الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
التمهيد
ويشتمل على ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: بيان بعض المصطلحات العقدية، وتعريفها.
ونبدأ هذه المصطلحات بذكر تعريف العقيدة نفسها.
1 -
فالعقيدة في اللغة: مأخوذة من العقد، وهو الشد والربط والإيثاق والثبوت والإحكام"1".
وفي الاصطلاح: الإيمان الجازم بالله تعالى، وبما يجب له من التوحيد، والإيمان بملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشرِّه، وبما يتفرع عن هذه الأصول ويلحق بها"2" مما هو من أصول الدين.
وقد أطلق كثير من السلف على العقيدة الصحيحة اسم "السنة"، وذلك لتمييزها عن عقائد ومقولات الفرق الضالة، لأن العقيدة الصحيحة وهي عقيدة أهل السنة والجماعة مستمدة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، التي هي مبينة للقرآن.
1 - لسان العرب، مادة "عقد".
2 -
رسالة العقيدة الصحيحة لشيخنا عبد العزيز بن باز ص 3،4، ورسالة مجمل أصول أهل السنة والجماعة ص 5.
وقد ألَّف بعض السلف كتباً في العقيدة أسموها "السنة"، ومنها كتاب "السنة" للإمام أحمد بن حنبل، وكتاب "السنة" لابن أبي عاصم، وغيرهما"1".
كما أطلق بعض العلماء على العقيدة اسم "أصول الدين"، وذلك أن ملة النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى اعتقاديات وعمليات، والمراد بالعمليات علم الشرائع والأحكام المتعلقة بكيفة العمل، كأحكام الصلاة والزكاة والبيوع وغيرها، وتسمى "فرعية"، أو "فروع"، فهي كالفرع لعلم العقيدة، لأن العقيدة أشرف الطاعات، ولأن صحتها شرط في قبول العبادات العملية"2"، فإذا فسدت العقيدة لم تقبل العبادة، وبطل أجرها،
1- ينظر آخر كتاب السنة لابن أبي عاصم 2/645 647، جامع العلوم والحكم: شرح حديث العرباض ص395، كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/8، لوائح الأنوار 1/147، حكم الانتماء ص46.
2-
قال في الدرة المضية:
وبعد فاعلم أن كل العلم
…
كالفرع للتوحيد فاسمع نظمي
لأنه العلم الذي لا ينبغي
…
لعاقل لفهمه لم يبتغ
ينظر الدرَّة المضيّة مع شرحها لوامع الأنوار البهية: المقدمة، ج1 ص4، وص57.
فهذا الإطلاق ينطبق على غالب مسائل العقيدة، كما أن بعض مسائل الأحكام العملية يعتبر من الأمور المهمة في الدين، كالعلم بوجوب الواجبات الظاهرة، مثل أركان الإسلام، ومثل تحريم المحرمات المجمع عليها إجماعاً قطعياً، ونحو ذلك من الأحكام العملية المجمع عليها، والتي من جحدها كفر كما سيأتي عند الكلام على
كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [الزمر] .
قال ابن أبي العز في مقدمة شرح الطحاوية: " أما بعد، فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم، إذ شرف العلم بشرف المعلوم"1" - وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى- ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين "الفقه
=كفر الجحود في الباب الثاني إن شاء الله تعالى -.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع. ينظر مجموع الفتاوى فصل في جمل مقالات الطوائف ج6، ص56، وينظر ج3 ص364367، وج19، ص134.
وبما أن غالب مسائل العقيدة من الأصول وغالب المسائل العملية من الفروع فقد اصطلح على تسمية العقيدة "أصول الدين" وعلى تسمية الأحكام العملية "الفروع"، ولهذا أسمى بعض العلماء مؤلفاتهم في العقيدة باسم "أصول الدين"، مثل:"الإبانة عن أصول الديانة" لأبي الحسن الأشعري، و"مسائل من أصول الديانات" لأبي يعلى، و "سلم الوصول إلى علم الأصول" للحكمي، وغيرها. وينظر: عقيدة السلف للصابوني ص159، 160، التفريق بين الأصول والفروع للدكتور سعد الشثري.
1-
قال البزدوي في كشف الأسرار 1/8 عند كلامه على هذه المسألة: "لأن شرف العلم وعظمته بحسب المعلوم، ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى وصفاته، الذي يبحث فيه هذا العلم ".
الأكبر" - وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه
…
".
هذا وقد أطلق بعض العلماء على العقيدة اسم "الفقه الأكبر"، وذلك لأن العقيدة هي أصل الدين، والفقه العملي - الذي يسمى "الفقه الأصغر" - فروعه، كما سبق.
وقد ألّف الإمام أبوحنيفة رسالة في العقيدة أسماها "الفقه الأكبر"1".
2-
أهل السنة والجماعة:
هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة"2".
وهم: المتمسكون بالعقيدة الصحيحة الخالية من شوائب البدع
1- قال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة السابق كما في فتاويه 12/143 عن نسبة هذا الكتاب لأبي حنيفة: "شهرته معروفة، معلومة، ثابت عن أبي حنيفة بالأسانيد الثابتة". وينظر مقدمة شرح الطحاوية ص5، وكشف الأسرار للبزدوي 1/8.
2-
التنبيهات السنية ص15.
والخرافات وهي العقيدة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق عليها أصحابه رضي الله عنهم "1".
وقد سُمُّوا "أهل السنة" لعملهم بمقتضى سنة النبي صلى الله عليه وسلم المبينة للقرآن، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ ""2"، فهم يعلمون أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم خير الهدي، فقدموه على هدي من سواه.
وسُمُّوا "الجماعة" لأنهم اجتمعوا على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف هذه الأمة، فهم قد اجتمعوا على الحق، وعلى عقيدة الإسلام الخالية من الشوائب"3". وأيضاً فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة
1- ينظر آخر العقيدة الواسطية ص183، ومجموع فتاوى ابن تيمية 3/159، 346، 375، وفتاوى السعدي ص63، 64، وقد أقر هذا التعريف بعض المخالفين لأهل السنة. ينظر الفصل في الملل 2/113، وتلبيس إبليس الباب الثاني ص25، 26، والأمر بالاتباع للسيوطي ص81.
2-
رواه الإمام أحمد 4/126، 127، والترمذي "2676" وقال "حسن صحيح"، وابن ماجه "4244" من طرق يقوي بعضها بعضاً عن العرباض بن سارية. فهو حديث حسن بمجموع طرقه. وقد جوّد إسناده الحافظ أبو نعيم كما في جامع العلوم ص387.
3-
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/157، 358، شرح الواسطية لمحمد خليل هراس ص16، شرح الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين 1/52.
الناجية المتبعة لسنته وطريقة أصحابه - وهم أهل السنة والجماعة"1" - سماهم "الجماعة"، فقد ثبت عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ"2" بصاحبه
…
""3".
"1" فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الفرقة الناجية: " من كان على ما أنا عليه وأصحابي " وسيأتي تخريجه عند تعريف "السلف"، وهذه صفة أهل السنة والجماعة كما سبق.
"2" الكَلَب بفتح اللام مرض يصيب الكلب، فيصيبه شبه الجنون، فإذا عض إنساناً أصيب الإنسان بهذا المرض، وأصيب بالعطش الشديد، ولا يشرب، حتى يموت. ينظر النهاية 4/195، لسان العرب 1/723.
"3" رواه الإمام أحمد 4/102، وأبو داود "4597"، وابن أبي عاصم في السنة "1، 2، 65" بإسناد حسن. وله شاهد من حديث أنس رواه ابن ماجه "3993"، وابن أبي عاصم "64"، وأحمد 3/145، والآجري في الشريعة باب ذكر افتراق الأمم ص16، 17 من طرق يشد بعضها بعضاً. وله طرق أخرى تنظر في السلسلة الصحيحة "204"، وله شاهد آخر من حديث عوف بن مالك رواه ابن ماجه "3992"، واللالكائي "149"، وشاهد ثالث من حديث سعد رواه الآجري ص17، 18، وابن بطه في الإبانة "267".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد كلام له: "ولهذا وصفت الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع. فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة""1".
وهذه التسمية "أهل السنة والجماعة" وصف صادق يميز أهل العقيدة الصحيحة وأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفرق الضالة التي تسير على غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فمن هذه الفرق من يأخذ عقيدته من عقول البشر وعلم الكلام الذي ورثوه عن فلاسفة اليونان، فيقدمونها على كلام الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيردون النصوص الشرعية الثابتة أو يؤولونها لمجرد أن عقولهم القاصرة لم تقبل أو لم تستسغ ما دلت عليه هذه النصوص. ومن هذه الفرق: الفلاسفة، والقدرية، والماتوريدية، والجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة الذين قلدوا الجهمية في بعض آرائهم.
ومن الفرق الضالة من يأخذ عقيدته من آراء مشايخهم وأئمتهم
وقد صحح هذا الحديث الإمام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 3/345، وحسن الحافظ في تخريج الكشاف ص63 حديث معاوية، وصحح البوصيري حديث أنس في الزوائد 4/180.
"1" مجموع الفتاوى 3/345، 346.
المبنية في كثير من الأحيان على الهوى، كالصوفية والرافضة وغيرهم، فيقدمون كلامهم على كلام الله وكلام رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
كما أن هذه الفرق منها من تنتسب إلى من أسسها وأنشأ أصولها العقديَّة، كالجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان، وكالأشاعرة نسبة إلى أبي الحسن الأشعري - وإن كان الأشعري رجع عن هذه العقيدة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة"1"، لكن مقلِّدوه استمروا على عقيدته المنحرفة التي رجع عنها -، والأباضية نسبة إلى عبد الله بن أباض، وغيرهم.
ومن هذه الفرق من تنتسب إلى بعض آرائها العقدية الضالة، أو إلى بعض أفعالها السيئة، كالروافض نسبة إلى رفضهم إمامة أبي بكر وعمر وتبرؤهم منهما، والقدرية نسبة إلى نفي القدر، والخوارج نسبة إلى الخروج على الولاة، وغيرهم"2".
فعصم الله أهل السنة من الانتساب والاتباع لغير سنة المعصوم من
"1" وقد ألف بعد رجوعه إلى عقيدة أهل السنة كتاباً أسماه: "الإبانة عن أصول الديانة" وهو مطبوع، بين فيه أن عقيدة أهل السنة والجماعة هي الحق الذي يجب اعتقاده. وينظر: مجموع الفتاوى 3/227، 228، 261، 262، معارج القبول 1/377، 378.
"2" التنبيهات السنية ص15.
الخطأ والزلل رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، المؤيد بالوحي من السماء، والذي لاينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فليس لهم اسم ينتسبون إليه سوى "السنة""1".
وقد سأل رجلٌ الإمامَ مالك بن أنس، فقال: من أهل السنة يا أبا عبد الله؟ فقال: "الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا رافضي، ولا قدري""2".
وقد أطلق بعض العلماء على أهل السنة اسم "أصحاب الحديث" أو "أهل الحديث"، وذلك لأنهم اهتموا بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم رواية ودراية"3"، واتبعوا ما جاءت به من العقائد والأحكام"4".
و"الحديث" و"السنة" لفظان معناهما متقارب.
"1" مجموع فتاوى ابن تيمية 3/415،416، مدارج السالكين 3/180 184، حكم الانتماء: الفصل السادس ص37 51، التنبيهات السنية ص51.
"2" رواه ابن عبد البر في الانتقاء ص35، وينظر ترتيب المدارك 1/172.
"3" الرواية: ما يتعلق بنقل متن الحديث، وضبطه. والدراية: علم يعرف منه شروط الرواية وأحوال الرواة وشروطهم وأصناف المرويات، وما يتعلق بها. ينظر تدريب الراوي 1/40.
"4" معرفة علوم الحديث ص2-4، مجموع فتاوى ابن تيمية 4/9195، حكم الانتماء ص48.
وأهل السنة كذلك هم الفرقة المنصورة"1" إلى قيام الساعة"2"، الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:" لن تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة " رواه البخاري ومسلم، وغيرهما"3".
وهم الفرقة الناجية"4" المذكورة في حديث معاوية الذي سبق ذكره قريباً، وغيره.
"1" أي التي أيدها الله تعالى وقواها على من خالفها وعاداها، وجعل الغلبة لها. ينظر التنبيهات السنية على الواسطية للرشيد ص33، وشرح الواسطية للشيخ محمد العثيمين 2/377.
"2" شرف أصحاب الحديث ص25-27، العقيدة الواسطية ص16،183، مجموع فتاوى ابن تيمية 2/159، السلسلة الصحيحة 1/478486 شرح الحديث "270".
"3" رواه البخاري "3640"، ومسلم "1921" من حديث المغيرة، ورواه البخاري "3641"، ومسلم "1037" من حديث معاوية، ورواه مسلم "1920" من حديث ثوبان، و"174" من حديث جابر بن سمرة، و"1923" من حديث جابر بن عبد الله، و"1924" من حديث عقبة بن عامر، ورواه الإمام أحمد 5/34، وابن حبان "61" من حديث قرة المزني بإسناد صحيح.
"4" أي التي سلمت من البدع في الدنيا، ومن الهلاك والشرور في الدنيا والآخرة. ينظر العقيدة الواسطية مع شرحها التنبيهات السنية ص12، وشرح الواسطية لابن عثيمين 1/50.
3-
السلف:
السلف في اللغة: الجماعة المتقدمون: يقال: سلَف يسلُف أي مضى، وسلَفُ الإنسان: آباؤه المتقدمون"1".
وفي الاصطلاح: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم وسار على طريقتهم من أئمة الدين من أهل القرون الثلاثة المفضلة"2".
4-
الخَلَف:
الخلف في اللغة: المتأخر، وكل من يجيء بعد من مضى"3".
وفي الاصطلاح: من انحرف عن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في باب العقائد من أهل البدع والأهواء كالخوارج والرافضة، وكأهل الكلام الذين قدموا العقل على النصوص الشرعية: كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة والقدرية
"1" ينظر الصحاح، ولسان العرب، مادة "سلف".
"2" ينظر مقدمة شرح الطحاوية ص19، ولوامع الأنوار البهية 1/20، والمدخل لابن بدران ص421،422، ونموذج من الأعمال الخيرية لمنير الدمشقي ص10،11، وشرح الواسطية للدكتور صالح الفوزان ص130، وشرح الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين 2/372.
وقد أقر هذا التعريف للسلف كثير من الخلف من أهل الكلام. ينظر شرح الجوهرة للبيجوري ص91، وكتاب السنة والجماعة لمحمد بن عبد الهادي المصري ص51.
"3" لسان العرب، مادة "خلف".
والمرجئة وغيرهم"1".
وأهل السنة والجماعة يسيرون على منهج السلف، الذين في مقدمهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ""2"، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الفرقة الناجية قال:" من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي ""3"، كما أنهم ينتسبون إلى مذهب السلف، ولذلك يقال
"1" ينظر الفتوى الحموية لابن تيمية ص14، ولوامع الأنوار ص24.
"2" سبق تخريجه عند تعريف "أهل السنة والجماعة".
"3" رواه الترمذي "2641"، والحاكم 1/120، واللالكائي "147"، وابن بطة العكبري "264، 265"، والآجري ص15، 16 من طرق أحدها صحيح عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو. وإسناده ضعيف، لضعف عبد الرحمن بن زياد، وشيخه ثقة.
وقد حسن هذا الحديث الشيخ محمد ناصر الدين في صحيح سنن الترمذي.
وله شاهد رواه بحشل في تاريخ واسط ص196، والعقيلي في الضعفاء 2/262، والطبراني في الصغير 1/256 من طريق عبد الله بن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن أنس، ورجاله ثقات، عدا عبد الله بن سفيان، فقد ذكره ابن حبان في الثقات، ولم يوثقه غيره. فحديث عبد الله بن عمرو حسن لغيره بهذا الشاهد.
لمن يتبع مذهب السلف "سلفي""1"، أو "على عقيدة السلف الصالح""2" أو "من اتباع السلف الصالح""3"، وهذه التسمية موافقة في المعنى لتسميتهم بـ"أهل السنة" لأن عقيدة السلف الصالح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن سار على نهجهم هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كما سبق في الحديث.
أما من سار على منهج الخلف، فيقال له "خلفي""4"، و "الخلف" يقرون بهذه التسمية، بل إن كثيراً منهم يجترئ فيفضل مذهب الخلف على مذهب السلف"5" الذين في مقدمتهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا اعتراف صريح منهم بمخالفة طريقتهم لطريقة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،
"1" ينظر معجم الشيوخ للذهبي 2/280، 369، وشرح الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين 1/54، وحكم الانتماء للشيخ بكر أبو زيد ص46، ورسالة: نظرات وتعقيبات على كتاب السلفية للشيخ د. صالح الفوزان، ورسالة: مجمل أصول أهل السنة والجماعة للدكتور ناصر العقل ص5، 6.
"2" ينظر معجم الشيوخ للذهبي 1/34.
"3" ينظر رسالة "نظرات وتعقيبات على كتاب السلفية" ص15.
"4" حكم الانتماء ص46.
"5" ينظر شرح الجوهرة ص91. وقد ألف الحافظ ابن رجب في الرد عليهم رسالة "بيان فضل علم السلف على علم الخلف"، وهي مطبوعة، وينظر الحموية ص13، ومقدمة شرح الطحاوية ص21، ولوامع الأنوار ص20، 25.
والتي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى بهذا اعترافاً بالانحراف عن العقيدة الصحيحة"1".
"1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 4/156 159: إن كثيراً من أتباع أبي الحسن الأشعري يصرحون بمخالفة السلف في مثل مسألة الإيمان، ومسألة تأويل الآيات والأحاديث يقولون:"مذهب السلف: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وأما المتكلمون من أصحابنا: فمذهبهم كيت وكيت"، وكذلك يقولون:"مذهب السلف: أن هذه الآيات والأحاديث الواردة في الصفات لا تتأول، والمتكلمون يريدون تأويلها إما وجوباً وإما جوازاً"، ويذكرون الخلاف بين السلف وبين أصحابهم المتكلمين. هذا منطوق ألسنتهم ومسطور كتبهم.
أفلا عاقل يعتبر؟ ومغرور يزدجر؟ : أن السلف ثبت عنهم ذلك حتى بتصريح المخالف، ثم يُحدثُ مقالة تخرج عنهم، أليس هذا صريحاً: أن السلف كانوا ضالين عن التوحيد والتنزيه، وعلمه المتأخرون؟ وهذا فاسد بضرورة العلم الصحيح والدين المتين. وأيضاً فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة وأقوال المتكلمين تارة، كما يفعله غير واحد مثل أبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، والرازي وغيرهم. ولازم المذهب الذي ينصرونه تارة أنه هو المعتمد. فلا يثبتون على دين واحد، وتغلب عليهم الشكوك. وهذا عادة الله فيمن أعرض عن الكتاب والسنة.
وتارة يجعلون إخوانهم المتأخرين أحذق وأعلم من السلف، ويقولون:"طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم"، فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان والتحقيق والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه، أو الخطأ والجهل. وغايتهم عندهم: أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط. ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض، فإنه وإن لم يكن تكفيراً للسلف كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج - ولا تفسيقاً لهم - كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم =
...................................................................................
كان تجهيلاً لهم وتخطئة وتضليلاً، ونسبة لهم إلى الذنوب والمعاصي، وإن لم يكن فسقاً، فزعماً: أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الفاضلة.
ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة - في الأعمال والأقوال، والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها -: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة: من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا يُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد: أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"، وقال غيره:"عليكم بآثار من سلف فإنهم جاءوا بما يكفي وما يشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه".
هذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم "، فكيف يحدث لنا زمان فيه الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة الله تعالى؟ هذا لا يكون أبداً.
وما أحسن ما قال الشافعي رحمه الله في رسالته: "هم فوقنا في كل علم وعقل ودين
المسألة الثانية: خصائص العقيدة الإسلامية.
الخصائص: جمع خصيصة.
والخصيصة: هي الصفة الحسنة التي يتميّز بها الشيء ولا يشاركه فيها غيره.
وخصائص العقيدة الإسلامية كثيرة، نكتفي بذكر ثلاث منها:
1-
أنها عقيدة غيبية:
الغيب: ما غاب عن الحس، فلا يدرك بشيء من الحواس الخمس: السمع والبصر واللمس والشم والذوق.
وعليه فإن جميع أمور ومسائل العقيدة الإسلامية التي يجب على العبد أن يؤمن بها ويعتقدها غيبي، كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وعذاب القبر ونعيمه، وغير ذلك من
وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا".
وأيضاً فيقال لهؤلاء الجهمية الكلابية كيف تَدَعُون طريقة السلف، وغاية ما عند السلف: أن يكونوا موافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإن عامة ما عند السلف من العلم والإيمان: هو ما استفادوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجهم به الله من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد. أ.هـ كلامه رحمه الله مع اختصار يسير.
أمور الغيب التي يُعتَمَد في الإيمان بها على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد أثنى الله تعالى على الذين يؤمنون بالغيب، فقال سبحانه وتعالى في صدر سورة البقرة:{الم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الآية.
2 -
أنها عقيدة شاملة:
ويتضح شمول العقيدة في الأمور الثلاثة الآتية:
الأول: شمول العبادة، فالعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
فالعبادة تشمل العبادات القلبية، كالمحبة، والخوف، والرجاء، والتوكل، وتشمل العبادات القولية كالذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقراءة القرآن، وتشمل العبادات الفعلية كالصلاة والصوم، والحج، وتشمل العبادات المالية، كالزكاة، وصدقة التطوع.
وتشمل كذلك الشريعة كلها، فإن العبد إذا اجتنب المحرمات، وفعل الواجبات والمندوبات والمباحات مبتغيا بذلك وجه الله تعالى كان فعله ذلك عبادة يثاب عليها. وسيأتي الكلام على هذه المسألة بشيء من التفصيل عند الكلام على توحيد الألوهية.
الثاني: أنها تشمل علاقة العبد بربه، وعلاقة الإنسان بغيره من البشر، وذلك في مباحث التوحيد بأنواعه الثلاثة، وفي مبحث الولاء والبراء، وغيرها.
الثالث: أنها تشمل حال الإنسان في الحياة الدنيا، وفي الحياة البرزخية "القبر"، وفي الحياة الأخروية.
3-
أنها عقيدة توقيفية:
فعقيدة الإسلام موقوفة على كتاب الله، وما صح من سنة رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فليست محلاً للاجتهاد، لأن مصادرها توقيفية.
وذلك أن العقيدة الصحيحة لابد فيها من اليقين الجازم، فلابد أن تكون مصادرها مجزوماً بصحتها، وهذا لا يوجد إلا في كتاب الله وما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعليه فإن جميع المصادر الظنية، كالقياس والعقل البشري لا يصح أن تكون مصادر للعقيدة، فمن جعل شيئاً منها مصدراً للعقيدة فقد جانب الصواب، وجعل العقيدة محلاً للاجتهاد الذي يخطئ ويصيب.
ولذلك ضل من ضل من أهل الكلام كالجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، حينما جعلوا العقل مصدراً من مصادر العقيدة، وقدموه على النصوص الشرعية، حتى أصبح القرآن والسنة عندهم تابعين للعقل البشري، وهذا
انحراف عن الصراط المستقيم، واستهانة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتلاعب بعقيدة الإسلام، حيث جعلوها خاضعة لآراء البشر واجتهاداتهم العقلية.
والحق أن العقل مؤيد للنصوص الشرعية، فالعقل الصريح يؤيد النص الصحيح، ولا يعارضه، وما توهمه المعطلة والمؤولة من التعارض بينهما فهو بسبب قصور عقول البشر، ولذلك فإن ما قد يراه أحدهم متعارضاً قد لا يراه الآخر كذلك، وهكذا"1".
وعليه فإن العقل بعتبر مؤيداً للنصوص الشرعية في باب العقائد وغيرها، وليس مصدراً مستقلاً للعقيدة، فلا يجوز أن يستقل بالنظر في أمور الغيب، ولا فيما لا يحيط به علماً، والبشر لا يحيطون علماً بالله ولا بصفاته، كما قال تعالى {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] "2".
"1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند كلامه على مذهب المؤولة: " ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء: أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوز وأوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله. فياليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟ فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أَوَ كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء "". ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 5/29.
"2" ينظر شرح العقيدة الطحاوية ص218 221، الجواب الصحيح 3/130136، رسالة العقيدة السلفية في كلام رب البرية ص1922، وينظر ما يأتي في آخر الكلام على الوسطية في الأسماء والصفات.
المسألة الثالثة: وسطية أهل السنة والجماعة بين فرق الضلال:
عقيدة أهل السنة والجماعة والتي هي عقيدة الإسلام الصحيحة وسط بين عقائد فرق الضلال المنتسبة إلى دين الإسلام، فهي في كل باب من أبواب العقيدة وسط بين فريقين آراؤهما متضادة، أحدهما غلا في هذا الباب والآخر قصر فيه، أحدهما أفرط والثاني فرط، فهي حق بين باطلين: فأهل السنة وسط أي عدول خيار بين طرفين منحرفين، في جميع أمورهم.
وسأذكر خمسة أصول عقدية كان أهل السنة والجماعة وسطاً فيها بين فرق الأمة:
الأصل الأول: باب العبادات:
توسط أهل السنة في هذا الباب بين الرافضة والصوفية وبين الدروز والنصيريين"1".
فالرافضة والصوفية يعبدون الله بما لم يشرعه من الأذكار والتوسلات، وإقامة الأعياد والاحتفالات البدعية، والبناء على القبور
"1" الدروز والنصيريون فرقتان توجدان في بلاد الشام سوريا ولبنان وفلسطين - ومن عقائد النصيريين: أنهم يؤلِّهون علي بن أبي طالب، ومن عقائد الدروز: أنهم يؤلهون الحاكم بأمر الله العبيدي، ولهذا فقد ذكر أهل العلم أنهم مرتدون خارجون من الملة، وأنهم في حقيقة الأمر ليسوا من المسلمين، وإن انتسبوا إلى الإسلام. وينظر ما يأتي في النفاق الأكبر في مبحث "صفات المنافقين" إن شاء الله تعالى.
والصلاة عندها والطواف بها والذبح عندها، وكثير منهم يعبد أصحاب القبور بالذبح لهم أو دعائهم أن يشفعوا له عند الله أو يجلبوا له مرغوباً أو يدفعوا عنه مرهوباً.
والدروز والنصيريون - الذين يسمون العلويون - تركوا عبادة الله بالكلية فلا يصلون ولا يصومون ولا يزكون ولا يحجون
…
الخ.
أما أهل السنة والجماعة فيعبدون الله بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يتركوا ما أوجب الله عليهم من العبادات، ولم يبتدعوا عبادات من تلقاء أنفسهم، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ". متفق عليه"1".
وفي رواية لمسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ""2"، وقوله عليه الصلاة والسلام في خطبته:" أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ". رواه مسلم"3".
"1" صحيح البخاري حديث "2697"، وصحيح مسلم مع شرحه للنووي 12/16، حديث "1718".
"2" صحيح مسلم الموضع السابق.
"3" صحيح مسلم، حديث "867".
الأصل الثاني: باب أسماء الله وصفاته:
توسَّط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين المعطلة، وبين الممثلة.
فالمعطلة منهم من ينكر الأسماء والصفات، كالجهمية.
ومنهم من ينكر الصفات كالمعتزلة.
ومنهم من ينكر أكثر الصفات، ويؤولها كالأشاعرة، اعتماداً منهم على عقولهم القاصرة، وتقديماً لها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعرضون النصوص الشرعية على عقولهم فما قبلته قبلوه، وما لم تقبله ردوه أو أولوه، واعتبروا ذلك تنزيهاً، فجعلوا النصوص محكوماً عليها، لا حاكمة على غيرها، فيجعلون العقل وحده أصل علمهم، ويجعلون القرآن والسنة تابعين له، والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عن النصوص الشرعية.
ولذلك حكموا بوجوب أشياء، وامتناع أشياء أخرى في حق الله تعالى، لحجج عقلية بزعمهم، اعتقدوها حقاً، وهي باطلة، وعارضوا بها نصوص القرآن وسنة المعصوم صلى الله عليه وسلم، حتى قال قائلهم:
وكلّ نصٍّ أَوهَمَ التشبيها"1"
…
أَوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تنزيهَا"2"
"1" السبب الذي أوقع المؤولة في التأويل هو أنهم قاسوا صفات الخالق جل وعلا على صفات المخلوقين، فحملهم ذلك على تأويل أكثر صفات الله تعالى الثابتة في القرآن والسنة، لأنها بزعمهم تشبه صفات المخلوقين، وهذا خطأ ظاهر، فالله جل وعلا يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، فلله تعالى صفات تليق بجلاله وعظمته وكبريائه، وللمخلوق صفات تليق بفقره وذله وضعفه. فصفات الله تعالى لا تماثل صفات المخلوقين. ينظر التوحيد لابن خزيمة 1/57-117، مجموع فتاوى ابن تيمية 5/27،شرح الطحاوية ص57-68.
"2"ينظر جوهرة التوحيد لإبراهيم اللقاني الأشعري مع شرحها تحفة المريد للبيجوري ص91. فهم يردون النص ويؤولونه عن معناه الحقيقي المتبادر منه إلى معنى بعيد، بدون دليل من قرآن أو سنة، فيقولون: ليس المراد المعنى الذي يدل عليه ظاهر النص، وإنما الحق ما علمناه بعقولنا، ثم يجتهدون في تأويل هذه النصوص إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات، ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل، بل يقولون: يجوز أن يراد كذا ويجوز أن يراد كذا، وقد يختلفون في تأويل بعض الصفات اختلافاً كثيراً. فهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين المراد من النص، بل نحن عرفنا الحق بعقولنا. وفي هذا اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبين القرآن الذي أرسله الله من أجل أن
والممثلة يضربون لله الأمثال، ويدعون أن صفات الله تعالى تماثل صفات المخلوقين، كقول بعضهم:"يد الله كيدي" و "سمع الله كسمعي"تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فهدى الله أهل السنة والجماعة للقول الوسط في هذا الباب، والذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بجميع أسماء الله وصفاته الثابتة في النصوص الشرعية، فيصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به أعرف الخلق به رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تأويل ومن غير تمثيل ولا تكييف، ويؤمنون بأنها صفات حقيقية، تليق بجلال الله تعالى، ولا تماثل صفات المخلوقين، عملاً بقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .
فأهل السنة يعتمدون على النصوص الشرعية، ويقدمونها على العقول البشرية، ويجعلون العقل البشري وسيلة لفهم النصوص الشرعية، وشرطاً في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه
يبينه للناس، كما قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ويرون أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم في باب صفات الله تعالى بكلام المراد منه غير معناه الحقيقي المتبادر، ولم يبين ذلك للناس، وأن السلف من الصحابة ومن جاء بعدهم لم يفهموه ولم يبينوه للناس، حتى جاء الأشعري ومن بعده ممن سار على طريقته ففهموه وبينوه للناس. وهذا قول ظاهر البطلان، وفيه من الاتهام للنبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير في تبليغ الرسالة ما لا يخفى.
يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاً بذلك، فهم قد توسطوا في أمر العقل أيضاً، فلم يقدموه على النصوص كما فعل أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، ولم يهملوه ويذموه كما يفعل كثير من المتصوفة، الذين يعيبون العقل، ويقرون من الأمور ما يكذب به صريح العقل، ويُصَدِّقون بأمور يعلم العقل الصريح بطلانها ممن لم يعلم صدقة"1".
الأصل الثالث: باب القضاء والقدر
توسط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين القدرية والجبرية.
فالقدرية نفوا القدر، فقالوا: إن أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم لم تدخل تحت قضاء الله وقدره، فالله تعالى على زعمهم لم يخلق أفعال العباد ولا شاءها منهم، بل العباد مستقلون بأفعالهم، فالعبد على زعمهم هو الخالق لفعله، وهو المريد له إرادة مستقلة، فأثبتوا خالقاً مع الله سبحانه، وهذا إشراك في الربوبية، ففيهم شبه من المجوس الذين قالوا بأن للكون خالقين، فهم "مجوس هذه الأمة".
1- ينظر آخر العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الحنفي ص 786803، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/168، 338، 373 و 5/545، ودرء تعارض العقل والنقل 1/12،20، 105، 133، ومنهاج السنة 2/103 650، والعقيدة الواسطية مع شرحها للشيخ ابن عثيمين 2/6367، والتنبيهات السنية ص191- 206.
والجبرية غلوا في إثبات القدر، فقالوا: إن العبد مجبور على فعله، فهو كالريشة في الهواء لا فعل له ولا قدرة ولا مشيئة.
فهدى اللهُ أهلَ السنة والجماعة للقول الحق والوسط في هذا الباب، فأثبتوا أن العباد فاعلون حقيقة، وأن أفعالهم تُنسب إليهم على جهة الحقيقة، وأن فعل العبد واقع بتقدير الله ومشيئته وخلقه، فالله تعالى خالق العباد وخالق أفعالهم، كما قال سبحانه:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] . كما أن للعباد مشيئة تحت مشيئة الله، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]
ومع ذلك فقد أمر الله العباد بطاعته، وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين، ولا يرضى عن الفاسقين، وقد أقام الله الحجة على العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فمن أطاع أطاع عن بينة واختيار، فيستحق الثواب الحسن، ومن عصى عصى عن بينة واختيار، فيستحق العقاب {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .
فأهل السنة يؤمنون بمراتب القضاء والقدر الأربع الثابتة في الكتاب والسنة، وهي:
1-
علم الله المحيط بكل شيء، وأنه تعالى عالم بما كان وما سيكون، وبما سيعمله الخلق قبل أن يخلقهم.
1 -
كتابة الله تعالى لكل ما هوكائن في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
2-
مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن كل ما يقع في هذا الوجود قد أراده الله قبل وقوعه.
3-
أن الله خالق كل شيء، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه"1".
وقد نظم بعضهم هذه المراتب بقوله:
علم كتابة مولانا مشيئته
…
كذاك خلقٌ وإيجادٌ وتكوين
الأصل الرابع: باب الوعد والوعيد:
توسط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين الوعيدية وبين المرجئة.
فالوعيدية يغلبون نصوص الوعيد على نصوص الوعد، ومنهم الخوارج الذين يرون أن فاعل الكبيرة من المسلمين كالزاني وشارب الخمر كافر مخلد في النار.
1- تنظر المراجع المذكورة في التعليق السابق، وينظر منهاج السنة 3/5-276، شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل 1/91-179، شرح الطحاوية ص317-364، معارج القبول 3/917-940.
والمرجئة غلبوا نصوص الرجاء على نصوص الوعيد، فقالوا: إن الإيمان هو التصديق القلبي، وأن الأعمال ليست من الإيمان، فلا يضر مع الإيمان معصية، فالعاصي كالزاني وشارب الخمر لا يستحق دخول النار"1"، وإيمانه كإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
1- وقريب من هذه العقيدة ما يقوله كثير من العصاة المنتسبين إلى الإسلام ويعتقده، فتجد أحدهم يستكثر من المعاصي، فيترك كثيراً من الواجبات ويفعل كثيراً من المعاصي، ثم يتعلق ويحتج بأحاديث الوعد، كحديث:" من قال: لا إله الله ختم له بها دخل الجنة " رواه أحمد 5/391، فيجاب عن قول هؤلاء بأمرين:
الأمر الأول: أن الإيمان إذا وجد في القلب حقيقة حمل العبد على فعل الواجبات وترك المحرمات، فكون الإنسان يعرض عن دين الله ولا يعمل به ويصر على معصية الله تعالى فهذا دليل على خلو قلبه من الإيمان، كما سيأتي عند الكلام على كفر الإعراض.
الأمر الثاني: أنه لابد من الجمع بين نصوص الوعد ونصوص الوعيد، فمن تعلق بنصوص الوعد وهي نصوص الرجاء وترك نصوص الوعيد فقد ضل، كما فعل المرجئة، وكذلك من تعلق بنصوص الوعيد وترك نصوص الرجاء فقد ضل أيضاً. فنقول لهذا العاصي المتعلق بنصوص الرجاء: يلزمك أن تجمع بين نصوص الرجاء وبين نصوص الوعيد، فيلزمك أن تجمع مثلاً، بين هذا الحديث الذي احتججت به وبين قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] وأن تجمع بينه وبين حديث " لا يدخل الجنة نمام " رواه البخاري "6056"، ومسلم "105"، فإن قلت: إن من قتل مسلماً مع أنه يقول لا إله إلا الله وختم له بها لا يدخل الجنة، ومن وقع في النميمة وأصر عليها وهو من المسلمين
أما أهل السنة والجماعة فيرون أن المسلم إذا ارتكب معصية من الكبائر لا يخرج من الإسلام، بل هو مسلم ناقص الإيمان، ما دام لم يرتكب شيئاً من المكفرات، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وهو في الآخرة تحت مشيئة الله، إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه حتى يطهره من ذنوبه ثم يدخله الجنة، ولا يخلد في النار إلا من كفر بالله تعالى أو أشرك به.
فالإيمان عند أهل السنة: قول باللسان واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية"1".
الأصل الخامس: باب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
توسَّط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين الشيعة وبين الخوارج.
فالشيعة ومنهم الرافضة غلوا في حق آل البيت كعلي بن أبي طالب وأولاده رضي الله عنهم فادعوا أن علياً رضي الله عنه
لا يدخل الجنة، فقد ناقضت قولك. ولذلك ينبغي للجاهل أن لا يقول في شرع الله ما لا علم له به، فإن هذا من كبائر الذنوب، ويجب على المسلم أن يعتقد ما دل عليه مجموع النصوص في مرتكب الكبيرة، كما هو عقيدة أهل السنة والجماعة.
1-
تنظر المراجع السابقة المذكورة عند الكلام على الوسطية في الأسماء والصفات، وينظر شرح العقيدة الطحاوية ص459-529، الكواكب الدرية ص192-194.
معصوم، وأنه يعلم الغيب، وأنه أفضل من أبي بكر وعمر، ومن غلاتهم من يدعي ألوهيته.
والخوارج جفوا في حق علي رضي الله عنه فكفروه، وكفروا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم.
كما أن الروافض جفوا في حق أكثر الصحابة، فَسَبُّوهم، وقالوا: إنهم كفار، وأنهم ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أبو بكر وعمر عند بعضهم كانا كافرين، ولا يستثون من الصحابة إلا آل البيت ونفراً قليلاً، قالوا: إنهم من أولياء آل البيت، كما أنهم يشتمون أمهات المؤمنين، وأفاضل الصحابة، وعلى رأسهم أبوبكر وعمر علانية، لكنهم قد يترضون عنهم ويظهرون موالاتهم لهم تقرباً إلى أهل السنة ومخادعة لهم، لأن من عقائدهم عقيدة التقيّة، فيظهرون لأهل السنة خلاف ما يبطنون"1".
1- قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 28/477-479: والرافضة كفَّرت أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكفَّروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين، ولهذا يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين، فهم أشدّ ضرراً على الدين وأهله، وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية، ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة، ولهذا يستعملون التقية التي هي سيما المنافقين واليهود، وهم
أما أهل السنة والجماعة فيحبون جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويترضون عنهم، ويرون أنهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأن الله اختارهم لصحبة نبيِّه، ويمسكون عما حصل بينهم من التنازع، ويرون أنهم مجتهدون مأجورون، للمصيب منهم أجران، وللمخطئ أجر واحد على اجتهاده، ويرون أن أفضلهم أبوبكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ويحبون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم "1"، ويرون أن لهم حقان، حق الإسلام، وحق القرابة من
يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين. انتهى كلامه بحروفه مختصراً.
1-
وهم أقاربه المؤمنون به، الذين تحرم عليهم الصدقة، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، وأزواجه صلى الله عليه وسلم، وقد دل على دخول أزواجه في أهل بيته: قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 32،33] . قال القرطبي في تفسيره: فاقتضت الآية أن الزوجات من آل البيت، لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن، يدل عليه سياق الكلام، وقال بنحو قول القرطبي هذا ابن كثير في تفسيره، وابن القيم في جلاء الأفهام ص114، والشوكاني في تفسيره.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوالونهم، ويترضون عنهم"1".
1- تنظر المراجع المذكورة عند الكلام على الوسطية في الأسماء والصفات، وينظر العقيدة الطحاوية مع شرحها ص689741، ومنهاج السنة الأجزاء من 4 إلى 8.