذهب إلى أنّ ما لنا من اختيار في الحياة إنما هو اختيار نسبي ضئيل القدر وأن القول بهذا الإختيار النسبي يرجع إلى ضرورات الحياة الإجتماعية من ناحية عملية أكثر مما يرجع إلى حقيقة علمية أو فلسفية. فلو لم يتقرر مذهب الاختيار لتعذّر على الجماعة أن تجد أساسا تقيم عليه تشريعها، وحدودها، وتنظم بذلك حياتها، وتفرض به على كل إنسان جزاء تصرّفاته جزاء جنائيّا أو مدنيّا. صحيح أن بين العلماء والفقهاء من لا يقيمون أساس الجزاء على الجبر ولا على الاختيار، وإنما يقيمون على ما يحدث من ردّ الفعل الذي تقوم به الجماعة محافظة على كيانها، كما يقوم الفرد بمثله محافظة على كيانه. وسيان عند الجماعة إذ تقوم برد الفعل هذا أن يكون الفرد مختارا وأن يكون غير مختار. على أن الاختيار في التصرّف ما يزال الأساس للجزاء عند أكثر الفقهاء، ودليلهم عليه أن مسلوب الحرية والاختيار، كالمجنون والصغير والسفيه، لا يجزى عن عمله ما يجزى الرشيد الذي يميز بين الخير والشر. فإذا تخطينا هذه الاعتبارات العملية في الفقه والتشريع وأردنا أن نخلص إلى الحقيقة العلمية والفلسفية، ألفينا الجبرية هي هذه الحقيقة. فليس لأحد اختيار للعصر الذي يولد فيه، ولا للأمة التي يولد من أبنائها، ولا للبيئة التي ينشأ بينها، ولا لأبويه وفقرهما وغناهما، وفضلهما ونقصهما، ولا لأنه ذكر أو أنثى، ولا لما يحيط به من أحداث لها، أغلب الأمر، الأثر الأكبر في توجيه أعماله وحياته. وقد عبّر الفيلسوف الفرنسي «هيبّوليت تين» عن هذا المذهب بقوله:«المرء ثمرة بيئته» . وقد ذهب غير واحد من العلماء والفلاسفة في تأييد ذلك إلى حدّ القول بأن علمنا لو استطاع أن يصل من معرفة سنن الحياة الإنسانية وأسرارها إلى مثل ما وصل إليه من معرفة سنن الأفلاك، لاستطاع أن يحدّد بالدقّة مصير كل فرد وكل أمة، كما يحدّد الفلكيون بالدقة مواقيت كسوف الشمس وخسوف القمر. مع ذلك لم يقل أحد في الغرب ولا في الشرق بأن هذا المذهب الجبري يحول بين المرء والسعي للنجاح في الحياة أو يحول بين الأمم والوثوب إلى خير مكان، ولم يقل أحد بأن هذا المذهب يؤدّي إلى تدهور الأمم التي تأخذ به. هذا مع أن المذهب الجبريّ في الغرب لا تؤيّده في السعي والعمل آيات كالتي تلوت من آيات القرآن عن تبعة الإنسان عن عمله (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) . أفلا ينهض هذا وحده دليلا على تحامل المستشرقين الذين يزعمون أن جبريّة الإسلام قد أدّت إلى تدهور الأمم الآخذة به؟
بل إن الجبرية الإسلامية لأكثر حضّا على السعي إلى الخير والفضل وإلى ابتغاء الرزق من الجبرية
(1) سورة الأعراف آية 34.
(2)
سورة الحديد آية 22.
(3)
سورة التوبة آية 51.
الغربية. فكلتاهما متّفقة على أن للكون سننا لا تحويل لها ولا تبديل، وأن ما في الكون جميعا خاضع لهذه السنن، وأن الإنسان خاضع لها خضوع سائر ما في الكون. لكن الجبرية الغربيّة تخضع المرء لبيئته ووراثته خضوع إذعان لا محيص عنه ولا مفرّ منه وتجعل إرادة الإنسان بعض ما يخضع لبيئته، فلا سبيل له لذلك إلى أن يغير نفسه. فأمّا القرآن فيدعو إرادة كل فرد للتوجّه بحكم العقل إلى ناحية الخير، ويذكر لهم أنه إذا كان قد قدّر لهم الخير فيما كسبت أيديهم، وأنهم لا ينالون هذا الخير اعتباطا من غير سعي.
يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)«1» . ففي مقدورهم إذا أن يفكروا وأن يتدبّروا بعد أن هداهم الله بكتبه إلى الواجب عليهم، وبعد أن دلّهم أنبياؤه ورسله على طريق الحق، وبعد أن دعوا إلى النظر في الكون وتدبّر سننه ومشيئة الله فيه. ومن يؤمن بهذا، ومن يوجّه نفسه وجهته، فلن يصيبه إلا ما كتب الله عليه. فإذا كان قد كتب عليه أن يموت في سبيل الحق أو الخير الذي أمر الله به فلا خوف عليه، وهو وأمثاله أحياء عند ربهم يرزقون، أية دعوة إلى الإقدام وإلى السعي وإلى الإرادة كهذه الدعوة؟ وأين فيها ما يزعم إيرفنج والمستشرقون من تواكل؟!
التواكل ليس من التوكل على الله في شيء. فالتوكل على الله لا يكون بقعود المرء والتخلف عن أمر ربه، بل بالعمل الجدّيّ لما أمر به. وذلك قوله تعالى:(فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) . فالعزم والإرادة يجب إذا أن يسبقا التوكل. وأنت ما عزمت ثم توكلت على الله بالغ نهاية أمرك بفضل منه. وأنت ما ابتغيت وجهه وحده، وما خشيته وحده، وما سلكت سبيله وحده، مهتد إلى الخير بحكم سنة الله في الكون، وسنّة الله لا تحويل لها ولا تبديل. وأنت بالغ هذا الخير، أدّى بك سعيك إلى النجاح والفوز، أو أدى بك إلى الموت. وما ينالك من الخير فمن عند الله. أمّا ما يصيبك من مكروه فيما كسبت يداك وباتباعك سبيلا غير سبيل الله.
فالخير كله بيد الله، والضلال والشر من نزع الشيطان وعمله
…
أمّا علم الله بكل ما يقع في الوجود قبل أن يبرأ الله الوجود، وأنه جلّ شأنه (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)«2» فيرجع إلى أن الله برأ للكون سننا لا تحويل لها ويجب أن تنشأ عنها آثارها. وإذا كان العلماء يذهبون إلى ما قدمنا من أن العلم الواقعي يستطيع إذا عرف أسرار الحياة الإنسانية وسننها، أن يعرف ما قدّر لكل فرد ولكل أمة على وجه اليقين، كما يعرف مواقيت الكسوف والخسوف، فإن الإيمان بالله يقتضي حتما الإيمان بعلمه بكل شيء من قبل أن يبرأ العالم. وإذا كان المهندس الذي يصنع «تصميم» دار أو قصر ويراقب تنفيذ هذا التصميم، يستطيع أن يعلم مدى ما يعيش هذا البناء وما قد تتعرض له أجزاؤه المختلفة على مضيّ السنين، وكان علماء الاقتصاد يذهبون إلى أن السنن الاقتصادية تهداهم على سبيل القطع إلى معرفة ما ينشأ في حياة العالم الاقتصادية من أزمة أو رخاء، فإن مناقشة علم الله بكل صغيرة وكبيرة مما خلق في الكون تجديف لا يقبله عقل منطقي. وهذا العلم لا يصح أن يقف الناس عن التفكير في مالهم، والعمل جهد الطاقة لاتباع جادة الحق وتنكب طريق الضلال؛ فعلم الله غيب عليهم وهم مهتدون آخر الأمر إلى الحق ولو بعد حين. والله قد كتب على نفسه الرحمة، وهو يقبل توبة التائب من عباده ويعفو عن كثير. وما دامت رحمته وسعت كل شيء فليس لإنسان أن ييأس من الاهتداء إلى الحق والخير ما دام ينظر في الكون ويتدبر ما فيه. وليس لإنسان أن يقنط من رحمة الله إذا هداه نظره آخر الأمر سبيل الله. وإنما الويل لمن ينكر إنسانيته ويستكبر عن النظر والتفكير ابتغاء الهدى. أولئك يعاندون الله ولا
(1) سورة الرعد آية 11.
(2)
سورة سبأ آية 3.
يبتغون وجهه، وأولئك ختم الله على قلوبهم، فلهم جهنم ولهم سوء الدار.
أفيرى أولئك المستشرقون سمو الجبرية الإسلامية وانفساح مداها؟! وهل يرون فساد ما يزعمونه من أنها تدعو إلى القعود عن السعي أو قبول المذلة أو الرضا بالخضوع لغير الله!؟ ثم هي من بعد تجعل باب الرجاء في مغفرة الله ورحمته مفتوحا دائما لمن تاب وأناب. فما يزعمونه من أنها تدعو المسلم إلى النظر لما يصيبه من خير أو شر على أنه بعض ما كتب الله فيقعد لذلك صابرا محتملا الضرّ والمذلّة، بعيد عن الحقيقة في أمر هذه الجبرية التي تدعو إلى دوام الدأب ابتغاء رضا الله، وإلى عزم الأمر قبل التوكل على الله. فإذا لم يوفق الإنسان للخير اليوم، فليعمل لعله يوفق له غدا؛ وله من دائم الرجاء في الله أن يسدد خطاه وأن يتوب عليه وأن يغفر له، خير حافز إلى التفكير المتصل والسعي الدائب لبلوغ الغاية من رضا الله، إيّاه يعبد وإياه يستعين، منه جل شأنه الهدى، وإليه يرجع الأمر كله.
ما أعظم القوّة التي تبعثها هذه التعاليم السامية إلى النفس! وما أوسع أفق الرجاء الذي تفتحه أمامها! فأنت موفق للخير ما ابتغيت بعملك وجه الله. وأنت إن أضلك الشيطان مقبولة توبتك ما غالب عقلك هواك فغلبه وعاد بك إلى الصراط المستقيم. والصراط المستقيم هو سنة الله في خلقه، سنة نهتدي إليها بقلوبنا وعقولنا، وبتفكيرنا فيما خلق الله، وبدأبنا في السعي لمعرفة أسراره. فإذا ظلّ من الناس بعد ذلك من يشرك بالله، ومن يبغي الفساد في الأرض، ومن يعميه الإستئثار عن كل معنى من معاني الأخوة، فإنما هو المثل الذي يضربه الله للناس ليروا عاقبة أمر الله فيه لتكون لهم العبرة من مثله. وهذا عدل الله في الناس ورحمته بهم جميعا، لا يحول دونهما ولا يحدّ منهما أن يضلّ ضال فيناله العذاب جزاء ما قدمت يداه.
ولكن! لماذا يفكر الناس ولماذا يعملون والموت لهم بالمرصاد، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون؟ ولماذا يفكر الناس ولماذا يعملون وقد كتب للسعيد منهم أن يكون سعيدا وعلى الشقي منهم أن يكون شقيّا؟ هذا تكرار للسؤال الذي أجبنا عنه سقناه قصدا، لننظر في مسألة كتاب الأجل من ناحية أخرى: فما كتب الله إنما هو سنّة الكون من قبل أن يبرأ الكون، ومن قبل أن يقول له كن فيكون، ولا أدلّ على دقة هذا التصوير من قوله تعالى:(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) . ومعنى هذا أن الرحمة صفة لله وسنّة من سننه في الكون وليست فرضا فرضه على نفسه؛ فالفرض لا يجوز عليه جلّ شأنه. ويقول الله تعالى:
(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) . فإذا ضلّ قوم لم يبعث الله لهم رسولا قضت سنّة الله ألا يعذّب منهم أحدا. وعلم الله باثار سنته في الكون بديهيّ لكل من آمن بأن الله هو الذي خلق الكون. فإذا بعث الله لقوم رسولا ثم قضت سنّة الكون ومشيئة الله فيه أن يصرّ إنسان من هؤلاء القوم على الضلال بعد إذ دعي إلى الهدى، فإساءته على نفسه وهو لغيره عبرة ومثل.
ومن السذاجة القول بأن هذا الذي ضلّ فجوزي بضلاله قد ظلم ما دام الضلال قد كتب عليه. نقول من السذاجة بدل أن نقول من التجديف؛ لأن أبسط قسط من التفكير يهديناا إلى أن من ضلّ يظلم نفسه ولا يظلمه الله. وقد يكفينا في بيان ذلك مثل الأب البار العطوف يدني النار من طفله، فإذا أراد أن يمسكها بعد بها عنه مشيرا إليه أنها تحرقه. ثم هو يدنيها منه مرّة بعد مرة، ولا بأس بأن تحترق إصبع الطفل كي يكون له من حسه الذاتي ما ينبهه إلى الحقيقة الملموسة التي تظل ماثلة أمامه طيلة حياته. فإذا أقدم بعد رشاده فأمسك بالنار أو ألقى بنفسه فيها فجزاؤه ما يصيبه منها، ولا تثريب على أبيه، ولا يطلب أحد إلى هذا الأب أن يحول بينه وبينها. كذلك مثل الأب الذي يدل ابنه على مضرّة القمار أو الخمر، فإذا بلغ الابن رشاده واجترح ما نهاه عنه أبوه فأصابه الشر لم يكن أبوه ظالما إياه، وإن كان في مقدوره أن يحول بينه وبين ما يصنع. وأبوه أبعد عن ظلمه