المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل الخامس:‌ ‌ البدعة البدعة في اللغة: مصدر "بدع"، وهو: ابتداء الشيء - [شرح] تسهيل العقيدة الإسلامية - ط ٢ - الكتاب

[عبد الله بن عبد العزيز الجبرين]

فهرس الكتاب

- ‌التمهيد

- ‌التوحيد

- ‌مدخل

- ‌ توحيد الربوبية

- ‌توحيد الألوهية

- ‌مدخل

- ‌شهادة لا إله إلا الله

- ‌معناها وفضلها

- ‌ شروطها ونواقضها

- ‌العبادة

- ‌تعريف العبادة وبيان شمولها

- ‌ شروط العبادة وأصولها

- ‌توحيد الأسماء والصفات

- ‌مدخل

- ‌ طريقة أهل السنة في أسماء الله وصفاته

- ‌ أقسام الصفات

- ‌ أمثلة لبعض الصفات الإلهية الثابتة في الكتاب والسنة

- ‌ ثمرات الإيمان بالأسماء والصفات

- ‌نواقض التوحيد

- ‌الشرك الأكبر

- ‌تعريفه وحكمه

- ‌ أقسام الشرك الأكبر

- ‌الكفر الأكبر

- ‌تعريفه وحكمه

- ‌ أنواع الكفر

- ‌النفاق الأكبر (الاعتقادي)

- ‌تعريفه وحكمه

- ‌ أعمال المنافقين الكفرية

- ‌ صفات المنافقين

- ‌مقتضيات التوحيد

- ‌الوسائل التي توصل إلى الشرك الأكبر

- ‌مدخل

- ‌ الغلو في الصالحين

- ‌ التبرك الممنوع:

- ‌ رفع القبور وتجصيصها، وإسراجها، وبناء الغرف فوقها، وبناء المساجد عليها، وعبادة الله عندها

- ‌الشرك الأصغر

- ‌تعريفه وحكمه

- ‌ أنواع الشرك الأصغر:

- ‌الكفر الأصغر

- ‌تعريفه وحكمه

- ‌ أمثلته

- ‌النفاق الأصغر

- ‌تعريفه وحكمه

- ‌ خصاله وأمثلته

- ‌ البدعة

- ‌الولاء والبراء

- ‌تعريفها وحكمها

- ‌‌‌مظاهر الولاء المشروعوالولاء المحرم

- ‌مظاهر الولاء المشروع

- ‌ مظاهر الولاء المحرم

- ‌ ما يجوز أو يجب التعامل به مع الكفار مما لا يدخل في الولاء المحرم

الفصل: الفصل الخامس:‌ ‌ البدعة البدعة في اللغة: مصدر "بدع"، وهو: ابتداء الشيء

الفصل الخامس:‌

‌ البدعة

البدعة في اللغة: مصدر "بدع"، وهو: ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال سابق"1"، وإحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر"2".

فالبدعة لغة: خلاف السنة، وهي اسم لما ابتدع في الدين وغيره"3".

والبدعة في الاصطلاح الشرعي: كل اعتقاد أو قول أو فعل أو ترك تعبّد به لله تعالى، وليس في الشرع ما يدل على مشروعيته"4".

"1" معجم مقاييس اللغة 1/209.

"2" العين للخليل بن أحمد 2/54.

"3" المرجع السابق. والبَدْع – بفتح الباء – إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر، كما قال الله تعالى عن نفسه:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي أن الله تعالى ابتدعهما ولم يكونا قبل ذلك شيئاً.

والبِدْع - بكسر الباء وسكون الدال-: الشيء الذي يكون أولاً في كل أمر، كما قال جل شأنه:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} أي لست بأول مرسل. ينظر: المرجع السابق.

"4" للعلماء تعريفات كثيرة قريبة من هذا التعريف، تنظر في مجموع الفتاوى 4/107،108، 195،196، و18/246، فتح الباري 13/253، جامع العلوم شرح

ص: 469

.....................................................................

الحديث 28، الاعتصام لأبي إسحاق الشاطبي المالكي 1/37، السنن والمبتدعات للشقيري المصري ص15، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين "جمع أشرف بن عبد المقصود" 1/122، وتنظر: رسالة حقيقة البدعة 1/263-267، فقد نقل تعريفات للبدعة لجماعة من أهل العلم. ومن هذا التعريف يعلم أن المستحدث في العادات كأمور المأكل والمشرب والملبس وما يستعمله الناس في حياتهم من آلات ونحوها، كل هذا لا يدخل في البدعة الشرعية – وإن كان يسمى في اللغة بدعة – إلا إن قصد به التقرب إلى الله تعالى، فحينئذ إن كان له أصل في الشرع فهو مشروع، وليس ببدعة في الشرع، وإن لم يكن له أصل في الشرع فهو بدعة شرعية محرمة. وقال الشيخ أحمد الرومي الحنفي المتوفى سنة "1043هـ" كما في المجالس الأربعة من مجالس الأبرار ص371، 372 بعد ذكره لحديثي جابر والعرباض الآتيين، قال: "المراد بالبدعة المذكورة في هذين الحديثين البدعة السيئة التي ليس لها من الكتاب والسنة أصل وسند ظاهر أو خفي، ملفوظ أو مستنبط. لا البدعة غير السيئة التي يكون لها أصل وسند ظاهر أو خفي، فإنها لا تكون ضلالة، بل هي قد تكون مباحة كاستعمال المنخل والمواظبة على أكل لب الحنطة، والشبع منه، وقد تكون مستحبة كبناء المنارة، وتصنيف الكتب، وقد تكون واجبة كنظم الدلائل لرد شبه الملاحدة والفرق الضالة؛ لأن البدعة لها معنيان، أحدهما: لغوي عام، وهو المحدث مطلقاً، سواء كان من العادات أو من العبادات، والثاني: شرعي خاص، وهو الزيادة في الدين أو النقصان منه بعد الصحابة بغير إذن من الشارع، لا قولاً ولا فعلاً، لا صريحاً ولا إشارةً، فإنها في

ص: 470

والبدعة تنقسم بحسب متعلقها إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: البدعة الاعتقادية: وهي اعتقاد خلاف ما أخبر الله به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن أمثلة هذه البدعة: بدعة التمثيل أو التعطيل، وبدعة نفي القدر أو القول بالجبر، والابتداع باستعمال علم الكلام والاعتماد على العقل البشري"1" وكاعتقاد أن الأولياء يتصرفون في الكون ونحو ذلك.

الحديثين وإن كانت عامة تشتمل على جميع المحدثات لكن عمومها ليس بحسب معناها اللغوي، بل عمومها بحسب معناها الشرعي الخاص، فلا تتناول العادات أصلاً، بل تقتصر على بعض الاعتقادات وبعض صور العبادات

إذا تقرر هذا، فالمنارة عون لإعلام وقت الصلاة، وتصنيف الكتب عون للتعليم والتبليغ، ونظم الدلائل لرد شبه الملاحدة والفرق الضالة، نهي عن المنكر وذب عن الدين، فكل منها مأذون فيه، بل مأمور به؛ لأن البدعة غير السيئة ما لم يحتج إليه الأوائل ثم احتاج إليه الأواخر ورأوه حسناً على سبيل الإجماع بلا خلاف، ولا نزاع". وينظر التعليق الآتي قريباً فيما يتعلق بما أحدث وله أصل في الشرع وفيما يتعلق بالبدع في الأمور الدنيوية المباحة.

"1" قال الحافظ ابن حجر في الفتح: الاعتصام باب الاقتداء 13/253 بعد ذكره لبعض الأمور التي أحدثت وأدركها بعض السلف، قال: "اشتد إنكار السلف لذلك كأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي، وكلامهم في ذم أهل الكلام مشهور، وسببه أنهم تكلموا فيما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وثبت عن مالك أنه لم

ص: 471

القسم الثاني: البدعة العملية: وهي التعبد لله بغير ما شرع، وذلك بإحداث عبادة لم تُشرع، أو الزيادة أو النقص في عبادة مشروعة، أو الإتيان بالعبادة على صفة محدثة، أو المواظبة على عبادة مشروعة في وقت معين، مع أنه لم يرد دليل شرعي على مشروعيتها في هذ الوقت.

ومن أمثلة هذه البدعة: البناء على القبور، والدعاء عندها، وبناء المساجد عليها، والأعياد والاحتفالات المحدثة التي يتعبد لله تعالى بها، ونحوذ لك.

القسم الثالث: بدعة الترك: وهي ترك المباح أو ترك ما طلب فعله تعبداً.

يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر شيء من الأهواء – يعني بدع الخوارج والروافض والقدرية – وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرهاً، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة والله الموفق".

ص: 472

ومن أمثلة هذه البدعة: ترك أكل اللحم تعبُّداً، وترك الزواج تعبُّداً "1".

"1" ولا يدخل في هذا ترك ما طلب فعله إيجاباً أو ندباً لدليل شرعي آخر، فلا حرج عليه إذا تركه تعبداً كأن يترك الحج المندوب لأنه يؤدي إلى تعطيل عبادة أهم منها، أو يؤخر الحج الواجب لأنه يخشى فتنة في دينه. وكذلك لا يدخل في هذا ما لو منع نفسه من أكل نوع من الأطعمة المباحة مدة من الزمن؛ لأنه يؤدي به إلى الوقوع في أمر محرم.

وفي كل من البدع الاعتقادية والعملية ما هو بدعة في الأصول أو في الفروع، وإن كان الغالب على البدع الاعتقادية أنها بدع في الأصول، وكثير من البدع العملية مبني على بدعة اعتقادية.

وقد ذكر الإمام أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي المالكي أن الابتداع الذي يخرج صاحبه من الفرقة الناجية، ويصيّره من الفرق الضالة هو ما كان في

أ) معنى كلي في الدين. ب" أو كان في قاعدة من قواعد الشريعة.

ج" أو كان في أصل عام من أصول الشرع.

د" أن يكثر من اختراع وإنشاء الفروع والجزئيات بحيث تعود لكثرتها على كثير من الشريعة بالمعارضة.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن البدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء –وهم أهل البدع– هي ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض والقدرية ونحوهم. وذكر أن مذهب السلف أنهم لا يؤثمون مجتهداً في المسائل الأصولية ولا الفرعية.

ص: 473

وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم البدع والتغليظ على مبتدعها وفاعلها، ومن أهمها قول الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى:21]، وما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما – قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته:" أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة "رواه مسلم "1"، وما رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ""2"،

ينظر فيما سبق: الحوادث والبدع للطرطوشي ص36،40،مجموع الفتاوى 6/56-58، و11/200، و12/484-501، و19/203-219، و34/414،415، الاستقامة 1/254، 255، مختصر الفتاوى المصرية ص320، الاعتصام 1/162-166، و2/200—258، المجالس الأربعة من مجالس الأبرار للرومي الحنفي ص371، رسالة: سؤال وجواب في أهم المهمات للسعدي " مطبوعة ضمن المجموعة الكاملة 1/69"، رسالة حقيقة البدعة 2/262-267، و273-279، رسالة موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع 1/64-72، و100-102، و118-122.

"1" صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة "867".

"2" سبق تخريجه في المقدمة عند تعريف"أهل السنة والجماعة".

ص: 474

وما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ". رواه البخاري ومسلم"1"، وفي رواية لمسلم:" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ". وما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين أرادوا أن يزيدوا على عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني "رواه البخاري ومسلم"2".

فصيغ العموم الواردة في النصوص السابقة تدل على تحريم جميع البدع التي يحدثها الناس ويتعبدون لله بها وليس لها أصل في الشرع"3" وأنه ليس شيء منها حسنا ً.

"1" صحيح البخاري: الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور "2697"، وصحيح مسلم: الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة "1718".

"2" البخاري: فاتحة النكاح "5063"، ومسلم: فاتحة النكاح "1401"، قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث في الفتح 9/105:"المراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني".

"3" أما ما له أصل في الشرع فليس من البدع، اللهم إلا أن يراد أنه بدعة لغة، لأن

ص: 475

.......................................................................

البدعة في اللغة أعم منها في الشرع، كما هو ظاهر من التعريفين اللغوي والشرعي للبدعة – كما سبق بيانهما -.

وقد نص على هذا بعض أهل العلم، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: الاعتصام، باب الاقتداء 13/253:"المحدثات: جمع محدثة، والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع "بدعة"، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة، بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة، سواء كان محموداً أو مذموماً".

وعلى هذا فقد يكون الفعل بدعة في اللغة ولا يكون بدعة في الشرع، كأن يأتي في النصوص الحث على عبادة معينة فلا يتحقق فعلها إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، إما لوجود علة مانعة من فعلها في حياته صلى الله عليه وسلم أو لغير ذلك، فهي في حق أول من فعلها تعتبر بدعة لغوية، لأنه إحداث على غير مثال سابق، ولا تعتبر بدعة شرعية، لدلالة النصوص على مشروعيتها، ومن ذلك جمع القرآن في مصحف واحد، وكتابة الحديث في المسانيد والسنن والجوامع، وصلاة التراويح، وتأليف كتب العلم في الفنون المختلفة، وفتح المدارس، ونحو ذلك، فهذه كلها ليست بدعاً شرعية، لدلالة الأدلة الشرعية على جوازها، ولذلك قال عمر رضي الله عنه عن جمعه للناس في صلاة التراويح على إمام واحد:"نعمت البدعة هذه"ومراده البدعة اللغوية لا الشرعية كما سيأتي بيان ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك ما إذا صنع أو اشترى المسلم آلة حربية من المخترعات الحديثة واستعملها في حرب الكفار أو اقتناها لذلك، كمدفع أو دبابة أو طائرة أو غيرها، فهذه كلها

ص: 476

_________

يصح أن تسمى"بدعة"في اللغة، ولكنها ليست بدعة شرعية، بل هي من الأمور المطلوبة شرعاً، لقوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} .

ومما يدخل في البدعة اللغوية ما يحدثه الناس في الأمور الدنيوية المباحة، ولا يقصدون التعبد به لله تعالى، كالمخترعات والمحدثات في أمور الملبس والمركب، وكأساليب البناء، وكأجهزة الاتصالات، وكالأجهزة والعقاقير الطبية، وغيرها، فهذه كلها لا تعتبر بدعة في الشرع، بل هي من المباحات، إذا لم يوجد في شيء منها ما هو ممنوع شرعاً من وجه آخر، كأن يكون فيه تشبه محرم، أو فيه إسراف أو خيلاء، أو كان فيه ضرر أو مخالفة لنص أو أصل شرعي، ينظر: السنن والمبتدعات للشقيري ص18.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم ص598، قاعدة تضبط بها البدعة الشرعية المحرمة، فقال:"ما رآه الناس مصلحة نظر في السبب المحوج إليه، فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض زال بموته. وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد، فهنا لا يجوز الإحداث، فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً لو كان مصلحة ولم يفعل - يعلم أنه ليس بمصلحة-، وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخلق، فقد يكون مصلحة".

وقال شيخنا محمد العثيمين في رسالة"الإبداع"وهي مطبوعة ضمن مجموع فتاواه

ص: 477

وهذه الصيغ العامة هي:" ما " في الآية والحديث و " كل محدثة بدعة "، و" كل بدعة ضلالة " و" عملاً "، فهذه الألفاظ كلها

"جمع فهد السلمان 5/251" عند كلامه على إنشاء المدارس وتصنيف الكتب، وما أشبه ذلك مما استحسنه المسلمون، وكيف يجمع بينه وبين حديث " كل بدعة ضلالة "؟ قال:"هذا في الواقع ليس ببدعة، بل هذا وسيلة إلى مشروع، والوسائل تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ومن القواعد المقررة أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فوسائل المشروع مشروعة

فالمدارس وتصنيف العلم، وتأليف الكتب وإن كان بدعة لم يوجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه، إلا أنه ليس مقصداً بل هو وسيلة، والوسائل لها أحكام المقاصد". وينظر أيضاً: مجموع الفتاوى 21/317-319، الاقتضاء 2/591-597، الاعتصام 2/79،80، 205، جامع العلوم شرح الحديث 28، فتح الباري 13/253، السنن والمبتدعات ص 15،18، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع الطيار ص 838،839"، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين "جمع أشرف بن عبد المقصود 1/123، وجمع فهد السليمان 2/292،293 "، رسالة حقيقة البدعة، الباب الأول والباب الثاني، ورسالة موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع 1/93، وينظر ما سبق نقله عن الرومي الحنفي عند تعريف البدعة.

وينبغي التنبيه إلى مسألة مهمة، وهي أن بعض من يقع في بعض البدع يحتج على جوازها بفعل بعض أهل السنة لبعض الأمور التي يرى أنها تشبه البدعة التي وقع فيها، وهذا ليس بحجة، فالواجب أن تعرض تصرفات الناس على الكتاب والسنة، فما وافقهما فهو الحق، وما خالفهما فهو الباطل بغض النظر عن فاعلها، والله أعلم.

ص: 478

تدل على العموم، فهي صريحة في أن جميع البدع محرمة وممنوع من فعلها"1".

فلا يجوز لمسلم أن يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول غيره من البشر كائناً من كان"2"، فإن عارض قوله صلى الله عليه وسلم بقول غيره، كان ذلك

"1" قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي في الاعتصام 1/141،143:"قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكررها، وإعادة تقررها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم، كقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وما أشبه ذلك، وبسط الاستدلال على ذلك هنالك، فما نحن بصدده من هذا القبيل، إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة: أن كل بدعة ضلالة، وأن كل محدثة بدعة، وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة. ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها. فدلّ ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها"انتهى كلامه رحمه الله، وينظر:"شرح الواسطية"ورسالة"الإبداع"كلاهما لشيخنا محمد بن عثيمين "مطبوعتان ضمن مجموع فتاواه 5/248،و8/640".

"2" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم ص591: "ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية، وهي قوله:"كل بدعة ضلالة"بسلب عمومها، وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم أقرب منه إلى التأويل". وقال أيضاً في المرجع السابق ص586:

ص: 479

دليلاً على ضعف التأسِّي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودليلاً على نقص محبته له عليه الصلاة والسلام؛ لتقديمه قول غيره وهوى نفسه على سنة خير البشر صلى الله عليه وسلم"1".

"إن قيل عن بدعة معينة: هذه البدعة حسنة؛ لأن فيها من المصلحة كيت وكيت، فهؤلاء المعارضون يقولون: ليست كل بدعة ضلالة، والجواب: أما القول: إن شر الأمور محدثاتها، وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والتحذير من الأمور المحدثات: فهذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم". قلت: أي قد نبذ الشرع وتركه وخرج على حكمه، ينظر: الصحاح ولسان العرب، مادة"رغم".

"1" إذ كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " ثم يأتي ويقول: بل ليس كل بدعة ضلالة، وبدعة كذا حسنة، وهذا بلا شك مضادة للشرع الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. قال الإمام أبوإسحاق الشاطبي المالكي في الاعتصام 1/142-144 بعد كلامه الذي سبق نقله قريباً، وبعد ذكر إجماع الصحابة على ترك البدع:"إن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه؛ لأنه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع، والشرع قد دل على أن الهوى هو المتبع الأول في البدع، وهو المقصود السابق في حقهم ودليل الشرع كالتبع في حقهم، ولذلك تجدهم يتأولون كل دليل خالف هواهم، ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم، ألا ترى إلى قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} فأثبت لهم الزيغ أولاً،

ص: 480

.....................................................................

وهو الميل عن الصواب، ثم اتباع المتشابه وهو خلاف المحكم الواضح المعنى، الذي هو أم الكتاب ومعظمه. ومتشابهه على هذا قليل، فتركوا اتباع المعظم إلى اتباع الأقل المتشابه الذي لا يعطي مفهوماً واضحاً ابتغاء تأويله، وعامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح، فهو عمدتهم الأولى، وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع، فهو المقدم في نحلهم بحيث لا يتهمون العقل، وقد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر، حتى يردوا كثيراً من الأدلة الشرعية.

وقد علمت - أيها الناظر - أنه ليس كل ما يقضي به العقل يكون حقاً، ولذلك تراهم يرتضون اليوم مذهباً ويرجعون عنه غداً، ثم يصيرون بعد غد إلى رأي ثالث، ولو كان كل ما يقضي به حقاً لكفى في إصلاح معاش الخلق ومعادهم، ولم يكن لبعثة الرسل عليهم السلام فائدة، ولكان على هذا الأصل تعد الرسالة عبثاً لا معنى له، وهو كله باطل، فما أدى إليه مثله. فأنت ترى أنهم قدموا أهواءهم على الشرع، ولذلك سموا في بعض الأحاديث وفي إشارة القرآن: أهل الأهواء". انتهى كلامه بحروفه مختصراً.

وقال الشيخ محمد بن عبد السلام الشقيري المصري في السنن والمبتدعات ص15،17:"كل بدعة في الدين ضلالة، كما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلا يمكننا أن نغير ولا نحرف ولا نؤول ما قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه ضلالة وفي النار، إلى أنه مستحسن.. وتقسيم بعض متأخري الفقهاء البدعة إلى خمسة أقسام خطأ وظن: {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} بل هذا منهم مشاقة ومحادة للرسول صلى الله عليه وسلم القائل: " وكل بدعة ضلالة " فلهم نصيب من الوعيد المذكور في آية: {وَمَنْ

ص: 481

وقد ثبت عن الإمام مالك أنه قال:"من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً""1"، وقد ثبت عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن كثير من البدع في وقائع متعددة"2".

يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} .

وينظر ما يأتي ذكره في التعليق الآتي في أواخر الكلام على بدعة الغلو في القبور من تزيين الشيطان البدعة في نفس فاعلها وتمثله لبعض العصاة في صورة آدمي ليعينه على المعصية، فيؤدي به ذلك إلى أن يحرص عليها ويدعو إليها.

"1" روى هذا القول عن الإمام مالك تلميذه ابن الماجشون كما في الاعتصام 1/49، وقال أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي المالكي في الموضع السابق من الاعتصام:"فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولا استدرك عليها".

"2" ومن ذلك ما رواه الدارمي في كراهية أخذ الرأي "204"، وبحشل في تاريخ واسط في ترجمة أبي الشعثاء ص 198، 199 بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه أخبر عن قوم جالسين حلقاً في المسجد ينتظرون الصلاة، وفي كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبِّروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فوقف

ص: 482

.......................................................................

ابن مسعود على حلقة من تلك الحلق، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. فقال: ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة محمد صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه.

ورواه عبد الرزاق في ذكر القُصَّاص رقم "5409"، وابن وضاح في "البدع" رقم "9، 19،20،23" والطبراني في الكبير رقم "8628" إلى "8633"، ورقم "8636" إلى "8639" من طرق كثيرة، وبعض أسانيد الطبراني حسن، وقد صحح بعضها الهيثمي 1/181.

ورواه عبد الرزاق "5408" مختصراً بإسناد صحيح رجاله رجال الصحيحين.

وروى أبو داود "5384"، والطبراني "13486"، والبيهقي في السنن 1/424 عن مجاهد قال: كنت مع ابن عمر فثوب رجل في الظهر أو العصر، فقال: اخرج بنا، فإن هذه بدعة. وإسناده حسن، وقد حسنه الألباني في الإرواء "236".

والتثويب هو أن ينادي المؤذن بعد الأذان للصلاة إذا أبطأ الناس.

وروى ابن وضاح "32" عن عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنهما قال: "بينما نحن في المسجد ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي، فأرسل إلي أبي، فوجدته قد احتجز، معه هراوة، فأقبل علي، فقلت: يا أبت مالي مالي؟ قال: ألم أرك مع العمالقة؟ ثم قال: هذا قرن خارج الآن. وإسناده

ص: 483

وقد حكى الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي الأندلسي إجماع السلف من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذم البدع وتقبيحها"1"، وهذا إجماع صحيح غير مخروم، فلم يثبت عن أحد من الصحابة أو التابعين أنه أجاز شيئاً من البدع أو تساهل في أمرها"2"، بل قد ثبت عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال:"كل بدعة ضلالة، وإن

صحيح رجاله ثقات رجال مسلم، عدا شيخ ابن وضاح، وهو ثقة إمام مترجم في سير النبلاء 12/108، والظاهر أن عبد الله بن خباب ومن معه كانوا يختارون بعض الآيات التي فيها سجدة تلاوة، فيقرأها أحدهم ثم يسجدون، ويبكون في سجودهم. وهذه طريقة محدثة ليس لها أصل في الشرع، وقد أنكرها غير واحد من الصحابة، وفي الباب آثار أخرى عن جماعة من الصحابة يطول الكلام بذكرها، تنظر في مراجع التخريج السابقة.

"1" الاعتصام، الباب الثالث في أن ذم البدع والمحدثات عام 1/142.

"2" أما ما رواه البخاري "2010" عن عمر – رضي الله عنه أنه قال لما جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح:"نعمت البدعة هذه".

فالمراد بدعة لغة – كما سبق بيانه عند الكلام على التعريف اللغوي للبدعة – ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري في صلاة التراويح "2012" عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس التراويح ثلاث ليال ثم اجتمع الناس في الليلة الرابعة فلم يخرج عليهم صلى الله عليه وسلم حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال:" أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها "، فهل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم يصح أن تسمى

ص: 484

رآها الناس حسنة ""1".

فالبدع محرمة ومذمومة كلها"2"، وخطرها كبير سواء منها ما هو شرك وكفر أم ما لم يصل منها إلى درجة الشرك والكفر.

بدعة شرعية؟ فمراد عمر – رضي الله عنه – كما قال الحافظ ابن رجب:"أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها"، إذن فهو بدعة في اللغة لا في الشرع، ثم إن ما فعله الخلفاء الراشدون مما لم يكن له مثال سابق لا يعتبر بدعة بالمعنى الشرعي، بل هو سنة لحديث:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين.." الحديث، ومثل فعل الخلفاء الراشدين أو قولهم ما جاء عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند من يرى أن قول الصحابي حجة، وبالأخص إذا كان في عصر الخلفاء الراشدين. وينظر: الاقتضاء ص591-595، مجموع الفتاوى 21/317-319، جامع العلوم شرح الحديث 28، تفسير ابن كثير، تفسير الآية 117 من البقرة، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز، جمع الطيار 2/840، شرح شيخنا محمد بن عثيمين للواسطية "مطبوع ضمن مجموع فتاواه 8/642،643"، رسالة حقيقة البدعة، الباب الثاني.

"1" رواه المروزي في السنة رقم "82" ص29، وابن بطة في الإبانة 1/339، رقم "205"، واللالكائي 1/92، رقم "126"، وإسناد المروزي وابن بطة حسن، وقد صححه الألباني في تحذير الساجد.

"2" ذكر الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي أن ما قيل فيه من البدع"مكروه"ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"كل بدعة ضلالة" والضلالة ضد الهدى، ولأنه ليس في الشرع دليل يدل على ارتفاع الإثم عن فاعل أي بدعة، بل

ص: 485

......................................................................

ورد في الشرع ما يدل على خلاف ذلك، وهو حديث:" فمن رغب عن سنتي فليس مني "وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار، مع أنهم إنما التزموا ترك بعض المباحات تعبداً، وبعضهم التزم فعل بعض العبادات التي أصلها مشروع كالصلاة والصيام لكن على طريقة لم ترد في السنة.

ثم ذكر الشاطبي رحمه الله انقسام البدع إلى صغائر وكبائر، ثم ذكر إشكالاً في إطلاق لفظ"الصغيرة"على بعض البدع؛ لأن الابتداع راجع إلى الإخلال بالدين؛ لأنه مضادة للشارع ومراغمة له، حيث نصب المبتدع نفسه منصب المستدرك على الشريعة، لا منصب المكتفي بما حُد له، فهو إما قد أتى بتشريع زائد أو ناقص أو قد غير التشريع الصحيح، وهذا كله قدح في التشريع، وهذا لو قصده المسلم لكفر، فمن فعله بتأويل فاسد أو رأي غالط، أو ألحقه بالمشروع إذا لم نكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر.

ثم ذكر ما ثبت عن الإمام مالك – رحمه الله – من إنكاره التثويب على المؤذن – وهو أن ينادي بعد الأذان إذا أبطأ الناس للصلاة - فقال الإمام مالك: "التثويب ضلال، ومن أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين؛ لأن الله تعالى يقول:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ ديناً لم يكن اليوم ديناً.

ثم ذكر قول الإمام مالك أيضاً للرجل الذي أراد أن يُحْرِمَ من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم " لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة " فقال الرجل: وأي فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها. فقال الإمام مالك: "وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى

ص: 486

......................................................................

فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت الله يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} "، ثم قال الشاطبي:"كأنه –أي الإمام مالك– يقول: يلزمك في هذا القول كذا". ثم ذكر الخلاف في لازم المذهب هل هو مذهب أم لا؟ وذكر أن رأي المحققين أنه ليس بمذهب، ومال إلى ذلك، وذكر أنه على هذا تكون البدع كالمعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر، ثم ذكر أن البدعة إذا اجتمع فيها وصفان صح أن تسمى صغيرة، وهما: أن تكون جزئية، وأن تكون بتأويل يقرب مأخذه، ومثل لها بمسألة من نذر أن يصوم قائماً وضاحياً لا يستظل.

وذكر أن الصغائر قد تتحول إلى كبائر إذا داوم عليها، أو دعا إليها، أو فعلها في مجتمعات الناس، أو استحقرها واستهان بها، فالاستهانة بالذنب أعظم من الذنب، ينظر: الاعتصام: الباب السادس 2/49-72.

وقال الشيخ أحمد الرومي الحنفي كما في المجالس الأربعة من مجالس الأبرار ص372:"البدعة في الاعتقاد بعضها كفر، وبعضها ليس بكفر، لكنها أكبر من كل كبيرة حتى القتل والزنى، وليس فوقها إلا الكفر، والبدعة في العبادة وإن كانت دونها لكن فعلها عصيان وضلال، لا سيما إذا صادمت سنة مؤكدة".

وقال الشيخ محمد بن عبد السلام الشقيري المصري في السنن والمبتدعات ص17:"وقد ذهب كثير من محققي العلماء إلى أن كل بدعة في الدين صغيرة كانت أو كبيرة فهي محرمة، واستدلوا لذلك بالأحاديث التي جاءت في ذم البدع بصيغ العموم".

وينظر أيضاً الاعتصام: الباب الثاني 1/46-53، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز

ص: 487

وما كان من البدع دون الشرك والكفر فهو من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الوقوع في الشرك والكفر"1"، فإذا فتح المسلم لنفسه باب الابتداع في الدين، أو استحسن شيئاً من البدع فلن يقف في غالب الأحوال"2" هو أو من يقلده عند حد حتى يقع في الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر.

"جمع الطيار" ص838،839، حقيقة البدعة: الباب الثالث، منهج الإمام مالك في إثبات العقيدة: الفصل الثاني. وسيأتي الكلام على البدع الجزئية والمركبة قريباً إن شاء الله تعالى.

"1" ذكر الحافظ ابن القيم الحنبلي في بدائع الفوائد 2/260 أن البدعة هي باب الكفر والشرك

وقال الشيخ محمد بن عثيمين في القول المفيد، باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم الغلو في الصالحين 1/384:"نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر، قال أهل العلم: إن الكفر له أسباب متعددة، وذكروا من أسبابه: البدعة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ". انتهى كلامه مختصراً.

وذكر الإمام الشاطبي المالكي في الاعتصام 1/106-133 عشرين عقوبة أو وصفاً محذوراً أو معنى مذموماً يقع فيها المبتدع وتحصل له بارتكابه للبدعة، وذكر منها: أنه يخاف عليه أن يكون معدوداً في الكفار الخارجين من الملة؛ لاختلاف السلف في تكفير كثير من المبتدعة، وذكر منها أيضاً: أنه يخشى عليه من سوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء ص611،612 بعض أضرار ومفاسد البدع.

"2" وبالأخص عند وقوعه في البدع الكلية والبدع المركبة.

ص: 488

والبدع كثيرة، وقد سبق ذكر كثير منها "1"، وسأذكر بشيء من التفصيل ثلاثاً من أخطر البدع العملية، وأكثرها وقوعاً والتي لا تصل إلى حد الشرك الأكبر، ولكن أدى ابتداعها والتساهل بها إلى الوقوع فيه فيما يلي:

والبدع الكلية هي التي تعتبر كالقاعدة أو الأصل لبدع أخرى تنبني عليها، كبدعة الشيعة "الرافضة" في قولهم بعصمة الأئمة، فقد ترتب عليها بدع كثيرة، كاعتقادهم أن الأئمة أفضل من الرسل، وكاعتقادهم الصواب المطلق في أقوالهم، وكتقديمهم لأقوالهم على القرآن والسنة، وكاعتقادهم خروج مهديهم المزعوم من السرداب وغير ذلك من الضلالات. ومثلها بدعة الخوارج في قولهم: لا حكم إلا لله. فالبدع الكلية لا تختص بفرع من فروع الشريعة، بل تنتظم ما لا يحصى من الفروع، والغالب أن البدع الكلية من البدع الكفرية.

والبدعة المركبة: هي التي تنتظم بدعاً كثيرة وتحتوي عدة محدثات انضمت إلى بعضها حتى أصبحت كأنها بدعة واحدة، ومن أمثلتها: بدعة المولد، فهي تضم عدة بدع، منها تخصيص ليلة معينة، وتخصيص ذكر معين، وهيئة معينة بلا دليل، ومنها إحداث أوراد وأشعار مبتدعة تحوي كثيراً من الأكاذيب والضلالات. ما البدعة الجزئية والبسيطة فهي في الغالب لا تتجاوز ذاتها.

والبدعة الجزئية هي التي يكون الخلل الواقع بسببها في فرع من الفروع فقط، ومثالها: بدعة التثويب بالصلاة، وبدعة الأذان والإقامة في العيدين.

والبدعة البسيطة: هي عكس البدعة المركبة، وهي تشبه البدعة الجزئية، ينظر: الاعتصام 2/59- 64، حقيقة البدعة 2/34،35.

"1" ومن ذلك التبرك الممنوع، والغلو في الصالحين وغير ذلك.

ص: 489

البدعة الأولى: التوسل البدعي

التوسل في اللغة: هو التقرب إلى الشيء بالشيء. ومنه أن يتقرب شخص إلى شخص بعمل معين، أو بهدية معينة، أو بقرابة أو غيرها ليحصل له ما يريد منه"1".

والتوسل في الاصطلاح له تعريفان:

الأول: تعريف عام: وهو التقرب إلى الله تعالى بفعل المأمورات وترك المحرمات"2".

الثاني: تعريف خاص بباب الدعاء: وهو أن يذكر الداعي في دعائه ما يرجو أن يكون سبباً في قبول دعائه، أو أن يطلب من عبد صالح أن يدعو له.

"1" ينظر: الصحاح ولسان العرب، مادة "وسل". وينظر: جهود الحنفية ص1440-1445، والشرك للميلي الجزائري ص199، 200 فقد توسعا في نقل أقوال أهل اللغة.

"2" فالعبد يتقرب إلى ربه بذلك ليتوصل به إلى رضوانه تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار، وينظر: رسالة التوسل والوسيلة "مجموع الفتاوى 1/142،143،153، 199-202، 247"، الاقتضاء ص787-792، تفسير الآية 35 من سورة المائدة في تفسيري ابن كثير والشنقيطي، الشرك ومظاهره للميلي ص200-202، صيانة الإنسان للسهسواني ص194، 201-203، جهود علماء الحنفية ص1447،1448،1459،1460، فتاوى ابن عثيمين 5/279، الدعاء للعروسي ص628، 629.

ص: 490

والتوسل في أصله ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: التوسل المشروع:

وهذا القسم يشمل أنواعاً كثيرة، يمكن إجمالها فيما يلي:

1-

التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة الأعراف:180] .

وذلك بأن يدعو الله تعالى بأسمائه كلها، كأن يقول: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى أن تغفر لي"1"، أو أن يدعو الله تعالى باسم معين من أسمائه تعالى يناسب ما يدعو به، كأن يقول: اللهم يا رحمن ارحمني، أو أن يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم أن ترحمني"2".

"1" ومن ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك

الخ"رواه الإمام أحمد "3712"، وابن حبان "972" بإسناد حسن، وقد صححه الألباني في الصحيحة "199".

"2" ومن أهم ما يتوسل به اسم الله الأعظم، وهو"الله"أو"الحي"أو"القيوم"، وإن جمع بينها فهو أولى، فيقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الحي القيوم أن ترحمني. وينظر: مشكل الآثار 1/160-165، مجموع الفتاوى 18/311، صحيح سنن الترمذي "1493-1496"، الدر المنظم في الاسم الأعظم للسيوطي "الحاوي 1/394"، تحفة الذاكرين ص68.

ص: 491

أو أن يدعو الله تعالى بجميع صفاته، كأن يقول:"اللهم إني أسألك بصفاتك العليا أن ترزقني رزقاً حلالاً"أو أن يدعوه بصفة واحدة من صفاته تعالى تناسب ما يدعو به، كأن يقول:"اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ""1"، أو يقول مثلاً:"اللهم انصرنا على القوم الكافرين إنك قوي عزيز""2".

2-

الثناء على الله تعالى، والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في بداية الدعاء"3"، لما ثبت عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً يدعو

"1" روى الترمذي "3513"، وابن ماجه "3850"، وأحمد 6/171، وابن السني "767" عن عائشة قالت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني "، وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيحين، وصححه النووي في الأذكار "557".

"2" ومن ذلك دعاء الاستخارة الثابت في صحيح البخاري "1162"، وفيه: " اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر، ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال: عاجل أمري وآجله – فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه

".

ومن ذلك أيضاً الاستعاذة بكلمات الله تعالى، والاستعاذة بعزته تعالى، ففي كل منهما توسل بصفة من صفات الله تعالى. ينظر فتاوى ابن عثيمين "5/281".

"3" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 1/347:"والذين يتوسلون بذاته

ص: 492

في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال:"عجل هذا"، ثم دعاه فقال له:" إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء "، قال: وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي فمجَّد الله وحمده، وصلى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام:" ادع تجب، وسل تعط ""1".

ومن ذلك أن يثني على الله تعالى بكلمة التوحيد"لا إله إلا الله"، التي هي أعظم الثناء على الله تعالى، كما توسل بها يونس عليه السلام في بطن الحوت"2"، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول في توسله مثلاً:"لا إله

لقبول الدعاء عدلوا عما أمروا به وشرع لهم، وهو أنفع الأمور لهم إلى ما ليس كذلك، فإن الصلاة عليه من أعظم الوسائل التي بها يستجاب الدعاء، وقد أمر الله بها، والصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع". وينظر: صيانة الإنسان ص206، وقال الإمام النووي في الأذكار: كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الباب الثالث ص99:"أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدعاء بالحمد لله تعالى والثناء عليه، ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك تختم الدعاء بهما". وينظر: تصحيح الدعاء ص67.

"1" رواه الإمام أحمد "23937"، وأبو داود "1481"، والترمذي "3476 و3477"، والنسائي 3/44،45، وابن حبان "1960" بإسناد حسن، وزيادة: "قال: وسمع

" عند النسائي وحده، وروى بعضها الترمذي.

"2" روى الإمام أحمد 1/170 عن سعد مرفوعاً: " دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت

ص: 493

إلا الله، اللهم صل على محمد، اللهم اغفر لي".

ومن ذلك سورة الفاتحة، فشطرها الأول ثناء على الله تعالى، وآخرها دعاء"1".

3-

التوسل إلى الله تعالى بذكر وعده جل وعلا، كما في قوله تعالى:{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [سورة آل عمران: 194]، ومنه أن يقول الداعي: اللهم إنك وعدت من دعاك بالإجابة، فاستجب دعائي.

4-

التوسل إلى الله تعالى بأفعاله جل وعلا، كأن يقول: اللهم يا من

لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له". وإسناده حسن، وقد صححه الألباني في الصحيحة "1744".

"1" روى مسلم في صحيحه "395" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي، ""وقال مرة: فوض إلي عبدي "، فإذا قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". وينظر: التوصل إلى حقيقة التوسل ص60-64.

ص: 494

نصرت محمداً صلى الله عليه وسلم يوم بدر انصرنا على القوم الكافرين"1".

5 -

أن يتوسل العبد إلى الله تعالى بعباداته القلبية، أو الفعلية، أو القولية، أو غيرها، كما في قوله تعالى:{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [سورة المؤمنون: 109] ، وكما في قصة الثلاثة أصحاب الغار، فأحدهم توسل إلى الله تعالى ببره بوالديه، والثاني توسل إلى الله تعالى بإعطاء الأجير أجره كاملاً بعد تنميته له، والثالث توسل إلى الله تعالى بتركه الفاحشة، وقال كل واحد منهم في آخر دعائه:" اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ""2".

ومن ذلك أن يقول الداعي: اللهم إني أسألك بمحبتي لك ولنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ولجميع رسلك وأوليائك أن تنجيني من النار، أو يقول: اللهم إني صمت رمضان ابتغاء وجهك فارزقني السعادة في الدنيا والآخرة.

6-

أن يتوسل إلى الله تعالى بذكر حاله، وأنه محتاج إلى رحمة الله وعونه، كما في دعاء موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ

"1" ومن ذلك الدعاء الوارد في التحيات: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم "، والكاف هنا للتعليل، فأنت تسأل الله تعالى الذي من على إبراهيم عليه السلام وآله بالصلاة، أن يمن على محمد صلى الله عليه وسلم وآله بالصلاة أيضاً. ينظر: فتاوى ابن عثيمين 5/281.

"2" سبق تخريجه عند الكلام على تعريف العبادة وبيان شمولها في الباب الأول.

ص: 495

خَيْرٍ فَقِيرٌ} [سورة القصص: 24] ، فهو عليه السلام توسل إلى ربه جل وعلا باحتياجه للخير أن ينزل عليه خيراً.

ومن ذلك قول الداعي: اللهم إني ضعيف لا أتحمل عذاب القبر ولا عذاب جهنم فأنجني منهما، أو يقول: اللهم إني قد آلمني المرض فاشفني منه.

ويدخل في هذا الاعتراف بالذنب وإظهار الحاجة لرحمة الله ومغفرته، كما في قوله تعالى:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] .

7-

التوسل بدعاء الصالحين رجاء أن يستجيب الله دعاءهم. وذلك بأن يطلب من مسلم حي حاضر أن يدعو له.

كما في قول أبناء يعقوب عليهم السلام له: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [سورة يوسف: 97] ، وكما في قصة الأعرابي الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو بنزول المطر، فدعا صلى الله عليه وسلم"1"، وكما في قصة المرأة التي طلبت منه عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله لها بأن لا تتكشف"2"، وكما طلب عمر – ومعه الصحابة – في عهد عمر من

"1" رواه البخاري في الاستسقاء "1013"، ومسلم في الاستسقاء "897".

"2" رواه البخاري في المرض "5652"، ومسلم في البر "2576".

ص: 496

العباس أن يستسقي لهم، أي أن يدعو الله أن يغيثهم بنزول المطر"1".

فهذه التوسلات كلها صحيحة؛ لأنه قد ثبت في النصوص ما يدل على مشروعيتها، وأجمع أهل العلم على ذلك"2".

القسم الثاني: التوسل الممنوع

لما كان التوسل جزءاً من الدعاء، والدعاء عبادة من العبادات، كما ثبت في الحديث:" الدعاء هو العبادة ""3"، وقد وردت النصوص الصحيحة

"1" رواه البخاري في الاستسقاء "1010"، ولفظه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، قال: فيسقون. وسيأتي شرح هذا الحديث بشيء من التفصيل عند الكلام على التوسل الممنوع.

"2" ينظر: رسالة التوسل والوسيلة "مجموع الفتاوى 1/288، 309-318،326-329، وينظر أيضاً: مجموع الفتاوى 27/131-133، الاقتضاء ص781-787، 793-796، الاختيارات ص84، الأذكار للنووي، كتاب جامع الدعوات، جلاء الأفهام، الباب الثالث ص70،71، جهود علماء الحنفية ص1459-1463، مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع د. الطيار ص947-952"، مجموع فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 5/280-287، الدعاء للعروسي السوداني ص631-635، منهج الإمام مالك في بيان العقيدة ص317-323، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص202-205، التوسل للألباني ص31-54، التوصل إلى حقيقة التوسل للرفاعي الحلبي ص23-180.

"3" سبق تخريجه في الباب السابق عند الكلام على الشرك في دعاء المسألة.

ص: 497

الصريحة"1" بتحريم إحداث عبادة لم ترد في النصوص الشرعية، فإن كل توسل لم يرد في النصوص ما يدل على مشروعيته فهو توسل بدعي محرم، ومن أمثلة هذه التوسلات المحرمة:

1-

أن يتوسل إلى الله تعالى بذات نبي أو عبد صالح، أو الكعبة، أو غيرها من الأشياء الفاضلة، كأن يقول:"اللهم إني أسألك بذات أبينا آدم عليه السلام أن ترحمني".

2-

أن يتوسل بحق نبي أو عبد صالح أو الكعبة أو غيرها.

3-

أن يتوسل بجاه نبي أو عبد صالح أو بركته أو حرمته أو بحق قبره ونحو ذلك.

فلا يجوز للمسلم أن يدعو الله تعالى بشيء من هذه التوسلات، ولذلك لم يثبت في رواية صحيحة صريحة أن أحداً من الصحابة أو التابعين توسل إلى الله تعالى بشيء منها، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وقد نقلت عنهم أدعية كثيرة جداً، وليس فيها شيء من هذه التوسلات، وهذا إجماع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين على عدم مشروعية جميع هذه التوسلات"2".

"1" سبق ذكر هذه النصوص في بداية هذا الفصل.

"2" وقد حكى إجماع الصحابة والتابعين على ترك هذه التوسلات جمع من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية "مجموع الفتاوى 1/202و27/83،85،133"، الاستغاثة

ص: 498

......................................................................

336،363،537.

ونقل ابن القيم في إغاثة اللهفان 1/218 عن شيخه شيخ الإسلام أنه قال عند ذكره للبدع التي تفعل عند القبر:"المرتبة الثانية: أن يسأل الله تعالى به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة باتفاق المسلمين".

وقال الشيخ محمد الشقيري المصري في القول الجلي في حكم التوسل بالنبي والولي ص55:"التوسل بحق النبي أو الولي أو بجاهه أو بركته، أو بحق قبره أو قبته، وهذا مذموم منهي عنه بلا نزاع".

وقال محدث الشام محمد ناصر الدين الألباني في رسالة "التوسل" ص74،75 بعد ذكره ما صح عن عمر والصحابة من التوسل بدعاء العباس وما صح عن معاوية وأهل الشام من التوسل بدعاء يزيد بن الأسود وهو من التابعين، قال:"إن جريان عمل الصحابة على ترك التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم عند نزول الشدائد بهم – بعد أن كانوا لا يتوسلون بغيره صلى الله عليه وسلم في حياته – لهو من أكبر الأدلة الواضحة على أن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم غير مشروع، وإلا لنقل ذلك عنهم من طرق كثيرة في حوادث متعددة، ألا ترى إلى هؤلاء المخالفين كيف يلهجون بالتوسل بذاته صلى الله عليه وسلم لأدنى مناسبة لظنهم أنه مشروع، فلو كان الأمر كذلك لنقل مثله عن الصحابة، مع العلم أنهم أشد تعظيماً ومحبة له صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، فكيف ولم ينقل عنهم ذلك ولا مرة واحدة، بل صح عنهم الرغبة عنه إلى التوسل بالصالحين".

وينظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي سيأتي عند الكلام على رد الاستدلال بالاستسقاء بالعباس على التوسل الممنوع، وما ذكر من أن فعل عمر ومعه الصحابة يدل

ص: 499

وهذا لا يدل على نقص مكانة أو جاه أحد من الأنبياء أو الصالحين بوجه من الوجوه، ومن ظن ذلك فقد وهم، فمكانة الأنبياء والصالحين كبيرة، وجاههم عظيم، ولكن جاههم منزلة لهم، خاصة بهم، وهم يشفعون في حياتهم في الدنيا وفي الآخرة لمن شاءوا"1" وليس هناك ما يدل

على إجماعهم على تحريم التوسل بالذات أو الحق أو الجاه ونحوها.

وقد ذكر الشيخ جيلان العروسي السوداني ما يقرب من خمسة عشر دليلاً لتحريم هذا التوسل البدعي في كتاب الدعاء ص636-647.

وقد نص على تحريم هذه التوسلات أو بعضها جم غفير من فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة، وغيرهم، وفي مقدمتهم أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف.

ينظر على سبيل المثال لا الحصر كتاب بداية المبتدي مع شرحه الهداية ومع شرحهما البناية في الفقه الحنفي: كتاب الكراهية 11/277-281، صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان للسهسواني الهندي ص187-206، 273،274، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص213، جلاء العينين للألوسي الحنفي ص452، نقلاً عن جهود علماء الحنفية ص1485، فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز، جمع الطيار ص946، التوصل إلى حقيقة التوسل للرفاعي الحلبي ص186، جهود علماء الحنفية ص1123 وما بعدها، وينظر كلام ابن أبي العز الحنفي الذي سيأتي نقله قريباً.

"1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 27/133،134:"التوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم وبطاعتهم، كالصلاة والسلام عليهم، ومحبتهم وموالاتهم، أو بدعائهم وشفاعتهم، وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضي حصول مطلوب العبد وإن كان لهم عند الله الجاه العظيم والمنزلة العالية، بسبب إكرام الله لهم

ص: 500

على أن لغيرهم أن يتوسل إلى الله بذواتهم أو بجاههم"1"، وكذلك لا يجوز لأحد أن يقسم على الله في دعائه بأحد من خلقه؛ لأن القسم بغير الله لا

وإحسانه إليهم وفضله عليهم وليس في ذلك ما يقتضي إجابة دعاء غيرهم، إلا أن يكون بسبب منه إليهم، كالإيمان بهم والطاعة لهم، أو بسبب منهم إليه، كدعائهم له وشفاعتهم فيه، فهذان الشيئان يتوسل بهما، وأما الإقسام بالمخلوق فلا، وما يذكره بعض العامة من قوله:" إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم ". حديث كذب موضوع".

"1" قال شيخ الإسلام في التوسل والوسيلة "مجموع الفتاوى 1/143":"وهو صلى الله عليه وسلم شفيع الخلائق، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فهو أعظم الشفعاء قدراً وأعلاهم جاهاً عند الله، وقد قال تعالى عن موسى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} وقال عن المسيح: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم جاهاً من جميع الأنبياء والمرسلين؛ لكن شفاعته ودعاؤه إنما ينتفع به من شفع له الرسول ودعا له، فمن دعا له الرسول وشفع له توسل إلى الله بشفاعته ودعائه، كما كان أصحابه يتوسلون إلى الله بدعائه وشفاعته، وكما يتوسل الناس يوم القيامة إلى الله تبارك وتعالى بدعائه وشفاعته صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً. ولفظ "التوسل" في عرف الصحابة كانوا يستعملونه في هذا المعنى".

وقال شيخ الإسلام أيضاً في الاقتضاء ص786:"وأما إذا سُئل بشيء ليس سبباً للمطلوب: فإما أن يكون إقساماً عليه به، فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالاً بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة، فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم وبكلماته التامة، ورحمته لهم أن ينعمهم ولا يعذبهم، وهم وجهاء

ص: 501

يجوز أصلاً"1"، فكيف بمن يقسم به على الله تعالى"2"، وأيضاً لا يجوز لأحد أن يسأل الله بحق فلان؛ لأن الحق لله على العباد، وليس للعباد حق على الله تعالى إلا ما أوجبه تعالى على نفسه من نصرة المؤمنين ومن عدم تعذيبه للمخلصين، وإثابته لهم واستجابته لدعائهم"3"، وإنما يجوز أن يتوسل إلى الله

عنده، يقبل من شفاعتهم ودعائهم ما لا يقبله من دعاء غيرهم. فإذا قال الداعي: أسألك بحق فلان، وفلان لم يدع له، وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ومحبته وطاعته، بل بنفس ذاته، وما جعله له ربه من الكرامة لم يكن قد سأله بسبب يوجب المطلوب".

وينظر: الدرر السنية 2/238، 239، التوسل للألباني"دفع توهم"ص84-87.

"1" سيأتي الكلام على حكم الحلف بغير الله مفصلاً في الباب الثالث إن شاء الله تعالى.

"2" ينظر: التعليق الآتي، ومثال القسم بالمخلوق في الدعاء أن يقول:"أقسم بفلان عليك يا رب أن تغفر لي"أو يقول:"أسألك بفلان أن ترحمني"إذا كانت الباء للقسم، أما إن كانت للسببية فهو توسل بالذات، ينظر: مجموع الفتاوى 1/205، 206، 239-245، الشرك ومظاهره للميلي ص211.

"3" قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ص294-297:"وأما الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدنيا إلى الله تعالى في الدعاء، ففيه تفصيل: فإن الداعي تارة يقول: بحق نبيك، أو بحق فلان، يقسم على الله بأحد من مخلوقاته، فهذا محذور من وجهين: أحدهما: أنه أقسم بغير الله. والثاني: اعتقاده أن لأحد على الله حقاً. ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد على الله حق إلا ما أحقه على نفسه، كقوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم:47] . وكذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: " أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله

ص: 502

تعالى بمحبته للأنبياء والأولياء والصالحين، ونحو ذلك من التوسلات الجائزة التي سبق ذكرها.

أعلم. قال: " حقهم عليه أن لا يعذبهم "، فهذا حق وجب بكلماته التامة، ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئاً، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به، ولا أن يُسأل بسببه، ويتوسل به، لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً، فكأنه يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعائي، وأي مناسبة في هذا وأي ملازمة؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء، وقد قال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [سورة الأعراف:55] ، وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن أحد من الأئمة رضي الله عنهم، وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتبها الجهال والطرقية. والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والاتباع، لا على الهوى والابتداع، وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان، فذلك محذور أيضاً؛ لأن الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز، فكيف على الخالق؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم:" من حلف بغير الله فقد أشرك "، ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، والمشعر الحرام، ونحو ذلك". انتهى كلامه رحمه الله. وينظر: الاقتضاء ص785،786، الصواعق المرسلة الشهابية ص155-280، تصحيح الدعاء ص257-259، وينظر كلام البركوي الحنفي الذي سيتم نقله إن شاء الله تعالى في نهاية الكلام على هذه البدعة "التوسل البدعي".

ص: 503

وليس للذين أجازوا التوسلات البدعية دليل صحيح يعتمد عليه، وقد احتجوا ببعض الأحاديث والآثار التي فيها الحث على التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاه غيره من الأنبياء، ولكنها كلها موضوعة أو واهية"1"، لا يعتمد عليها، كما احتجوا بحديث أبي سعيد، والذي فيه التوسل إلى الله تعالى بحق السائلين، وبحق المشي إلى المسجد"2"، وهو حديث ضعيف، وعلى

"1" ومن ذلك حديث: " إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم " وهو حديث موضوع لم يرد في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها في رواية الحديث، وأحاديث أخرى وآثار واهية أو موضوعة. ينظر: مجموع الفتاوى 1/252-264، 287،319، الاقتضاء ص792، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص208-216، التوسل للألباني ص108-144، التوصل إلى حقيقة التوسل ص246-331، الدعاء للعروسي السوداني، الباب الرابع الفصل الثاني.

"2" رواه الإمام أحمد 3/21، وابن ماجه "778"، وابن السني "85" وغيرهم، كلهم من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد. وإسناده ضعيف، قال في التقريب عن عطية:"صدوق يخطئ كثيراً، وكان شيعياً مدلساً"، وكان يدلس تدليس الشيوخ، فيقول:"عن أبي سعيد"ليوهم الناس أنه سمعه من أبي سعيد الخدري، وهو إنما سمعه من الكلبي المتهم بالكذب، ينظر: تهذيب التهذيب 7/225،226. ولم يصرح عطية بالتحديث إلا في رواية موقوفة، والراوي عنه فضيل بن مرزوق، وهو صدوق يهم، وقد شك في بعض الروايات في رفع الحديث، وهذا كله يوهن هذا الإسناد. وقد ضعف هذا الحديث النووي في الأذكار "85"، والألباني في الضعيفة "24".

ص: 504

فرض صحته فإن حق السائلين هو الإجابة من الله تعالى"1"، وحق المشي إلى المسجد هو الإثابة من الله تعالى"2"، والإجابة والإثابة صفتان من صفات الله تعالى، "3" والتوسل إلى الله بصفاته من التوسل المشروع كما سبق بيانه.

كما احتجوا ببعض الأحاديث الصحيحة، ولكنها غير صريحة فيما ذهبوا إليه من جواز التوسل الممنوع"4".

وله شاهد لا يفرح به من حديث بلال، رواه ابن السني "84"، وإسناده ضعيف جداً، قال النووي في الأذكار "84":"أحد رواته الوازع بن نافع، وهو متفق على ضعفه، وأنه منكر الحديث".

"1" كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر: 60]، فهو حق وعد الله تعالى به عباده. وينظر: مجموع الفتاوى 1/341.

"2" وهذا مقتضى عدله جل وعلا، وقد وعد سبحانه وتعالى من عبده وأخلص في عبادته أن لا يعذبه، كما في حديث معاذ في صحيح البخاري "5967"، وصحيح مسلم "30"، وسبق ذكر لفظه قريباً ضمن كلام ابن أبي العز الحنفي.

"3" ينظر: مجموع الفتاوى 1/209، 288، 339، 341، و27/84، الاقتضاء ص796، 797، صيانة الإنسان للسهسواني الهندي ص195، الشرك للميلي الجزائري ص206،207، التوسل للألباني ص109.

"4" ومن ذلك حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال:" إن شئت صبرت وهو خير لك، وإن شئت دعوت "، فقال: ادعه. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين، ويدعو

ص: 505

......................................................................

بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في وشفعني فيه. رواه الإمام أحمد 4/138، والترمذي "3578"، وابن ماجه "1385"، والطبراني في الدعاء "1051" وغيرهم، وقد اختلف أهل العلم في تصحيحه، وقد توسعت في تخريجه في كتاب"أوقات النهي"ص246،247.

ورواه الطبراني في الكبير "8311"، وفي الصغير 1/183، وابن السني "628" من طريق آخر، وفي أوله قصة لرجل مع عثمان بن عفان وعثمان بن حنيف. وإسناد هذه الرواية ضعيف. وقد توسع في الكلام عليها محدث الشام محمد ناصر الدين الألباني في رسالة التوسل ص92-99، والشيخ محمد نسيب الرفاعي الحلبي في التوصل ص241-245، وبيّنا علل هذه الرواية وعلى القول بصحة الرواية الأولى لهذا الحديث فإنه لا دلالة فيه على التوسل الممنوع، لأمور أهمها:

1-

أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده أن يدعو له – أي يشفع له عند الله تعالى – والنبي صلى الله عليه وسلم لا يخلف وعده.

2-

أن في الدعاء الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى أن يدعو به: "اللهم فشفعه في " أي شفع نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم فيّ، والشفاعة عند الله هي الدعاء، فيكون المعنى: اقبل دعاءه فيّ أن ترد عليّ بصري.

3-

أن في هذا الدعاء أيضاً قوله: " وشفعني فيه " أي اقبل دعائي في أن تقبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لي.

وهذه الأمور الثلاثة تدل على أن الأعمى إنما توسل إلى الله تعالى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم،

ص: 506

بل إن أصح الأحاديث التي احتجوا بها يدل على تحريم هذا النوع من التوسل، وهو توسل عمر والصحابة بالعباس رضي الله عنهم"1".

وأنه لم يتوسل إليه لا بذاته ولا بحقه ولا بجاهه صلى الله عليه وسلم.

قال علامة الجزائر الشيخ مبارك الميلي في الشرك ص205 عند كلامه على هذا الحديث:"والتوجه بالنبي صلى الله عليه وسلم معناه التوجه بدعائه، دل على هذا المحذوف اختيار الأعمى لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تخييره له بينه وبين الصبر، وأمره للأعمى بالدعاء بعد دعائه صلى الله عليه وسلم، نظير ما أخرجه مسلم وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله مرافقته في الجنة: " أعنّي على نفسك بكثرة السجود ". فنصح لهم بعبادتي: الصلاة والدعاء، لمناسبتهما للمطلوب". وينظر أيضاً: التوسل والوسيلة "مجموع الفتاوى 1/265-285،323-326"، الاقتضاء ص792، السنن والمبتدعات للشقيري المصري: صلاة الحاجة ص125،126، صيانة الإنسان للسهسواني الهندي ص195، التوسل للألباني ص75-83، التوصل للرفاعي الحلبي ص236-240.

"1" سبق تخريج هذا الحديث وذكر لفظه عند ذكر التوسل المشروع.

وهذا الحديث يدل على عدم مشروعية هذا التوسل، لأنه لو كان جائزاً لما عدل عمر عن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلمإلى جاه العباس رضي الله عنه؛ لأن جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم؛ ولأن جاهه صلى الله عليه وسلم لا ينقص بعد موته، وقد نص عمر في دعائه على العدول عن التوسل بالفاضل إلى المفضول، فدل قطعاً على أن التوسل بالفاضل– وهو النبي صلى الله عليه وسلم– بعد وفاته غير ممكن، لا بدعائه، لوفاته صلى الله عليه وسلم، ولا بذاته أو حقه أو جاهه، لتحريمها، ومن ظن أن جاه النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته وقدره قد نقص بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وأن عمر والصحابة إنما عدلوا إلى العباس من أجل ذلك، فقد أخطأ خطأ فاحشاً، يجب عليه أن يتوب منه.

ص: 507

.....................................................................

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التوسل والوسيلة "مجموع الفتاوى 1/284،285" بعد ذكره لدعاء عمر المذكور في هذا الحديث والذي أقره عليه المهاجرون والأنصار، قال:"وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته لما استسقى بالناس، فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم به في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله؟ فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به، لا بذاته".

وقال ابن أبي العز الحنفي عند ذكره لأنواع التوسل في شرح الطحاوية ص298: "وتارة يقول: بجاه فلان عندك، أو يقول: نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك، ومراده: لأن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة، فأجب دعاءنا، وهذا أيضاً محذور، فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات صلى الله عليه وسلم، قال عمر – رضي الله عنه – لما خرجوا يستسقون-: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. معناه بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك، إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس".

ص: 508

ولما أعرض كثير من المسلمين عن التوسلات الشرعية التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم

وقال السهسواني الهندي في صيانة الإنسان ص213:"ولم يرد في حديث ضعيف، فضلاً عن الحسن أو الصحيح أن الناس طلبوا السقيا من الله في حياته - أي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم متوسلين به صلى الله عليه وسلم من غير أن يفعل صلى الله عليه وسلم ما يفعل في الاستسقاء المشروع من طلب السقيا والدعاء والصلاة وغيرهما مما ثبت بالأحاديث الصحيحة، ومن يدعي وروده فعليه الإثبات» .

ومما يدل على أن الصحابة في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أشار إليه عمر في هذه الرواية إنما هو التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم: رواية الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح لهذا الحديث، ولفظها:"كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا به، فيستسقي لهم، فيسقون، فلما كان في إمارة عمر

"فقوله في هذه الرواية:"فيستسقي لهم"صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو لهم، فالاستسقاء هو الدعاء بأن يسقيهم الله تعالى.

ومما يدل أيضاً على أنهم إنما توسلوا بدعاء العباس رضي الله عنه أنه قد روى الزبير بن بكار صفة استسقاء العباس رضي الله عنه لما طلب منه عمر ذلك، وهو أن العباس – رضي الله عنه – قال:"اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث".

ينظر: فتح الباري لابن حجر 2/495، 497، وينظر: الاستغاثة ص537، ومجموع الفتاوى 1/201،202،314-319، و27/85،86، الاقتضاء ص793، صيانة الإنسان للسهسواني الهندي ص202،213، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص205،206، التوسل للألباني ص55-74، التوصل إلى حقيقة التوسل للرفاعي الحلبي ص173-177، 261-266.

ص: 509

وقدموا عليها التوسلات البدعية، فدعوا الله تعالى بما لم يشرعه من التوسل المحرم، وكان بعضهم يذهب إلى القبر ويتوسل إلى الله بجاه أو بذات صاحب القبر، أدى ذلك بكثير منهم وكثير ممن قلدهم واغتر بفعلهم إلى الوقوع في التوسل الشركي"1"، المخرج من الملة، فأصبحوا يدعون الأموات مباشرة، ويطلبون منهم جلب الخير ودفع الضر، أو يطلبون منهم أن يشفعوا لهم عند الله تعالى"2".

"1" وتسمية هذا النوع توسلاً إنما أطلقها بعض المتأخرين، وإلا فهو في حقيقته استغاثة بالميت. ينظر: مجموع الفتاوى 1/143، وقال الشيخ شمس الدين الأفغاني في جهود الحنفية ص1484:"توسل القبورية نوعان: الأول: ما فيه خطاب للميت وطلب منه، فهذا وأمثاله ليس من التوسل بالميت لغة، بل هو استغاثة بالميت وطلب منه، وهو إشراك صريح بالله تعالى"انتهى بحروفه مختصراً. وينظر المرجع نفسه ص1479-1483، والدعاء للعروسي ص629.

"2" قال البركوي الحنفي المتوفى سنة "981هـ" في زيارة القبور ص47، 48:"والمقصود أن الشيطان يلطف كيده للإنسان بتحسين الدعاء له عند القبر وجعله أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار. فإذا قرر ذلك عنده نقله درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء بصاحب القبر والإقسام على الله تعالى به، وهذا أعظم من الذي قبله، فإن شأنه تعالى أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه

فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله تعالى به، والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه، وأنجح في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله تعالى والنذر له".

ص: 510

ولذلك كله ينبغي للمسلم البعد عن هذه التوسلات البدعية التي لم ترد أدلة صحيحة صريحة تدل عليها، والتي أعرض عنها جميع الصحابة والتابعين، وجزم بتحريمها جماهير السلف والخلف، وأقل أحوالها عند من يسهل في أمرها أنها من المشتبهات، ومن ابتعد عن الشبهات فقد استبرأ لدينه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلم يقدم عليها الأدعية الكثيرة الثابتة في كتاب الله تعالى وفي سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وعن صحابته رضي الله عنهم – فلا يزاحم الأدعية النبوية بهذه التوسلات، ولا يقدمها عليها، بل السلامة – فضلاً عن رجاء الإجابة – في الإعراض عن هذه التوسلات.

ثم إنه قد ثبت في السنة أن هناك أسباباً أخرى كثيرة لإجابة الدعاء"1"، وثبت في القرآن والسنة أن هناك أسباباً كثيرة لمغفرة الذنوب، وأن يحصل للإنسان ما أهمه، فيحقق الله له ما يرجوه من مرغوب ويدفع عنه ما

وينظر: إغاثة اللهفان 1/216،217، معارج الألباب للنعمي اليماني ص192-194، وقد سبق بيان الدعاء الشركي في المبحث الأول من هذا الفصل.

"1" ومن ذلك اختيار الأزمان والأماكن التي يستجاب فيها الدعاء، كثلث الليل الآخر، وآخر ساعة من يوم الجمعة، وحال السجود، وغيرها، ومن ذلك فعل ما هو سبب لإجابة الدعاء، كالمكسب الحلال، والبعد عن المكسب الحرام. ينظر في تفصيل هذه الأسباب: كتاب الدعاء للطبراني، والدعوات للبيهقي، والترغيب للمنذري: الذكر والدعاء، وتحفة الذاكرين للشوكاني، الباب الثاني.

ص: 511

يخشاه من مرهوب، ومن أعظم هذه الأسباب تقوى الله تعالى"1"، والإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"2"، فينبغي للمسلم أن يقدمها على تلك التوسلات البدعية.

"1" قال الله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:29] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وينظر ما سبق ذكره عند الكلام على الأصل الأول من أصول العبادة.

"2" روى الإمام أحمد 5/136، والترمذي "2457"، والحاكم 2/421 عن أبي بن كعب رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام، فقال:" يا أيها الناس اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه ". قال أبي بن كعب: قلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال - أي قال أبي بن كعب -: قلت الربع؟ قال: " ما شئت، فإن زدت فهو خيرٌ لك ". قلت: النصف؟ قال: " ما شئت، فإن زدت فهو خيرٌ لك "، قلت: فالثلثين؟ قال:"ما شئت، فإن زدت فهو خيرٌ لك". قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: " إذن تكفى همك ويغفر لك ذنبك ". وإسناده قريب من الحسن، وقد حسنه الألباني في الصحيحة "954". ولموضع الشاهد منه شاهد عند يعقوب في المعرفة 1/389، والبيهقي في الشعب "1580" عن محمد بن يحيى بن حبان مرسلاً مختصراً، وهو مرسل صحيح الإسناد، رجاله رجال الصحيحين، ووصله الطبراني "3574"، وحسن إسناده المنذري "2482"، والهيثمي 10/160، فالحديث بمجموع الروايتين صحيح. والراجفة والرادفة هما نفختا الصور، ومعنى"من صلاتي"أي من دعائي. ينظر: تفسير ابن جرير لسورة النازعات، والترغيب للمنذري، ومجموع الفتاوى 1/349.

ص: 512

البدعة الثانية: إقامة الأعياد والاحتفالات البدعية

شرع الله تعالى لأهل الإسلام عيدين يفرحون فيهما بما أنعم الله به عليهم من إدراك المواسم الفاضلة، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى"1"، كما شرع لهم عيداً ثالثاً وهو يوم الجمعة، وهو يتكرر في كل أسبوع يجتمع فيه المسلمون لصلاة الجمعة وسماع الذكر في خطبتها – وهو عيد نسبي"2"- فلا يجوز للمسلمين التعبد لله تعالى بإحداث أعياد واحتفالات أخرى تتكرر بتكرر الأيام أو الشهور أو السنين"3".

"1" ويلحق بعيد الأضحى يوم عرفة وأيام التشريق. ينظر: لطائف المعارف: وظائف شهر ذي الحجة: المجلس الثاني ص287.

"2" وهو أفضل أيام الأسبوع، ويأتي في آخر الأسبوع بعد إكمال الصلوات المكتوبات التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين في الأيام التي قبله، ولذلك نهي عن تخصيصه بالصوم. ينظر: المرجع السابق ص286، 287.

"3" ينظر: الاقتضاء ص634-636.

أما الاحتفالات التي لا يتعبد لله بها، والتي حدث كثير منها في هذه العصور تقليداً للكفار، والتي تسمى"أعياداً"أو"يوماً"أو"أسبوعاً"فللعلماء فيها كلام وتفصيل. ينظر: فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 3/51، 106-122، فتاوى شيخنا عبد العزيز ابن باز "جمع د. الطيار ص894"، وفتاوى شيخنا محمد بن عثيمين "جمع فهد السليمان2/300-303"، وفتاواه "جمع أشرف بن عبد المقصود 1/130،131"، القول المفيد، باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم هو الغلو في الصالحين 1/387، رسالة "عيد اليوبيل

ص: 513

فلا يجوز تخصيص شيء من الأزمنة، سواء من الليالي، أم الأيام، أم الشهور، أم السنين بعبادة أو عبادات معينة لم يرد في الشرع تخصيصها بها، سواء أكانت هذه الأزمان أزماناً فاضلة أم لا؛ لأن ذلك من البدع المحدثة، ولذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من سلف هذه الأمة تخصيص ليلة معينة بعبادة معينة، وهذا إجماع منهم على عدم مشروعيته"1"، بل إنه قد جاء عن بعض الصحابة الإنكار على من خص

للشيخ بكر أبو زيد، رسالة "أعياد الكفار" للشيخ إبراهيم الحقيل ص54،55، 68-71.

"1" قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص581،603:"ومن المنكرات سائر الأعياد والمواسم المبتدعة، فإنها من المنكرات المكروهات، سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه، وذلك أن أعياد أهل الكتاب نهي عنها لسببين: أحدهما: أن فيها مشابهة للكفار، والثاني: أنها من البدع. فما أحدث من المواسم والأعياد هو منكر، وإن لم يكن فيها مشابهة لأهل الكتاب، لوجهين:

أحدهما: أن ذلك داخل في مسمى البدع المحدثات

الثاني: ما تشتمل عليه من الفساد في الدين. واعلم أنه ليس كل أحد، بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذا النوع من البدع، لا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة، بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد. والواجب على الخلق: اتباع الكتاب والسنة، وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة"ثم ذكر لها مفاسد كثيرة ص634-636.

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف: وظيفة رجب ص123: "يشبه الذبح في رجب اتخاذه موسماً وعيداً كأكل الحلوى ونحوها، وقد روي عن ابن عباس

ص: 514

بعض الشهور بعبادة معينة، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم"1".

وقد أحدث كثير من المسلمين في العصور المتأخرة أعياداً واحتفالات وعبادات في كثير من الأزمان، مع أنه لم يرد دليل صحيح يدل على مشروعيتها، وهذه الأزمنة ثلاثة أنواع:

النوع الأول: يوم لم تعظمه الشريعة أصلاً، ولم يحدث فيه حادث له شأن، مثل أول خميس من رجب، وليلة الجمعة التي تليه، فهذا اليوم وهذه الليلة يعظمها بعض الجهال، بصيام نهار ذلك الخميس، وقيام هذه الليلة التي تليه، ويصلون فيها صلاة يسمونها صلاة الرغائب، وكل هذا لا دليل عليه، وهو من البدع المحرمة، وإنما أحدثت هذه الصلاة بعد

رضي الله عنهما– أنه كان يكره أن يتخذ رجب عيداً، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن صيام رجب كله لئلا يتخذ عيداً، وعن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا شهراً عيداً ولا يوماً عيداً "، وأصل هذا أنه لا يشرع أن يتخذ المسلمون عيداً إلا ما جاءت الشريعة باتخاذه عيداً، وهو يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق، وهي أعياد العام ويوم الجمعة وهو عيد الأسبوع، وما عدا ذلك فاتخاذه عيداً وموسماً بدعة لا أصل له في الشريعة"، وينظر: المراجع المذكورة في التعليق السابق.

"1" ينظرما سيأتي من إنكار عمر على من صام رجب، وفي ذلك أيضاً آثار عن السلف، يأتي بعضها في التعليق المذكور بعد تعليقين، إن شاء الله تعالى.

ص: 515

الأربعمائة"1"، وقد وضع بعضهم حديثاً في فضلها، وهو حديث موضوع بإجماع أهل العلم"2"، وقد وردت أيضاً أحاديث في فضل صيام بعض أيام رجب، ووردت كذلك أحاديث في فضل الصلاة في بعض أيام أو ليالي رجب، وكل هذه الأحاديث ضعيفة أو موضوعة"3"، وقد ثبت عن بعض

"1" الحوادث والبدع للطرطوشي ص132، الباعث ص42، لطائف المعارف ص123، الأمر بالاتباع للسيوطي ص77،78.

"2" ينظر في بيان وضع هذا الحديث: الباعث ص61، الاقتضاء ص617، المنار المنيف ص95-97، لطائف المعارف ص123، تبيين العجب ص54، الأمر بالاتباع ص77،78، المدخل ص426-450، الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص47-50، إصلاح المساجد ص98، السنن والمبتدعات ص140.

"3" وقد ألف بعض أهل العلم مؤلفات مستقلة في بيان ضعف أو وضع هذه الأحاديث، وبيان بدعية تخصيص شيء من أيام شهر رجب بصيام أو عبادة معينة، وبدعية تخصيص شيء من ليالي هذا الشهر بقيام أو عبادة معينة. ومن هذه المؤلفات"الباعث على إنكار البدع والحوادث"لأبي شامة الشافعي،"تبيين العجب فيما ورد في شهر رجب"للحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي، رسالة العز بن عبد السلام في الرد على من أجاز صلاة الرغائب، وهي مطبوعة، وطبع معها فتوى للشيخ زكريا الأنصاري الشافعي، وفتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وفتوى للنووي الشافعي، وفتوى لتلميذه علي بن إبراهيم العطار.

وتكلم عن ذلك أيضاً بعض العلماء ضمن مؤلفاتهم، ومن هذه المؤلفات المراجع المذكورة في التعليقين السابقين وغيرها.

ص: 516

الصحابة النهي أو الكراهة لتعظيم رجب بصيام أو غيره، وثبت عن بعضهم أن تعظيم شهر رجب من عمل أهل الجاهلية"1" فمن عظمه فقد اقتدى بهم.

النوع الثاني: الأيام والليالي التي جاء في الشرع ما يدل على فضلها، مثل يوم عرفة، ويومي العيدين، ويوم عاشوراء، وليلة القدر، وليلة النصف من

قال الحافظ ابن حجر الشافعي في تبيين العجب ص23:"لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيام شيء منه معين ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره".

"1" روى ابن أبي شيبة في مصنفه: صوم رجب 3/102 بإسناد صحيح رجاله رجال الصحيحين عن خرشة بن الحر قال: رأيت عمر يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان، ويقول: كلوا، فإنما هو شهر يعظمه أهل الجاهلية. ورواه سعيد بن منصور كما في تبيين العجب ص70.

وروى ابن أبي شيبة أيضاً في الموضع السابق بإسناد صحيح، رجاله رجال الصحيحين عن ابن عمر أنه إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كره ذلك. وروى عبد الرزاق: صيام الأشهر الحرم "7854" عن ابن عباس أنه كان ينهى عن صيام رجب كله لئلا يتخذ عيداً. ورجاله ثقات، رجال الصحيحين، وقد صححه الحافظ ابن حجر في تبيين العجب ص70. وينظر: الحوادث والبدع للطرطوشي المالكي ص140،141.

ص: 517

شعبان"1"، فهذه الأوقات يستحب أن يفعل فيها من العبادات ما ورد في الشرع ما يدل على مشروعيته فيها، ولا يجوز فيها إحداث عبادات ليس لها أصل في الشرع، كصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان"2" التي أحدثت

"1" ورد في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث كثيرة في أن الله تعالى يغفر فيها لكثير من عباده ذنوبهم، إلا من كان مشركاً أو مشاحناً. وهو صحيح بمجموع طرقه، ينظر في الكلام على هذا الحديث: صحيح ابن حبان "5665"، الاقتضاء ص631، لطائف المعارف ص143، السلسلة الصحيحة "1144".

"2" وهي أن يصلي مائة ركعة، يقرأ في كل ركعة الفاتحة ثم يقرأ بعدها "قل هو الله أحد" عشر مرات، فتتكرر ألف مرة، لذلك سميت"الألفية"، ولم يرد في مشروعيتها سوى حديث موضوع، وكذلك لا يشرع تخصيص يومها بالصوم أو الاحتفال في يومها أو ليلتها، ولا يشرع كذلك تخصيصها بصلاة نافلة جماعة، أو بعبادة معينة تتكرر في كل عام. ينظر"ما جاء في البدع"لابن وضاح المالكي ص100، الباعث لأبي شامة الشافعي ص51-59، الحوادث والبدع للطرطوشي المالكي ص128-133، الاقتضاء ص632، المنار المنيف في الصحيح والضعيف للحافظ ابن القيم الحنبلي ص98، 99، لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص144-147، الأمر بالاتباع للسيوطي الشافعي ص79-84، الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للقاري الحنفي ص272، الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني ص50، 51، إصلاح المساجد لعلاّمة الشام القاسمي ص99، السنن والمبتدعات للشقيري المصري ص145، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع دار الإفتاء 1/191-197".

ص: 518

في القرن الخامس الهجري"1"، وكالتعريف بالأمصار في يوم عرفة"2"، وكالاحتفال في يوم عاشوراء"3"، كما لا يجوز للمسلم تخصيص شيء من

"1" المنار المنيف ص99، إصلاح المساجد ص99.

"2" الاجتماع في مساجد الأمصار بعد عصر يوم عرفة للدعاء أو الذكر الجماعي، ومثله إنشاد الشعر، كل هذا من البدع، ومثله السفر إلى غير عرفات، كالسفر إلى مسجد بيت المقدس أو غيره من أجل الجلوس فيه بعد العصر من يوم عرفة للدعاء والذكر.

أما جلوس غير الحاج في مسجد بلده عشية عرفة للدعاء والذكر بمفرده فهذا اختلف فيه أهل العلم، وقد أنكره بعض التابعين وبعض السلف كالإمام مالك. ينظر: مصنف ابن أبي شيبة "الجزء المفقود ص310، 311"، سنن البيهقي 5/117،118، ما جاء في البدع لابن وضاح ص102، الحوادث والبدع للطرطوشي ص126-128، الاقتضاء ص643، الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة ص29-32، لطائف المعارف: عشر ذي الحجة ص283، هداية السالك، الباب 11 ص1037، المجموع للنووي 8/116،117، الإيضاح له: آخر الباب الرابع ص305،306، الشرح الكبير والإنصاف ومنار السبيل: آخر باب العيدين، الأمر بالاتباع للسيوطي ص85-87، تصحيح الدعاء: تصحيح الدعاء الزماني ص113.

"3" لم يثبت في فضل عاشوراء سوى الندب إلى صومه؛ لأن الله تعالى نجى فيه موسى عليه السلام وقومه.

وقد جعل الرافضة المنتسبون إلى التشيع هذا اليوم مأتماً، وذلك لأن الحسين بن علي رضي الله عنهما قتل فيه، وقابلهم بعض الناصبة وبعض الجهال، فجعلوا هذا اليوم يوم فرح، ووضع بعضهم فيه أحاديث، وورد حديث ضعيف في فضل التوسيع على

ص: 519

هذه الأوقات الفاضلة بعبادة يكررها كلما جاء هذا الوقت الفاضل مما لم يرد في الشرع ما يدل على تخصيصها بها، كتخصيص ليلة القدر بعمرة أو بذكر خاص أو بصلاة خاصة يكررها في كل عام"1".

النوع الثالث: الأيام والليالي التي حدثت فيها حوادث مهمة، ولكن لم يأت في الشرع ما يدل على فضلها أو على مشروعية التعبد لله أو الاحتفال فيها.

ومن هذه الأوقات: الليلة التي يقال: إنه حصل فيها الإسراء والمعراج لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يثبت في تحديد هذه الليلة شيء"2".

الأهل فيه، واغتر بعض المنتسبين إلى السنة ممن قلت بضاعتهم في معرفة صحيح السنة من سقيمها بهذه الأحاديث والآثار فقالوا بذلك، وهذا كله بلا شك من البدع المحرمة، كما أن جعل أيام المصائب مآتم محرم، وهو من عمل أهل الجاهلية، ينظر ما جاء في البدع لابن وضاح ص95، مجموع الفتاوى 25/307-314، الأمر بالاتباع ص88،89، لطائف المعارف ص52،53، السنن والمبتدعات، الباب22، ص134، تصحيح الدعاء ص109.

"1" لم يثبت في ليلة القدر ذكر خاص سوى دعاء: " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني "، أما ما أحدثه بعضهم من صلاة خاصة بهذه الليلة فهو من البدع المحرمة، ينظر: الأذكار للنووي ص163، لطائف المعارف ص217-220، السنن والمبتدعات ص156.

"2" فالإسراء والمعراج ثابتان، أما تحديد يوم معين لوقت الإسراء والمعراج فلم يرد في ذلك حديث صحيح ولا ضعيف، وليس هناك ما يعتمد عليه في تحديد الشهر الذي حدثا فيه، وقد اختلف في ذلك على أكثر من عشرة أقوال، كما ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني

ص: 520

ومن هذه الليالي أيضاً الليلة التي يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيها، مع أنه لم يثبت في تحديد شهر ولادته ولا يومها شيء يعتمد عليه، بل في ذلك خلاف مشهور"1"، وقد جزم وقطع العبيديون الرافضة في القرن الرابع

الشافعي، وكثير من الجهال يعتقدون أن الإسراء والمعراج حصل في ليلة سبع وعشرين من شهر رجب، ويعملون فيها أموراً محدثة، كتخصيصها بدعاء معين وصلاة معينة، وتخصيصها بقراءة قصة الإسراء والمعراج فيها، أو الاحتفال وتعطيل الأعمال في يومها. وكل هذا من البدع المحرمة. قال أبو شامة الشافعي في الباعث ص71:"وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب، وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب "، وقال الشيخ بكر أبو زيد في تصحيح الدعاء ص111:"وليعلم أن تحديد الإسراء والمعراج في هذا التاريخ هو أضعف الأقوال"وينظر: شرح النووي لصحيح مسلم: الإيمان باب الإسراء 2/209، تبيين العجب بما ورد في شهر رجب لابن حجر، ومقدمة محققه طارق الدارعمي ص9-23، زاد المعاد 1/57-59، السيرة النبوية لابن كثير 2/81، فتح الباري 7/203، شرح الحديث "3887"، لطائف المعارف ص126، فتاوى الشيخ ابن باز "جمع دار الإفتاء 1/188-190"، فتاوى الشيخ ابن عثيمين "جمع أشرف بن عبد المقصود1/130".

"1" فقد قيل إنه صلى الله عليه وسلم ولد في شهر رمضان، وقيل: في شهر رجب، وقيل في شهر ربيع الأول، وقد اختلف القائلون بأنه ولد في شهر ربيع الأول في تحديد يوم ولادته، فقال بعضهم: في اليوم الثاني منه، وقيل: في الثامن، وقيل: في العاشر، وقيل: في الثاني عشر، وقيل: في السابع عشر، وقيل: الثامن عشر، وقيل: في الثاني والعشرين، وليس على شيء منها دليل يعتمد عليه. ينظر: الطبقات الكبرى 1/100، 101،

ص: 521

الهجري أن مولده صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، مع أنه ليس هناك ما يرجح هذا القول.

وهذا الشهر قد أصيبت فيه الأمة الإسلامية بأعظم مصيبة، وهي وفاته صلى الله عليه وسلم"1"، فقد كانت وفاته عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول بلا خلاف.

بل إن العبيديين اختاروا يوم الثاني عشر منه، فأقاموا فيه احتفالاً وقت حكمهم لمصر زعموا أنه من باب الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم، مع أن هذا اليوم هو اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم في قول عامة أهل العلم"2".

السيرة لابن هشام 1/158، تاريخ الإسلام "السيرة ص25،26"، لطائف المعارف ص95، البداية والنهاية 3/373-380، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين "جمع فهد السليمان 2/298"

"1" فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها أعظم المصائب "رواه ابن ماجه "1599" متصلاً بإسناد فيه ضعف، ورواه الدارمي "85، 86"، وابن سعد 2/75 من طريقين صحيحين مرسلين، فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن، وقد صححه الألباني في الصحيحة "1106".

"2" ينظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/272-275، تاريخ الإسلام للذهبي الشافعي "السيرة ص568-571"، فتح الباري لابن حجر الشافعي: المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته 8/129، 130، البداية والنهاية 3/373-380، لطائف المعارف للحافظ ابن رجب: المجلس الثاني في ذكر المولد ص97، 113.

ص: 522

وكان كثير من هؤلاء العبيديين من الملاحدة الحاقدين على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ادعى بعضهم الألوهية، وعلى رأسهم الحاكم بأمر الله العبيدي الذي يؤلهه الدروز إلى الآن"1"، ومنهم أو من أتباعهم: القرامطة، الذين قتلوا الحُجَّاج في عرفات وعند الكعبة المشرفة، وهدموا جزءاً من الكعبة، وأخذوا الحجر الأسود منها، ولم يعيدوه إلا بعد عدة سنوات"2".

والعبيديون هم أول من أقام الاحتفال بالمولد في القرن الرابع الهجري، وكان ذلك سنة 363هـ أثناء حكمهم لمصر"3".

"1" قال الإمام الذهبي الشافعي في ترجمته في سير أعلام النبلاء 15/173:"صاحب مصر، الحاكم بأمر الله العبيدي، المصري، الرافضي، بل الإسماعيلي، الزنديق، المدعي الربوبية"وينظر: البداية والنهاية "حوادث سنة 411هـ، 15/582-584".

"2" وكان قائدهم وقتئذ: أبو طاهر القرمطي، وكان ينشد وهو يقتل الناس عند الكعبة:

أنا بالله وبالله أنا

يخلق الخلق وأفنيهم أنا

ينظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير 8/207، 208، البداية والنهاية "حوادث سنة 317هـ، 15/37-41"، لطائف المعارف: المجلس الثاني في ذكر المولد ص96، 97.

"3" ينظر: "تاريخ الاحتفال بالمولد» للسندوبي ص62، والسندوبي من الصوفية الذين يرون جواز الاحتفال في هذا اليوم، ومع ذلك أقر بأن العبيديين هم أول من أحدثه، ومثله علي محفوظ في كتاب الإبداع في مضار الابتداع ص251، وينظر"عيد اليوبيل"لبكر أبو زيد ص16، وينظر ما يأتي قريباً من حكاية الإجماع على أن السلف لم يفعلوه، والنقل عن جمع من أهل العلم في ذلك.

ص: 523

فلا يُبعد أن هؤلاء العبيديين المنحرفين الذين يجزم بأن بعضهم يبغض النبي صلى الله عليه وسلم قد اختاروا شهر ويوم وفاته صلى الله عليه وسلم وقتاً لهذا الاحتفال، فرحاً بوفاته صلى الله عليه وسلم، وأظهروا للناس أنه للفرح بولادته عليه الصلاة والسلام.

وقد اتفق أهل العلم على أن السلف الصالح من أهل القرون الثلاثة المفضلة، وفي مقدمتهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا هذا الاحتفال، ولذلك لم ينقل فعله ولا القول بمشروعيته عن أحد من أهل القرون الثلاثة المفضلة، مع شدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وحرصهم على الخير"1".

وقد ذهب السيوطي في"حسن المقصد"ص189، وتبعه في ذلك بعض المعاصرين إلى أن أول من عمله السلطان كوكبري الأيوبي المتوفى سنة "630هـ"، وهذا وَهْمٌ منه؛ لأنه قد أحدث قبله، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ولكن هذا السلطان اهتم به اهتماماً عظيماً وعمل فيه سماعاً للصوفية، وكان يرقص معهم بنفسه، ينظر: البداية والنهاية 17/205، 206.

"1" وقد حكى هذا الإجماع جمع من أهل العلم ممن يرى تحريم هذا الاحتفال، ووافقهم على حكاية إجماع السلف على ترك الاحتفال بالمولد جميع من كتب عنه ممن يرى إباحته.

قال الإمام الفاكهاني المالكي في المورد في عمل المولد ص8-10:"لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكَّالون

لم ياذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون –فيما علمت– وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن سئلت عنه".

ص: 524

......................................................................

وقال ابن الحاج المالكي المتوفى سنة "738هـ" بعد ذكره لكثير من المفاسد التي أحدثها الناس لما عملوا المولد في كتابه: المدخل: فصل في المولد 1/234،235:"وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع، فإن خلا منه وعمل طعاماً فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ إن ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضين، واتباع السلف أولى، بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه؛ لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له ولسنته صلى الله عليه وسلم، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك. ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع فيسعنا ما وسعهم".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 25/298:"أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال – الذي يسميه الجهال: عيد الأبرار – فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها".

وقال الحافظ ابن حجر الهيثمي المصري الشافعي – وهو ممن لا يرى تحريم عمل المولد "نقلاً عن حسن المقصد للسيوطي" 1/196 قال:"أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن السلف الصالح من القرون الثلاثة".

وقال الشيخ محمد بن عبد السلام الشقيري المصري في السنن والمبتدعات ص139: "اتخاذ مولده موسماً والاحتفال به بدعة منكرة ضلالة، لم يرد بها شرع ولا عقل، ولو كان في هذا خير فكيف يغفل عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة وأتباعهم، لا شك أنه ما أحدثه إلا المتصوفون الأكالون أصحاب البدع،

ص: 525

وهذا إجماع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجميع سلف هذه الأمة على عدم مشروعيته، وعلى عدم مشروعية جميع الاحتفالات المحدثة.

ولما قلد كثير من المسلمين هؤلاء الشيعة العبيديين في إقامة الاحتفالات في هذا اليوم، وقلدوا النصارى الذين غلوا في عيسى عليه السلام حتى عبدوه وأقاموا احتفالات بذكرى مولده أدى بهم ذلك إلى الوقوع في بدع أخرى، كبدعة القيام أثناء إقامة هذا الاحتفال ظناً من بعض الجهال أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر هذه الاحتفالات، وهذا من الكذب الذي يفتريه بعض

وتبع الناس بعضهم بعضاً فيه إلا من عصمه الله ووفقه لفهم حقائق دين الإسلام".

وقال علامة مصر رشيد رضا كما في فتاواه 4/1242،1243:"هذه الموالد بدعة بلا نزاع، وأول من ابتدع الاجتماع لقراءة قصة المولد النبوي أحد ملوك الشراكسة بمصر".

وقال شيخنا محمد بن عثيمين في القول المفيد، باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم الغلو في الصالحين 1/386،387:"الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم علىالوجه المعروف بدعة ظاهرة؛ لأنه لم يكن معروفاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه".

وينظر أيضاً في ذكر الإجماع على عدم فعل الصحابة للمولد، وأن ذلك دليل على أنه بدعة محرمة: فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز، جمع الإفتاء 1/185، 230، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين "جمع أشرف بن عبد المقصود 1/127"، الرد القوي للشيخ حمود التويجري 1/70، الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف لإسماعيل الأنصاري 1/358، 359، القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل لأبي بكر الجزائري 2/429، عيد اليوبيل لبكر أبو زيد ص16.

ص: 526

من يدعي العلم ممن يقومون على هذه الاحتفالات، فيصدقهم الجهال"1"، وكبدعة الذكر الجماعي وضرب الطبول وغيرها من المحرمات"2".

بل إن إقامة هذه الاحتفالات المحدثة أدت بكثير ممن أقامها إلى الوقوع في الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وإعطائه بعض صفات الله تعالى التي لا يشاركه فيها غيره، كعلم الغيب، والنفع والضر وغير ذلك، وكثير منهم يتلو في هذا الاحتفال قصيدة البوصيري مع أن فيها شركاً صريحاً"3"، وهكذا تفعل جميع البدع بأصحابها، وهذا هو مصداق قول الحبيب صلى الله عليه وسلم:" كل بدعة ضلالة "، فهي ضلالة وتؤدي إلى ضلالة.

"1" قال شيخنا عبد العزيز بن باز كما في مجموع فتاواه "جمع الإفتاء1/186،187": "بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد، ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل، واقبح الجهل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم". وينظر المرجع نفسه 1/232،233، الفتاوى الحديثية لابن حجر المكي الشافعي ص60.

"2" ينظر في بيان هذه البدع والمحرمات المدخل لابن الحاج المالكي 1/229-239، ورسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي، والسنن والمبتدعات للشقيري ص139، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق" ينظر: رسالة "حكم الاحتفال بالمولد"1/34.

"3" قال الشيخ محمد بن عثيمين كما في فتاواه "جمع أشرف بن عبد المقصود 1/127، 128"

ص: 527

وبالجملة فإنه ينبغي للمسلم الذي يحب الله تعالى، ويحب نبيه صلى الله عليه وسلم أكثر مما يحب نفسه وولده أن يسير على خطى ومنهج الحبيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم -فداه أبي وأمي– وأن يكثر من قراءة وحفظ الكتاب الذي أنزل عليه ومن حفظ وتدارس سنته وسيرته في كل أيام وليالي العام، وأن يكثر من الصلاة والسلام عليه في جميع الأوقات"1"، وبالأخص في كل يوم جمعة وليلتها من كل أسبوع"2".

بعد ذكره لبعض الشركيات التي ذكرها البوصيري في بردته، ومنها:

فإن من جودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

قال: "وأنا أعجب لمن يتكلم بهذا الكلام إن كان يعقل معناه كيف يُسوّغ لنفسه أن يقول مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام: فإن من جودك الدنيا وضرتها. ومِنْ للتبعيض، والدنيا هي الدنيا وضرتها هي الآخرة، فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس كل جوده، فما الذي بقي لله عز وجل، ما بقي له شيء من الممكن لا في الدنيا ولا في الآخرة. وكذلك قوله: ومن علومك علمُ اللوح والقلم. ومِنْ: هذه للتبعيض، ولا أدري ماذا يبقى لله تعالى من العلم إذا خاطبنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخطاب".

"1" ينظر ما سبق في آخر مسألة التوسل من أن الإكثار من الصلاة عليه – عليه الصلاة والسلام – في الدعاء من أسباب استجابة الدعاء ومغفرة الذنوب.

"2" فقد ورد في فضل الإكثار من الصلاة والسلام عليه في هذا اليوم عدة أحاديث تنظر في صحيح ابن حبان "910"، 3/190-193، وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم "22"،

ص: 528

وليس من محبته صلى الله عليه وسلم أن نقيم احتفالاً في وقت وفاته عليه الصلاة والسلام، والذي قطع الرافضة العبيديون أنه وقت ولادته"1" ولا أن تقرأ سيرته والقصائد الشركية أو غير الشركية في ليلة من ليالي العام، فإن هذا من مخالفة سنته، ومن الزيادة المبتدعة المحرمة في شريعته صلى الله عليه وسلم، وفيها تقليد لطرق الكفار والرافضة وترك لطريقته صلى الله عليه وسلم وطريقة جميع أصحابه رضي الله عنهم –"2"،

وجلاء الأفهام ص32-38، و227.

"1" قال الفاكهاني المالكي في المورد ص14:"هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم – وهو ربيع الأول – هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح أولى من الحزن فيه".

وقال ابن الحاج المالكي في المدخل 1/238:"ثم العجب العجيب كيف يعملون المولد بالأغاني والفرح والسرور لأجل مولده صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الكريم، وهو عليه الصلاة والسلام انتقل فيه إلى كرامة ربه وفجعت الأمة فيه، وأصيبت بمصاب عظيم لا يعدل ذلك غيرها من المصائب أبداً؟ على هذا كان يتعين البكاء والحزن الكثير لما أصيب به. فانظر في هذا الشهر الكريم كيف يلعبون فيه ويرقصون، ولا يبكون ولا يحزنون؟ ولو فعلوا ذلك لكان أقرب إلى الحال، مع أنهم لو فعلوا ذلك والتزموه لكان أيضاً بدعة".

وقال محمد بن عبد السلام الشقيري المصري في السنن والمبتدعات ص139:"في هذا الشهر ولد، وفيه توفي، فلماذا يفرحون بميلاده ولا يحزنون لوفاته".

"2" قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص619: "ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيماً

من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له

ص: 529

فليختر المسلم لنفسه أي الطريقين شاء"1".

وعدم المانع منه لو كان خيراً. ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم – أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان".

وقال شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله كما في فتاواه "جمع الإفتاء 1/232-235" عند مناقشته لكلام من يبيح هذا الاحتفال:"نقول لمن يقول بذلك إذا كنت سنياً ومتبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهل فعل ذلك هو أو أحد من صحابته الكرام أو التابعين لهم بإحسان، أم هو التقليد الأعمى لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى ومن على شاكلتهم. وليس حب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل فيما يقام من الاحتفالات بمولده، بل بطاعته فيما أمر به، وتصديقه فيما أخبر به، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، وكذا بالصلاة عليه عند ذكره، وفي الصلوات، وفي كل وقت ومناسبة

وليس منع الاحتفال البدعي بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يكون فيه من غلو أو شرك ونحو ذلك عملاً غير إسلامي، أو إهانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو طاعة له وامتثال لأمره، حيث قال:" إياكم والغلو في الدين "، وقال:" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله ".

"1" قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث:" فمن رغب عن سنتي فليس مني "، والذي سبق تخريجه عند الكلام عل بدعة الترك، قال في الفتح 9/105:"المراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني".

ص: 530

البدعة الثالثة: الأذكار المبتدعة

الأذكار في أصلها قسمان:

القسم الأول: الأذكار المشروعة

جاءت في القرآن والسنة أذكار قولية كثيرة، يشرع للإنسان أن يقولها وأن يشتغل بها، وقد وردت أذكار كثيرة يستحب قولها عند غالب الأعمال التي يفعلها الإنسان في اليوم والليلة، كما جاء فيهما أذكار أخرى يشرع قولها في كثير من الأوقات والمناسبات والعبادات، ومن هذه الأذكار ما هو توحيد لله، ومنها ما هو تنزيه له، ومنها ما هو ثناء عليه، ومنها ما هو دعاء واستعاذة، إلى غير ذلك من أنواع الأذكار الكثيرة المتنوعة التي يشرع للمسلم أن يقول كل ذكر منها على الصفة التي وردت في النصوص، وأن يقوله في الزمان أو المكان، أو العبادة، أو عند الفعل الذي ورد في النصوص ما يدل على مشروعيته فيه إن كان مقيداً بشيء من ذلك، وإن كان مطلقاً فيستحب للمسلم أن يكثر منه في كل وقت، وينبغي له أن لا يتحرَّى به وقتاً معيناً، ولا يربطه بعمل معين وجوداً أو عدماً"1".

"1" من الأذكار المقيدة بالزمان: أذكار الصباح والمساء، ومن الأذكار المقيدة بالمكان: أذكار دخول المسجد والمنزل والخروج منهما، ومن الأذكار المقيدة بالعبادة: أذكار الطواف والسعي، ومن الأذكار المقيدة بالفعل الذكر عند العطاس.

ص: 531

وقد ورد في النصوص ذكر فضائل وأجور عظيمة وكثيرة في حق من أتى ببعض الأذكار، وورد في شأن بعض أذكار التعوذات أن من قالها عُصم من شر كل ذي شر، وذلك إذا قالها عارفاً بمعناها موقناً بها.

القسم الثاني: الأذكار غير المشروعة

وهي: أن يأتي الإنسان بذكر لم يرد في النصوص، أو يأتي بذكر مشروع بطريقة محدثة، أو يكرره في زمان أو مكان أو في عبادة لم يرد ما يدل على مشروعيته فيه"1".

وعليه فإن الأذكار غير المشروعة – وتسمى: الأذكار البدعية – ثلاثة أنواع:

وهناك أذكار مقيدة بأحوال معينة، كدعاء الهم، ودعاء المصيبة، ونحو ذلك.

ومن الأذكار المطلقة: سبحان الله عدد خلقه، ورضاء نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

وقد يكون الذكر مطلقاً ومقيداً، كالتكبير والتسبيح، فيشرع ذكر الله بهما في كل وقت، كما أن كلاً منهما مشروع في الصلاة وبعدها. ومن ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مشروعة في الصلاة وعند دخول المسجد، وعند الخروج منه وغير ذلك، كما أنها مشروعة في كل وقت، ويستحب للمسلم أن يستكثر منها. وقد الف العلماء مؤلفات مستقلة في الأذكار، من أهمها: عمل اليوم والليلة للنسائي، وعمل اليوم والليلة لابن السني، والأذكار للنووي، والكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية، والوابل الصيب لابن القيم، وحصن المسلم، وغيرها.

"1" ومثله أن يكرره في حالة أو عند فعل لم يرد ما يدل على مشروعيته عنده.

ص: 532

النوع الأول: أن يأتي ببعض ألفاظ الأذكار المشروعة ويترك بعضها بحيث لا يتم المعنى الذي يدل عليه هذا الذكر، كالذكر بضمير الغائب"هو"، أو الذكر بالاسم المفرد"الله"، وقد يكرر هذه الأذكار مرات عديدة.

النوع الثاني: أداء الأذكار المشروعة بطريقة محدثة مبتدعة. ومن أمثلة ذلك:

1-

أن يؤدي جماعة الذكر مجتمعين، فيكبرون أو يهللون أو يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت واحد، أو يذكر الله أحدهم والبقية يذكرون الله بعده، أو يأمرهم أن يسبحوا عدداً معيناً، فيفعلون ما يطلب منهم، كما فعله بعض العُبَّاد في عهد ابن مسعود رضي الله عنه فأنكر عليهم ابن مسعود ذلك "1".

2 -

أن يؤدي واحد أو أكثر الذكر بطريقة مطربة، تخرج الذكر عن ما شرع له من التعبد لله وتقوية إيمان العبد. وبعضهم قد يجعل مع هذا الذكر شيئاً من آلات الطرب كالدف والطبل ونحو ذلك.

3-

أن يزيد على الأذكار المشروعة ما ليس منها، ويلتزم هذه الزيادة

"1" سبق تخريجه عند ذكر أدلة تحريم جميع البدع في بداية هذا الفصل.

ص: 533

كلما كرر هذا الذكر"1".

"1" قال الشيخ محمد بن عبد السلام الشقيري المصري في السنن والمبتدعات، الباب 24 في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها وصفتها وحسرة وبخل تاركها ص246،247:"اعلم أن الصلوات البكرية والدرديرية والميرغنية كلها مخترعات ومبتدعات، وكذا كتاب " أفضل الصلوات على سيد السادات"، وكتاب " صلوات الثناء على سيد الأنبياء للنبهاني"، وكتاب "روضة الأسرار في الصلاة على المختار"، وكتاب "التحفة الربانية بالصلاة على إمام الحضرة القدسية"، و"مفتاح المدد في الصلاة على الرسول السند"، وكتاب "التفكر والاعتبار في الصلاة على النبي المختار لأحمد بن ثابت المغربي". وكذا كل كتاب رتبت فيه الصلاة على النبي على حروف المعجم، كأن يقول فيها: اللهم صل على سيدنا محمد القائل: إنما الأعمال بالنيات، ويذكرون بعد كل تصلية حديثاً نبوياً أو سجعاً، فاعلم أنه حدث في الدين، وشرع لم يأذن به الله، فلا تتعبد أخي أصلاً إلا بكل ما يتعبد به محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا تلتفت إلى ما لم يخرج من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فلست محباً له ولا متبعاً لما جاءك به، ولا مطيعاً لربك في قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، وقوله: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، ولا تكونن آمناً من أن يكون لك نصيب من آية: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال الإمام أبو بكر بن العربي في شرحه على الترمذي: "حذار حذار من أن يلتفت أحد إلى ما ذكره ابن أبي زيد فيزيد في الصلاة على النبي عليه السلام: " وارحم محمداً " فإنه قريب من البدعة؛ لأن النبي –عليه السلام– علم الصلاة بالوحي، فالزيادة فيها استقصار له – أي اتهام له بالتقصير -، واستدراك عليه، ولا يجوز أن يزيد على النبي –عليه السلام– حرفاً" أ. هـ. وقال الإمام النووي في الأذكار ما حاصله:"وأما زيادة "وارحم محمداً،

ص: 534

النوع الثالث: أن يأتي بالذكر المشروع المقيد بزمان أو بمكان، أو بحالة معينة في غير محله، وبالأخص إذا صحب ذلك تكرار هذا الذكر في هذا الموطن الذي لم يشرع فيه، كمن يلازم الاستعاذة عند كل تثاؤب، وكأن ينادي المؤذن للصلاة بعد الأذان، وهو ما يعرف ب "التثويب"، ولذلك أنكره ابن عمر رضي الله عنه على من فعله من المؤذنين"1"، وأنكره الإمام مالك – رحمه الله –"2".

وآل محمد" فهذا بدعة لا أصل لها، قال: وقد بالغ الإمام أبو بكر بن العربي في إنكار ذلك، وتخطئة ابن أبي زيد في ذلك، وتجهيل فاعله"أ. هـ. فهذه زيادة خفيفة لا تساوي عشر معشار الزيادات التي زادوها، وألفوا فيها ألوف المجلدات العديدة، ومع هذا فقد أنكروا عليها أشد إنكار، فكيف إذا رأوا ما حدث وعم وطم، وصارت السنة بجانبه نسياً منسياً، وشيئاً لا يذكر إلا في بطون كتب السنن، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فيا عباد الله: إن الزيادة على تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم بدعة ضلالة لا تقربكم من الله، بل تبعدكم عن دار كرامته ورضوانه؛ لأنه سبحانه لا يعبد إلا بما شرع، لا بالمحدثات والبدع، يا عباد الله: أتظنون أن ما ألفه لكم شيوخكم في الصلاة والتسليم أفضل مما خرج من فم المعصوم صلى الله عليه وسلم؟ لا شك أنه كذلك عندكم، وإلا فلماذا لا تصلون على النبي بما ورد في الصحاح والسنن، بل لا تعرفونه بالكلية؟ أفضلتم مشائخكم على نبيكم الذي لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعه؟

". انتهى كلام الشقيري رحمه الله.

"1" سبق تخريجه عند ذكر أدلة تحريم جميع البدع في بداية هذا الفصل.

"2" ينظر ما سبق نقله عن مالك بعد ذكر أدلة تحريم جميع البدع في بداية هذا الفصل.

وينظر: الاعتصام للشاطبي المالكي 1/39، و2/351، مجموع الفتاوى 36/97 –20،

ص: 535

ومن ذلك أن يجعل لكل شوط من أشواط الطواف ذكراً معيناً، أو يجعل لمقام إبراهيم ذكراً معيناً وهكذا، كما هو موجود في بعض الكتيبات التي يقرأها بعض الحجاج والمعتمرين جهلاً منهم بحرمة قراءتها في هذه المواضع لعدم الدليل على تخصيصها بها.

فكل هذه الأنواع محرمة؛ لأنها من البدع المحدثة، وقد تكاثرت النصوص في النهي عن البدع والتغليظ على فاعلها"1" ولإجماع الصحابة على تركها، ولو كانت مشروعة لبادروا إلى فعلها لحرصهم على الخير، بل قد ثبت عن بعضهم النهي عنها والإنكار الشديد على من فعلها كما سبق، وبعض هذه الأذكار مكروه عند بعض أهل العلم، ولا يصل إلى حد الحرمة، والله أعلم.

ولذلك فإنه يجب على المسلم أن يحرص على المواظبة على الأذكار المشروعة، وأن يبتعد عن الأذكار المبتدعة؛ لأنها معصية لله تعالى، ولأن

و37/63،64، تطهير الاعتقاد للصنعاني اليماني ص54، 55، السنن والمبتدعات للشقيري المصري، الباب 24 في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلموفضلها وصفتها وحسرة وبخل تاركها، والإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف لإسماعيل الأنصاري ص339، إصلاح المساجد لعلامة الشام محمد القاسمي، رسالة"الدعاء"للعروسي السوداني ص658-663، 931.

"1" سبقت هذه النصوص في مقدمة هذا الفصل.

ص: 536

استمراءها والاستمرار عليها يؤدي في آخر الأمر إلى إحداث واختراع أوراد شركية.

ولذلك لما عصى الله تعالى كثير من المسلمين بابتداع أوراد بدعية محرمة، أدى بهم ذلك إلى ابتداع أوراد أخرى شركية، مثل: ذكر أو "وظيفة ابن مشيش" المشهورة عند بعض الصوفية"1".

ومن ذلك:"صلاة الفاتح"التي اعتُقِد فيها اعتقادات شركية، فمبتدعوها ومن سار على طريقتهم يعتقدون أنها أفضل من القرآن الكريم الذي تكلم به ربنا جل وعلا، وأنها أفضل من جميع الأذكار التي نطق بها خير البرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت من بين شفتيه الكريمتين، وندب إليها صلوات ربي وسلامه عليه، ومثله اعتقاد بعضهم أن ورد "دلائل الخيرات"أو غيره أفضل من القرآن، فهذا كله شرك أكبر مخرج من الملة.

كما أنه يجب على المسلم إذا أراد أن يذكر الله تعالى بأي ذكر أن ينظر

"1" وهي:"اللهم انشلني من أوحال التوحيد وألقني في بحار الوحدة". فهو يجعل توحيد الرسل عليهم السلام أوحالاً يطلب أن يخرج منه إلى أن يتحد مع الله تعالى، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. ينظر: الدعاء للعروسي السوداني، الباب الثالث، الفصل الثالث ص661

ص: 537

هل هو من الأذكار الثابتة في النصوص الشرعية فيعمل به، أو لم يرد في النصوص فيتركه، بغض النظر عن قائله، ويقدم عليه الأذكار التي نطق بها خير البرية صلى الله عليه وسلم.

خاتمة فصل البدعة:

بعد أن استعرضنا النصوص الواردة في ذم البدع والتغليظ على فاعلها، وعرفنا ما أدى إليه التساهل بالبدع، واستمراؤها، وما أدى إليه إحداث ما ليس له أصل في هذه الشريعة الكاملة من الوقوع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، نعلم يقيناً أنه يجب على كل مسلم أن يسير على طريقة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يغير فيها، وأن لا يزيد فيها ما ليس منها من البدع المحدثات؛ لئلا يجره ذلك إلى الوقوع في الشرك؛ ولئلا يقتدي به غيره من عوام الناس وجهلتهم، فيقعوا في الشرك، فيبوء بإثمه وإثمهم؛ لأنه سن في الإسلام سنة سيئة.

كما أنه يجب على كل مسلم أن يتمسك بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن يقدمها على أقوال البشر، ففي سنته الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، والسلامة من الضلال والانحراف لمن تمسك بها، وهو من علامة محبة المسلم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والإصرار على البدعة علامة على ضعف محبته للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأن فعل البدعة أو تحسينها يستلزم اتهام النبيَّ صلى الله عليه وسلم بأن شريعته ناقصة،

ص: 538

أو أنه صلى الله عليه وسلم لم يبين للناس الشريعة كاملة، فهي في مفهوم هذا المبتدع ناقصة تحتاج إلى زيادة أو إكمال"1".

وهذا لا شك كفر إن اعتقده من اخترع هذه البدعة أو أصر على فعلها، فمن المعلوم أن الله تعالى لم يتوفَّ نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أكمل هذا الدين، كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] .

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين للأمة جميع الأحكام الشرعية أتم بيان وأكمله، فلا حاجة إلى أن يزيد المسلم في دين الله ما ليس منه.

كما أنه يجب على المسلم البعد عن المبتدع، وعدم سماع كلامه أو مناظرته"2"؛ لئلا يقع في قلبه شيء من ضلالاته أو الشبه التي يثيرها؛ لأن المبتدع يحتج بالمتشابه ويؤوله إلى ما تهواه نفسه، كما قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [سورة

"1" سبق ذكر قول الإمام مالك والإمام الشاطبي في هذا بعد ذكر الأدلة على تحريم جميع البدع في بداية هذا المطلب.

"2" وهذا في حق غير أهل العلم، أما أهل العلم الراسخون فيه فلا حرج في مناظرتهم للمبتدعة، وذلك من باب دعوتهم وإقامة الحجة عليهم. ينظر: رسالة"موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع".

ص: 539

آل عمران:7] . وروى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا على عائشة – رضي الله عنها – الآية السابقة، ثم قال:" إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه فأولئك الذين سَمَّى الله فاحذروهم ""1".

فالمبتدع يترك الآيات الصريحة المحكمة، والأحاديث الصحيحة الواضحة، ويخالفها ويعارضها بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، أو بالنصوص المتشابهة، فيستدل بآية أو بحديث أو أثر صحيح فيفسره بغير تفسيره، ويؤوله إلى ما يوافق هواه، ويرد غيره من النصوص التي لم توافق عقله وهواه"2"، والله أعلم.

"1" صحيح البخاري: التفسير "4547".

"2" ينظر ما سبق في بداية هذا الفصل بعد ذكر الأدلة على تحريم البدع وبيان تحريم معارضة السنة أو تقديم أقوال المشايخ أو هوى النفس عليها. ولهذه العلة أي اتباع المبتدع لهواه تجد كثيراً من المبتدعة يحرص على فعل البدعة حرصاً شديداً أكثر من حرصه على فعل السنن؛ لأنها توافق ما تهواه نفسه، ولذلك اخترعها أو قلد من اخترعها، كما أنك تجد كثيراً من العصاة يشاركون في كثير من هذه البدع، كبدع الموالد، بينما تجده لا يأتي بكثير من الواجبات، بل ربما تجده لا يعرف من الدين إلا هذه البدع، فربما تجده لا يصلي الصلوات المفروضة، ولا يزكي أمواله، ومما يحبب البدعة إلى صاحبها أيضاً أن الشيطان يحببها إليه ويزينها في نظره، وقد سبق ذكر ما يتعلق بذلك في أواخر الكلام على بدعة الغلو في القبور.

ص: 540