الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قطع عمر – رضي الله عنه – الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية حسبما ذكره أهل السير""1"، وهذا يدل أيضاً على تحريم جميع أنواع التبرك الممنوع.
"1" الاعتصام 2/9، وقال ابن الحاج المالكي كما في إصلاح المساجد ص "101":"التعليل الذي لأجله كره العلماء رحمهم الله تعالى التمسح بالمصحف والمنبر والجدران إلى غير ذلك أن ذلك كان السبب في عبادة الأصنام". وينظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص757،758،776، الحكم الجديرة بالإذاعة ص55، التيسير والقول السديد، باب من تبرك بشجرة أو حجر، الدين الخالص2/250، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/102،104، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص99، جهود علماء الحنفية ص621-682.
المبحث الثالث:
رفع القبور وتجصيصها، وإسراجها، وبناء الغرف فوقها، وبناء المساجد عليها، وعبادة الله عندها
.
وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن هذه الأمور كلها، ومنها:
1-
ما رواه جندب بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس"2" وهو يقول:" ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، إني أنهاكم عن ذلك "رواه مسلم"3".
"2" أي قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام بخمس ليال.
"3" صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور "532".
2-
ما رواه ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد ""1".
3 -
ما روته أم المؤمنين عائشة وابن عباس رضي الله عنهم – قالا:"لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه"2"، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك:" لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر مثل ما صنعوا. قالت عائشة رضي الله عنها:"ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي"3"، أن يتخذ مسجداً". رواه البخاري ومسلم"4".
"1" رواه الإمام أحمد "3844،4143، 4342"، وابن أبي شيبة في الجنائز 3/345، والطبراني "10413" وابن خزيمة في صحيحه "789،790"، وابن حبان في صحيحه "2325" بإسنادين أحدهما حسن، والثاني محتمل للتحسين، وقد جود إسناده شيخ الإسلام في الاقتضاء، والشوكاني في النيل 1/139، وحسنه الهيثمي في المجمع 2/27، وقال الألباني في الجنائز ص287:"رواه أحمد بإسنادين حسنين".
"2" أي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حضره الموت جعل يضع خميصة له – وهي كساء له أعلام – على وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم.
"3" ضبط بفتح الخاء، وضبط بضمها. ينظر: فتح الباري 3/200.
"4" صحيح البخاري "435، 436"، وصحيح مسلم "529، 531". قال الحافظ ابن حجر الشافعي في الفتح، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور من كتاب الجنائز 3/200 عند قول عائشة رضي الله عنها:"ولولا ذلك لأبرز قبره" قال:"أي
.................................................................................
لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتخذ عليه الحائل، والمراد الدفن خارج بيته، وهذا قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي، ولهذا لما وسع جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة، حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة".
وقال أبو العباس القرطبي المالكي المتوفى سنة "656هـ" في المفهم 2/932 عند شرحه لهذا الحديث: "ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتتصوَّر الصلاة إليه بصورة العبادة فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وتحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من جهة الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره، ولهذا الذي ذكرناه كله قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبر نبيه". اهـ.
وهذه العلة لدفنه صلى الله عليه وسلم في غرفة عائشة – رضي الله عنها – هي السبب الثابت في ذلك، لثبوته في الصحيحين كما سبق. أما حديث:" ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه " فقد اختلف في ثبوته. وعلى فرض ثبوته فهو يؤيد رواية الفتح للفظة"خشي". في حديث عائشة، وعليه يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بدفنه في موضع وفاته لئلا يتخذ قبره مسجداً. ينظر: الفتح 1/529، و3/200.
وكانت توسعة المسجد النبوي وإدخال غرفة عائشة رضي الله عنها فيه في عهد الوليد بن عبد الملك الأموي بأمر منه بعد موت جميع الصحابة الذين بالمدينة لما احتاجوا إلى توسعته، وكانت حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بجانب المسجد، فاشتريت وضمت إلى المسجد، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها – التي فيها قبر خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم، فأعيد بناء الحجرة وجعلت مثلثة لكي لا تستقبل عند الصلاة كما سبق، وفي العصور
4-
ما رواه أبو الهياج الأسدي – رحمه الله – قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنْ لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ". رواه مسلم.
5-
ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما – قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه. رواه مسلم"2".
المتأخرة بنيت قبة على القبر، بناها أحد ملوك مصر المتأخرين، سنة 678هـ. ينظر: تاريخ الطبري، حوادث سنة "88هـ" 6/435، تاريخ الإسلام للذهبي الشافعي، حوادث سنة "81-100 "ص32، اقتضاء الصراط المستقيم ص685، مجموع الفتاوى 27/399، البداية والنهاية 12/413-415، الصارم المنكي ص196-201، فتح الباري، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم 3/257.
وقال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في آخر رسالة تطهير الاعتقاد ص53:"فإن قلت: هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عمرت عليه قبة عظيمة أنفقت فيها الأموال؟ قلت: هذا جهل عظيم بحقيقة الحال، فإن هذه القبة ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم، ولا من أصحابه، ولا من تابعيهم، ولا تابعي التابعين، ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره صلى الله عليه وسلم من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي، المعروف بالملك المنصور، في سنة 678هـ، ذكره في تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة، فهذه أمور دولية، لا دليلية يتبع فيها الآخر الأول".
"1" صحيح مسلم، الجنائز، النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه "969".
"2" صحيح مسلم "970".
ولهذه الأحاديث شواهد كثيرة من أحاديث جمع من الصحابة بلغت حد التواتر"1".
"1" وقد جزم بتواترها جمع من أهل العلم منهم شيخ الإسلام في الاقتضاء ص672، والحافظ السيوطي الشافعي في الأمر بالاتباع ص9، والبركوي الحنفي في زيارة القبور ص6، وأبوعبد الله الكتاني في نظم المتناثر من الحديث المتواتر رقم "109"، ومن هذه الأحاديث:
6 -
حديث أبي هريرة مرفوعاً:" اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " رواه أحمد 2/246 بإسناد حسن.
7 -
حديث عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة "رواه البخاري "434"، ومسلم "528".
8 -
حديث أبي هريرة مرفوعاً:" قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "رواه البخاري "437"، ومسلم "530".
9 -
حديث أبي عبيدة بنحو الحديث الذي قبله، رواه الإمام أحمد 1/196، والبزار "439"، وقال الهيثمي 2/28:"رجاله ثقات"وصححه الألباني في تحذير الساجد ص1.
10 -
حديث أسامة عند الطيالسي "منحة 2/113"، وأحمد 5/204، والطبراني "393، 411" بنحو حديث أبي هريرة، وقال الهيثمي 2/27:"رجاله موثقون" وقال الشوكاني في النيل 2/139: "سنده جيد".
11 -
حديث زيد بن ثابت بنحو حديث أبي هريرة، رواه أحمد 5/184، 186،
.........................................................................
والطبراني "4907"، وقال الهيثمي 2/27:" رجاله موثقون"، وقال الشوكاني في النيل 2/139:"سنده جيد".
12، 13، 14- أحاديث أبي سعيد، وابن عباس، وأبي مرثد في النهي عن الصلاة إلى القبور، وفي بعضها النهي عن البناء على القبر، وستأتي مفصلة قريباً إن شاء الله تعالى.
15 -
حديث فضالة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بتسوية القبور. رواه مسلم "968".
16 -
حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما – قال:" إن تسوية القبور من السنة، وقد رفعت اليهود والنصارى، فلا تشبهوا بهما". رواه الطبراني في الكبير 19/352 رقم "823" وإسناده حسن، وقد صححه الألباني في أحكام الجنائز ص267، وقال الهيثمي 3/57:"رجاله رجال الصحيح".
17 -
حديث الحارث النجراني بمثل حديث جندب، رواه ابن أبي شيبة: الصلاة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم 2/375، 376، وصحح إسناده في تحذير الساجد ص15.
18 -
حديث كعب بن مالك بمثل حديث جندب، قال الهيتمي الشافعي في الزواجر 1/148:"أخرجه الطبراني بسند لا بأس به".
19 -
حديث عائشة مرفوعاً في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وفي آخره:"يحرم ذلك على أمته"رواه الإمام أحمد 6/274.
20،21 - حديثا علي وأبي هريرة:" لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً " وسيأتي تخريجهما قريباً إن شاء الله تعالى.
22 -
حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً:" الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه الإمام أحمد3/8، وأبو داود "492"، وابن خزيمة في صحيحه "791"، وابن حبان
ومعنى اتخاذ القبور مساجد: بناء المساجد عليها، ويدخل فيه أيضاً جعلها مكاناً للصلاة ولو لم يبن عليها أو بينها مسجد، ويشمل السجود
في صحيحه "2316" وجود إسناده شيخ الإسلام في الاقتضاء ص677، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على الإحسان.
23 -
حديث علي:"إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة" رواه أبو داود "490، 491"، وهو حسن لغيره.
24 -
حديث أبي هريرة مرفوعاً:" لا تجعلوا بيوتكم مقابر "رواه مسلم "780".
25 -
حديث ابن عمر مرفوعاً:" اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً "رواه البخاري "432"، ومسلم "777".
26 -
حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة بين القبور، رواه البزار كما في كشف الأستار "441،442،443"، وأبو يعلى "2788"، وابن حبان في صحيحه "2322،2323"، وقال الهيثمي 2/27:"رجاله رجال الصحيح".
27 -
حديث عبد الله بن عمرو بنحو حديث أنس رضي الله عنه. رواه ابن حبان في صحيحه "2319" وهو حسن لغيره.
28 -
حديث واثلة في النهي عن الصلاة إلى القبور. رواه الطبراني 22/79، وهو حسن لغيره.
وفي الباب عدة مراسيل عن جمع من التابعين منهم الحسن بن الحسن بن علي وعمر بن عبد العزيز وزيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، وعطاء في النهي عن اتخاذ القبور مساجد. تنظر في الموطأ 2/892، ومصنف عبد الرزاق "1587،1591"، ومصنف ابن أبي شيبة 2/375، وتحذير الساجد ص18، 19.
على القبر، ويشمل الصلاة إليه وجعله في قبلة المصلي، ويشمل قصد الصلاة والدعاء والذكر عنده"1".
وقد وردت أحاديث فيها النص على النهي عن هذه الأمور بخصوصها، ومنها:
1-
ما رواه أبو مرثد الغنوي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تصلوا إلى القبور "2" ولا تجلسوا عليها "رواه مسلم"3".
"1" وقد نص على هذا أو على بعضه جمع من أهل العلم، ينظر: مصنف عبد الرزاق 1/406، الأم للإمام الشافعي 1/278، الاقتضاء ص677، فتح الباري 3/200، الأمر بالاتباع ص61، الزواجر 1/147، سبل السلام 1/263، معارج الألباب للنعمي اليماني ص123، القول المفيد، باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر 1/409. ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل "رواه البخاري "335"، ومسلم "521".
وقد وردت أحاديث خاصة في تحريم الصلاة في المقابر وإلى القبر، وقد سبق ذكر بعضها قريباً، وقد ذكر ابن حزم في المحلى 4/130 أن الأحاديث في ذلك بلغت حد التواتر.
"2" قال الملا علي القاري الحنفي في مرقاة المفاتيح، باب دفن الميت 2/372:"أي مستقبلين إليها لما فيه من التعظيم البالغ؛ لأنه من مرتبة المعبود، ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه لكفر المعظِّم، فالتشبه به مكروه، وينبغي أن تكون كراهة تحريم".
"3" صحيح مسلم: الجنائز "972".
2-
ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور، أو يقعد عليها، أو يصلى عليها"1".
3-
ما رواه ابن عباس مرفوعاً:" لا تصلوا إلى قبر، ولا تصلوا على قبر ""2".
وورد في الأحاديث أيضاً النهي عن اتخاذ قبره صلى الله عليه وسلم عيداً، والعيد المكاني هو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة"3".
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني
"1" رواه الطبراني في الكبير "12051، 12168" من طريقين، وقد صححه بمجموعهما الألباني في تحذير الساجد ص2.
"2" رواه أبو يعلى "1020"، وابن ماجه "1562"، وإسناد أبي يعلى صحيح، رجاله رجال مسلم، وقد صححه الألباني في أحكام الجنائز ص264.
"3" قال الحافظ ابن القيم الحنبلي في إغاثة اللهفان ص194:"العيد: مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله تعالى عيداً للحنفاء ومثابة، كما جعل أيام التعبد فيها عيداً"، وينظر: الاقتضاء ص665، الأمر بالاتباع للسيوطي ص58، شرح الصدور بتحريم رفع القبور للشوكاني ص28.
حيث كنتم ""1"، وإذا كان هذا في حق قبره صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل قبر على وجه الأرض، فكيف بقبر غيره من البشر"2".
ولصحة هذه الأحاديث وتواترها عن النبي صلى الله عليه وسلم وتنوع الوعيد الوارد
"1" رواه أحمد 2/367، وأبو داود "2042" بإسناد حسن، وقد حسنه الحافظ ابن عبد الهادي وابن حجر وغيرهما، وقد توسعت في تخريجه في رسالة"اليهود"رقم "53".
وله شاهد من حديث علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، ثم روى عن أبيه عن جده مرفوعاً.. فذكره بنحو الحديث السابق، رواه إسماعيل بن إسحاق المالكي في رسالة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم "20" وغيره. وقد حسنه بعض أهل العلم، تنظر: رسالة اليهود "53".
وله شاهد آخر من حديث الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب مرسلاً بنحو الرواية السابقة الموقوف منها والمرفوع، رواه عبد الرزاق "6726" وإسماعيل بن إسحاق وغيرهما. وهو حسن لغيره، وقد توسعت في تخريجه في رسالة اليهود "53"، وينظر: تحذير الساجد ص96.
"2" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء 2/662 عند كلامه على هذا الحديث:"وجه الدلالة أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً، فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً " أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم". وينظر: الأمر بالاتباع للسيوطي الشافعي ص58، زيارة القبور للبركوي الحنفي ص6، ورحلة الصديق لحسن خان البخاري ص153.
فيها"1" فقد أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من سلف هذه الأمة وجميع من سار على طريقتهم على تحريم بناء المساجد أو الغرف أو القبب على القبور أو بينها"2".
"1" قال علامة اليمن محمد بن علي الشوكاني في رسالة:"شرح الصدور بتحريم رفع القبور"ص27،28:"إن رفع القبور ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله تارة، كما تقدم، وتارة قال: " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " فدعا عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية. وذلك ثابت في الصحيح. وتارة نهى عن ذلك، وتارة بعث من يهدمه، وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى، وتارة قال: " لا تتخذوا قبري وثناً "، وتارة قال: " لا تتخذوا قبري عيداً " "أي موسماً يجتمعون فيه"، كما صار يفعله كثير من عباد القبور، يجعلون لمن يعتقدون من الأموات أوقاتاً معلومة يجتمعون فيها عند قبورهم ينسكون لها المناسك، ويعكفون عليها".
"2" قال العلامة محمد بن علي الشوكاني اليماني في أول رسالة"شرح الصدور بتحريم رفع القبور"ص17:"اعلم أنه اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم – إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها – كما يأتي بيانه – ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين".
وروى ابن سعد 6/108 بإسناد حسن عن التابعي الجليل عمرو بن شرحبيل أنه قال: "لا ترفعوا جدثي – أي القبر – فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك". وصححه الألباني في تحذير الساجد ص98، وقال الإمام الشافعي في الأم، باب ما يكون بعد الدفن
.......................................................................................
1/278:"وأكره أن يبنى على القبر مسجد، أو يصلى إليه، وإن صلى إليه أجزأه، وقد أساء، وأكره هذا للسنة والآثار"، والكراهة عند السلف يراد بها التحريم، وهذا هو معناها الذي استعملت فيه في القرآن والسنة، كما في قوله تعالى بعد ذكره لجملة من عظائم الذنوب:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} ، وينظر: إعلام الموقعين 1/39-43.
وقال الحافظ السيوطي الشافعي في الأمر بالاتباع ص59،60:"فأما بناء المساجد عليها وإشعال القناديل والشموع أو السرج، فصرح عامة علماء الطوائف بالنهي عن ذلك ولا ريب في القطع بتحريمه".
وقال ابن عابدين الحنفي في حاشيته 1/601:"أما البناء عليه فلم أر من اختار جوازه". وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يعلم خلافاً بين العلماء المعروفين في تحريم إسراج القبور، ولا في تحريم اتخاذ المساجد عليها وبينها. ينظر: مجموع الفتاوى 3/398، و22/194 و24/302، و26/153، و27/448،495، و31/45، 60، الاقتضاء ص747، الاختيارات: الجنائز ص8.
وقال الإمام البركوي الحنفي المتوفى سنة 981هـ في زيارة القبور ص6 عند كلامه على أحكام القبور:"وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها".
وقال الإمام النووي الشافعي المتوفى سنة "676هـ" في المجموع في الجنائز 5/316: "اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهوراً بالصلاح أو غيره، لعموم الأحاديث"وسيأتي النقل عن بعض علماء الشافعية أن هذا من كبائر الذنوب قريباً إن شاء الله.
...............................................................................
وقال الإمام محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة في الآثار 2/191 عند كلامه على أحكام القبر: "نكره أن يجصص أو يطين أو يجعل عنده مسجد
…
وهو قول أبي حنيفة"وقال العيني الحنفي في البناية 3/303:"وكره أبو حنيفة أن يبنى على القبر أو يصلى إليه، أو يصلى بين القبور"وإذا أطلق الإمام أبو حنيفة الكراهة فمراده كراهة التحريم، وعند محمد وأبي يوسف بمعنى المحرم كما نص على ذلك علماء الحنفية. ينظر: تكملة فتح القدير لابن الهمام، أول كتاب الكراهية 10/4، وينظر أصله الهداية للمرغيناني الحنفي المطبوع معه.
وقال الإمام القرطبي المالكي المتوفى سنة "671هـ" في تفسير الآية 21 من الكهف 10/379،380:"اتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز"ثم ذكر الأحاديث التي فيها النهي عن ذلك، ثم قال:"قال علماؤنا: وهذا يحرِّم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد"وقال ابن عبد البر المالكي الأندلسي المتوفى سنة "463هـ" في التمهيد 1/128 بعد ذكره لحديث عائشة في ذكر كنيسة الحبشة السابق:"هذا يحرِّم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء والصالحين مساجد".
وقال في المنتهى وشرحه في الفقه الحنبلي: الجنائز 1/353:"ويحرم إسراجها – أي القبور – ويحرم التخلي على القبور وبينها، ويحرم جعل مسجد عليها وبينها".
وينظر: بدائع الصنائع 1/320، وتبيين الحقائق 1/246، والتيسير، باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر ص288-290، ورسالتا"عمارة القبور" و"البناء على القبور"للمعلمي اليماني.
كما أجمع أهل العلم على تحريم رفع القبور، سواء كان رفعها بجعل تراب القبر مرتفعاً أكثر من شبر"1" أم برفع جوانب القبر بطين أو بأحجار أو بغيرهما"2"، وعلى تحريم إيقاد المصابيح والأنوار عندها"3".
"1" أما رفع التراب إلى مقدار شبر فهو جائز؛ لما روى ابن حبان "6635"، والبيهقي 3/410 أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم رُفع قدر شبر. وإسناده حسن.
قال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق 2/209:"ويسنم قدر شبر، وقيل: قدر أربع أصابع، وما ورد في الصحيح من حديث علي: أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، محمول على ما زاد على التسنيم"، وينظر: المجموع 5/296، 297.
"2" ينظر التعليق المذكور قبل التعليق السابق.
"3" ينظر التعليق المذكور قبل التعليقين السابقين.
وقال علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في إصلاح المساجد الباب الرابع ص 210:
"وقال في شرح الإقناع: من نذر إسراج بئر أو مقبرة أو جبل أو شجرة أو نذر له أو لسكانه أو المضافين إلى ذلك المكان لم يجز الوفاء به إجماعا".
وقال البركوي الحنفي المتوفي سنة "918"هـ في زيارة القبور ص6عند ذكره لإيقاد السرج عند القبور: " صرح الفقهاء بتحريمه ولهذا قال العلماء: لا يجوز أن ينذر للقبور لا شمع ولا زيت ولا غير ذلك فإنه نذر معصية لا يجوز الوفاء به بالإتفاق ولا يوقف عليه شيئا لأجل ذلك فإن هذا الوقف لا يصح ولا يحل إثباته وتنفيذه" وقال الرومي الحنفي المتوفي سنة "1043"هـ في المجالس الأربعة من مجالس الأبرار ص366: "يجب إزالة كل قنديل وسرج وشمع أوقدت على القبور لأن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الكبائر ولهذا قال
كما أجمعوا على تحريم الصلاة في المسجد الذي بني على قبر"1"، وقال
العلماء لا يجوز أن ينذر للقبور الشمع ولا الزيت ولا غير ذلك فإنه نذر معصية لا يجوز الوفاء به ".
"1" قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص775:"فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم يتعين إزالتها بهدم أو غيره، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين، وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه، ولا تصح عندنا في ظاهر المذهب لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك، ولأجل أحاديث أخر".
وفي الاختيارات لشيخ الإسلام أيضاً ص44:"عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم – أي الإمام أحمد وأصحابه – يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب، والمقبرة كل ما قبر فيه، لا أنه جمع قبر، وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه، فهذا يعين أن المنع يكون متناولاً لحرمة القبر الواحد وفنائه المضاف إليه، وذكر الآمدي وغيره أنه لا يجوز الصلاة فيه – أي المسجد الذي قبلته إلى القبر – حتى يكون بين الحائط – أي حائط المسجد – وبين المقبرة حائل آخر، وذكر بعضهم أنه منصوص أحمد".
وقال شيخ الإسلام في رسالة"الجواب الباهر في زور المقابر"كما في مجموع الفتاوى 26/ 348، 424:"والصلاة في المساجد المبنية على القبور منهي عنها مطلقاً، بخلاف
كثير منهم ببطلان هذه الصلاة، لأجل النهي عنها"1".
وأجمعوا على أنه لا يجوز دفن الميت في المسجد"2"، وأجمعوا على وجوب إزالة المسجد المبني على القبر، أو إزالة صورة القبر من المسجد،
مسجده صلى الله عليه وسلم، فإن الصلاة فيه بألف صلاة، فإنه أسس على التقوى، وكانت حرمته في حياته صلى الله عليه وسلم وحياة خلفائه الراشدين قبل دخول الحجرة فيه،
…
فإنها أدخلت بعد انقراض عصر الصحابة
…
وهم لم يقصدوا دخول الحجرة فيه، وإنما قصدوا توسيعه بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت الحجرة فيه ضرورة، مع كراهة من كره ذلك من السلف".
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في فتح الباري 2/442 بعد ذكره رواية لحديث عائشة في لعن من اتخذ القبور مساجد، وفي آخرها زيادة:"يحرم ذلك على أمته"قال:"وقد اتفق أئمة الإسلام على هذا المعنى". وينظر التعليق الآتي عند ذكر حكاية الإجماع على أن الذهاب إلى القبور للتعبّد لله عندها من البدع.
"1" ينظر: مجموع الفتاوى 3/398، وفتح الباري للحافظ ابن رجب 2/399. وقال علامة اليمن محمد بن علي الشوكاني في نيل الأوطار بعد ذكره لأحاديث النهي عن الصلاة في المقبرة، وبعد نقله قول ابن حزم: إن الأحاديث في ذلك متواترة ج2ص137: "أحاديث النهي المتواترة كما قال ذلك الإمام لا تقصر عن الدلالة على التحريم الذي هو المعنى الحقيقي له، وقد تقرر في الأصول: أن النهي يدل على فساد المنهي عنه، فيكون الحق التحريم والبطلان، لأن الفساد الذي يقتضيه النهي هو المرادف للبطلان من غير فرق بين الصلاة على القبر وبين المقابر وكل ما صدق عليه لفظ المقبرة".
"2" قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 22/194، 195:"اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر
…
وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غيّر
وصرح كثير منهم بوجوب إزالة كل بناء على القبور أو رفع لها"1".
إما بتسوية القبر، وإما بنبشه إن كان جديداً، وإن كان المسجد بني بعد القبر فإما أن يزال المسجد، وإما أن تزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل، فإنه منهي عنه".
وقال ابن عبد الباقي في شرح الموطأ كما في التيسير ص295:"روى أشهب عن مالك أنه كره لذلك أن يدفن الميت في المسجد".
وقال الحافظ العراقي الشافعي كما في فيض القدير للمناوي 5/247: "لو بنى مسجداً بقصد أن يدفن في بعضه دخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط، لمخالفته لمقتضى وقفه مسجداً".
وقال مرعي الحنبلي المقدسي في دليل الطالب 1/177:"ويحرم إسراج المقابر، والدفن في المساجد، وفي ملك الغير، ويُنبش"
"1"قال الحافظ السيوطي الشافعي المتوفى سنة "911هـ" في الأمر بالاتباع ص61:"فهذه المساجد المبنية على القبور يتعين إزالتها، هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المعروفين، وتكره الصلاة فيها من غير خلاف".
وقال الشيخ أحمد الرومي الحنفي المتوفى سنة "1043هـ" كما في المجالس الأربعة من مجالس الأبرار ص366:
"المساجد المبنية على القبور فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض، وكذا القباب التي بنيت على القبور يجب هدمها؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفته، وكل بناء أسس على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفته فهو بالهدم أولى من مسجد الضرار؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن البناء على القبور، ولعن المتخذين عليها مساجد، فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله".
وأجمعوا أيضاً على أن الذهاب إلى القبور بقصد التعبد لله تعالى عندها، بالصلاة عندها أو إليها، أو للذبح لله عندها، أو دعاء الله تعالى
وجاء في فتاوى الإمام النووي الشافعي ص46 ما نصه:"مسألة: مقبرة مسبلة للمسلمين بني إنسان فيها مسجداً وجعل فيها محراباً، هل يجوز ذلك؟ وهل يجب هدمه؟
الجواب: لا يجوز له ذلك، ويجب هدمه؟ ". وقال الإمام النووي أيضاً في شرح مسلم 7/37، 38:"قال الشافعي في الأم: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويؤيد الهدم قوله - أي في الحديث -:" ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ".
وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي في شرح المنهاج كما في روح المعاني 8/226:"وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية، حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة فيتعين الرفع للإمام أخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح".
وقال الإمام القرطبي المالكي المتوفى سنة 671هـ في تفسيره 10/381 بعد ذكره لحديث علي:" ولا قبراً مشرفاً إلا سويته "، قال:"قال علماؤنا: ظاهرة منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة، وقد قال به بعض أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
…
وأما تعلية البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيماً وتعظيماً فذلك يهدم ويزال، فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، تشبهاً بمن كان يعظم القبور ويعبدها، وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي ينبغي أن يقال: هو حرام، والتسنيم في القبر ارتفاعه قدر شبر". وينظر: التعليق السابق، والتعليق السابق عند ذكر حكاية الإجماع على تحريم الصلاة في المسجد الذي بُني على قبر.
عندها"1"، أو بغير ذلك من العبادات أن ذلك كله من البدع المنهي عنها"2".
"1" قال العلامة محمد بن بشير السهسواني الهندي في صيانة الإنسان ص265:"المقصود من الدعاء الذي ينهى عنه عند القبر هو الدعاء الذي يقصد زيارة القبر لأجله، ويظن أن الدعاء عند القبر مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد زيارته لأجل طلب حوائجه، وأما الدعاء لنفسه عند القبر بالعافية وعدم حرمان الأجر وعدم الفتنة تبعاً للدعاء لأصحاب القبور والترحم عليهم والاستغفار لهم فلا ينهى عنه أحد من المسلمين".
"2" ينظر: مجموع الفتاوى 1/354، و23/224، و24/318،320، و26/146-156، و27/22، 115،130-152، 180،380،488،495، واقتضاء الصراط المستقيم ص680-687، وص762-775، وص827، الصارم المنكي ص109،178، 179، رحلة الصديق ص153.
وروى ابن حزم في المحلى 4/32 النهي والتغليظ على الصلاة في المقبرة أو عند القبر عن جمع من الصحابة، ثم قال:"فهؤلاء عمر وعلي وأبو هريرة وأنس وابن عباس ما نعلم لهم مخالفاً من الصحابة".
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عمن يأتي إلى قبر نبي أو غيره من الصلحاء ثم يدعو في كشف كربته، فأجاب كما في مجموع الفتاوى 27/151،152:"الحمد لله رب العالمين، ليس ذلك بسنة بل هو بدعة، لم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، ولا من أئمة الدين الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم، ولا أمر بذلك ولا استحبه: لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، ولا أئمة الدين، بل لا يعرف هذا عن أحد من أهل العلم والدين من القرون المفضلة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من الصحابة والتابعين وتابعيهم، لا من أهل الحجاز، ولا من اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا المغرب، ولا خراسان، وإنما أحدث بعد ذلك،
.................................................................................
ومعلوم أن كل ما لم يسنه ولا استحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم فإنه يكون من البدع المنكرات.. فمن اتخذ عملاً من الأعمال عبادة وديناً وليس ذلك في الشريعة واجباً ولا مستحباً فهو ضال باتفاق المسلمين".
وقال الإمام النووي في المجموع 5/316،317:"قال الشافعي والأصحاب: وتكره الصلاة إلى القبور، سواء كان الميت صالحاً أو غيره. قال الحافظ أبو موسى: قال الإمام أبو الحسن الزعفراني – رحمه الله: ولا يصلى إلى قبر ولا عنده تبركاً به وإعظاماً له، للأحاديث"، وقال الملا علي القاري الحنفي في المرقاة 2/372 عند شرحه لحديث"لا تصلوا إلى القبور"قال:"ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه حقيقة لكفر المعظِّم، فالتشبه به مكروه، وينبغي أن تكون كراهة تحريم".
وقال الحافظ السيوطي الشافعي في الأمر بالاتباع ص63 عند كلامه على أحكام القبور:"فأما إن قصد الإنسان الصلاة عندها، أو الدعاء لنفسه في مهامه وحوائجه متبركاً بها راجياً للإجابة عندها فهذا عين المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه وشرعه، وابتداع دين لم يأذن به الله ولا رسوله ولا أئمة المسلمين المتبعين آثاره وسننه".
وقال البركوي الحنفي في"زيارة القبور"ص6:"وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها – أي على القبور – والصلاة إليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة، ونص أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة وإن أطلقت الكراهة لكن ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم، إحساناً للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه".
وأجمعوا كذلك على أن الطواف بالقبور تقرباً إلى الله تعالى أو إلى غيره محرم"1".
وذكر بعض علماء الشافعية وبعض علماء الحنفية أن هذه الأمور كلها من كبائر الذنوب"2".
وحكى إسماعيل بن إسحاق المالكي والقاضي عياض المالكي كما في صيانة الإنسان للسهسواني ص260، 262 عن الإمام مالك أنه قال:"لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي"، وقال المناوي الشافعي في فيض القدير 6/407 عند شرحه لحديث:" لا تصلوا إلى قبر ولا على قبر "قال:"إن قصد إنسان التبرك بالصلاة في تلك البقعة فقد ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله، ويؤخذ من الحديث النهي عن الصلاة في المقبرة، فهي مكروهة كراهة تحريم" انتهى كلامه ملخصاً، وينظر التعليق المذكور بعد التعليق الآتي.
"1" قال الكناني الشافعي في هداية السالك: الزيارة 3/1391:"ولا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم، ولا ببناء غير الكعبة الشريفة بالاتفاق". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 26/146 عند كلامه على زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم:"واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها، وإذا قال في سلامه: السلام عليك يا رسول الله، يا نبي الله، يا خيرة الله من خلقه، ويا أكرم الخلق على ربه، يا إمام المتقين، فهذا كله من صفاته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة"وينظر أيضاً: مجموع الفتاوى 2/521، و4/521، و26/149، الصارم المنكي ص214، 215.
"2" قال الهيتمي الشافعي في الزواجر عن اقتراف الكبائر " الكبيرة 93-98ج1 ص148،149":"الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ
وحكى بعض العلماء من الحنفية وغيرهم الإجماع على أنه لا يستحب السفر من أجل زيارة القبر"1".
القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثاناً، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها"ثم ذكر الأحاديث التي فيها النهي عن هذه الأمور ولعن فاعلها، ثم قال:"تنبيه: عد هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية، وكأنه أخذ ذلك مما ذكرته من هذه الأحاديث، ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجداً منها واضح؛ لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم القيامة، ففيه تحذير لنا، ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً
…
وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت" انتهى كلامه – رحمه الله – بحروفه مختصراً. وقد نقل الألوسي الحنفي كلام الهيتمي هذا مقراً له مستحسناً له في تفسيره روح المعاني 8/225،226.
"1" قال البركوي الحنفي المتوفى سنة 981هـ في"زيارة القبور"ص22 عند كلامه على مفاسد الغلو في القبور:"ومنها السفر إليها مع التعب الأليم والإثم العظيم، فإن جمهور العلماء قالوا: السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول رب العالمين، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك قربة وطاعة فقد خالف السنة والإجماع – أي الإجماع على عدم الاستحباب – ولو سافر إليها بذلك الاعتقاد – أي اعتقاد أن السفر مستحب – يحرم بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحداً لا يسافر إليها إلا لذلك".
وينظر: مجموع الفتاوى 4/520، و26/150، و27/13-385، الصارم المنكي ص109، 219،220، رحلة الصديق إلى البيت العتيق، لصدّيق حسن خان البخاري،
فيجب على المسلم الذي يريد لنفسه السلامة البعد عن هذه البدع المحرمة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم وغلظ على من فعلها، كما ابتعد عنها جميع سلف هذه الأمة اتباعاً منهم للنبي صلى الله عليه وسلم، واجتناباً لما نهى عنه"1".
الباب الخامس ص139-150.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 27/308:"علماء المسلمين إذا تنازعوا في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بل القول الثالث يكون مخالفاً لإجماعهم، والمسلمون تنازعوا في السفر لغير المساجد الثلاثة على قولين: هل هو حرام أو جائز غير مستحب، فاستحباب ذلك قول ثالث مخالف للإجماع، وليس من علماء المسلمين من قال: يستحب السفر لزيارة القبور".
قلت: والعمدة في تحريم السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة حديث:" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ". متفق عليه، وقد أجاد محدث الشام الألباني رحمه الله في بيان أن المراد من الحديث النهي عن السفر إلى بقعة سوى المساجد الثلاثة، وأيضاً قد ثبت الإنكار من أبي بصرة وابن عمر على من أراد السفر إلى جبل الطور بسيناء، واستدلا على ذلك بهذا الحديث، وأقر أبو هريرة أبا بصرة على ذلك بسكوته، فهؤلاء ثلاثة من الصحابة يرون المنع من ذلك، ولم يخالفهم أحد في عصرهم، وقد قال بتحريم السفر إلى القبور أيضاً من المتأخرين علماء من كافة المذاهب من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ينظر: فتح الباري لابن حجر: شرح حديث: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 3/65، وحجة الله البالغة للدهلوي الحنفي 1/192، والجنائز للألباني ص285-293، وتنظر المراجع المذكورة أول هذا التعليق.
"1" قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص762:"ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين
................................................................................
وتابعيهم في بلاد الإسلام، لا الحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد مبني على قبر، ولا مشهد يقصد للزيارة أصلاً، ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي، لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره. وينظر المرجع نفسه ص769، ومجموع الفتاوى 27/81،466، الصارم المنكي ص109، الدرر السنية 1/305، 306.
وقال علامة اليمن الإمام المجتهد محمد بن إسماعيل الصنعاني في حاشيته"العدة"على إحكام الأحكام لابن دقيق العيد في الجنائز شرح الحديث الحادي عشر 3/258، 259: "وكان البناء على القبور رأي الجاهلية ودأبهم، ولهذا أخرج مسلم وأصحاب السنن عن أبي الهياج الأسدي عن علي رضي الله عنه أنه قال له: ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .... فإن قلتَ: ما هذا البلاء الذي عم الدنيا فلا تجد بلدة من بلاد الإسلام غالباً إلا فيها قباب ومشاهد مجصصة مفضضة مبني عليها، ويسرجون عليها الشموع والقناديل بحيث إنها تضاهي كنائس أهل الكتاب أو تنيف عليها؟ . قلتُ: هذا يفعله الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، وهل يفعل هذا إلا ملوك الدنيا وأساطين الظلم الذين يأكلون أموال الناس بالباطل؟ وهل فعله الصحابة بقبره صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف قبر على وجه الأرض؟ بل كان قبره صلى الله عليه وسلم كما رواه أبو داود وغيره عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: دخلت على عائشة – رضي الله عنها – فقلت: يا أمه، اكشفي لي عن
وعليه فمن أصر على فعل شيء من هذه الأمور المحرمة أو دعا إلى فعلها فقد عرّض نفسه لعقوبة الله في الدنيا والآخرة.
والبعد عن هذه الأمور التي حذر منها نبينا – عليه الصلاة والسلام – علامة على محبته صلى الله عليه وسلم، وفعلها محادة له – عليه الصلاة والسلام – ومخالفة لسنته ورد لها"1".
قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. وكذلك لم يفعله أمير المؤمنين بقبر سيدة نساء العالمين فاطمة بنت سيد المرسلين، ولا فعله الحسنان بقبر أبيهما أمير المؤمنين عليه السلام، ولا يعلم عن أحد من أئمة الدين وصالحي عباد الله فعل ذلك".
وقال الصنعاني أيضاً في المرجع السابق 3/261:"التحقيق أن قبره صلى الله عليه وسلم لم يعمر عليه المسجد لأنه موضع مستقل قبل بناء المسجد بدفنه صلى الله عليه وسلم، فلم يصدق عليه أنه جعل قبره مسجداً أو وثناً يعبد، بل قد أجاب الله دعاءه فدفن في بيته وفي منزله الذي يملكه أو تملكه زوجه عائشة، وكان المسجد أقرب شيء إليه، ثم لما وسع المسجد لم يخرج صلى الله عليه وسلم عن بيته ولا جعل بيته مسجداً، بل غايته أنه اتصل المسجد به اتصالاً أشد مما كان، فالذي يصدق عليه أنه اتخذ مسجداً إنما هو أن يدفن الميت في مسجد مسبل أو في مباح ثم يعمر عليه مسجد".
وينظر فيما يتعلق بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً التعليق السابق المذكور بعد تخريج الحديث الثالث من أحاديث النهي عن رفع القبور والبناء عليها، وينظر: كتاب"المشاهد المعصومية"للمعصومي الحنفي ص280، 292.
"1" فهو صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على استقامة أمته على الحق حثهم عند وفاته على الحرص على بعض
ـ...................................................................................
الأمور المهمة في الإسلام كعمود الإسلام: الصلاة، وحذرهم من فعل بعض الأمور التي توقعهم في الشرك، وهو اتخاذ القبور مساجد، كما أن لهذا التحذير علة أخرى أيضاً أشار إليها ابن حجر الشافعي في الفتح 1/532 عند شرحه لحديث عائشة السابق، فقال:"وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظم قبره، كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم".
وقال علامة العراق محمود الألوسي البغدادي الحنفي في تفسيره "روح المعاني"في تفسير الآية "21" من سورة الكهف 8/225-228:"استُدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء، واتخاذ مسجد عليها، وجواز الصلاة في ذلك، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي، وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد"ثم ذكر الأحاديث التي فيها النهي عن هذه الأمور، وأقوال بعض العلماء في تحريمها وكونها من كبائر الذنوب، وقولهم بوجوب هدم ما بني على القبور، ثم ذكر عدم صحة الاستدلال بهذه الآية على بناء المساجد على القبور، ثم قال:"وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة، والآثار الصريحة معولاً على الاستدلال بهذه الآية، فإن ذلك في الغواية غاية، وفي قلة النُّهى نهاية، ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها وبنائها بالجص والآجر، وتعليق القناديل عليها، والصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة، إلى غير ذلك محتجاً بهذه الآية الكريمة، وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيداً، وجعله إياهم في توابيت من ساج ومقيساً البعض على البعض، وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإبتداع دين لم
كما أن في فعل هذه الأمور المحرمة في السنة تقديم لأقوال المشايخ وعادات الآباء والأجداد على سنة الحبيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وفعل لما يبغضه عليه الصلاة والسلام أشد البغض، ولذلك حذر منه عند فراقه للدنيا أشد التحذير وغلظ على من فعله"1"، وعليه فمن فعل ذلك وأصر عليه بعد
يأذن به الله عز وجل. ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره – عليه الصلاة والسلام – وهو أفضل قبر على وجه الأرض، والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له والسلام عليه – عليه الصلاة والسلام – فتتبع ذلك وتأمل ما هنا وما هناك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك".
وقال البركوي الحنفي في زيارة القبور ص19، 20:"ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به، ونهى عنه، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً، فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة إلى القبور وهم يخالفونه ويصلون عندها، ونهى عن اتخاذ المساجد عليها وهم يخالفونه ويبنون عليها مساجد ويسمونها مشاهد، ونهى عن إيقاد السرج عليها وهم يخالفونه ويوقدون عليها القناديل والشموع، بل يوقفون لذلك أوقافاً، وأمر بتسويتها وهم يخالفونه ويرفعونها من الأرض كالبيت، ونهى عن تجصيصها والبناء عليها، وهم يخالفونه ويجصصونها ويعقدون عليها القباب، ونهى عن اتخاذها عيداً، وهم يخالفونه ويتخذونها عيداً، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد وأكثر، والحاصل أنهم مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهى عنه، ومحادون لما جاء به"وينظر: معارج الألباب لحسين النعمي اليماني ص54.
"1" قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص680:"فأما إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور
علمه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولعنه لمن فعل ذلك عند فراق هذه الحياة لحرصه الشديد على بُعد أمته عنه، فذلك علامة على استهانته بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم مبالاته بمخالفتها، وهذا أكبر برهان على نقص محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، كما أن فعل ذلك من أعظم أسباب الوقوع في الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في أصحاب القبور والتعلق بهم حتى يصل إلى الشرك الأكبر المخرج من الملة"1".
الأنبياء والصالحين متبركاً بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم من أن الصلاة عند القبر – أي قبر كان – لا فضل فيها لذلك، ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلاً، بل مزية شر"، وينظر: فتح الباري لابن رجب 2/441، 442، وينظر كلام الحافظ السيوطي الذي سبق نقله في التعليق المذكور قريباً عند حكاية الإجماع على تحريم الطواف بالقبور تقرباً إلى الله تعالى.
"1" ذكر شيخ الإسلام في الاقتضاء 2/678،679،776 أن هذه العلة – وهي خوف الوقوع في الشرك الأكبر – علة صحيحة للنهي عن اتخاذ القبور مساجد باتفاق العلماء. وينظر: مجموع الفتاوى 11/292، و19/41، و21/321-323، و27/488،489.
وقال الإمام الشافعي في الأم 2/278:"كره - أي النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم أن يعظمه أحد من المسلمين – يعني يتخذ قبره مسجداً – ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعده". وقال الحافظ السيوطي الشافعي في الأمر بالاتباع ص62:"المقصود الأكبر بالنهي إنما هو مظنة اتخاذها أوثاناً، كما ورد عن الإمام الشافعي، وهذه العلة
..............................................................................
التي لأجلها نهى الشارع صلى الله عليه وسلم هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه".
وقال الإمام النووي الشافعي في شرح مسلم 5/13:"قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأمم الخالية".
وقد ذكر الحافظ ابن القيم الحنبلي في إغاثة اللهفان ص188، 189 ما رواه ابن جرير عن مجاهد من عكوف قوم نوح على قبر اللات، وما قاله غير واحد من السلف من أن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا كانوا قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، ثم قال ابن القيم:"فقد رأيت أن سبب عبادة ود ويغوث ويعوق ونسر واللات إنما كان من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها".
وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني 3/441:"وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها".
وقال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص680:"وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي أوقعت كثيراً من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب، ونحو ذلك. فلأن يشرك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه، أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله. ولهذا نجد أقواماً كثيرين يتضرعون عندها – أي عند القبور – ويخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في المسجد، بل ولا في السحر، ومنهم من
فيؤدي ذلك إلى أن القبر وثناً يُعبد من دون الله"1".
ولذلك لما سَنَّ العُبيديون المنتسبون إلى التشيع في مصر وغيرها سنة سيئة؛ وذلك ببناء المساجد والقباب والمشاهد على القبور، وكانوا أول من أحدثها في ديار الإسلام"2" تقليداً لليهود والنصارى"3" انتشر وكثر الغلو في القبور.
يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال". وينظر: تفسير الإمام القرطبي 10/380، والصارم المنكي ص459، وزيارة القبور للبركوي الحنفي ص27-32، والسيل الجرار للشوكاني: الجنائز 1/367، 368، والتيسير، باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً، ودلائل التوحيد للقاسمي ص106.
"1" قال الشيخ حسين بن محمد المغربي في شرح بلوغ المرام لابن حجر بعد ذكره لأحاديث لعن من اتخذ القبور مساجد، قال:"وهذه الأخبار المعبر عنها باللعن والتشبيه بقوله: لا تجعلوا قبري وثناً يعبد من دون الله. تفيد التحريم للعمارة والتزيين والتجصيص ووضع الصندوق المزخرف ووضع الستائر على القبر وعلى سمائه والتمسح بجدار القبر، وأن ذلك قد يفضي مع بعد العهد وفشو الجهل إلى ما كان عليه الأمم السابقة من عبادة الأوثان، فكان في المنع عن ذلك بالكلية قطع لهذه الذريعة المفضية إلى الفساد، وهو المناسب للحكمة المعتبرة في شرع الأحكام من جلب المصالح ودفع المفاسد، سواء كانت بأنفسها أو باعتبار ما تفضي إليه". انتهى، وقد نقل كلامه هذا الإمام الصنعاني في سبل السلام 2/214 ثم قال:"وهذا كلامٌ حسن".
"2" ينظر: مجموع الفتاوى 27/167، 174،465،466.
"3" سبق ذكر الأحاديث التي فيها بيان أن هذا من فعل اليهود والنصارى، وقال الإمام
_________
الطحاوي الحنفي المتوفى سنة "321هـ" كما في مختصر اختلاف العلماء للجصاص الحنفي المتوفى سنة "370هـ" 1/407:
"قال الليث: بنيان القبور ليس من حال المسلمين، وإنما هو من حال النصارى".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 27/461،462:"والذين يعظمون القبور والمشاهد لهم شبه شديد بالنصارى حتى أني لما قدمت القاهرة اجتمع بي بعض معظّميهم من الرهبان، وناظرني في المسيح ودين النصارى، حيث بينت له فساد ذلك، وأجبته عما يدعيه من الحجة،
…
وكان من آخر ما خاطبت به النصراني أن قلت له: أنتم مشركون، وبينت من شركهم ما هم عليه من العكوف على التماثيل والقبور وعبادتها والاستغاثة بها،. قال لي: نحن ما نشرك بهم ولا نعبدهم، وإنما نتوسل بهم كما يفعل المسلمون إذا جاءوا إلى قبر الرجل الصالح، فيتعلقون بالشباك الذي عليه ونحو ذلك. فقلت له: وهذا أيضاً من الشرك، ليس هذا من دين المسلمين وإن فعله الجهال، فأقر أنه شرك.. وكان بعض النصارى يقول لبعض المسلمين: لنا سيد وسيدة ولكم سيد وسيدة: لنا السيد المسيح والسيدة مريم، ولكم السيد الحسين والسيدة نفيسة، فالنصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين مما يوافق دينهم، ويشابهونهم فيه، ويحبون أن يقوى ذلك ويكثر".
وقال الألباني في تحذير الساجد ص124:"قرأت مقالاً في مجلة المختار عدد مايو 1958م تحت عنوان "الفاتيكان المدينة القديمة المقدسة" يصف فيه كاتبه"رونالد كارلوس بيتي"كنيسة بطرس في هذه المدينة فيقول ص40:"إن كنيسة القديس بطرس، وهي أكبر كنيسة من نوعها في العالم المسيحي، تقوم على ساحة مكرسة
ثم إنه لما تبع كثيرٌ من المسلمين العبيديين في بناء القبور، وجعلوا المقابر مكاناً للصلاة والدعاء"1"، أدى بهم ذلك إلى عبادة المقبورين من دون الله، فأصبحوا يستغيثون بهم، ويطلبون منهم كشف الكربات، وجلب النفع"2"، ويطوفون بقبورهم تقرباً إليهم، ويذبحون عندها تقرباً إليهم،
للعبادة منذ سبعة عشر قرناً، إنها قائمة على قبر القديس نفسه، وتحت أرضيتها يقع تيه من المقابر الأثرية".
"1" قال العلامة محمد بن علي الشوكاني اليماني في آخر رسالة"شرح الصدور بتحريم رفع القبور"ص39،40 رداً على من قال من أئمة الزيدية وغيرهم: إنه يصح بناء المساجد على قبور أهل الفضل والصلاح، قال: "ثم انظر كيف يصح استثناء أهل الفضل برفع القباب على قبورهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قدمناه أنه قال: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً. ثم لعنهم بهذا السبب. فكيف يسوغ من مسلم أن يستثني أهل الفضل بفعل هذا المحرم الشديد على قبورهم، مع أن أهل الكتاب الذين لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وحذر الناس ما صنعوا لم يعمروا المساجد إلا على قبور صلحائهم. ثم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد البشر وخير الخليقة وخاتم الرسل، وصفوة الله من خلقه ينهى أمته أن يجعلوا قبره مسجداً أو وثناً أو عيداً، وهو القدوة لأمته
…
فإن كان هذا محرماً منهياً عنه، ملعوناً فاعله في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بقبر غيره من أمته؟ ".
"2" قال علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في دلائل التوحيد ص108:"وهذا علي رضي الله عنه يقول لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها. وعلى هذا النهج الواضح من المحافظة
وهذا كله من الشرك الأكبر المخرج من الملة"1".
على التوحيد سار السلف الصالح وأئمة الهدى من بعدهم، لم يسمحوا لأحد أن يخرق سياج التوحيد، أو يستبيح بيضته، حتى نبتت طوائف الشيعة والمتصوفة، فأعملوا فيه معاول هدمهم بغلوهم في أئمتهم وشيوخهم وتقديسهم للمشاهد والمزارات، وتبركهم بالآثار والمخلفات، وسجودهم على العتبات وتقديمهم النذور والقربانات. وما زال الأمر يستفحل والخطر يشتد حتى وصل إلى ما نشاهده الآن في معظم بلاد الإسلام من إقامة القباب على القبور، وإنشاء المقاصير حولها وتزيينها بالزخارف وفرشها بالبسط، وإيقاد السرج عليها ووضع صناديق النذور عندها، وفتحها للزائرين والزائرات يحجون إليها ويرتكبون عندها كثيراً من الأعمال الشركية، كالطواف والتقبيل ووضع النذور والتوسل والمناجاة وذبح القرابين، وإقامة المهرجانات الجاهلية التي يسمونها الاحتفالات، إلى غير ذلك مما يخالف عقيدة الإسلام، وينقض الإيمان".
"1" قال علامة اليمن محمد بن علي الشوكاني في رسالة "شرح الصدور بتحريم رفع القبور" بعد ذكره للاعتقاد الشركي بأن أصحاب القبور ينفعون ويضرون، قال ص30-32: "لا شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زيّنه الشيطان للناس من رفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين. فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها، ونظر على القبور الستور الرائعة والسرج المتلألئة، وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلا الله
..............................................................................
سبحانه. فيصير في عداد المشركين.
وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة، وعند أول زورة له إذ لا بد أن يخطر بباله أن هذه العناية البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلا لفائدة يرجونها منه، إما دنيوية أو أخروية، فيستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه من أشباه العلماء زائراً لذلك القبر وعاكفاً عليه ومتمسحاً بأركانه، وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر، يخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يهولون عليهم الأمر، ويصنعون أموراً من أنفسهم، وينسبونها إلى الميت على وجه لا يفطن له من كان من المغفلين، وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت، ويبثونها في الناس، ويكررون ذكرها في مجالسهم وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات، ويقبل عقله ما يروى عنهم من الأكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع الجهال في بلية عظيمة من الاعتقاد الشركي، وينذرون على ذلك الميت بكرائم أموالهم، ويحبسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم، لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيراً عظيماً، وأجراً كبيراً، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة، وطاعة نافعة، وحسنة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر. فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل، وهولوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا تلك الأكاذيب لينالوا جانباً من الحطام من أموال الطغام الأغتام. وبهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الإبليسية، تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغاً عظيماً، حتى بلغت غلات ما يوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافه لبلغ ما يقتاته أهل
.....................................................................................
قرية كبيرة من قرى المسلمين، ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله". انتهى كلام الإمام الشوكاني – رحمه الله.
وقال الإمام المجتهد محمد بن إسماعيل الصنعاني اليماني في تطهير الاعتقاد:"الشبهة السابعة"ص52:"هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه، غالب – بل كل من يعمرها – هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم، أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير، أو شيخ، أو كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به، ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم فيأتي من بعدهم فيجد قبراً قد شيّد عليه البناء، وسرجت عليه الشموع، وفرش بالفراش الفاخر، وارخيت عليه الستور، وألقيت عليه الأوراد والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو لدفع ضر، ويأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل وأنزل بفلان الضرر، وبفلان النفع، حتى يغرسوا في جبلته كل باطل".
وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني اليماني في"الدر النضيد"ص46، 47:"ولا شك أن علة النهي عن جعل القبور مساجد، وعن تسريجها وتجصيصها ورفعها وزخرفتها هي ما ينشأ عن ذلك من الاعتقادات الفاسدة، وكل عاقل يعلم أن لزيادة الزخرفة للقبور وإسبال الستور الرائعة عليها، وتسريجها والتأنق في تحسينها تأثيراً في طبائع غالب العوام ينشأ عنه التعظيم والاعتقادات الباطلة، وهكذا إذا استعظمت نفوسهم شيئاً مما يتعلق بالأحياء، وبهذا السبب اعتقد كثير من الطوائف الإلهية في أشخاص كثيرة"،
بل وصل الحال بسبب الغلو في القبور وتقديم الصدقات والقرابين لها أن قام كثير من المرتزقة والدجاجلة بإقامة مشاهد، وبناء مساجد على بعض القبور، وزعموا أن هذه القبور لبعض الأنبياء، أو لبعض الصحابة وآل البيت، كذباً وزوراً"1"، بل وصل الحال بسبب كثرة الكذب والدجل
ثم ذكر قصتين حصل في كل منهما تأثير تعظيم بعض المخلوقين في قلوب بعض العامة، حتى ظن أن هذا المعظم هو الله تعالى. وينظر: المشاهدات المعصومية للشيخ محمد سلطان المعصومي الحنفي ص281.
"1" مع أنه لا يعرف بالتحديد مكان قبر نبي سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي قبر إبراهيم عليه السلام خلاف، وكذلك قبور أكثر الصحابة وأكثر التابعين لا تعرف أماكنها بالتحديد، لأن الصحابة والتابعين ما كانوا يحرصون على معرفة أماكن قبور الأنبياء السابقين، ولا غيرهم من الصالحين، بل كانوا يخفون قبور من يخشون الافتتان بقبورهم، كما فعل الصحابة بقبر النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه عند تخريج الحديث الثالث في النهي عن رفع القبور والبناء عليها، وكما فعل الصحابة رضي الله عنهم – بأمير المؤمنين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث دفنوه في قصر الإمارة بالكوفة، فخفي موضع قبره على الناس، والرافضة يعظمون قبراً بالنجف يظنونه قبره، وهو قبر المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وكما فعلوا لما فتحوا تستر فوجدوا جثمان رجل يقال: إنه دانيال، وإنه نبي، وقيل: رجل صالح، وكان الكفار يتوسلون به عند الاستسقاء، فحفر الصحابة له بالنهار ثلاثة عشر قبراً، ودفنوه في أحدها بالليل، وسووا القبور ليخفوا قبره. والقصة رواها يونس بن بكير كما في الاقتضاء ص686، ومجموع الفتاوى 27/270، وإغاثة اللهفان ص205، والبداية والنهاية 2/376 بإسناد رجاله رجال الصحيح، وقد صحح
في ذلك أن جعل للحسين بن علي رضي الله عنهما – ثلاثة قبور، وقد أجمع العلماء من أهل السير وغيرهم على أن القبر المنسوب إليه في القاهرة غير صحيح"1"، ووصل الحال أيضاً إلى أن جعل للجيلاني مائة قبر في العالم الإسلامي"2".
وهذا كله يُبيِّن خطر التساهل فيما حذرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم منه ونهانا عنه، ويبين لنا أهمية التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يجب تقديمها على اجتهادات البشر وآرائهم، وما تميل إليه نفوسهم.
وبالجملة فإن من دعا الناس إلى الغلو في القبور فقد دعا الناس إلى خلاف ما دعا إليه رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وإلى خلاف ما دعا إليه جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه، وقد دعاهم أيضاً إلى ما هو سبب في وقوعهم فيما يبغضه النبي صلى الله عليه وسلم ويبغضه جميع أولياء الله تعالى من الشرك
إسناده الحافظ ابن كثير، وقد ذكر نعيم في الفتن "37" وابن كثير للقصة ولدفنه متابعة وطرقاً أخرى تؤيد الرواية السابقة. وينظر مجموع الفتاوى 27/270،271، 444-494، تاريخ الإسلام للذهبي"عهد الراشدين"ص651.
"1" أحد هذه القبور في كربلاء بالعراق، والثاني بالشام، والثالث هذا الذي بالقاهرة، ينظر: الفتاوى 27/444-494، الاستغاثة ص500-504.
"2" ينظر: تصحيح الدعاء ص102.
والكفر، والذي أرسل جميع رسل الله تعالى من أجل محاربته"1".
"1" وليس لمن دعا إلى هذه الأمور المبتدعة دليل واحد يعتمدون عليه، لذلك تجدهم يتعلقون بشبه ضعيفة كقصة أصحاب الكهف، مع أن جميع الروايات التي يحتجون بها في تفسير الطبري من طريق محمد بن حميد، وهو متهم بالكذب، كما أنها مجرد حكاية فعل أهل الغلبة لا غير، ومع ذلك يقدمون ذلك على سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولهم شبه أوهى من هذه أجاب عنها أهل العلم، فالواجب على المسلم أن ينقاد لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وألا يبحث عن الشبه لرد سنة خير الخلق صلى الله عليه وسلم.
وكثير ممن يغلو في القبور ببناء المساجد عليها، والتعبد لله عندها، وغير ذلك عمدتهم قول بعض المتأخرين الذين أباحوا هذه الأمور المحرمة خطأ وزللاً، تأثراً بما أحدث العبيديون والرافضة من الغلو في القبور، واعتماداً على أحاديث مكذوبة ونصوص من المتشابه، فيردون بها الأحاديث الصحيحة الصريحة.
قال البركوي الحنفي بعد ذكره للأحاديث الواردة في زيارة القبور وما ورد فيها من مشروعية الدعاء للميت عند زيارة القبور في رسالة"زيارة القبور"ص37-39:"فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعاً وعشرين سنة، وهذه سنة الخلفاء الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين، فبدل أهل البدع والضلال قولاً غير الذي قيل لهم، فإنهم بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه أو بالدعاء به، وبدلوا الشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحساناً إلى الميت وإلى الزائر سؤال الميت، والإقسام به على الله تعالى، وخصصوا تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وجعلوا حضور القلب وخشوعه عندها أعظم منه في المساجد وأوقات الأسحار، ومن المحال أن يكون دعاء الموتى والدعاء بهم والدعاء عند قبورهم مشروعاً عملاً صالحاً، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يظفر به الخلوف الذين يقولون ما لا
.................................................................................
يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.. فإن كنت في شك من هذا فانظر هل يمكن بشراً على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها. فضلاً أن يصلوا عندها ويسألوا الله تعالى بأصحابها ويسألوهم حوائجهم، فليوقفونا على أثر واحد منها في ذلك.
كلا، لا يمكنهم ذلك، بل يمكنهم أن يأتوا بكثير من ذلك عن الخلوف التي خلفت من بعدهم، ثم كلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء الراشدين ولا عن الصحابة والتابعين حرف واحد من ذلك، بل فيها من خلاف ذلك كثير كما سبق من الأحاديث المرفوعة التي من جملتها قوله عليه الصلاة والسلام: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجراً أي فحشاً. وأي فحش أعظم من الشرك عندها قولاً وفعلاً. وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يحاط بها، ومن ذلك ما في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رأى أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي عند القبر، فقال: القبر القبر". انتهى كلامه رحمه الله. وأثر عمر هذا رواه البخاري في الصلاة "فتح1/523" تعليقاً. ووصله عبد الرزاق "1581" بإسناد حسن، رجاله رجال الصحيحين، وزاد في آخره قال ثابت: فكان أنس بن مالك يأخذ بيدي إذا أراد أن يصلي فيتنحى عن القبور، وللأثر طرق أخرى عند ابن حجر في التغليق 2/229، 230، وعند غيره. وصحح بعضها الألباني في التحذير ص26، وينظر: عمدة القاري 4/172.
والآثار عن السلف في النهي عن التبرك بالقبور وفي النهي عن الغلو فيها بالبناء أو غيره
...................................................................................
كثيرة جداً. ينظر بعضها في مصنف عبد الرزاق 1/404-407، و5/502-507، مصنف ابن أبي شيبة: الجنائز 3/334-342، سنن البيهقي 2/435، المحلى: الجنائز 5/133،134، تحذير الساجد ص88-98.
ومما ينبغي التنبه له أن الشيطان يعمل جاهداً على تزيين الباطل والشرك ليوقع بني آدم فيه، وليجعلهم يستمرون عليه، ولذلك تجد الشياطين كثيراً ما تتمثل في صور الآدميين لإعانة من يحاربون الحق ويقعون في الشرك، كما تمثل لقريش لما خرجوا لحرب النبي صلى الله عليه وسلم في بدر في صورة سراقة بن مالك، وشجعهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في ذلك روايات كثيرة عن ابن عباس وغيره رواها ابن جرير وغيره في تفسير قول الله تعالى:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] .
وثبت في الأحاديث الصحيحة أنه سيتمثل في آخر الزمان للأعراب في صور آبائهم عند خروج المسيح الدجال فيدعوهم إلى اتباع هذا الدجال الخبيث فيتبعونه، وثبت في وقائع كثيرة في أزمان متباعدة ومتقاربة أن الشيطان يتمثل لمن يغلون في القبور في صورة الميت فيقضي لهم بعض ما يطلبون، وأيضاً قد يستدرجهم الله تعالى فيحقق لهم بعض ما يدعون به عند القبور أو يطلبون من الموتى، فيحمل هذا كله هؤلاء الجهال ومن يسمع أخبارهم على زيادة الغلو في الموتى والاستمرار في ذلك، واعتقاد أنهم ينفعون ويضرون. ينظر: الفتن لنعيم بن حماد شيخ البخاري 2/530-557، مصنف عبد الرزاق 11/391-403، مجموع الفتاوى 1/82،83، 168،175،350، 359-365
..................................................................................
و10/293،416، و17/457-460، و19/41،42، الاستغاثة ص338، 506، الاقتضاء ص691-708، إغاثة اللهفان ص216، الدر النضيد للشوكاني ص93، صيانة الإنسان للسهسواني الهندي ص197 نقلاً عن جلاء العينين للألوسي الحنفي.
وقال الشيخ أحمد الرومي الحنفي كما في المجالس الأربعة من مجالس الأبرار ص368،369:"والذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها – أي بالقبور – أمور منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله – تعالى – به رسوله من تحقيق التوحيد، وقطع أسباب الشرك، فالذين قل نصيبهم من ذلك إذا دعاهم الشيطان إلى الفتنة بها ولم يكن لهم ما يبطل دعوته استجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا منه بقدر ما معهم من العلم. ومنها أحاديث مكذوبة وضعها على رسول الله صلى الله عليه وسلم أشباه عبّاد الأصنام القبورية، وهي تناقض ما جاء به في دينه، كحديث: إذا تحيّرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور. وحديث: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور. وحديث: لو حسن أحدكم ظنه بحجر نفعه. وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها أشباه عباد الأصنام من القبورية، وراجت على الجهال والضُلاّل، والله – تعالى – إنما بعث رسوله لقتال من حسن ظنه بالأحجار والأشجار. فإنه – عليه السلام – جنب أمته الفتنة بالقبور بكل طريق. ومنها حكايات حكيت عن أهل تلك القبور، أن فلاناً استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها. وفلان نزل به فاستدعى صاحب ذلك القبر، فكشف ضره، وفلان دعاه في حاجة فقضيت حاجته، وعند السدنة والقبوريين شيء من ذلك يطول ذكره، وهم من أكذب خلق الله على الأحياء والأموات، والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، وإزالة ما يضرها، لا سيما من كان مضطراً يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه كراهة
بل إن من دعا الناس إلى الغلو في القبور قد دعاهم إلى أن يكونوا أعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع أولياء الله تعالى ومحاربين لطريقتهم، وهم يظنون أنهم يوالونهم"1".
ما، فإذا سمع أحد أن قبر فلان ترياق مجرب، يميل إليه فيذهب إليه ويدعو عنده، بحرقة وذلة وانكسار، فيجيب الله – تعالى – دعوته لما قام بقلبه من الذلة والانكسار، لا لأجل القبر، فإنه لو دعا كذلك في الحانة والحمام والسوق لأجابه، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيراً في إجابة تلك الدعوة، ولا يعلم أن الله – تعالى – يجيب المضطر ولو كان كافراً". وينظر: الاقتضاء ص748،749، إغاثة اللهفان ص193، 214.
"1" فهم يظنون أنهم بهذا العمل يوالون الأنبياء والصالحين والأولياء الذين غلوا في قبورهم بالبناء عليها والتبرك بها بالدعاء والصلاة والذبح عندها والطواف بها، وغير ذلك من البدع التي أحدثها الجهال، ثم تلقاها من قل علمه وتلاعب به الشيطان، وهم في الحقيقة إنما عملوا بما يبغضه جميع أولياء الله ويحاربونه، لأنه معصية لله تعالى، ولنبيه صلى الله عليه وسلم.
قال البركوي الحنفي المتوفى سنة "981هـ" في زيارة القبور بعد ذكره لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في القبور ص12، 13:"أبى أكثر الناس إلا عصياناً لأمره وارتكاباً لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين
…
وتعظيم الأولياء والصالحين ومحبتهم إنما يكون باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم، دون عبادة قبورهم، والعكوف عليها واتخاذها أوثاناً، فإن من اقتفى آثارهم كان سبباً لتكثير أجورهم باتباعه لهم ودعوته الناس إلى اتباعهم، فإذا أعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وإياهم من ذلك الأجر، فأي تعظيم واحترام في هذا؟ "، وقال رحمه الله أيضاً في المرجع نفسه ص52:"وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب، فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عباد الأصنام، كما قال السلف من الصحابة
والمسلم الذي يبتغي لنفسه النجاة من عذاب الله يجب عليه أن يختار طريق أنبياء الله وأوليائه على طريق من خالف دعوتهم وهو يحسب أنه يحسن صنعاً"1".
والتابعين، فإن الشيطان ينصب لهم قبر رجل معظم يعظمه الناس ثم يجعله وثناً يعبد من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيداً، وجعله وثناً، فقد تنقصه وهضم حقه، فيسعى الجاهلون في قتله وعقوبته، ويكفرونه، وما ذنبه إلا أنه أمر بما أمر به الله تعالى ورسوله، ونهى عما نهى عنه الله ورسوله".
وقال الشيخ شمس الدين الأفغاني في جهود علماء الحنفية ص557-560:"إن علماء الحنفية قد صرحوا بأن أهل التوحيد الذين لا يغالون في الأنبياء والأولياء من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة في الحقيقة هم المعظمون للرسل الموقرون لهم، العارفون بحقوقهم، القائمون بما يجب لله وما يجب لعباده من الحقوق، فهم ليسوا بأهل شرك بهم، ولا أهل المعصية لهم، ولا نبذوا أوامرهم، ولا تركوا ما جاءوا به من الحق، فهم أهل التوحيد لله تعالى، وأهل طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل الإخلاص لله، فتركهم الاستغاثة بهم عند الكربات، وترك الطواف بقبورهم عند الملمات هو عين التعظيم لهم، وتركهم النذور لهم، وترك السجود لهم، وترك الغلو فيهم هو عين التوقير لهم". انتهى كلامه وقد أحال على غاية الأماني للألوسي الحنفي.
"1" هذا هو حال كثير من الدعاة إلى الغلو في القبور وتعظيمها، وبعضهم قد يكون هدفه الحظوظ الدنيوية من جمع المال، والحصول على مكانة بين أتباعه ونحو ذلك. ولذلك تجدهم يكذبون في نسبة بعض القبور إلى بعض الصالحين الذين لهم مكانة في قلوب المسلمين، كالحسين بن علي وغيره من آل البيت، بل ربما ينسبون بعض القبور إلى بعض
.................................................................................
الأنبياء كذباً وزوراً، ليكثر الجهال من النذور والصدقات والذبائح عند قبورهم.
قال علامة اليمن محمد بن علي الشوكاني في الدر النضيد ص93، 94: "واعلم أن ما حررنا وقررنا من أن كثيراً مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركاً، قد يخفى على كثير من أهل العلم، وذلك لا لكونه خفياً في نفسه، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر، وكونه قد شاب عليه الكبير وشبّ عليه الصغير، وهو يرى ذلك ويسمعه ولا يرى ولا يسمع من ينكره، بل ربما يسمع من يرغب فيه ويندب الناس إليه. وينضم إلى ذلك ما يظهره الشيطان للناس من قضاء حوائج من قصد بعض الأموات الذين لهم شهرة، وللعامة فيهم اعتقاد، وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور، ويستدروا منهم الأرزاق، ويقتنصوا النحائر، ويستخرجوا من عوامّ الناس ما يعود عليهم وعلى من يعولونه، ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً. وربما يهولون على الزائر لذلك الميت بتهويلات، ويجملون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه، ويوقدون في المشهد الشموع، ويوقدون فيه الأطياب، ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة يتجمع فيها الجمع الجم فينبهر الزائر، ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق وازدحامهم، وتكالبهم على القرب من الميت، والتمسح بأحجار قبره وأعواده، والاستغاثة به، والالتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات، ونجاح الطلبات، مع خضوعهم واستكانتهم وتقريبهم إليه نفائس الأموال ونحرهم أصناف النحائر.
فبمجموع هذه الأمور مع تطاول الأزمنة، وانقراض القرن بعد القرن، يظن الإنسان مبادئ عمره وأوائل أيامه أن ذلك من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، ثم لا ينفعه ما
هذا، وهناك وسائل أخرى تؤدي إلى الشرك الأكبر غير هذه الوسائل الثلاث، يأتي بعضها عند الكلام على البدعة في الفصل الخامس من هذا الباب إن شاء الله تعالى.
تعلمه من العلم بعد ذلك، بل يذهل عن كل حجة شرعية تدل على أن هذا هو الشرك بعينه، وإذا سمع من يقول ذلك أنكره، ونبا عنه سمعه، وضاق به ذرعه، لأنه يبعد كل البعد أن ينقل ذهنه دفعة واحدة في وقت واحد عن شيء يعتقده من أعظم الطاعات، إلى كونه من أقبح المقبحات، وأكبر المحرمات، مع كونه قد درج عليه الأسلاف، ودبّ فيه الأخلاف، وتعاودته العصور، وتناوبه الدهور، وهكذا كل شيء يقلد الناس فيه أسلافهم، ويحكمون العادات المستمرة. وبهذه الذريعة الشيطانية، والوسيلة الطاغوتية، بقي المشرك من الجاهلية على شركه، واليهودي على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وتبدلت الأمة بكثير من المسائل الشرعية غيرها، وألفوا ذلك، ومرنت عليه نفوسهم، وقبلته قلوبهم، وأنسوا إليه حتى لو أراد من يتصدى للإرشاد أن يحملهم على المسائل الشرعية البيضاء النقية التي تبدلوا لها غيرها لنفروا عن ذلك، ولم تقبله طبائعهم، ونالوا ذلك المرشد بكل مكروه، ومزّقوا عرضه بكل لسان". انتهى كلامه رحمه الله.