الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسأتكلم على هذا التوحيد - توحيد الأسماء والصفات - بشيء من الاختصار في المباحث الأربعة الآتية:
المبحث الأول:
طريقة أهل السنة في أسماء الله وصفاته
طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته يمكن تلخيصها في ثلاثة أمور رئيسة، هي:
الأول: طريقتهم في الإثبات: وهي إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، فيؤمنون بأن جميع ما ثبت في النصوص الشرعية من صفات الله تعالى أنها صفات حقيقية تليق بجلال الله تعالى، وأنها لا تماثل صفات المخلوقين. ويؤمنون كذلك بجميع أسماء الله تعالى الثابتة في النصوص الشرعية، ويؤمنون بأن كل اسم يتضمن صفة لله تعالى، فاسم "العزيز" يتضمن صفة العزة لله تعالى، واسم "القوي"يتضمن صفة القوة له سبحانه، وهكذا بقية الأسماء.
وكل ما ثبت لله تعالى من الصفات فهي صفات كمال يحمد عليها، ويثنى بها عليه، وليس فيها نقص بوجه من الوجوه، بل هي ثابتة له على أكمل وجه.
الثاني: طريقتهم في النفي: نفي ما نفاه الله عن نفسه في كتابه،
أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات النقص، مع اعتقادهم ثبوت كمال ضد الصفة المنفية عنه جل وعلا.
وكل ما نفاه الله تعالى عن نفسه فهي صفات نقص، تنافي كماله الواجب، فجميع صفات النقص ممتنعة على الله تعالى لوجوب كماله. وما نفاه الله عن نفسه فالمراد به انتفاء تلك الصفة المنفية وإثبات كمال ضدها، وذلك أن النفي لا يدل على الكمال إلا إذا كان متضمناً لصفة ثبوتية يُحمد عليها، فإن مجرد النفي قد يكون سببه العجز فيكون نقصا، كما في قول الشاعر:
قُبيِّلةٌ لا يغدرون بذمّةٍ
…
ولا يظلمون النَّاسَ حبَّةَ خردل
وقد يكون سببه عدم القابلية فلا يقتضي مدحاً، كما لو قلت: الجدار لا يظلم.
إذا تبين هذا فمما نفى الله عن نفسه "الظلم"، والمراد به انتفاء الظلم عن الله مع ثبوت كمال ضده له تعالى، وهو "العدل"، ونفى عن نفسه "اللغوب"وهو التعب والإعياء، والمراد نفي اللغوب مع ثبوت كمال ضده، وهو "القوة"، وهكذا بقية ما نفاه الله تعالى عن نفسه.
الثالث: طريقتهم فيما لم يرد نفيه ولا إثباته مما تنازع الناس فيه، كالجسم، والحيز، والجهة ونحو ذلك، فطريقتهم فيه التوقف في لفظه، فلا يثبتونه ولا ينفونه، لعدم وروده، وأما معناه فيستفصلون عنه، فإن أريد به باطل ينزه الله عنه ردوه، وإن أريد به حق لا يمتنع على الله قبلوه"1".
وهذه الطريقة هي الطريقة الواجبة، وهي القول الوسط بين أهل التعطيل، وأهل التمثيل، وقد دل على وجوبها وصحتها العقل، والسمع:
فأما العقل فوجه دلالته: أن تفصيل القول فيما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى لا يدرك إلا بالسمع، لأنه من أمر الغيب الذي لا يحيط
"1" فإذا سأل سائل مثلاً عن "الجهة"هل تثبت في حق الله أم لا؟ قيل له: أولاً: هذه اللفظة لا نثبتها ولا ننفيها؛ لأنه لم يرد في النصوص الشرعية إثباتها ولا نفيها. وثانياً: يُقال له: ما مرادك بهذا السؤال؟ فإن قال: أريد أنه تعالى في مكان يحويه. قيل: هذا معنىً باطلٌ ينزه الله عنه، وإن قال: أريد أنه تعالى مباين للمخلوقات فوقها وأنه تعالى في جهة العلو المطلق. قيل: هذا حقٌّ يجب الإيمان به، لكن لفظة "الجهة"لفظة مجملة محدثة، الأَوْلَى تركها.
وإن كان قصد السائل الاسترشاد فحسن، وإن كان قصده رد ما ثبت في النصوص الشرعية الكثيرة من إثبات صفة العلو لله تعالى فهذا خطأ وزلل يجب عليه أن يتوب عنه.
ينظر مجموع الفتاوى 5/299، 366، الرسالة التدمرية مع شرحها التحفة "القاعدة الثانية 153-161"، شرح الطحاوية ص9، القواعد الكلية "القاعدة التاسعة"،"صفات الله عز وجل" للسقاف "القاعدة الرابعة".
به الإنسان علما فوجب اتباع السمع في ذلك، بإثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه، والسكوت عما سكت عنه.
وأما السمع: فمن أدلته قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، وقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، وقوله:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] .
فالآية الأولى: دلت على وجوب الإثبات من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تمثيل، لأن هذه الأمور الثلاثة من الإلحاد.
والآية الثانية: دلت على وجوب نفي التمثيل مع وجوب الإثبات.
والآية الثالثة: دلت على وجوب نفي التكييف، وعلى وجوب التوقف فيما لم يرد إثباته أو نفيه"1".
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يؤمنون بأن جميع صفات الله جل وعلا الثابتة في الكتاب والسنة صفات حقيقية، لا مجازية.
"1" «فتح رب البرية بتلخيص الحموية"للشيخ محمد بن عثيمين "مطبوع ضمن مجموع فتاويه ورسائله 4/19-24".
وقد نقل الحافظ ابن عبد البر الأندلسي المالكي المولود سنة "368هـ" إجماع أهل السنة على ذلك"1"، وذكر غير واحد من المتقدمين إجماع السلف على ذلك"2"، فالسلف يعتقدون أن الظاهر المتبادر من لفظ
"1" قال في كتابه التمهيد 7/145: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصوره، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئآ منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود. والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة ولله الحمد".
"2" قال الحافظ أبوالقاسم الأصبهاني المولود سنة " 457 ": "ما جاء في الصفات في كتاب الله أو رُوي بالأسانيد الصحيحة، فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات". ينظر الحجة في بيان المحجة 1/188، 189. وقال بنحو كلام الأصبهاني السابق: الخطيب البغدادي المولود سنة " 392هـ" في رسالته في الصفات التي كتبها جوابا لأهل دمشق حين سألوه عن الصفات ص 64. ونقل الحافظ الذهبي في العلو ص236 عن أبي سليمان الخطابي المتوفى سنة "388هـ" نحو قول الأصبهاني والخطيب أخصر منه. ثم قال الذهبي: "وكذا نقل الاتفاق عن السلف في هذا: الحافظ أبوبكر الخطيب ثم الحافظ أبو القاسم التيمي الأصبهاني وغيرهم".وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "تحقيق المجاز والحقيقة في صفات الله"ص121: "أطلق غير واحد ممن حكى=
الصفة معنى حقا يليق بجلال الله تعالى"1"، فيثبتون المعنى الذي يدل عليه لفظ الصفة الوارد في الكتاب
إجماع السلف منهم الخطابي مذهب السلف: أنها - أي أحاديث الصفات – تجرى على ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها ".
ونقل الحافظ الذهبي عن أبي القاسم الأصبهاني في كتاب العلو ص263 أنه قال: "مذهب مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وأحمد ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وإسحاق بن راهويه: أن صفات الله التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله من السمع والبصر والوجه واليدين وسائر أوصافه إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيها، ولا تشبيه، ولا تأويل".
"1" ظاهر النصوص هو ما يتبادر إلى الذهن من المعاني التي يدل عليها النص، وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام، قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:"الكلام المفيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: نص، وظاهر، ومجمل. وبرهان الحصر في الثلاثة: أن الكلام إما أن يحتمل معنىً واحداً فقط، فهو النص، نحو: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} . وإن احتمل معنيين فأكثر فلا بد أن يكون في أحدهما أظهر من الآخر أو لا، فإن كان أظهر في أحدهما فهو "الظاهر"، ومقابله "المحتمل" المرجوح، كالأسد، فإنه ظاهر في الحيوان المفترس، ومحتمل في الرجل الشجاع. وإن كان لا رجحان له في أحد المعنيين أو المعاني فهو المجمل، كـ "العين"، و "القرء"، ونحوهما. وحكم النص: أن لا يعدل عنه إلا بنسخ. وحكم الظاهر أن لا يعدل عنه إلا بدليل على قصد المحتمل المرجوح، وذلك هو التأويل. وحكم المجمل أن
أو السنة، فمثلاً يثبتون المعنى الذي يدل عليه لفظ "العزة» في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} ، وهذا المعنى هو:"القدرة والغلبة"، وكذلك يثبتون المعنى الذي يدل عليه لفظ "استوى"في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وهذا المعنى هو:"العلو والاستقرار" كما سيأتي بيانه عند الكلام على صفة الاستواء – إن شاء الله تعالى -، وهكذا بقية الصفات؛ لأن الله تعالى خاطب عباده في كتابه بلسان عربي مبين، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطب أمته بألفاظ عربية صريحة، فوجب إثبات المعنى الحقيقي الذي يدل عليه اللفظ الوارد في القرآن أو السنة في لغة العرب، وهذا هو مقتضى الإيمان بهما ومقتضى الانقياد لما جاء فيهما.
بهذا يعلم بطلان مذهب المفوضة الذين يقولون: نؤمن بالصفات الواردة في النصوص، لكن لا نثبت المعنى الذي يدل عليه لفظ الصفة، وإنما نفوض علم معناه إلى الله تعالى، وهذا مذهب حادث بعد القرون المفضلة"1"، والسلف بريؤون منه، فقد تواترت الأقوال عن
يتوقف عن العمل به إلا بدليل على تعيين المراد"أ. هـ ينظر مذكرة أصول الفقه ص176، وينظر القواعد المثلى " القاعدة الرابعة في أدلة الأسماء والصفات".
"1" قال الحافظ الذهبي الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه "العلو"ص "532" في ترجمة القاضي أبي يعلى: "المتأخرون من أهل النظر أي أهل الكلام قالوا مقالة مولدة ما علمت أحدا سبقهم بها، قالوا: هذه الصفات تمر كما جاءت ولا تؤول مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، فتفرع من هذا أن الظاهر يعنى به أمران:
السلف بإثبات معاني الصفات، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله عز وجل"1".
أحدهما: أنه لا تأويل لها غير دلالة الخطاب، كما قال السلف:"الاستواء معلوم"، وكما قال سفيان وغيره:"قراءتها تفسيرها"يعني أنها بينة واضحة في اللغة لا يبتغى بها مضايق التأويل والتحريف، وهذا هو مذهب السلف، مع اتفاقهم أيضا أنها لا تشبه صفات البشر بوجه، إذ الباري لا مثل له لا في ذاته ولا في صفاته.
الثاني: أن ظاهرها وهو الذي يتشكل في الخيال من الصفة كما يتشكل في الذهن من وصف البشر، فهذا غير مراد، فإن الله تعالى فرد صمد ليس له نظير، وإن تعددت صفاته فإنها حق، ولكن ما لها مثل ولا نظير"أ. هـ.ونقل الذهبي عن أبي يعلى أنه قال:"ويدل على إبطال التأويل: أن الصحابة ومن بعدهم حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغا لكانوا إليه أسبق".
وقال علامة الهند محمد صديق حسن خان في قطف الثمر ص 45 بعد ذكره لمذهب المفوضة وذكره لظن بعضهم أن التفويض هو طريقة السلف قال: "فهذا الظان من أجهل الناس بعقيدة السلف، وأضلهم عن الهدى، وقد تضمن هذا الظن استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة وكبار الذين كانوا أعلم الأمة علما وأفقههم فهما وأحسنهم عملا وأتبعهم سننا، ولازم هذا الظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، وهو خطأ عظيم وجسارة قبيحة نعوذ بالله منها".
(1)
ينظر مجموع الفتاوى 5/19، 41، 42، 46، 62، 365، التسعينية ص 556 - 573، التدمرية مع شرحها التحفة المهدية " القاعدة الثانية ص 106، 107،
فتبين مما سبق أن عقيدة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته إجمالاً هي: الإيمان بجميع ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، وإثباتها له سبحانه على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، وعدم التعرض لشيء من ذلك بتحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل، ونفي ما نفاه الله تعالى عن نفسه أو نفاه عنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واعتقاد كمال ضده له سبحانه وتعالى، مع اعتقاد أن جميع صفاته تعالى صفات حقيقية لا تماثل صفات المخلوقين.
والقاعدة الثالثة ص 163- 182 " شرح الطحاوية "شرح: ما زال بصفاته قديماً.. ص96"، القواعد المثلى "القاعدة الثالثة"، وينظر كلام العلامة الشوكاني الذي سيأتي قريباً. وينظر قول الإمام مالك الذي سيأتي عند ذكر صفة الاستواء.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 5/41، 42:؛ فقول ربيعة ومالك: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب"موافق لقول الباقين: "أمروها كما جاءت بلا كيف"فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة. ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا:"الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول" ولما قالوا: "أمروها كما جاءت بلا كيف"فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم. وأيضا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات".
والتحريف معناه: تغيير النص لفظاً، أو معنىً، والتغيير اللفظي قد يتغير معه المعنى، وقد لا يتغير. فهذه ثلاثة أقسام:
1-
تحريف لفظي يتغير معه المعنى: كتحريف بعضهم قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} بنصب لفظ الجلالة ليكون التكليم من موسى"1".
2-
وتحريف لفظي لا يتغير معه المعنى: كفتح الدال من قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وهذا في الغالب لا يقع إلا من جاهل، إذ ليس فيه غرض مقصود لفاعله غالبا.
3-
تحريف معنوي: وهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل، كتحريف معنى اليدين المضافتين إلى الله إلى القوة أو النعمة، وتحريف معنى الاستواء إلى الاستيلاء، وتحريف معنى الضحك إلى الثواب، وغير ذلك، كما فعل الأشاعرة وغيرهم. وهذا من الإلحاد في أسماء الله وآياته، فيتأولون نصوص الصفات على غير تأويلها، ويدَّ عون فيها
"1" وقد ذكر الحافظ ابن خزيمة في كتاب التوحيد 1/ 78، 79 أن بعض المعاصرين له من المبتدعة كان لا يجوِّز أن يقرأ:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وأنه كان يقرأ:"الله نوَّر السموات والأرض"، وذكر أنه كتب له نصيحة وأرسلها إليه مع بعض أصحابه، وذكر أنه بلغه أن هذا المبتدع رجع بعد ذلك.
صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بغير دليل، سوى الآراء البشرية والشبه العقلية التي ظنوها بينات، وإنما هي في واقع الأمر شبهات كلامية مبنية على الفلسفة اليونانية، فتأويلهم لنصوص الصفات حقيقته تحريف لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن مواضعه"1"، فإن التأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاء في الكتاب
"1" قال علامة اليمن الإمام محمد بن علي الشوكاني في رسالة "التحف في مذاهب السلف" ص47-51:
"مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل، فاشدد بذلك على هذا، واعلم أنه مذهب خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في الصفات، وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون، واصطلحوا عليها، وجعلوها أصلاً يُردُّ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فإن وافقاها فقد وافقا الأصول المتقررة في زعمهم، وإن خالفاها فقد خالفا الأصول المتقررة في زعمهم، ويجعلون الموافق لها من قسم المقبول والمحكم، والمخالف لها من قسم المردود والمتشابه، ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة ظاهرة المعنى، أو ألف حديث مما ثبت في الصحيح لم يبالوا به، ولا رفعوا إليه رؤوسهم، ولا عدوه شيئاً. ومن العجب العجيب والنبأ الغريب أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة من أهل الكلام، التي جعلها من بعدهم أصولاً لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل،
والسنة، وما خالف ذلك باطل، فإن كل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق ولا معه قرينة تقتضيه فهذا لا يقصده الهادي المبين بكلامه، إذ لو قصده لحفَّ به قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ، فإن الله أنزل كلامه بيانا وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره ولم يلحق به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد لم يكن بيانا ولا هدى. فالتأويل إخبار بمراد المتكلم لا إنشاء، فإذا قيل:"معنى اللفظ كذا وكذا"كان إخباراً بالذي عنى المتكلم وأراده بكلامه، فإن لم يكن الخبر مطابقاً كان تفسيراً لكلام المتكلم بغير مراده، وذلك خطأ ظاهر.
والفرية على الفطرة، وكل فرد من أفرادها قد تنازعت فيه عقولهم، وتخالفت عنده إدراكاتهم، فهذا يقول: حكم العقل في هذا الكلام كذا، وهذا يقول حكم العقل في هذا كذا، ثم قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم، فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه، وجعل ذلك أصلا يرد إليه أدلة الكتاب والسنة، وجعل المتشابه عند أولئك محكماً عنده، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقا له عنده، فكان حاصل كلام هؤلاء أنهم يعلمون من صفات الله ما لا يعلمه، وكفاك هذا! وليس بعده شيء، وعنده يتعثر العلم حياء من الله سبحانه وتعالى". انتهى كلامه رحمه الله مختصراً. وينظر رسالة "كشف الشبهات عن المشتبهات"للشوكاني أيضاً ص36-42، وينظر كلام ابن عبد البر الآتي عند بيان معنى الاستواء، وكلام الحافظ ابن حجر الآتي عند تعريف البدعة في الاصطلاح.
والتعطيل معناه: إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات، أو إنكار بعضها.
فهو نوعان:
1-
تعطيل كلي: كتعطيل الجهمية الذين ينكرون الأسماء والصفات.
2-
تعطيل جزئي: كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض الصفات ويؤولونها، ويثبتون بعض الصفات.
وأول من عرف بالتعطيل من هذه الأمة هو الجعد بن درهم، وكل من جاء بعده من المعطلة فهو مقلد له متأس به في كل ما جاء به من التعطيل أو في بعضه.
والتكييف معناه: حكاية كيفية الصفة، كقول القائل: كيفية يد الله كذا وكذا، وكيفية نزوله إلى السماء الدنيا كذا وكذا. وقد يقيد أو يقرن هذه الكيفية بمماثل فيقول مثلاً: نزول الله تعالى كيفيته كنزول المطر، تعالى الله عن ذلك، فيجمع بين التكييف والتمثيل.
ومعنى التمثيل: إثبات مثيل للشيء، كأن يقول: يد الله مثل يد الإنسان، تعالى الله عن ذلك"1".
"1" ينظر في عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات: الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة، السنة للإمام أحمد، الرد على الزنادقة للإمام أحمد، خلق أفعال العباد للإمام