الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من حقائق الحياة، ويجب لذلك أن يتجنب من يدرس التاريخ سلطان الهوى وحكم المزاج. ولا سبيل إلى تجنبها إلا أن يتقيّد الإنسان بالطريقة العلمية أدق التقيد، وألّا يجعل من العلم والبحوث العلمية في التاريخ أو غير التاريخ مطيّة لإثبات هوى من أهوائه أو نزوة من نزوات مزاجه.
ولقد تأثر كثير من المستشرقين في بحوثهم التي صيغت صيغة العلم بأهواء أمزجتهم، وكذلك فعل كثيرون من كتاب المسلمين، واعجب الأمر في هؤلاء وأولئك أن يتخذ كلّ تزينه نزوات مزاج الآخر من الوقائع ما يقيمه أساسا لكتابة يزعمها علمية ابتغى بها وجه الحق، في حين هو يتأثر فيها بمزاجه وبهواه أشد التأثر.
ودليل ذلك أنه لو كلّف نفسه بعض الجهد في تمحيص ما كتب الآخر تمحيصا نزيها لتداعت أمام نظره الوقائع التي أبدعها خيال صاحبه. ولو أنه فعل وتجرّد جهد طاقته من هوى نفسه، وتحصّن بقواعد العلم وطرائقه، لكانت كتاباته أبقى في النفوس أثرا على خلاف الكتابة التي يدفع إليها الهوى. وقد حاولت أن أبيّن شيئا من أخطاء هؤلاء وأولئك، في هذا التقديم للطبعة الثانية، متوخيا في ذلك ما اقتضاه المقام من إيجاز غاية الإيجاز. ولعلّي وفقت لبعض ما قصدت إليه من نزاهة وإنصاف.
ليس من اليسير أن يقوم المستشرقون في بحوثهم الإسلامية بكل هذه الدقة وهذا الإنصاف، مهما تحسن نيتهم ومهما يتحرّوا الدقة العلمية. فعسير عليهم أن يحيطوا بكل أسرار اللغة العربية وإن أحاطوا بعلومها. ثم إنهم متأثرون بالنصرانية الأوروبية تأثرا يجعل أكثرهم ينظرون إلى الأديان نظرة تملؤها الريبة، ويجعل الأقلين المستمسكين بمسيحيتهم يتأثرون بما كان بين المسيحية والعلم من نضال، فيخضعون في بحوثهم الإسلامية لمثل ما خضع له أمثالهم في بحوثهم المسيحية أو في بحوثهم الدينية بوجه عام، أقصد التأثر بهذا النضال الهدام. وهذا أمر لا يعاب به المستشرقون المنصفون؛ فلن يستطيع أحد من الناس أن يتحرر من حكم بيئته الزمانية والمكانية.
لكنه يجعل بحوثهم في الأمور الإسلامية تشوبها شوائب تنأى عن الحق ولو بمقدار. ومن شأن ذلك أن يلقي على عاتق العلماء من أهل البلاد الإسلامية، سواء منهم المشتغلون بالعلوم الدينية والمشتغلون بغيرها من العلوم، هذا العبء الجليل العظيم؛ عبء القيم بهذه المباحث الإسلامية بدقة ونزاهة في حدود الطريقة العلمية، فإذا فعلوا مستعينين بمعرفتهم أسرار اللغة العربية والحياة العربية، فسيكون لبحوثهم من الأثر أن تعدل بالمستشرقين، أو ببعضهم على الأقل، عن كثير من الآراء وتقنعهم بالنتائج التي وصل إليها علماء البلاد الإسلامية عن طمأنينة نفس وطيب خاطر.
المسلمون وهذه البحوث
وليس الوصول إلى هذه النتائج بالأمر الهين؛ فهو يحتاج إلى جلد ومثابرة في البحث والموازنة والتفكير الحرّ، لكنه ليس كذلك بالأمر المستحيل ولا بالأمر العسير. وهو بعد أمر جليل الخطر عظيم الأثر في مستقبل الإسلام وفي مستقبل الإنسانية كلها. وعندي أن القيام به على وجه صالح يقتضي التفريق بين فترتين مختلفتين من تاريخ الإسلام: أولاهما من بدء الإسلام إلى مقتل عثمان. والثانية من مقتل عثمان إلى أن أقفل باب الإجتهاد؛ ففي الفترة الأولى بقي اتفاق المسلمين تامّا؛ لم تغيّر منه روايات الاختلاف على الخلافة، ولا غيّرت منه حروب الردّة ولا فتح المسلمين للبلاد التي فتحوا. أمّا بعد مقتل عثمان فقد دبّ الخلاف بين المسلمين وقامت الحروب الأهليّة بين عليّ ومعاوية واستمرّت الثورات، ظاهرة تارة خفية أخرى، ولعبت الأهواء السياسية دورا خطيرا في الحياة الدينية نفسها. وحسب الإنسان، ليقدر هذا الخلاف، أن يوازن بين المبادئ التي ينطوي عليها خطاب أبي بكر بعد بيعته حين يقول: «أمّا بعد، أيها الناس، فإني قد وليت عليكم، ولست
بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويّ عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله والقويّ فبكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذلّ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمّهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؛ فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله» وخطاب المنصور العباسيّ بعد تسنّمه ذروة العرش إذ يقول: «أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته، وأعطيه بإذنه؛ فقد جعلني الله عليه قفلا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني
…
» حسب الإنسان أن يوازن بين هذين الخطابين ليرى مدى التغير العظيم في القواعد الأساسية للحياة الإسلامية في أقل من قرنين، تغيّرا نقلها من الشورى بين المسلمين إلى الحكم المطلق المستمدّ من الحق المقدّس.
ولقد كانت هذه الثورات، وما أدّت إليه من انقلاب بعد آخر في أسس الحكم سبب ما آل إليه أمر الدولة الإسلامية من بعد من انحلال وتقهقر. ومع ازدهار الإسلام والحضارة الإسلامية قرنين كاملين بعد مقتل عثمان، ومع ما نشط إليه الإسلام من فتح الممالك وتدويخ الملوك على يد المغول وعلى يد السلاجقة بعد الانحلال الأوّل، فإن الفترة الأولى التي انتهت بمقتل عثمان هي التي تقررت فيها القواعد الصحيحة للحياة الإسلامية العامة؛ وهي لذلك وحدها التي يمكن الاعتماد الثابت اليقيني على ما وقع فيها لمعرفة هذه القواعد الصحيحة. أمّا فيما بعد هذه الفترة، فإنه- على الرغم من ازدهار العلم والمعرفة أيام الأمويين، وخاصّة أيام العباسيين- قد اندست يد العبث بهذه القواعد الأساسية الصحيحة لتقيم مقامها قواعد تتنافى في كثير من الأحيان مع روح الإسلام، تحقيقا لأغراض سياسة شعوبية في أكثر أمرها. وقد كان الأعاجم وكان الذين تظاهروا بالإسلام من اليهود والنصارى هم الذين روّجوا لهذه القواعد الجديدة، غير متورّعين في تأييدها عن اختراع الأحاديث ونسبتها إلى النبي عليه السلام، ولا عن ادّعاء أشياء على الخلفاء الأولين لا تتفق مع سيرتهم ولا تلتئم مع مزاجهم.
هذه الفترة الأخيرة لا يمكن الاعتماد على ما دوّن فيها اعتمادا علميّا دون تمحيصه ونقده، أدق التمحيص والنقد، بغير تأثر بالأهواء أو بنزعات المزاج الذاتي. وأوّل ما يجب من ذلك أن نردّ مما وقع الخلاف عليه فيها كلّ ما لا يتفق مع القرآن، وإن نسب ما وقع عليه الخلاف إلى النبي العربي. أمّا صدر الإسلام الأول إلى مقتل الخليفة الثالث فيمكن الاعتماد على ما يروى مباشرة عنه، ويمكن لذلك أن يتخذ أيضا أساسا لتمحيص ما جاء بعده. وإني لأحسبنا إذا فعلنا هذا كله بدقة علمنية، قديرين على أن نرسم صورة صادقة من قواعد الإسلام الصحيحة ومن الحياة الإسلامية الأولى؛ هذه الحياة العقلية والروحية التي بلغت من القوّة والسموّ مبلغا دفع عرب البادية من أهل شبه الجزيرة لينتشروا في الأرض خلال بضعة عقود من السنين كي يقيموا في مختلف الممالك أسمى المبادئ الإنسانية التي عرفها التاريخ. ولو أننا نجحنا في هذا لكشفنا أمام الإنسانية أفقا تصعد منه إلى معرفة أسرار الكون النفسيّة والروحيّة، وتتصل به عن طريق هذه المعرفة اتصالا يهيء للإنسانية أسباب نعمتها وسعادتها، كما أنها ازدادت استمتاعا بما في الكون حين ازدادت اتصالا بأسرار القوّة والحركة الكمينة فيه بعد أن عرفت الكهرباء والأثير. ولو أننا نجحنا في هذا لكان للإسلام من الفضل على الإنسانية اليوم ما كان له في الصدر الأوّل، حين خرج به العرب من شبه الجزيرة لينشروا مبادئه السامية في العالم كله.
وفي مقدّمة ما يجب علينا من ذلك، خدمة للحقيقة والإنسانية، أن نتعمق في دراسة سيرة النبي العربي تعمّقا يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة التي تنشدها. والقرآن أصدق مرجع لهذه الدراسة؛ فهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل ولا تعلق به الريبة، وهو الكتاب الذي بقي ثلاثة عشر قرنا، وسيبقى أبد الدهر معجزة الحياة في طهارة نصوصه، مصدقا لقوله تعالى:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)«1» ، كما كان وسيبقى معجزة محمد القائمة منذ أوحاه الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فكل ما تعلّق بسيرة محمد يجب أن يعرض على القرآن، فما وافقه كان حقّا، وما لم يوافقه لم يكن بحق. وقد حاولت من ذلك في هذا البحث البدائي جهد طاقتي. فلما عدت إليه بعد طبعة هذا الكتاب الأولى شكرت الله توفيقه ورجوته أن يهيء لمتابعة التعمق فيه تعمقا علميّا من يحبوه هدايته، ويمده بتسديده.
(رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) .
(1) سورة الحجر آية 9.