الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في شارع أو ميدان، فإن ذلك يؤدي إلى التعلق بها من الجهال وأهل الضلال ولو بعد حين، ثم هذا فيه أيضاً فتح باب لنصب الأصنام والتماثيل التي تعبد من دون الله" "1".
ثالثاً: التبرك الممنوع بالصالحين، وسيأتي الكلام عليه عند الكلام على التبرك الممنوع في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى.
"1" ينظر كتاب الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد: خطر الشرك 1/45، 46.
المبحث الثاني:
التبرك الممنوع:
التبرك: طلب البركة، والبركة: كثرة الخير وزيادته واستمراره"2".
"2" ينظر: معجم مقاييس اللغة 1/230، تهذيب اللغة 10/231، النهاية، المصباح، مادة "برك"، تفسير القرطبي "تفسير الآية 96 من آل عمران"، بدائع الفوائد 2/182، 183، جلاء الأفهام: الفصل الثامن ص165، 166، وقال في النهاية "مادة: يمن":"وقد تكرر ذكر اليمن في الحديث، وهو البركة وضده الشؤم". أما"تبارك"فذكر الشعبي أنها بمعنى عظم وتعالى وكثرت بركته، وذكر ابن عطية أنها صفة لا يوصف بها إلا الله تعالى، ينظر: تفسير ابن عطية 7/77.
والتبرك ينقسم من حيث الأصل إلى قسمين:
الأول: تبرك ديني شرعي: وهو أن يريد المتبرك بهذا التبرك التقرب إلى الله تعالى، كأن يريد الثواب من الله تعالى أو النجاة من عذابه.
الثاني: تبرك دنيوي: وهو أن يريد الإنسان بتبركه مصلحة دنيوية، كالشفاء من مرض ونحو ذلك.=
والتبرك ينقسم من جهة حكمه إلى قسمين:
أ- تبرك مشروع: وهو أن يفعل المسلم العبادات المشروعة طلباً للثواب المترتب عليها، ومن ذلك أن يتبرك بقراءة القرآن والعمل بأحكامه، فالتبرك به هو ما يرجو المسلم من الأجور على قراءته له وعمله بأحكامه، ومنه التبرك بالمسجد الحرام بالصلاة فيه ليحصل على فضيلة مضاعفة الصلاة فيه، فهذا من بركة المسجد الحرام"1".
الشيء الذي يتبرك به – أي تطلب البركة بواسطته – قد يكون فيه بركة دينية، وقد يكون فيه بركة دنيوية، وقد يكون فيه بركة دينية ودنيوية معاً.
فمثال الأول: المساجد الثلاثة، لما فيها من الأجر العظيم لمن صلى فيها وغير ذلك.
ومثال الثاني: الماء واللبن، لما فيهما من المنافع الدنيوية الكثيرة.
ومثال الثالث: القرآن، ففيه منافع دينية ودنيوية كثيرة، ويكفي أن من تمسك به أفلح في الدنيا والآخرة، وهو شفاء للقلوب والأبدان.
ومن ذلك: خير البشر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اقتدى به وسار على هديه سعد في الدنيا والآخرة، وصلحت دنياه وآخرته، وأيضاً في جسده وآثاره عليه الصلاة والسلام بركات دينية ودنيوية.
وما ذكرته من أمثلة النوع الأول والثاني إنما هو تمثيل أغلبي، وإلا قد يوجد في المساجد الثلاثة منافع دنيوية، وقد يوجد في الماء منافع دينية. وينظر: التبرك، للدكتور ناصر الجديع ص43 وما بعدها.
"1" سيأتي أيضاً ذكر بعض الأمثلة على التبرك المشروع عند الكلام على أنواع التبرك البدعي، وينظر التعليق السابق.
ب- تبرك ممنوع:
وهو ينقسم من حيث حكمه إلى قسمين:
1-
تبرك شركي: وهو أن يعتقد المتبرِّك أن المتبرَّك به – وهو المخلوق – يهب البركة بنفسه، فيبارك في الأشياء بذاته استقلالاً"1"؛ لأن الله تعالى وحده موجد البركة وواهبها، فقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" البركة من الله ""2"، فطلبها من غيره، أو اعتقاد أن غيره يهبها بذاته شرك أكبر.
2-
تبرك بدعي: وهو التبرك بما لم يرد دليل شرعي يدل على جواز التبرك به، معتقداً أن الله جعل فيه بركة، أو التبرك بالشيء الذي ورد التبرك به في غير ما ورد في الشرع التبرك به فيه.
وهذا بلا شك محرم؛ لأن فيه إحداث عبادة لا دليل عليها من كتاب أو
"1" كتاب التبيان ص26، 27، وكتاب التنشيط ص60-65، كلاهما للرستمي الحنفي نقلاً عن كتاب جهود علماء الحنفية لشمس الدين الأفغاني 3/1575-1578، وينظر: التيسير، باب من تبرك بشجرة أو حجر ص148.
"2" صحيح البخاري، آخر كتاب الأشربة "5639". وروى مسلم في صحيحه، في الصلاة "771" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه في استفتاح الصلاة:" والخير كله في يديك ".
سنة"1"، ولأنه جعل ما ليس بسبب سبباً، فهو من الشرك الأصغر"2"؛ ولأنه يؤدي إلى الوقوع في الشرك الأكبر"3" كما سيأتي بيانه.
وهذا القسم من التبرك – وهو التبرك البدعي – ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: التبرك الممنوع بالأولياء والصالحين:
وردت أدلة كثيرة تدل على مشروعية التبرك بجسد وآثار النبي صلى الله عليه وسلم، كشعره وعرقه وثيابه وغير ذلك"4".
"1" وهذا خاص بالتبرك الديني.
"2" وهذا يشمل التبرك الديني والدنيوي، وسيأتي التوسع في هذه المسألة عند الكلام على الشرك الأصغر – إن شاء الله تعالى -.
"3" مجموع الفتاوى 27/137، القول المفيد، باب من تبرك بشجرة أو حجر، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص99، جهود علماء الحنفية ص1578،1579، وينظر: التيسير ص148، 153، والقول السديد ص53، وكتاب التوحيد للدكتور صالح الفوزان ص112.
"4" وقد وردت في ذلك نصوص كثيرة تنظر في كتب السيرة، وكتب السنة، وقد جمعها الدكتور ناصر الجديع في رسالة"التبرك"، والدكتور علي العلياني في رسالة"التبرك".
وآثار النبي صلى الله عليه وسلم كلها قد فقدت، ومنبره احترق سنة 654هـ فلا يوجد شيء من آثاره الآن على سبيل القطع واليقين، فلم يبق إلا التبرك باتباعه عليه الصلاة والسلام، فمن آمن به صلى الله عليه وسلم واتبعه حصل له خير كثير في الدنيا والآخرة من بركة الرسول عليه الصلاة والسلام بسبب إيمانه به، وطاعته له. ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص727، مجموع
أما غير النبي صلى الله عليه وسلم من الأولياء والصالحين فلم يرد دليل صحيح صريح يدل على مشروعية التبرك بأجسادهم ولا بآثارهم"1"، ولذلك لم يرد عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من التابعين أنهم تبركوا بجسد أو آثار أحد من الصالحين، فلم يتبركوا بأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولا بغيره من العشرة المبشرين بالجنة، ولا بأحد من أهل البيت ولا غيرهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، لحرصهم الشديد على فعل جميع أنواع البر والخير، فإجماعهم على ترك التبرك بجسد وآثار غيره صلى الله عليه وسلم من الصالحين"2" دليل صريح على عدم مشروعيته.
الفتاوى 11/113،114، هداية السالك للكتاني الشافعي 3/1390، التوسل للألباني ص161، هذه مفاهيمنا للشيخ صالح آل الشيخ ص204.
"1"بركة المسلم هي في طاعته لله تعالى، وما يجري الله على يديه من النفع للمسلمين، وما يغيث الله تعالى به العباد من المطر والخير والنصر، وما يدفع عنهم من الشر ببركة طاعته وصلاحه ودعائه، فهذا حق وثابت، وليس من التبرك الممنوع. ينظر: مجموع الفتاوى 11/113-115، و27/96.
"2" وقد حكى إجماعهم على ذلك الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي الأندلسي في الاعتصام 2/8،9، وابن رجب في"الحكم الجديرة بالإذاعة"ص55، وصديق حسن البخاري في الدين الخالص 2/249، وسليمان بن عبد الله في التيسير، وعبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد كلاهما في باب من تبرك بشجرة أو حجر، وشيخ مشايخنا محمد بن إبراهيم كما في فتاواه 1/103،104، والميلي الجزائري في الشرك ومظاهره ص103، والشيخ
وعليه فإن من تبرك بذات أو آثار أحد من الصالحين غير النبي صلى الله عليه وسلم قد عصى الله تعالى، وعصى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأعطى هذه الخاصية التي خص بها ربنا جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم لغيره من البشر، وسواهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فسوى عموم الأولياء والصالحين بخير البشر وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه هضم لحقه صلى الله عليه وسلم، ودليل على نقص محبته عليه الصلاة والسلام في قلب هذا المتبرك"1".
ومن أنواع التبرك المحرم بالصالحين:
أ) التمسح بهم"2" ولبس ثيابهم أو الشرب بعد شربهم طلباً للبركة.
ب) تقبيل قبورهم"3"، والتمسح بها، وأخذ ترابها طلباً للبركة، وقد
عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته ص95، وشيخنا عبد العزيز بن باز في تعليقه على فتح الباري: الجنائز 3/130، 144.
"1" قال علامة الهند حسن صديق خان في الدين الخالص 2/250:"ولا يجوز أن يقاس أحد من الأمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذاك الذي يبلغ شأوه؟ قد كان له صلى الله عليه وسلم في حال حياته خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره".
"2" وقد ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة"الحكم الجديرة بالإذاعة"ص56 أن رجلاً جاء إلى الإمام أحمد، فمسح يديه على ثيابه، ومسح بهما وجهه، فغضب الإمام أحمد، وأنكر ذلك أشد الإنكار، وقال: عمن أخذتم هذا الأمر؟!.
"3" قال الإمام عزالدين بن جماعة الكناني الشافعي في هداية السالك ص1390،1391: "عَدَّ بعض العلماء من البدع الانحناء للقبر المقدس عند التسليم، قال: يظن من لا علم له أنه
حكى جمع من أهل العلم إجماع العلماء على أن هذا كله منهي عنه"1"، وذكر أبو حامد الغزالي الشافعي المتوفي سنة 505هـ، وغيره من علماء
من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل الأرض للقبر، لم يفعله السلف الصالح، والخير كله في اتباعهم – رحمهم الله تعالى ونفعنا بهم – ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم، وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى بتحسينه مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف، واستشهد لذلك بالشعر. نسأل الله أن يوفقنا في القول والعمل، وأن يعصمنا من الهوى والزلل بمنه وكرمه". وينظر: رسالة التوحيد للدهلوي الهندي ص23،24.
"1" ينظر: رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور، ص27-32، الاستغاثة في الرد على البكري 1/356، مجموع الفتاوى4/521، و26/97، و27/79-109، 136، 294، الاختيارات: الجنائز ص92، الصارم المنكي ص109،178، الزواجر: الكبيرة 93-98، ج1 ص149، وقال الهيتمي في حاشيته على منسك النووي ص454:"قال: - أي الإمام أحمد -: رأيت أهل العلم بالمدينة لا يمسون القبر". وينظر: الصارم المنكي ص191. وقال الإمام النووي الشافعي في منسكه ص453:"الثامن – أي من مسائل الزيارة – لا يجوز أن يطاف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار القبر، قاله الحليمي وغيره. ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته صلى الله عليه وسلم، هذا هو الصواب، وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، وينبغي أن لا يغتر بكثير من العوام في مخالفتهم ذلك، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وجهالاتهم.. ومن خطر بباله أن
الشافعية والحنفية أن هذه الأفعال من عادات النصارى"1"، وذكر بعض علماء الشافعية وبعض علماء الحنفية أن استلام القبور تبركاً كبيرة من كبائر
المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء، وكيف يبتغي الفضل في مخالفة الصواب". قال محدث الشام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في تحذير الساجد بعد نقله لكلام النووي السابق ص107:"رحم الله الإمام النووي فإنه بهذه الكلمة أعطى لهؤلاء المشايخ الذين يتمسحون بالقبور فعلاً أو يحبذونها قولاً ما يستحقونه من المنزلة، حيث جعلهم من العوام الذين لا يجوز أن يلتفت إلى جهالاتهم، فهل من مدَّكر؟! ".
"1" قال الهيتمي الشافعي في حاشيته على منسك النووي ص454:"قال في الإحياء: مس المشاهد وتقبيلها عبادة للنصارى واليهود، وقال الزعفراني: ذلك من البدع التي تنكر شرعاً، وروي عن أنس أنه رأى رجلاً وضع يده على القبر الشريف فنهاه، وقال: ما كنا نعرف هذا – أي الدنو منه إلى هذا الحد – وعلم مما تقرر كراهة مس مشاهد الأولياء وتقبيلها". وينظر: الإحياء، الباب السادس 4/522، والغزالي مع أن عنده شيئاً من التصوف لكن لما ظهر له الحق في هذه المسألة قال به، فيجب على المسلم أن ينقاد للحق وألا يتبع هواه فيما يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام النووي في المجموع 5/311:"قال الإمام أبو الحسن محمد بن مرزوق الزعفراني، وكان من الفقهاء المحققين في كتابه الجنائز: ولا يستلم القبر بيده ولا يقبله، قال: وعلى هذا مضت السنة، قال أبو الحسن: واستلام القبور وتقبيلها الذي يفعله العوام الآن من المبتدعات المنكرة شرعاً، ينبغي تجنب فعله وينهى فاعله. قال أبو موسى: وقال الفقهاء المتبحرون الخراسانيون: المستحب في زيارة القبور أن يقف مستدبر القبلة
الذنوب"1".
ج) عبادة الله عند قبورهم تبركاً بها، معتقداً فضل التعبد لله تعالى عندها، وأن ذلك سبب لقبول هذه العبادة، وسبب لاستجابة الدعاء، وسيأتي الكلام على هذا النوع بشيء من التفصيل في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى.
مستقبلاً وجه الميت يسلم ولا يمسح القبر ولا يقبله ولا يمسه، فإن ذلك عادة النصارى، قال: وما ذكروه صحيح لأنه قد صح النهي عن تعظيم القبور؛ ولأنه إذا لم يستحب استلام الركنين الشاميين من أركان الكعبة لكونه لم يسن مع استحباب استلام الركنين الآخرين، فلأن لا يستحب مس القبور أولى والله أعلم.
وقال أبو محمد العيني الحنفي في البناية في الجنائز عند كلامه على وضع اليد على القبر 3/305:"قال شرف الأئمة: بدعة، قال: جاء الله بمشايخ مكة ينكرون ذلك ويقولون إنه عادة أهل الكتاب، وفي الأخبار: هو عادة النصارى. وقال الزعفراني: لا يلثم القبر ولا يقبله، قال: وعلى هذا مضت السنة، وما يفعله القوم الآن من البدع المنكرة شرعاً، وفي جوامع الفقه: يزار القبر من بعد ولا يقعد الزائر، وعند الدعاء للميت يستقبل القبلة وكذا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم". وينظر: إصلاح المساجد للقاسمي ص72، 217.
"1" ذكر ذلك ابن حجر الهيتمي الشافعي في الزواجر عن اقتراف الكبائر: الكبيرة 93-98، ج1 ص 148، 149، ونقل ذلك أيضاً عن بعض الشافعية، ونقل كلامَ الهيتمي الألوسيُّ الحنفي في تفسيره روح المعاني، "تفسير الآية 21 من الكهف" مقراً له، وسيأتي نقل كلام الهيتمي في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى عند بيان أن بناء المساجد وغيرها على القبور والتعبد لله عندها من كبائر الذنوب.
النوع الثاني: التبرك بالأزمان والأماكن والأشياء التي لم يرد في الشرع ما يدل على مشروعية التبرك بها.
ومن أمثلة هذه الأشياء:
1-
الأماكن التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم، أو تعبد لله فيها اتفاقاً من غير قصد لها لذاتها، وإنما لأنه صلى الله عليه وسلم كان موجوداً في هذه الأماكن وقت تعبده لله تعالى بهذه العبادة، ولم يرد دليل شرعي يدل على فضلها.
ومن هذه الأماكن: جبل ثور، وغار حراء، وجبل عرفات"1"، والأماكن التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره، والمساجد السبعة التي قرب الخندق، والمكان الذي يزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيه - مع أنه مختلف في مكان ولادته عليه الصلاة والسلام اختلافاً كثيراً – ومثل الأماكن التي قيل إنه ولد فيها نبي أو ولي أو عاشوا فيها ونحو ذلك – مع أن كثيراً من ذلك لم يثبت -.
فلا يجوز للمسلم قصد زيارة هذه الأماكن للتعبد لله تعالى عندها، أو فوقها، بصلاة أو دعاء أو غيرهما، كما لا يجوز للمسلم مسح شيء من هذه الأماكن لطلب البركة، ولا يشرع صعود هذه الجبال لا في أيام الحج
"1" ويسمى جبل"إلال"على وزن"هلال"، ويسميه العامة"جبل الرحمة"، ينظر: الاقتضاء ص810، رسالة:"جبل إلال بعرفات"للشيخ بكر أبو زيد.
ولا غيرها، حتى جبل عرفات، لا يشرع صعوده في يوم عرفة، ولا غيره، ولا التمسح بالعمود التي فوقه، وإنما يشرع الوقوف عند الصخرات القريبة منه إن تيسر، وإلا وقف الحاج في أي مكان من عرفات.
ولذلك لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه قصد شيئاً من هذه الأماكن للتبرك بها بتقبيل أو لمس أو غيرهما"1" ولا أن أحداً منهم
"1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء ص806-811 بعد ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه قبل الهجرة وبعد فتح مكة وفي حجهم وعمرهم لم يزوروا شيئاً من البقاع بمكة ولا حولها، ولم يزوروا جبل ثور ولا غار حراء، ولم يتعبدوا لله إلا بالصلاة في المسجد الحرام والمشاعر في حجهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يشرع شيئاً من ذلك لأمته، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يبن بمكة مسجداً غير المسجد الحرام، قال:"بل تلك كلها محدثة، مسجد المولد وغيره، ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد ولا زيارة موضع بيعة العقبة الذي خلف منى، وقد بني هناك له مسجد. ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعاً مستحباً يثيب الله عليه، لكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بذلك، ولكان يعلم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك علم أنه من البدع المحدثة، التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله". ثم ذكر شيخ الإسلام –رحمه الله– أنه لا يشرع التبرك بمقامات جميع الأنبياء، وذكر أن أكثرها كذب أو لا تعلم صحته، وذكر أنه لا يشرع قصد المساجد المبنية في كثير من البقاع حول مكة وفي داخل مكة للتبرك بالصلاة فيها أو الدعاء أو غير ذلك، ثم قال:"وأما تقبيل شيء من
قصدها للتعبد لله فيها"1".
ذلك والتمسح به فالأمر فيه أظهر، إذ قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا ليس من شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج، في أول عمري لبعض الشيوخ، جمعته من كلام العلماء، ثم تبين لنا أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يفعلوا شيئاً من ذلك، وأن أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك، وأن المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف، وغير ذلك من العبادات، ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكة سواه، ولا يصلح أن يجعل هناك مسجد يزاحمه في شيء من الأحكام، وما يفعله الرجل في مسجد من تلك المساجد، من دعا وصلاة وغير ذلك، إذا فعله في المسجد الحرام كان خيراً له. بل هذا سنة مشروعة، وأما قصد مسجد غيره هناك تحرياً لفضله فبدعة غير مشروعة". وينظر: مجموع الفتاوى 26/133، 144،150.
وقال ابن وضاح المالكي الأندلسي المتوفى سنة "287هـ" في رسالة"ما جاء في البدع" باب ما جاء في ابتداع الآثار ص91:"كان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما عدا قباء وأحداً".
"1" أما ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما – من صلاته في مواضع صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم فهو رضي الله عنه لم يسافر إليها ولم يقصد زيارتها وهو في مكان آخر، وإنما لما مر بها وهو في طريقه في سفره وهو في وقت صلاة، أو يريد أن يصلي نافلة معينة صلى فيها هذه الصلاة، فهو يحب أن يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الفعل لا غير، ويدل على ذلك ما سيأتي عن ابن عمر في التعليق الآتي، وما سيأتي عنه عند تخريج قطع عمر لشجرة بيعة الرضوان في ختام الكلام على هذا النوع.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى "رواه البخاري ومسلم"1"، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي هو ثاني
أما إنشاء صلاة لأجل البقعة أو السفر من أجل التعبد لله فيها، فهذا لم يفعله ابن عمر ولا غيره من سلف هذه الأمة، فالصحابة متفقون على أنه لا يعظم من الأماكن إلا ما عظمه النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى فرض أن ابن عمر أنشأ نافلة من أجل الصلاة في موضع من هذه المواضع لما مر بها – مع أنه لم يسافر من أجلها قطعاً – فقد خالف ابن عمر في فعله هذا بقية الصحابة، وعلى رأسهم والده ثاني الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -. ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص570-758،803-828، مجموع الفتاوى 10/410،411، و17/466-481، 496، 497، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 26/144:"أما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام، كالمسجد الذي تحت الصفا، وما في سفح أبي قبيس، ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كمسجد المولد وغيره، فليس شيء من ذلك من السنة ولا استحبه أحد من الأئمة".
"1" صحيح البخاري: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة "1189"، وصحيح مسلم: الحج "1397". قال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في فتح الباري 3/660: "معنى الحديث: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان، إلا إلى الثلاث المذكورة"، ومما يدل على أن المراد في الحديث: الأماكن والبقع إنكار أبي بصرة الغفاري على من سافر إلى جبل الطور، واستدلاله بهذا الحديث،
الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم أنه لما رأى الناس وهو راجع من الحج ينزلون فيصلون في مسجد، فسأل عنهم، فقالوا: مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنما هلك من كان قبلكم أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم بيََعاً"1"، من مر بشيء من هذه المساجد فحضرت الصلاة فليصل، وإلا فليمض""2".
وقد أقره أبو هريرة – رضي الله عنه – بسكوته عند إنكار أبي بصرة، والخبر رواه الإمام مالك في الموطأ في ساعة الجمعة 1/109، والطيالسي "1348"، وأحمد 6/7، 397، والنسائي "1429" من طريقين صحيحين، وقد صححه الألباني في الإرواء "970"، وفي تحذير الساجد ص95، ويدل على ذلك أيضاً ما رواه الأزرقي: حد المسجد الحرام وفضله 2/65 بإسناد حسن عن قزعة قال:"أردت الخروج إلى الطور فسألت ابن عمر فقال: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. ." ودع عنك الطور فلا تأته". وينظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/374، 375، وقد صحح إسناده الألباني في الجنائز ص287.
"1" البيَع: جمع بيعة بكسر الباء، وهي المكان الذي يتعبد فيه اليهود والنصارى، ينظر: القاموس والمصباح، لفظة"بيع". حاشية السندي على سنن النسائي 2/369.
"2" رواه عبد الرزاق: ما يقرأ في الصبح "2734"، وابن أبي شيبة في الصلاة: الصلاة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم 2/376، وسعيد كما في الاقتضاء ص751، وابن وضاح "104". وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيحين، وقد صححه شيخ الإسلام كما في الفتاوى 10/410، والحافظ في الفتح 1/569، وقال الألباني في تحذير الساجد ص93. "سنده صحيح على شرط الشيخين".
فهذا قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ""1". وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر رضي الله عنهما:" اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ""2"، وهو – أي قول عمر السابق - يدل على التحذير من التبرك بالأماكن التي مر بها أو تعبد فيها نبينا صلى الله عليه وسلم دون قصد لها، وعلى عدم مشروعية قصد هذه الأماكن للتعبد لله فيها، وعلى هذا أجمع سلف هذه الأمة وكل من سار على طريقتهم"3" لما سبق؛ ولأن ذلك من المحدثات التي لا دليل عليها.
"1" رواه الإمام أحمد 2/401، وابن أبي شيبة 12/25، وابن أبي عاصم "1250"، وابن حبان في صحيحه "6889". وإسناده صحيح، وله شاهد عند ابن حبان "6895"، وغيره.
"2" رواه الإمام أحمد 5/399، والترمذي "3663"، وابن أبي شيبة 12/11، وابن حبان "6902"، وابن عدي 2/666. وإسناده صحيح.
"3" ينظر: ما سبق نقله قريباً عند بيان أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة قصد هذه الأماكن للتبرك بها من كلام شيخ الإسلام وابن وضاح، وينظر: الاقتضاء ص806-812، ومجموع الفتاوى 3/274، و27/110، الاختيارات: الحج ص118، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري: الزيارة ص246، القول السديد، باب من تبرك بشجرة أو حجر ص53، وقد نقل الشيخ شمس الدين الأفغاني في جهود علماء الحنفية ص650-652 عن جمع من علماء الحنفية النهي عن التبرك بآثار الأنبياء ومواضع عباداتهم، وقال ابن عبد
2-
التبرك ببعض الأشجار وبعض الأحجار وبعض الأعمدة وبعض الآبار والعيون التي يظن بعض العامة أن لها فضلاً، إما لظنهم أن أحد الأنبياء والأولياء وقف على ذلك الحجر، أو لاعتقادهم أن نبياً نام تحت تلك الشجرة، أو يرى أحدهم رؤيا أن هذه الشجرة أو هذا الحجر مبارك، أو يعتقدون أن نبياً اغتسل في تلك البئر أو العين، أو أن شخصاً اغتسل فيها فشفي، ونحو ذلك، فيغلون فيها ويتبركون بها فيتمسحون بالأشجار والأحجار، ويغتسلون بماء هذه البئر أو تلك العين طلباً للبركة، ويعلقون بالشجرة الخرق والمسامير والثياب"1"، فربما أدى بهم غلوهم هذا في آخر الأمر إلى عبادة هذه الأشياء، واعتقاد أنها تنفع وتضر بذاتها.
الباقي في شرح الموطأ، كما في التيسير ص295:"وقد كره مالك طلب موضع شجرة بيعة الرضوان مخالفة لليهود والنصارى".
وينظر: حجة الله البالغة للدهلوي الهندي 1/543.
"1" قال أبو شامة الشافعي في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث ص23، عند كلامه على أقسام البدعة التي تعرف العامة والخاصة أنها بدعة، قال:"ومن هذا القسم أيضاً ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون بهذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها،
ولا شك أن التبرك بالأشجار والأحجار والعيون ونحوها، بأي نوع من أنواع التبرك، من مسح أو تقبيل، أو اغتسال، أو غيرها مما سبق ذكره محرم بإجماع أهل العلم"1"، ولا يفعله إلا الجهال؛ لأنه إحداث عبادات ليس
ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر، وفي مدينة دمشق -صانها الله تعالى– من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمي خارج باب توما، والعمود المخلَّق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهّل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات الأنواط الواردة في الحديث".
ومن الأشياء التي توقع كثيراً من العامة في هذا الغلو تمسكهم ببعض الأحاديث المكذوبة، كحديث:" لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به "، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 11/513، 514، بعد ذكره لهذا الحديث:"هو من كلام أهل الشرك والبهتان، فإن عباد الأصنام أحسنوا ظنهم بها فكانوا هم وإياها من حصب جهنم، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} "، وينظر: إغاثة اللهفان 1/215.
"1" قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص808،809:"اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يُشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم عليه السلام، الذي ذكره الله في القرآن، فقال:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ، فإذا كان هذا بالسنة المتواترة، وباتفاق الأئمة لا يشرع تقبيله بالفم، ولا مسحه باليد، فغيره من مقامات الأنبياء أولى ألا يُشرع تقبيلها بالفم ولا مسحها باليد. وأيضاً، فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه في المدينة النبوية دائماً لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا المواضع التي صلى فيها
لها أصل في الشرع"1"، ولأنه من أعظم أسباب الوقوع في الشرك الأكبر"2"، ولما روى أبو واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم وأمتعتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم:" الله
بمكة وغيرها، فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين ويصلي عليه لم يُشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله، فكيف بما يقال: إن غيره صلى فيه أو نام عليه".
"1" هذا فيما يتعبد به لله تعالى، أما فيما يتعلق بالاستشفاء بها مع أنه لم يثبت بالتجربة أو غيرها أن فيها شفاء، ونحو ذلك فهو محرم أيضاً من جهة اتخاذ ما ليس بسبب سبباً، فهو من الشرك الأصغر.
"2" قال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجهاد، باب البيعة 6/118 في شرح قول ابن عمر:"كانت رحمة من الله"يريد خفاء موضع شجرة بيعة الحديبية على الصحابة:"سيأتي في المغازي موافقة المسيب بن حَزَن – والد سعيد – لابن عمر على خفاء الشجرة، وبيان الحكمة في ذلك: هو ألا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهداً فيما هو دونها، وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: كانت رحمة..". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 27/136، 137:"وأما الأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر لها بعض العامة، أو يعلقون بها خرقاً، أو غير ذلك، أو يأخذون ورقها يتبركون به، أو يصلون عندها، أو نحو ذلك: فهذا كله من البدع المنكرة، وهو من عمل أهل الجاهلية، ومن أسباب الشرك بالله تعالى".
أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف: 138]، ثم قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم ""1".
فلما طلب حدثاء العهد بالإسلام من الصحابة شجرة يتبركون بها تقليداً للمشركين أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبرهم أن طلبهم هذا يشبه طلب بني إسرائيل من موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة تقليداً لمشركي زمانهم، فطلبهم مشابه لطلب بني إسرائيل من جهة طلب التشبه بالمشركين فيما هو شرك، وإن كان ما طلبه هؤلاء الصحابة من الشرك الأصغر"2".
"1" رواه الإمام الشافعي في السنن المأثورة "400" وعبد الرزاق "20763"، وأحمد 5/218، والترمذي "2180"، وابن حبان في صحيحه "6702"، وغيرهم بإسناد صحيح. رجاله رجال الصحيحين، وقد صححه جمع من أهل العلم، ينظر: جهود الحنفية ص660. ومعنى ينوطون: أي يعلقون، وذات أنواط: اسم لشجرة بعينها. ينظر: الصحاح، والنهاية، مادة"نوط".
"2" قال في القول المفيد، باب من تبرك بشجرة أو حجر 1/205 عند شرحه لحديث أبي واقد السابق:"فهؤلاء طلبوا سدرة يتبركون بها كما يتبرك المشركون بها، وأولئك طلبوا إلهاً كما لهم آلهة، فيكون في كلا الطلبين منافاة للتوحيد؛ لأن التبرك بالشجر نوع من الشرك، واتخاذه إلهاً شرك واضح".
ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه ليس هناك حجر أو غيره يشرع مسحه أو تقبيله تبركاً، حتى مقام إبراهيم الخليل – عليه السلام – لا يشرع تقبيله مطلقاً مع أنه قد وقف عليه، وأثرت فيه قدماه – عليه السلام، وهذا كله قد أجمع عليه أهل العلم"1".
ومسح الحجر الأسود وتقبيله وكذلك مسح الركن اليماني في أثناء الطواف إنما هو من باب التعبد لله تعالى، واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عمر رضي الله عنه لما قبل الحجر الأسود:"إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"رواه البخاري ومسلم"2".
"1" حكى هذا الإجماع شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 3/274، والاقتضاء ص808، كما حكاه جمع من علماء الحنفية كما في جهود علماء الحنفية ص657.
"2" صحيح البخاري: الحج "1597"، وصحيح مسلم: الحج "1270". قال الملا علي القاري الحنفي في مرقاة المفاتيح: الحج، باب دخول مكة الفصل الثالث 3/213 في شرح قول عمر هذا:"فيه إشارة منه – رضي الله عنه – إلى أن هذا الأمر تعبدي، فنفعل، وعن علته لا نسأل، وإيماء إلى التوحيد الحقيقي الذي عليه مدار العمل، وقال الطيبي رحمه الله: إنما قال ذلك لئلا يغتر به بعض قريبي العهد بالإسلام ممن ألفوا عبادة الأحجار، فيعتقدون نفعه وضره بالذات، فبيَّن رضي الله عنه أنه لا يضر ولا ينفع لذاته، وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع باعتبار الجزاء"، وينظر شرح هذا الأثر في فتح الباري 3/462، 463.
كما أنه يجب قطع الأشجار وهدم الآبار والعيون، وإزالة الأحجار التي يتبرك بها العامة"1"، حسماً لمادة الشرك، كما فعل عمر –رضي الله عنه– حين قطع شجرة بيعة الرضوان"2".
"1" قال أبو بكر الطرطوشي المالكي المتوفى سنة 530هـ في الحوادث والبدع، الباب الثاني ص38، 39، بعذ ذكره لحديث أبي واقد الليثي السابق، قال:"فانظروا – رحمكم الله – أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها".
"2" روى ابن سعد 2/100، وابن أبي شيبة 2/375، وابن وضاح "105" عن نافع مولى ابن عمر قال:"بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت"، قال الحافظ ابن حجر الشافعي في الفتح 7/44:"وجدت عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع
…
".
قلت: وهو كما قال، وقد كانت هذه الشجرة خفي مكانها على الصحابة فلم يستطيعوا معرفة مكانها، فقد جاء في صحيح البخاري "2958" عن ابن عمر قال:"رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله"، وقد سبق قريباً نقل كلام ابن حجر في شرح قول ابن عمر هذا، ومع ذلك فقد قام بعض الجهال من حدثاء العهد بالإسلام وغيرهم في عهد عمر بالتبرك بإحدى الأشجار بالحديبية بالتعبد لله عندها ظناً منهم أنها شجرة بيعة الرضوان، فقام عمر رضي الله عنه بقطع هذه الشجرة، حسماً لمادة الشر، وخوفاً عليهم من الغلو فيها فيقعوا هم أو من يأتي بعدهم في الشرك الأكبر.
3-
التبرك ببعض الليالي والأيام التي يقال: إنها وقعت فيها أحداث عظيمة، كالليلة التي يقال إنها حصل فيها الإسراء والمعراج، ونحو ذلك، وسيأتي الكلام على هذه المسألة بشيء من التفصيل في الفصل الخامس من هذا الباب عند الكلام على البدعة إن شاء الله تعالى.
النوع الثالث: التبرك بالأماكن والأشياء الفاضلة:
وردت نصوص شرعية كثيرة تدل على فضل وبركة كثير من الأماكن، كالكعبة المشرفة، والمساجد الثلاثة، وكثير من الأزمان كليلة القدر ويوم عرفة، وكثير من الأشياء الأخرى، كماء زمزم، والسحور للصائم، والتبكير في طلب الرزق ونحوه، وغير ذلك.
والتبرك بهذه الأشياء يكون بفعل العبادات وغيرها مما ورد في الشرع ما يدل على فضلها فيها"1"، ولا يجوز التبرك بها بغير ما ورد، وعليه فمن تبرك بالأزمان أو الأماكن أو الأشياء التي وردت نصوص تدل على فضلها
"1" فمثلاً يكون التبرك بالكعبة المشرفة بالطواف بها، والتعبد لله تعالى باستلام الحجر الأسود والركن اليماني، أو تقبيل الحجر الأسود حال الطواف فقط، وبالصلاة داخلها، والتبرك بالمسجد الحرام بالصلاة والاعتكاف فيه، ونحو ذلك، والتبرك بليلة القدر بقيامها بالصلاة وقراءة كتاب الله تعالى ونحو ذلك، وماء زمزم بشربه والاغتسال منه طلباً للشفاء من الأمراض ونحو ذلك، وهكذا بقية الأشياء المباركة الفاضلة.
أو بركتها بتخصيصها بعبادات أو تبركات معينة لم يرد في الشرع ما يدل على تخصيصها بها، فقد خالف المشروع، وأحدث بدعة ليس لها أصل في الشرع، وذلك كمن يخص ليلة القدر بعمرة، وكمن يتبرك بجدران الكعبة بتقبيلها أو مسحها، أو يتمسح بمقام إبراهيم أو بالحجر المسمى حجر إسماعيل، أو بأستار الكعبة، أو بجدران المسجد الحرام، أو المسجد النبوي وأعمدتهما ونحو ذلك، فهذا كله محرم، وهو من البدع المحدثة، وقد اتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة على عدم مشروعيته"1"،
"1" اقتضاء الصراط المستقيم ص808،809، مجموع الفتاوى 4/521، و27/79،106-110، الاختيارات: الجنائز 92، والحج ص118، زيارة القبور للبركوي الحنفي ص52، مجلس الأبرار للرومي الحنفي مع خزينة الأسرار لسبحان بخش الهندي الحنفي ص130، ونفائش الأزهار للسورتي الحنفي ص161 نقلاً عن جهود علماء الحنفية ص657، إصلاح المساجد للقاسمي ص52، القول السديد للسعدي ص53، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 5/11،12.
وروى عبد الرزاق: المقام "8957"، والفاكهي: ذكر مسح المقام "1005" بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ارأيت أحداً يقبل المقام أو يمسه؟ قال: أما أحد يعتد به فلا. وعطاء – وهو ابن أبي رباح – من أجلة التابعين، وممن لازم التدريس بالمسجد الحرام، فهذا يدل على إجماع الصحابة وعلماء التابعين على عدم مشروعيته، إذ لو كان مشروعاً لبادروا إلى فعله لحرصهم على الخير.
ومثله أن يتبرك بأحجار أو تراب شيء من المواضع الفاضلة بالتمرغ عليه أو بجمعه والاحتفاظ به.
ومما يدل أيضاً على تحريم التبرك بالأشياء الفاضلة بغير ما ورد في الشرع ما ثبت في صحيح البخاري عن ثاني الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله جعل الحق على قلب عمر ولسانه ""1"، وقال صلى الله عليه وسلم عنه وعن أبي بكر:" اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ""2"، أنه قال رضي الله عنه لما قبَّل الحجر الأسود:"إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي
وروى الأزرقي 2/29، والطبري في تفسير الآية "125" من البقرة "2000" بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن التابعي الجليل قتادة بن دعامة في تفسير:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها.
وقال الإمام النووي في منسكه، الباب الخامس ص397:"لا يُقبِّل مقام إبراهيم ولا يستلمه، فإنه بدعة"، وقال الهيتمي الشافعي في حاشيته عليه:"التقبيل والاستلام عبادتان مطلوبتان في الحجر الأسود، فلا يثبتان لغيره إلا بنص كذلك" ثم ذكر ما ثبت في الركن اليماني – يعني مسحه – وذكر أنه لم يثبت في المقام شيء.
"1" سبق تخريجه قريباً عند بيان النوع الثاني.
"2" سبق تخريجه قريباً عند بيان النوع الثاني.
صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"رواه البخاري ومسلم"1"، فقول عمر هذا صريح في أن تقبيل الحجر الأسود إنما هو اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمسلم يفعله تعبداً لله تعالى، واقتداءً بخير البرية صلى الله عليه وسلم، وليس من باب التبرك في شيء"2".
وإذا كان هذا في شأن الحجر الأسود الذي هو أفضل الكعبة، فغيره من الأماكن والأشياء الفاضلة أولى، فيتعبد المسلم فيها بما ورد في الشرع ولا يزيد عليه.
ومما يدل كذلك على تحريم التبرك بالأشياء الفاضلة بغير ما ورد في الشرع ما ثبت عن حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما– أنه أنكر على من استلم أركان الكعبة الأربعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني. رواه البخاري"3"، وما ثبت عن الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير – رضي الله عنهما – من الإنكار على من مسح مقام إبراهيم"4".
"1" سبق تخريجه قريباً.
"2" ينظر: كلام الملا علي القاري الحنفي حول هذا الأمر، والذي سبق نقله بعد تخريج هذا الحديث.
"3" صحيح البخاري، باب من لم يستلم إلا الركنين "1608"، ورواه الإمام أحمد 1/217 مطولاً، وفيه أن معاوية قال لابن عباس رضي الله عنهم: صدقت.
"4" روى عبد الرزاق: باب المقام "8958" بإسناد صحيح عنه أنه رأى الناس يمسحون
وفي ختام الكلام على هذا الموضوع – أي التبرك البدعي – أقول: إن هذا النوع من التبرك من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الوقوع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، ولذلك لما عصى الله تعالى بعض المسلمين بفعل التبرك البدعي أدى ذلك بكثير منهم إلى الوقوع في الشرك الأكبر، وذلك بالوقوع في التبرك الشركي، أو بالوقوع في نوع آخر من أنواع الشرك الأكبر.
وقد نقل ابن إسحاق صاحب المغازي وغيره ما يدل على أن سبب وقوع العرب في الشرك هو تعظيم حجارة حرم مكة والتبرك بها"1"، بل قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي عند كلامه على التبرك:" العامة لا تقتصر في ذلك على حد، بل تتجاوز فيه الحدود، وتبالغ في جهلها في التماس البركة، حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد، فربما اعتقد في المتبرك به ما ليس فيه، وهذا التبرك هو أصل العبادة، ولأجله
المقام، فنهاهم، وقال: إنكم لم تؤمروا بالمسح، وإنما أمرتم بالصلاة، ورواه ابن أبي شيبة: مسح المقام 4/61، والفاكهي "1004" من طريق آخر.
"1" ينظر: السيرة لابن هشام، قصة عمرو بن لحي 1/77، السيرة لابن كثير: ذكر بني إسماعيل 1/117، نقلاً عن ابن إسحاق، وقد ذكر ابن إسحاق والكلبي أن مشركي الجاهلية كانوا يتمسحون بالأصنام ويتبركون بها. ينظر: السيرة لابن هشام 1/81،83، الأصنام للكلبي ص48.