الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويدفن فيها، لئلا يؤذي الناس برائحته الكريهة "1".
6-
أن دخول الجنة عليه حرام، وهو مخلد في نار الجحيم"2" - نسأل الله السلامة والعافية - كما قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] .
"1" ينظر المبدع، والروض مع حاشيته لابن قاسم كتاب الجنائز وكتاب المرتد، الدين الخالص 1/187، 193، 242 - 248، 343 - 390، الضياء اللامع " فضل الصلاة وحكم تاركها " ص 294.
"2" تنظر المراجع السابقة، وينظر شرح مسلم للنووي 2/97، وتفسير الآية "72" من المائدة في تفسيري: ابن كثير والسعدي.
المبحث الثاني:
أقسام الشرك الأكبر
للشرك الأكبر ثلاثة أقسام رئيسة هي:
القسم الأول: الشرك في الربوبية: وهو أن يجعل لغير الله تعالى معه نصيباً من الملك أو التدبير أو الخلق أو الرزق الاستقلالي "3".
ومن صور الشرك في هذا القسم:
1-
شرك النصارى الذين يقولون: " الله ثالث ثلاثة "، وشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور - وهو عندهم الإله
"3" ينظر اقتضاء الصراط المستقيم: فصل النوع الثاني من الأمكنة 2/710، الإرشاد إلى معرفة الأحكام للسعدي " الردة " ص205.
المحمود - وحوادث الشر إلى الظلمة.
2-
شرك القدرية الذين يزعمون أن الإنسان يخلق أفعاله.
3 -
شرك كثير من غلاة الصوفية والرافضة من عباد القبور الذين يعتقدون أن أرواح الأموات تتصرف بعد الموت فتقضي الحاجات وتفرج الكربات، أو يعتقدون أن بعض مشايخهم يتصرف في الكون أو يغيث من استغاث به ولو مع غيبته عنه.
4 -
الاستسقاء بالنجوم: وذلك باعتقاد أنها مصدر السقيا، وأنها التي تنزل الغيث بدون مشيئة الله تعالى، وأعظم من ذلك أن يعتقد أنها تتصرف في الكون بالخلق أو الرزق أو الإحياء أو الإماتة أو بالشفاء أو المرض أو الربح أو الخسارة، فهذا كله من الشرك الأكبر. قال الله تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]، والمعنى تجعلون شكركم لله على ما رزقكم الله من الغيث والمطر أنكم تكذبون - أي تنسبونه إلى غيره - "1". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أربع في
"1" ينظر في جميع الأنواع السابقة صحيح البخاري مع الفتح كتاب التوحيد باب " فلا تجعلوا لله أنداداً " 13/490 - 495، الشفا " مطبوع مع شرحه للقاري 2/514"، تفسير القرطبي للآية "82" من سورة الواقعة 17/229، 230، مجموع الفتاوى1/92، الاستغاثة 2/536، الجواب الكافي ص193، 194، شرح الطحاوية ص 26 - 28، 38، تجريد التوحيد ص 25، 29، 42، 43، الدين الخالص 1/69، 71، و2/8، 128- 134، تيسير العزيز الحميد: المقدمة ص28، 29، وباب=
أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة ". رواه مسلم"1".
القسم الثاني: الشرك في الأسماء والصفات:
وهو: أن يجعل لله تعالى مماثلاً في شيء من الأسماء أو الصفات، أو يصفه تعالى بشيء من صفات خلقه.
فمن سمّى غير الله باسم من أسماء الله تعالى معتقداً اتصاف هذا المخلوق بما دل عليه هذا الاسم مما اختص الله تعالى به، أو وصفه بصفة من صفات الله تعالى الخاصة به فهو مشرك في الأسماء والصفات.
وكذلك من وصف الله تعالى بشيء من صفات المخلوقين فهو مشرك في الصفات.
ومن صور هذا الشرك:
1 -
اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الله تعالى، كاشتقاق
من الشرك أن يستغيث بغير الله، وباب ما جاء في التنجيم، وباب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء، رسالة التوحيد للدهلوي ص 20-31، 41، 44، 68، منهاج التأسيس والتقديس ص 265، معارج القبول ص 401، 475، 485، 560، 980 - 983، الإرشاد للفوزان ص 88، 93، عالم السحر للأشقر ص 224، 225، النواقض الاعتقادية للوهيبي " الشرك في الربوبية " 2/89 - 112.
"1" صحيح مسلم كتاب الجنائز " 934 ".
اسم "اللات" من "الإله"، و "العزى" من "العزيز""1".
2-
اعتقاد بعض غلاة الرافضة وبعض غلاة الصوفية أن بعض الأحياء أو الأموات يسمعون من دعاهم في أي مكان وفي أي وقت"2".
3-
شرك الممثلة: وهو اعتقاد أن صفات الخالق تماثل صفات المخلوق، كمن يقول:"يد الله كيدي"، أو " سمعه كسمعي "، أو "استواؤه كاستوائي""3"، وهذا كله شرك، فالله تعالى يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] .
4-
الشرك بدعوى علم الغيب، أو باعتقاد أن غير الله تعالى يعلم الغيب، فكل ما لم يطلع عليه الخلق ولم يعلموا به بأحد الحواس الخمس"4" فهو من علم الغيب، كما قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي
"1" بدائع الفوائد 1/169، تيسير العزيز الحميد ص 28.
"2" أعلام السنة المنشورة ص 87، معارج القبول 2/475.
"3" بدائع الفوائد 1/170، الروح " الفرق بين اثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه " ص 354، تيسير العزيز الحميد ص28.
"4" وهي السمع والبصر والشم واللمس والذوق، فمن سمع شيئاً أو أخبره مخبر من الجن أو الإنس بشيء رآه أو سمعه فقد علمه بطريق السمع، إما بنفسه، أو عن طريق سماع كلام هذا الذي رآه أو سمعه، وهكذا بقية الحواس.
وليس من ادعاء علم الغيب ما يعرف من نتائج بعض الأمور من النظر في مقدماتها، ولا الإخبار عن المسبَّبات من النظر في أسبابها، كما يحصل في علم الطب، من معرفة شفاء المرض بعلاج معين، ونحو ذلك، وكما يحصل في علم الفلك
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال جل شأنه:{إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} [يونس: 20]، وقال سبحانه وتعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضاً:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50] .
فمن ادَّعى أنَّ أحداً من الخلق يعلم الغيب، فقد وقع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، لأن في ذلك ادعاء مشاركة الله تعالى في صفة من صفاته الخاصة به، وهي "علم الغيب". ومن أمثلة الشرك بدعوى علم الغيب:
من رصد هبوب الرياح أو معرفة وقت الكسوف، ونحو ذلك - على تفصيل في ذلك لا يتسع المقام له -. ينظر مفتاح دار السعادة ص 217، 218، وينظر فتح المجيد والقول المفيد باب ما جاء في الكهان ونحوهم، وكتاب عالم السحر للأشقر " أدعياء الغيب " ص 263.
وقد ذكر شيخنا محمد بن عثيمين في القول المفيد أن الإخبار عن أحوال الطقس في 24 ساعة ونحوها ليس من ادَّعاء علم الغيب لأنه يستند إلى أمور حسية، وهي تكيف الجو، لأن الجو يتكيف على صفة معينة تعرف بالموازين الدقيقة عندهم، فيكون صالحاً لأن يمطر أو لا يمطر. وينظر مفتاح دار السعادة 2/217.
أ - اعتقاد أن الأنبياء أو أن بعض الأولياء والصالحين يعلمون الغيب: وهذا الاعتقاد يوجد عند غلاة الرافضة والصوفية، ولذلك تجدهم يستغيثون بالأنبياء والصالحين الميتين وهم بعيدون عن قبورهم، ويدعون بعض الأحياء وهم غائبون عنهم، ويعتقدون أنهم جميعاً يعلمون بحالهم وأنهم يسمعون كلامهم، وهذا كله شرك أكبر مخرج من الملة "1".
ب- الكهانة: الكاهن هو الذي يدعي أنه يعلم الغيب. ومثله أو قريب منه " العرّاف "، و "الرمّال"، ونحوهم، فكل من ادعى أنه يعرف علم ما غاب عنه دون أن يخبره به مخبر، أو زعم أنه يعرف ما سيقع قبل وقوعه فهو مشرك شركاً أكبر، سواء ادّعى أنه يعرف ذلك عن طريق " الطرق بالحصى "، أم عن طريق حروف " أبا جاد ""2"، أم عن طريق " الخط في الأرض "، أم
"1" رسالة التوحيد للدهلوي ص 20، 31، 34، وينظر تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد باب من الشرك أن يستغيث بغير الله. وينظر ما سبق في ختام الكلام على توحيد الربوبية، وينظر ما يأتي عند ذكر أمثلة الشرك في دعاء المسألة – إن شاء الله -.
"2" ولا يجوز تعلم الحروف من أجل ذلك، أما تعلمها من أجل التهجي فلا بأس. ينظر التيسير ص364.
عن طريق "قراءة الكف"، أم عن طريق "النظر في الفنجان"، أم غير ذلك، كل هذا من الشرك"1"، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ليس منا من تَطيَّر أو تُطيِّر له، أو تَكهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِرَ له، ومن أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ""2".
"1" ينظر شرح السنة 12/181 - 184، شرح مسلم للنووي 14/223، مجموع فتاوى ابن تيمية 35/170 – 197، تفسير القرطبي 7/2، 3، مفتاح دار السعادة 2/125 - 242، فتح الباري 10/216، 217، شرح الطحاوية ص 759، 760، الفروع 6/177، 178، الروض مع حاشيته لابن قاسم 7/413، الزواجر 2/109، الدين الخالص 1/423 - 455، و2/137 - 141، تيسير العزيز الحميد باب ما جاء في الكهان، معارج القبول ص 559 - 574، التوحيد للدهلوي ص34، 69، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/164، 165، عالم السحر للأشقر ص 13، الإرشاد للفوزان ص 84، النواقض القولية والعملية للدكتور عبد العزيز بن عبد اللطيف ص 518 - 522.
"2" رواه البزار كما في الكشف "3044" من طريق الحسن عن عمران. وذكر الحافظ المنذري في الترغيب "4467" والحافظ ابن حجر في الفتح 10/217: أن إسناده جيد.
ولشطره الأول شاهد من حديث ابن عباس عند البزار "3043". قال المنذري في الترغيب: " إسناده حسن ". وشاهد آخر من حديث علي رواه أبو نعيم في الحلية 4/195.
ولشطره الثاني شاهد عند أحمد 2/429 من حديث أبي هريرة بلفظ " من أتى كاهناً أو عرافاً
…
" إلخ. وإسناده صحيح.
ج- اعتقاد بعض العامة أن السحرة أو الكهان يعلمون الغيب، أو تصديقه لهم في دعواهم معرفة ما سيقع في المستقبل"1"، فمن اعتقد ذلك أو صدقهم فيه فقد وقع في الكفر والشرك المخرج من الملة"2"، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ""3".
"1" ومن ذلك تصديقهم في زعمهم أن الغيث سينزل حتماً في وقت كذا، أو أن الدولة الفلانية ستنتصر في وقت كذا، أو أن فلاناً سيكون حظه كذا، أو سيربح أو سيخسر أو سيموت في وقت كذا ونحو ذلك.
أما ما سبق وقوعه فقد يعلم به الكاهن عن طريق الجن الذين شاهدوا وقوعه وأخبروه فيكون علمه به بإخبار غيره له، وقد يغتر بعض الجهال بذلك فيصدقه في كل ما يخبر به. ينظر شرح مسلم للنووي 14/223، وفتح الباري 10/ 217، وتيسير العزيز الحميد، وفتح المجيد، وقرة عيون الموحدين باب ما جاء في الكهان.
ولا يجوز تصديقهم فيما يزعمون أنه سيقع في المستقبل بدعوى أنهم عرفوا ذلك عن طريق سماع الجن لكلام الملائكة ثم إخبار الكاهن بذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر كما في صحيح البخاري "5762"، وصحيح مسلم "2228" أنهم يكذبون مع الكلمة التي سمعت مائة كذبة، وعليه فمن صدقهم فقد صدق بما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كذب وبما هو من دعوى علم الغيب، وظاهر الحديث أن من صدقهم بهذه الحجة يكفر، كما قال في تيسير العزيز الحميد ص 358.
"2" ينظر المراجع التي سبق ذكرها قريباً عند الكلام على حكم الكهانة.
"3" سبق تخريجه قريباً. قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله:
ومن يصدق كاهناً فقد كفر
بما أتى به الرسول المعتبر.=
د- التنجيم: وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية المستقبلة.
وذلك أن المُنَجِّم يدعي من خلال النظر في النجوم معرفة ما سيقع في الأرض من نصر لقوم، أو هزيمة لآخرين، أو خسارة لرجل، أو ربح لأخر، ونحو ذلك، وهذا لا شك من دعوى علم الغيب، فهو شرك بالله تعالى"1".
ومما يفعله كثير من المشعوذين والدجاجلة أن يدعي أن لكل نجم تأثيراً معيناً على من ولد فيه، فيقول: فلان وُلِدَ في برج كذا فسيكون سعيداً، وفلان وُلِدَ في برج كذا فستكون حياته شقاء، ونحو ذلك، وهذا كله كذب، ولا يصدقه إلا جهلة الناس وسفهاؤهم، قال الشيخ ابن عثيمين: " فهذا اتخذ تعلُّم النجوم وسيلةً لادّعاء علم الغيب،
= أما مجرد الذهاب إلى الكاهن وسؤاله مع عدم تصديقه فهو محرم وكبيرةً من كبائر الذنوب، لقوله صلى الله عليه وسلم:" من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " رواه مسلم "2230" قال الحافظ في الفتح 10/217: " الوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة وتارة بالتكفير، فيحمل على حالين من الآتي، أشار إلى ذلك القرطبي " وفيه حديث فيه ضعف يستأنس به لهذا الحمل. ينظر في الترغيب "4472"، وينظر معارج القبول 2/572.
"1" تنظر المراجع التي سبق ذكرها قريباً عند بيان حكم الكهان، وينظر تيسير العزيز الحميد باب ما جاء في التنجيم، وباب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء.
ودعوى علم الغيب كفر مخرج من الملة ""1".
القسم الثالث: الشرك في الألوهية:
وهو: اعتقاد أن غير الله تعالى يستحق أن يعبد أو صرف شيء من العبادة لغيره "2".
وأنواعه ثلاثة، هي:
الأول: اعتقاد شريك لله تعالى في الألوهية"3".
فمن اعتقد أن غير الله تعالى يستحق العبادة مع الله"4" أو يستحق أن يصرف له أي نوع من أنواع العبادة فهو مشرك في الألوهية.
ويدخل في هذا النوع من يسمي ولده أو يتسمى باسم يدل على التعبد لغير الله تعالى"5"، كمن يتسمى ب "عبد الرسول"، أو "عبد الحسين"، أو غير ذلك.
فمن سمى ولده أو تسمى بشيء من هذه الأسماء التي فيها التعبد
"1" القول المفيد باب ما جاء في التنجيم 2/5.
"2" مجموع فتاوى ابن تيمية 1/74، 91، الإرشاد للسعدي " الردة " ص205، الدرر السنية 1/157.
"3" تيسير العزيز الحميد ص 28 نقلاً عن القرطبي.
"4" الإرشاد للسعدي: الردة ص 205.
"5" الدين الخالص لصديق حسن خان 2/104، رسالة التوحيد للدهلوي الهندي ص17، 25، وينظر مجموع فتاوى ابن تيمية آخر ج1 ص 378، 379.
للمخلوق معتقداً أن هذا المخلوق يستحق أن يُعبَد فهو مشرك بالله تعالى.
النوع الثاني: صرف شيء من العبادات المحضة لغير الله تعالى:
فالعبادات المحضة بأنواعها القلبية والقولية والعملية والمالية حق لله تعالى لا يجوز أن تصرف لغيره - كما سبق بيان ذلك عند الكلام على توحيد الألوهية - فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر.
قال علَاّمة الهند: صديق حسن خان القنوجي في تفسير قوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] قال رحمه الله: "قد تقرر أن العبادة لا تجوز إلا لله، وأنه هو المستحق لها، فكل ما يسمى في الشرع عبادة ويصدق عليه مسماها فإن الله يستحقه، ولا استحقاق لغيره فيها، ومن أشرك فيها أحداً من دون الله فقد جاء بالشرك، وكتب اسمه في ديوان الكفر""1".
والشرك بصرف شيء من العبادة لغير الله له صور كثيرة، يمكن حصرها في الأمرين التاليين:
الأمر الأول: الشرك في دعاء المسألة:
دعاء المسألة هو أن يطلب العبد من ربه جلب مرغوب أو دفع مرهوب"2".
"1" الدين الخالص باب في رد الإشراك في العبادات 2/52.
"2" الاستغاثة 2/452، تيسير العزيز الحميد باب من الشرك الاستعاذة بغير الله=
ويدخل في دعاء المسألة: الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والاستجارة "1".
قال الخطابي رحمه الله تعالى: "ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه عز وجل العناية، واستمداده إياه المعونة. وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله عز وجل وإضافة الجود والكرم إليه""2".
والدعاء من أهم أنواع العبادة، فيجب صرفه لله تعالى، ولا يجوز لأحد أن يدعو غيره كائناً من كان، قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وقال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الدعاء هو العبادة ""3"، وقال صلى الله عليه سلم في وصيته لابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله،
= ص 180، وفتح المجيد 2/301، مجموعة الرسائل 5/594.
"1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 15/227: "الاستعاذة والاستجارة والاستغاثة كلها من نوع الدعاء أو الطلب، وهي ألفاظ متقاربة "، وينظر الاستغاثة الموضع السابق.
"2" شأن الدعاء ص 4.
"3" رواه ابن أبي شيبة في المصنف في الدعاء 10/200، والطيالسي "801"، وأحمد 4/271، 276، وأبو داود في الصلاة "479"، والترمذي في التفسير "3247"، وابن =
وإذا استعنت فاستعن بالله " "1"، فمن دعا غير الله فقد وقع في الشرك الأكبر - نسأل الله السلامة والعافية -.
ومن أمثلة الشرك في دعاء المسألة ما يلي:
أ - أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق، سواء أكان
=ماجه في فاتحة الدعاء "3828"، والطبراني في الدعاء "1-7"، وابن حبان "الإحسان 890"، والحاكم 1/491، والبيهقي في كتابه " الدعوات ""4"، والخطابي في شأن الدعاء "1" من طريقين صحيحين عن ذر بن عبد الله عن يسيع الحضرمي عن النعمان. وإسناده صحيح، وقال الترمذي "حسن صحيح "، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وصححه كذلك النووي كما في فيض القدير 3/540، وشيخنا عبد العزيز بن باز في تحفة الأخيار ص13، والألباني في صحيح الترمذي.
ولهذا الحديث شاهد من حديث ابن عباس رواه الحاكم 1/491 وصححه، ووافقه الذهبي.
ومعنى الحديث: أن الدعاء من أفضل أنواع العبادة. ينظر شأن الدعاء للخطابي ص 5، والفتح أول كتاب الدعاء 11/94، وفيض القدير 3/540.
"1" رواه الإمام أحمد 1/293، والترمذي في القيامة "2516"، وأبويعلى "2556"، والطبراني في الدعاء "42"، والمزي في ترجمة قيس بن الحجاج من طريق الليث بن سعد، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس. وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا " قيس "، وهو " صدوق "، وقال الترمذي:" حسن صحيح "، وذكره النووي في الأربعين، وحسن هذا الإسناد ابن رجب في جامع العلوم 1/462، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
ولهذا الحديث طرق أخرى وشواهد تنظر عند الطبراني في الدعاء، وينظر جامع العلوم 1/460-462.
هذا المخلوق حياً أم ميتاً، نبياً أم ولياً أم ملكاً أم جنياً أم غيرهم، كأن يطلب منه شفاء مريضه أو نصره على الأعداء، أو كشف كربة، أو أن يغيثه، أو أن يعيذه، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا كله شرك أكبر، مخرج من الملة بإجماع المسلمين"1"؛ لأنه دعا غير الله، واستغاث به، واستعاذ به، وهذا كله عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله بإجماع المسلمين، وصرفها لغيره شرك، ولأنه اعتقد في هذا المخلوق مالا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى"2".
"1" ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 1/124، 194، و27/67 - 87، 145، قاعدة في التوسل ص58، 59، قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام وعبادات أهل الشرك ص 70، الاستغاثة 1/376، و2/619، مدارج السالكين "منزلة التوبة" 3/375، القول الفصل النفيس ص 95، منهاج التأسيس ص 104، الدر النضيد ص 28–92، مصباح الظلام ص 188، الدرر السنية 2/192 – 194، تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد باب من الشرك الاستعاذة بغير الله، والأبواب الأربعة بعده، مجموعة الرسائل 4/469، السنن والمبتدعات فصل في الأدعية المحرمة ص 212 – 266، القول الجلي ص56، سيف الله لصنع الله الحنفي ص48.
"2" الدر النضيد للشوكاني ص69، 70، "الكواكب الدرية للرباطي الحنفي ص36-39، الوسيلة لجوهر الباكستاني الحنفي ص42 - 67، التبيان للرستمي الحنفي ص 155 - 161نقلاً عن كتاب جهود علماء الحنفية لشمس الدين الأفغاني ص 1472 – 1474"، منهاج التأسيس ص 187، القول الفصل النفيس ص82، حجة=
ب– دعاء الميت.
ج – دعاء الغائب.
فمن دعا غائباً أو دعا ميتاً وهو بعيد عن قبره، وهو يعتقد أن هذا المدعو يسمع كلامه أو يعلم بحاله فقد وقع في الشرك الأكبر، سواء أكان هذا المدعو نبياً أم ولياً، أم عبداً صالحاً أم غيرهم، وسواء طلب من هذا المدعو ما لا يقدر عليه إلا الله أم طلب منه أن يدعو الله تعالى له، ويشفع له عنده"1"، فهذا كله شرك بالله تعالى مخرج من الملة؛ لما فيه
= الله البالغة 1/185، صيانة الإنسان ص373، مجموعة الرسائل 5/593 - 603، 610 - 618، الصواعق المرسلة الشهابية ص 132 - 137، تصحيح الدعاء ص 247،251.
"1" وقريب من هذا من جاء إلى القبر وطلب من صاحبه أن يدعو الله له فهذا عمل محرم، وهو بدعة باتفاق السلف. ينظر قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام
…
ص111 - 136، مجموع الفتاوى 1/330، 351، 354 و27/76، قاعدة في المحبة ص190 - 192، رسالة زيارة القبور لابن تيمية ص 25، 49، 50، تلخيص الاستغاثة ص 57، الرد على الأخنائي ص 164، 165، 216، صيانة الإنسان ص 360، القول الجلي ص 56، تعليق شيخنا عبد العزيز بن باز على الفتح كتاب الاستسقاء 2/495، تصحيح الدعاء ص 251.
وقد نصّ جمع من أهل العلم على أن هذا العمل شرك أكبر. ينظر مدارج السالكين 1/369، إغاثة اللهفان: "الفرق بين زيارة الموحدين
…
"1/218-222،=
من دعاء غير الله، ولما فيه من اعتقاد أن المخلوق يعلم الغيب، ولما فيه من اعتقاد إحاطة سمعه بالأصوات، وهذا كله من صفات الله تعالى التي اختص بها، فاعتقاد وجودها في غيره شرك مخرج من الملة"1".
د - أن يجعل بينه وبين الله تعالى واسطة في الدعاء"2"، ويعتقد أن
=تطهير الاعتقاد ص15، الدين الخالص1/191، 213، 226، 227، 238، 413، و2/57، الدرر السنية 1/85، 224 و2/238، 239، "تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد باب من الشرك الاستعاذة بغير الله وباب الشفاعة"، "الكواكب الدرية للرباطي الحنفي ص 77 - 108، والتبيان للرستمي الحنفي ص155-161، والوسيلة لجوهر الباكستاني الحنفي ص 42 - 67 نقلاً عن كتاب جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية للدكتور شمس الدين الأفغاني 3/1472 - 1474"، ويراجع الرسالة الصفدية 2/187 - 291. وللتوسع في هذه المسألة ينظر مجموع الفتاوى 24/303، 331، 332، الروح "المسألة الأولى"، تفسير الآية "64" من النساء في تفسيري القرطبي وابن كثير، كتاب الدعاء للعروسي.
"1" مجموع الفتاوى 27/81، 82، رسالة التوحيد لإسماعيل الدهلوي ص 17، 20 - 23، 31، 43، "مجموع فتاوى عبد الحي اللكنوي 1/264 نقلاً عن كتاب الدعاء للعروسي ص274، 275، 496"، مصباح الظلام للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ابن حسن ص199 - 201، 254، روح المعاني للألوسي 13/67، و17/213، و24/11، صيانة الإنسان لمحمد بن بشير السهسواني الهندي ص373 وتنظر المراجع المذكورة عند ذكر حكم الكهانة.
"2" سواء أكانت هذه الواسطة من بني آدام كالأنبياء والصالحين أم من الملائكة أم من=
الله تعالى لا يجيب دعاء من دعاه مباشرة، بل لا بد من واسطة بين الخلق وبين الله في الدعاء، فهذه شفاعة شركية مخرجة من الملة"1".
واتخاذ الوسائط والشفعاء هو أصل شرك العرب"2"، فهم كانوا يزعمون أن الأصنام تماثيل لقوم صالحين، فيتقربون إليهم طالبين منهم الشفاعة، كما قال تعالى:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] .
الأمر الثاني: الشرك في دعاء العبادة:
دعاء العبادة هو: عبادة الله تعالى بأنواع العبادات القلبية، والقولية،
=الجن أم من غيرهم.
"1" ومثله من يعتقد أن الله تعالى يجيب دعاء الواسطة لحاجته إلى هذه الواسطة، أو يعتقد أن لهذه الواسطة حقاً على الله كما هو حال من يشفع عند الملوك، فهذا كله شرك مخرج من الملة. ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 1/126- 135، 150- 163، و24/341، إغاثة اللهفان 1/62، رسالة التوحيد للدهلوي الهندي ص46-48.
"2" شرح الطحاوية ص29، تطهير الاعتقاد ص15، بل هو أصل شرك الخلق كلهم. ينظر إغاثة اللهفان فصل في ما في الشرك والزنا من الخبث 1/62، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 1/134، 135:" من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عُباد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله تعالى على النصارى".
والفعلية كالمحبة، والخوف، والرجاء والصلاة، والصيام، والذبح، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى وغيرها.
وسمي هذا النوع "دعاء" باعتبار أن العابد لله بهذه العبادات طالب وسائل لله في المعنى، لأنه إنما فعل هذه العبادات رجاء لثوابه وخوفاً من عقابه، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب"1"، فهو داع لله تعالى بلسان حاله، لا بلسان مقاله.
ومن أمثلة الشرك في هذا النوع:
أ- شرك النية والإرادة والقصد:
هذا الشرك إنما يصدر من المنافق النفاق الأكبر، فقد يظهر الإسلام وهو غير مقر به في باطنه، فهو قد راءى بأصل الإيمان، كما قال تعالى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14] ، وقد يرائي ببعض العبادات، كالصلاة، كما قال تعالى عن المنافقين:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 142]"2"، فهم قد جمعوا بين الشرك والنفاق.
"1" بدائع الفوائد 3/2-5، تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد باب من الشرك أن يستغيث بغير الله، مقدمة تفسير السعدي ص 14.
"2" وقد عدَّ بعض العلماء من هذا الشرك: الرياء المحض إذا صدر من المسلم، وإرادة =
ب- الشرك في الخوف:
الخوف في أصله ينقسم إلى أربعة أقسام:
1-
الخوف من الله تعالى: ويسمى "خوف السر"، وهو الخوف المقترن بالمحبة والتعظيم والتذلل لله تعالى، وهو خوف واجب، وأصل من أصول العبادة"1".
2-
الخوف الجِبلِّي: كالخوف من عدو، والخوف من السباع المفترسة ونحو ذلك. وهذا خوف مباح؛ إذا وجدت أسبابه، قال الله تعالى عن نبيه موسى عليه السلام:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] .
3-
الخوف الشركي: وهو أن يخاف من مخلوق خوفاً مقترناً بالتعظيم والخضوع والمحبة. ومن ذلك الخوف من صنم أو من ميت خوفاً مقروناً بتعظيم ومحبة، فيخاف أن يصيبه بمكروه بمشيئته وقدرته، كأن يخاف أن يصيبه بمرض أو بآفة في ماله، أو يخاف أن يغضب عليه؛ فيسلبه نِعَمَهُ فهذا من الشرك الأكبر، لأنه صرف عبادة الخوف والتعظيم لغير الله، ولما في ذلك من اعتقاد النفع والضر في غير
= الدنيا وحدها بالعبادة، ولعل الأقرب أن هذا من الشرك الأصغر، وسيأتي الكلام على ذلك عند الكلام على الرياء في الباب الآتي - إن شاء الله -.
"1 " سبق الكلام على هذا القسم عند الكلام على أصول العبادة في الباب الأول.
الله تعالى"1"، قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] قال ابن عطية المالكي الأندلسي المولود سنة 481هـ في تفسيره في تفسير هذه الآية: " يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ".
ومن الخوف الشركي: أن يخاف من مخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، كأن يخاف من مخلوق أن يصيبه بمرض بمشيئته وقدرته"2".
"1" ومن هذا النوع: ما ذكره الله تعالى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود: 54، 55] .
ومنه: ما رواه ابن إسحاق - كما في السيرة لابن هشام 4/573،574، ومن طريقه الإمام أحمد "2382"، والدارمي "658"، وأبو داود "487"، والحاكم 3/54،55 عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه قال لقومه لما جاءهم مسلماً: بئست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام - أي اسكت - اتق البرص واتق الجنون واتق الجذام. قال: ويلكم، إنهما لاتضران ولاتنفعان.. إلخ. وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه أيضاً أحمد شاكر في تعليقه على المسند، وحسنه الألباني في تعليقه على فقه السيرة ص424.
"2 " فإن صحب هذا الخوف تعظيم فهو شرك في الألوهية كما سبق، وإن لم يصحبه تعظيم فهو شرك في الربوبية.
4-
الخوف الذي يحمل على ترك واجب أو فعل محرم، وهو خوف محرم"1"، كمن يخاف من إنسان حي أن يضره في ماله أو في بدنه، وهذا الخوف وهمي لا حقيقة له، وقد يكون هناك خوف فعلاً ولكنه يسير لا يجوز معه ترك الواجب أو فعل المحرم"2". قال الله تعالى:
"1 " ينظر في أنواع الخوف تيسير العزيز الحميد ص 24، وينظر باب {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} في تيسير العزيز الحميد، وفتح المجيد، وإبطال التنديد، والقول السديد، والقول المفيد، الإرشاد للفوزان ص53-60.
"2 " وهذا حال كثير من ضعفاء الإيمان تجده يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً من سباب العاصي أو من أذى يسير يحصل له منه، أو يفعل بعض المحرمات خوفاً من ظالم، وقد يكون هذا الخوف وهمي لا حقيقة له، وقد يكون هناك خوف حقيقة ولكنه يسير لا يجوز ترك الواجب أو فعل المحرم من أجله، فقد نص أهل العلم في مسائل الإكراه ومسائل الخوف أن الضرر الذي يجوز ترك الواجب أو فعل المحرم من أجله هو الضرر الكبير كالقتل أو قطع عضو أو إتلاف مال كثير أو سجن طويل أو ضرب مؤلم، أما الضرر اليسير كإتلاف لجزء يسير من ماله أو سباب أو شتام لا ضرر كبير يلحقه بسببه، فهذا لا يجوز فعل المحرم أو ترك الواجب بسببه، بل يجب على المسلم تحمله، وكذلك يشترط أن يغلب على الظن وقوع ما خافه إن لم يترك هذا الواجب أو إن لم يفعل هذا المحرم. ينظر الإحياء كتاب الأمر بالمعروف 2/347-351 فقد فصل في هذه المسألة، الآداب الشرعية: الأمر بالمعروف 1/155-157، تنبيه الغافلين لابن النحاس الباب الثاني ص107، المغني والشرح الكبير وروضة الطالبين باب التيمم وباب الطلاق، الكنز الأكبر الباب الثاني 1/190-215، تفسير ابن عطية تفسير الآية79 من المائدة، أدب الدنيا والدين "الأمر بالمعروف"، ص102،=
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يمنعنَّ أحدَكم مخافةُ الناس أن يتكلم بالحق إذا رآه أو علمه ""1".
ج - الشرك في المحبة:
المحبة في أصلها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1-
محبة واجبة: وهي محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم "2"، ومحبة ما يحبه
= غذاء الألباب " الأمر بالمعروف "، نصاب الاحتساب الباب 47، إغاثة اللهفان 1/118، رفع الحرج في الشريعة الإسلامية " الإكراه "، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة " التكليف " ص356،357، وينظر الأمر بالمعروف لابن أبي الدنيا رقم "9،14،39"، والأمر بالمعروف لعبد الغني المقدسي رقم "28، 30، 49، 50، 53".
"1" رواه الطيالسي "2151"، وأحمد 3/5،47،84، وابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف "9،15" وغيرهم من طرق صحيحه عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا. ً وإسناده صحيح، وفي آخره قال أبو سعيد:"وددت أني لم أسمعه". وقد صححه الألباني في الصحيحة "168".
"2" قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد باب "ومن الناس من يتخذ
…
" ص562 عند شرحه للحديث الذي رواه البخاري "15" ومسلم "44" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " قال رحمه الله: "وفيه أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة تابعة لمحبة الله لازمة لها، فإنها محبة لله=
الله تعالى من العبادات وغيرها"1".
2-
محبة طبيعية مباحة: كمحبة الوالد لولده، والإنسان لصديقه، ولماله ونحو ذلك"2".
ويشترط في هذه المحبة أن لا يصحبها ذل ولا خضوع ولا تعظيم، فإن صحبها ذلك فهي من القسم الثالث، ويشترط أيضاً أن لاتصل إلى
=ولأجله، وهذه المحبة ليس فيها شيء من شوائب الشرك، كالاعتماد عليه صلى الله عليه وسلم ورجائه في حصول مرغوب منه أو دفع مرهوب، وما كان فيها ذلك فمحبة مع الله، لما فيها من التعلق على غيره والرغبة إليه من دون الله".
"1" سبق الكلام على هذه المحبة عند الكلام على أصول العبادة في الباب الأول، وينظر الجواب الكافي ص274.
"2" وقد ذكر الحافظ ابن القيم في طريق الهجرتين ص 382،383 أن هذه المحبة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1-
محبة طبيعية مشتركة: كمحبة الجائع للطعام.
2-
محبة رحمة وإشفاق: كمحبة الوالد لولده
3-
محبة أنس وإلف: وهي محبة المشتركين في صناعة أو مرافقة أو غيرها. ثم قال: "فهذه الأنواع الثلاتة هي المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله سبحانه ". وينظر الجواب الكافي ص27، وإكمال المعلم 1/283، وتيسير العزيز الحميد باب "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً"، والدرر السنية 2/ 321،322، والإرشاد للفوزان ص60.
درجة محبته لله ومحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ساوتها أو زادت عليها فهي محبة محرمه"1"، لقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]"2".
"1" لكنها لاتصل إلى حد الشرك الأكبر، لأن المحبة إذا لم يكن معها خضوع لم تكن عبادة، ويتصور ذلك فيما إذا كانت محبة الله في قلب العبد ليست قوية، وكان يحب ماله أو أهله أو غيرهما محبة قوية، لكنها لم تصل إلى حد الإفراط، فهذه محبة محرمة؛ لأنه أحب المخلوق أكثر من محبة الله، ولكنها ليست شركاً؛ لأنه لم يصحبها خضوع. ينظر العبودية "مجموع الفتاوى 10/153"، التحفة العراقية "مجموع الفتاوى 10/19،56"، قاعدة في المحبة ص 98، الكلام على حقيقة الإسلام "مجموع الفتاوى 7/271"، الدرر السنية 2/291، الإرشاد للفوزان:" توحيد الألوهية " ص20،21 و "الشرك في المحبة " ص60،62، وينظر الجواب الكافي ص275، وينظر أكثر مراجع المحبة الشركية فيما يأتي.
"2" قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية 8/95: "في الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب"، وينظر الشفا لعياض الباب الثاني 2/32-35، المفهم 1/183،184، رسالة الكلام على حقيقة الإسلام "مجموع الفتاوى 7/15،74"، الرسالة التبوكية لابن القيم ص38، فتح الباري لابن حجر، وفتح الباري لابن رجب كتاب الإيمان باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم، استنشاق نسيم الأنس لابن رجب الباب الأول=
3 -
محبة شركية، وهي أن يحب مخلوقاً محبة مقترنة بالخضوع والتعظيم، وهذه هي محبة العبودية، التي لا يجوز صرفها لغير الله، فمن صرفها لغيره فقد وقع في الشرك الأكبر"1"، قال الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] .
=ص 28-35، الإرشاد للفوزان "الشرك في المحبة" ص60،61.
"1" قاعدة في المحبة ص 67-107 الجواب الكافي ص 195و263-275، طريق الهجرتين ص383، جلاء الأفهام فصل تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بمحمد ص93، والباب الخامس ص 249، تفسير ابن كثير - تفسير الآية 165 من سورة البقرة، تجريد التوحيد ص80،81، تيسير العزيز الحميد باب "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً"، الدرر السنية 2/291، الإرشاد للفوزان ص60،61. وينظر الدين الخالص 1/69،219.
وقال الحافظ ابن القيم في الجواب الكافي ص300،301 عند كلامه على العشق: "وهو أقسام: تارة يكون كفراً، كمن اتخذ معشوقه نداً يحبه كما يحب الله، فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه؟ فهذا عشق لا يغفره الله لصاحبه، فإنه من أعظم الشرك، وعلامة هذا العشق الشركي الكفري أن يقدم العاشق رضاء معشوقه على رضاء ربه، وكثير من العشاق يصرح بأنه لم يبق في قلبه موضع لغير معشوقه البتة، بل قد ملك معشوقه عليه قلبه كله، فصار عبداً مخلصاً من كل وجه لمعشوقه، فقد رضي هذا من عبودية الخالق جل جلاله بعبوديته لمخلوق مثله، فإن العبودية هي كمال الحب والخضوع، وهذا قد استغرق قوة حبه=
د- الشرك في الرجاء: وهو أن يرجو من مخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله، كمن يرجو من مخلوق أن يرزقه ولداً، أو يرجو منه أن يشفيه بإرادته وقدرته، فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة"1".
هـ- الشرك في الصلاة والسجود والركوع:
فمن صلى أو سجد أو ركع أو انحنى لمخلوق محبة وخضوعاً له وتقرباً إليه"2"، فقد وقع في الشرك الأكبر بإجماع أهل العلم"3"، قال الله
=وخضوعه وذلة لمعشوقه، فقد أعطاه حقيقة العبودية". وينظر التحفة العراقية "مجموع الفتاوى 10/68-71".
قلت: وقد يقع في هذا الشرك من يحب مغنياً أو لاعباً محبة مفرطة تجعله يعظمه، فيحمله ذلك على الخضوع لذلك المحبوب بسبب تعظيمه له.
"1" تيسير العزيز الحميد ص 24.
"2" ومن ذلك السجود أمام المشايخ بوضع الرأس على الأرض أو تقبيل الأرض أمامهم، تعظيماً لهم وتقرباً إليهم. ينظر زاد المعاد: الطب: حلق الرأس 4/158-160.
"3" حكى هذا الإجماع في السجود القاضي عياض المالكي في آخر كتاب: "الشفاء" 2/521، 528، والحافظ ابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص 215، وذكره ابن حجر الهيتمي المكي الشافعي في كتابه الإعلام بقواطع الإسلام ص20 نقلاً عن كتاب المواقف وشرحه، وينظر التمهيد 5/45، والاستغاثة 1/356، و2/629، ومجموع الفتاوى 27/92، والجواب الكافي ص 196،199، وسيف الله لصنع الله الحنفي ص69، والدين الخالص 1/94، ورسالة التوحيد للدهلوي ص53،=
تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]، وقال سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162،163] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما سجد له: " لا تفعل، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ""1"،
=54، وينظر أيضاً رسالة "النواقض العملية" ففيها نقول كثيرة عن كثير من العلماء من جميع المذاهب في أن الصلاة والسجود والركوع والانحناء تقرباً إلى المخلوق شرك أكبر مخرج من الملة. وذكر البركوي الحنفي في إيقاظ النائمين ص 79 أن الصلاة لغير الله حرام بالاتفاق.
هذا وإذا كان السجود ليس من باب العبادة، وإنما من باب التحية فهو حرام في ملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكبيرة من كبائر الذنوب، لعموم النصوص الواردة في النهي عن السجود للمخلوق، ومثله الركوع والانحناء إذا كان من باب التحية فهو محرم أيضاً، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ فقال صلى الله عليه وسلم:" لا " رواه الإمام أحمد 3/198، والترمذي "2728" وحسنه، وابن ماجه "3702". وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة "160".
وينظر الشفا لعياض 2/521، مجموع الفتاوى 1/377، تفسير ابن كثير - تفسير آية 100 من سورة يوسف - غاية المنتهى 3/337، كشاف القناع 6/137، الزواجر "167"، أبجد العلوم 1/127.
"1" رواه الإمام أحمد 4/381، وابن ماجه "1853"، وابن حبان في صحيحه "4171" من حديث ابن أبي أوفى. وإسناده حسن، رجاله رجال مسلم، وقال الألباني في=
وقال صلى الله عليه وسلم: " ما ينبغي لأحدٍ أن يسجد لأحد ""1"، ولأنه قد صرف شيئاً من العبادة لغير الله عز وجل.
وصرف العبادة لغيره شرك بإجماع أهل العلم"2".
و الشرك في الذبح:
الذبح في أصله ينقسم إلى أربعة أقسام:
1-
ذبح الحيوان المأكول اللحم تقرباً إلى الله تعالى وتعظيماً له، كالأضحية، وهدي التمتع والقران في الحج، والذبح للتصدق باللحم على الفقراء ونحو ذلك، فهذا مشروع، وهو عبادة من العبادات.
2-
ذبح الحيوان المأكول لضيف، أو من أجل وليمة عرس ونحو ذلك، فهذا مأمور به إما وجوباً وإما استحباباً.
3-
ذبح الحيوان الذي يؤكل لحمه من أجل الاتجار ببيع لحمه، أو لأكله، أو فرحاً عند سكنى بيت ونحو ذلك، فهذا الأصل أنه مباح،
الصحيحة "1203": "إسناده صحيح على شرط مسلم"، وله شواهد كثيرة، منها الحديث الآتي بعده.
"1" رواه ابن حبان في صحيحه "4162" وغيره من حديث أبي هريرة. وإسناده حسن، وحسنه الألباني في الإرواء "1998" وذكر له خمسة شواهد.
"2" ينظر تيسير العزيز الحميد باب من الشرك أن يستغيث بغير الله ص 192.
وقد يكون مطلوباً فعله، أو منهياً عنه حسبما يكون وسيلة إليه"1".
4-
الذبح تقرباً إلى مخلوق وتعظيماً له وخضوعاً له، فهذا عبادة -كما سبق- ولا يجوز التقرب به إلى غير الله"2"، فمن ذبح تقرباً إلى مخلوق وتعظيماً له فقد وقع في الشرك الأكبر وذبيحته محرمة لا يجوز أكلها، سواء أكان هذا المخلوق من الإنس أم من الجن أم من الملائكة أم كان قبراً، أم غيره، وقد حكى نظام الدين الشافعي النيسابوري
"1 " ويدخل في المنهي عنه ما كان فيه إسراف، وما ذبح على غير الطريقة الشرعية.
"2" ينظر الأشباه والنظائر للسيوطي المبحث الثالث فيما شرعت النية لأجله ص 12، شرح مسلم للنووي 13/141، الأشباه والنظائر لابن نجيم: قاعدة الأمور بمقاصدها ص 29، حاشية ابن عابدين: كتاب الذبائح 5/196،197، شرح الأصول الستة للشيخ ابن عثيمين ص 27،28، وينظر في أنواع الذبائح المباحة الفتح: الأطعمة باب حق إجابة الوليمة، والروض مع حاشية لابن قاسم: النكاح باب الوليمة. وقال ابن نجيم الحنفي في الموضع السابق: " اعلم أن المدار على القصد عند ابتداء الذبح.. ويظهر ذلك أيضاً فيما لو ضافه أمير فذبح عند قدومه، فإن قصد التعظيم لا تحل وإن أضافه بها، وإن قصد الإكرام تحل وإن أطعمه غيرها ". وقال الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد باب ما جاء في الذبح لغير الله: " لو قدم السلطان إلى بلد فذبحنا له، فإن كان تقرباً وتعظيماً فإنه شرك أكبر، وتحرم هذه الذبائح، وعلامة ذلك أننا نذبحها في وجهه ثم ندعها. أما لو ذبحناها إكراماً له وضيافة، وطبخت وأكلت، فهذا من باب الإكرام، وليس بشرك ".
المتوفى سنة 406هـ إجماع العلماء على ذلك"1".
"1" فقد حكى في تفسيره في تفسير الآية 173 من البقرة 2/120 إجماع أهل العلم على أن ذبيحة المسلم التي قصد بها التقرب إلى غير الله ذبيحة مرتد وعلى أن المسلم قد صار بهذا الذبح مرتداً، وينظر الدين الخالص 2/61، وذكر في فتح المجيد باب ماجاء في الذبح لغير الله 1/270 أنه لا اختلاف بين العلماء في ذلك.
وذكر الإمام النووي الشافعي في شرح مسلم 13/141 أن من ذبح لغير الله فعله محرم. ثم قال: "نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً".
وقال علامة اليمن الإمام محمد بن علي الشوكاني في الدر النضيد ص75: "النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم، كما أن النحر للنسك وإخراج صدقة المال والخضوع والاستكانة عبادة لله عز وجل بلا خلاف". وقال الإمام الشوكاني أيضاً في رسالة "شرح الصدور بتحريم رفع القبور"ص34،35:"ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمى بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام ويلقيه على رأسه من أعلى مكان الدين: أن كثيراً منهم يأتي بأحسن ما يملكه من الأنعام وأجود ما يحوزه من المواشي فينحره عند ذلك القبر، متقرباً به إليه، راجياً ما يضمر حصوله منه، فيهلّ به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأوثان، إذ أنه لا فرق بين النحائر لأحجار منصوبة يسمونها وثناً، وبين قبر لميت يسمونه قبراً، ومجرد الاختلاف في التسمية لا يغني من الحق شيئاً ولا يؤثر تحليلاً ولا تحريماً، ولاشك أن النحر نوع من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها، كالهدايا
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام 162،163]"1"، وقال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر2]، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله من ذبح لغير الله ". رواه مسلم"2".
ز - الشرك في النذر والزكاة والصدقة:
النذر هو: إلزام مكلف مختار نفسه عبادة لله تعالى غير واجبة عليه
=والفدية والضحايا، فالمتقرب بها إلى القبر والناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته واستجلاب الخير منه واستدفاع الشر به، وهذه عبادة لاشك فيها، وكفاك من شر سماعه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" لا عقر في الإسلام " قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر- يعني بقراً أو شياهاً. رواه أبو داود بإسناد صحيح". انتهى كلامه رحمه الله، وينظر التوحيد لعلامة الهند إسماعيل الدهلوي ص 57-61، والشرك ومظاهره لعلامة الجزائر الشيخ مبارك الميلي ص247-272.
"1" النسك هو الذبح. وقوله "ومحياي ومماتي" أي إن جميع أعمالي لله تعالى، وهو المتصرف فيَّ في حياتي وبعد مماتي. ينظر تفسير البغوي وتفسير ابن كثير وتفسير الشوكاني وتفسير السعدي لهذه الآية، وسيف الله لصنع الله الحنفي ص69، وتيسير العزيز الحميد وفتح المجيد والقول المفيد باب ما جاء في الذبح لغير الله.
"2" صحيح مسلم كتاب الأضاحي باب تحريم الذبح لغير الله "1978".
بأصل الشرع"1".
كأن يقول: لله علي نذر أن أفعل كذا، أو لله علي أن أصلي أو أصوم كذا، أو أتصدق بكذا، أو ما أشبه ذلك.
والنذر عبادة من العبادات، لا يجوز أن يصرف لغير الله تعالى، فمن نذر لمخلوق كأن يقول: لفلان علي نذر أن أصوم يوماً، أو لقبر فلان علي أن أتصدق بكذا، أو إن شفي مريضي أو جاء غائبي للشيخ فلان علي أن أتصدق بكذا، أو لقبره علي أن أتصدق بكذا، فقد أجمع أهل العلم على أن نذره محرم وباطل"2"، وعلى أن من فعل ذلك قد أشرك
"1" التوضيح عن توحيد الخلاق ص280، وينظر المقنع والشرح الكبير والإنصاف باب النذر 28/128. قال في الشرح الكبير:" فيقول: لله عليَّ أن أفعل كذا، وإن قال: علي نذر كذا. لزمه أيضاً، لأنه صرح بلفظ النذر ". وقال في التعريفات ص308 في تعريفه: " إيجاب عين الفعل المباح على نفسه تعظيماً لله تعالى ". وقال في كشاف القناع 6/273: " لا تعتبر له صيغة بحيث لا ينعقد إلا بها، بل ينعقد بكل ما أدى معناه، كالبيع ".
"2" مجموع الفتاوى 1/286، و31/11، 27، و35/354، منهاج السنة 2/440، كشاف القناع 6/276. وينظر الدر المختار للحصكفي الحنفي مع حاشيته لابن عابدين آخر كتاب الصيام 2/128، والبحر الرائق لابن نجيم الحنفي 2/320 نقلاً عن الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي، ونقل حكاية هذا الإجماع أيضا جمع من=
بالله تعالى الشرك الأكبر المخرج من الملة"1"، لأنه صرف عبادة النذر لغير الله، ولأنه يعتقد أن الميت ينفع ويضر من دون الله، وهذا كله شرك"2".
=علماء الحنفية، وكذلك نقل جماعة من الحنفية الإجماع على أنه لا يجوز الوفاء به. ينظر رسالة "جهود علماء الحنفية" ص1550-1552.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عند ذكره لنذر الدهن للقبور لتنوَّر به: " وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين، لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالا للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن فيهم شبهاً من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله. والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} . والذين اجتاز بهم موسى وقومه، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها أو لسدنة الأبداد -وهي الأصنام- التي في الهند والمجاورين عندها". ينظر فتح المجيد ص288،289. وينظر مجموع الفتاوى 11/504، الدين الخالص 1/183، الدرر السنية 1/298-302.
"1" ينظر مجموع الفتاوى 1/286، التوضيح عن توحيد الخلاق ص 282، الدين الخالص 1/183، و2/60، سيف الله لصنع الله الحنفي ص69، السنن والمبتدعات للشقيري المصري ص74-76.
"2" حاشية ابن عابدين آخر كتاب الصيام 2/128.
ومثله إخراج زكاة المال وتقديم الهدايا والصدقات إلى قبر ميت تقرباً إليه، أو تقديمها إلى سدنة القبر"1" تقرباً إلى الميت، أو تقديمها إلى الفقراء الذين يذهبون إلى القبر، وكان يفعل ذلك تقرباً إلى الميت، فهذا كله من الشرك الأكبر أيضاً، لما فيه من عبادة غير الله ومن اعتقاد أن هذا الميت ينفع أو يضر من دون الله، قال الشيخ قاسم الحنفي:"ما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأموات تقرباً إليهم حرام بإجماع المسلمين""2"، فمن زكى أو تصدق تديناً تقرباً إلى غير الله فقد وقع في الشرك الأكبر"3".
ح - الشرك في الصيام والحج:
الصيام والحج من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله بالإجماع، فمن تعبَّد بها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر، وذلك كمن يصوم
"1" من المعلوم أن وضع سدنة للقبر يأخذون الهدايا والصدقات من البدع المحرمة، ومن الأسباب التي تؤدي إلى وقوع الجهلة في الشرك الأكبر، وينظر كلام شيخ الإسلام الذي سبق نقله قريباً، وسيأتي الكلام على هذه المسألة بشيء من التوسع عند الكلام على وسائل الشرك - إن شاء الله تعالى-.
"2" البحر الرائق 2/320، نقلاً عن الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي. وقد سبق قريبا نقل كلام الإمام الشوكاني في أن إخراج صدقة المال عبادة بلا خلاف.
"3" مجموع الفتاوى 1/75.
أو يحج إلى الكعبة تقرباً إلى ولي أو ميت أو غيرهما من المخلوقين، وكمن يحج إلى قبر تقرباً إلى صاحبه فهذا كله من الشرك الأكبر المخرج من الملة، سواء أفعله العبد أم اعتقد جوازه"1".
ط- الشرك في الطواف:
الطواف عبادة بدنية لا يجوز أن تصرف إلا لله تعالى، ولا يجوز أن يطاف إلا بالكعبة المشرفة، وهذا كله مجمع عليه، فمن طاف بقبر نبي أو عبد صالح أو بمنزل معين أو حتى بالكعبة المشرفة تقرباً إلى غير الله تعالى، فقد وقع في الشرك الأكبر بإجماع المسلمين"2".
وهذا بقية العبادات كالتوكُّل"3"، والتبرك، والتعظيم
"1" منهاج السنة 2/440، درء تعارض العقل والنقل 1/227،228، مجموع الفتاوى 1/75،351، الصارم المنكي ص 215، الدين الخالص، 2/58، رسالة التوحيد للدهلوي الفصل الرابع ص 57،58.
"2" مجموع الفتاوى 2/308، الصارم المنكي ص 215، وينظر الجواب الكافي ص 196،199،200 الدين الخالص 2/58،94، رسالة التوحيد للعلامة إسماعيل الدهلوي الهندي الفصل الرابع ص 55، 56.
"3" ينظر في الشرك في هذه العبادة: التحفة العراقية، مجموع الفتاوى 7/79، الفوائد ص 163،208،211، مدارج السالكين "منزلة التوكل" 3/521،522، الجواب الكافي ص 199،200، تيسير العزيز الحميد، فتح المجيد، قرة عيون=
البالغ"1"، والخضوع"2"، وقراءة القرآن، والذكر، والأذان"3" والتوبة والإنابة فهذه كلها عبادات لا يجوز أن تصرف لغير الله، فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر"4"، وسيأتي التفصيل في الشرك في بعض هذه العبادات وذكر بعض العبادات التي لم تذكر هنا عند الكلام على الشرك الأصغر وعند الكلام على الوسائل التي تؤدي إلى الوقوع في الشرك الأكبر - إن شاء الله تعالى -.
النوع الثالث من أنواع الشرك في الألوهية: الشرك في الحكم والطاعة:
ومن صور الشرك في هذا النوع:
1-
أن يعتقد أحد أن حكم غير الله أفضل من حكم الله أو مثله،
=الموحدين، القول المفيد باب "وعلى الله فتوكلوا"، مجموعة التوحيد 1/285، 415، 474، الإرشاد للفوزان ص 64.
"1" مرقاة المفاتيح، باب دفن الميت 2/372.
"2" الخضوع عبادة لله تعالى بلا خلاف كما قال الإمام الشوكاني، وقد سبق نقل كلامه في الشرك في النذر.
"3" حكى العيني في عمدة القاري شرح الحديث الأول 1/31: أن هذه الأقوال كلها عبادات بلا خلاف. وينظر الجواب الكافي ص 199.
"4" ينظر في الشرك في هذه العبادات: مجموع الفتاوى 1/71،291،351، مدارج السالكين 1/374، زاد المعاد: الطب " حلق الرأس " 4/158-162، الجواب الكافي ص 196،197،200، تجريد التوحيد ص31، 38، 45، تيسير العزيز الحميد ص 24-26، الدرر السنية 2/318، جهود علماء الحنفية ص 1575 وغيرها.
فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، لأنه مكذب للقرآن، فهو مكذب لقوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} [المائدة: 50]، ولقوله تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] وهذا استفهام تقريري، أي أن الله تعالى أحكم الحاكمين، فليس حكم أحد غيره أحسن من حكمه ولا مثله.
2-
أن يعتقد أحد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، فهذا شرك أكبر، لأنه اعتقد خلاف ما دلت عليه النصوص القطعية من الكتاب والسنة، وخلاف ما دل عليه الإجماع القطعي من المسلمين من تحريم الحكم بغير ما أنزل الله"1".
"1" ينظر تفسير الآيات "60-65" من سورة النساء، وتفسير الآيات "44-50" من سورة المائدة، وتفسير الآيتين "31، 37" من سورة التوبة في تفاسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير والشوكاني وابن سعدي والشنقيطي، التمهيد 4/226، مجموع الفتاوى 1/97، 98، و3/267، و7/67-72، و35/373، وشرح الطحاوية
ص 446، والدين الخالص 2/66، 67، وتيسير العزيز الحميد، وفتح المجيد، والقول المفيد باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم، والباب بعده، ورسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة السابق المطبوعة ضمن فتاويه 12/284-291، ورسالة فتنة التكفير للألباني، وتقديم شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله لها، وتعليق شيخنا محمد بن عثيمين عليها، ورسالة تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن "مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/136-173"،=
3-
أن يضع تشريعاً أو قانوناً مخالفاً لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويحكم به"1"، معتقداً جواز الحكم بهذا القانون، أو معتقداً أن هذا القانون خير من حكم الله أو مثله"2"، فهذا شرك مخرج من الملة.
=ورسالة النواقض القولية والعملية ص312-343، ورسالة النواقض الاعتقادية الفصل الأخير 2/222-232، ورسالة الحكم بغير ما أنزل الله للدكتور عبد الرحمن المحمود، ورسالة الغلو ص 289-300.
"1" أما لو حكم بغير الشرع في قضية واحدة وشبهها لشهوة أو رشوة أو نحوهما، فهذا من الشرك الأصغر. تنظر أكثر المراجع السابقة.
"2" وهذا هو ظاهر حال أغلب الذين يضعون هذه القوانين ويحكمون بها، ومثلهم الذين يحكمون بعادات "سلوم" قبائلهم. ينظر تعليق الشيخ ابن عثيمين على رسالة فتنة التكفير ص 35. أما من وضع هذا القانون مكرها أو تحت ضغط من غيره، مع اعتقاده حرمة الحكم به وأن حكم الله تعالى أفضل منه، فقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يكفر، قال الشيخ ابن عثيمين في الموضع السابق عند كلامه على هذه المسألة: " قد يكون الذي يحمله على ذلك أي على وضع قانون والحكم به خوفاً من أناس آخرين أقوى منه إذا لم يطبقه، فيكون مداهناً لهم، فحينئذ نقول: إن هذا كالمداهن في بقية المعاصي "، ولبعض العلماء خلاف في هذه المسألة، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن مجرد تحكيم قانون أو نظام عام مخالف لشرع الله تعالى كفرٌ مخرجٌ من الملة ولو لم يصحبه اعتقاد أن هذا القانون أفضل من شرع الله أو مثله أو يجوز الحكم به، وقد استدل أصحاب هذا القول بعموم آية المائدة الآتية، رقم "44" ينظر في هذا القول أكثر المراجع السابقة، وقد استدل أصحاب القول الأول بما روى ابن جرير في تفسير هذه الآية، ومحمد بن نصر "571"، وابن بطة "1005" =
......................................................................................
=بإسناد صحيح، رجاله رجال الصحيحين عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: «هي به كفر، وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله» ، وروى سعيد بن منصور في سننه "749"، وابن جرير، وابن أبي حاتم في تفسير الآية "44" من المائدة، والحاكم 2/313 وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} : ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة. وسنده حسن، رجاله رجال الصحيحين. ويؤيد هذه الرواية المفصلة الرواية الثالثة عن ابن عباس عند ابن أبي حاتم "6426"، أما رواية عبد الرزاق في تفسيره عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس بلفظ: هي كفر. قال ابن طاووس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. فإنها تؤيد الروايات السابقة، بدليل فهم راويها ابن طاووس كما سبق، وقد أخرجها ابن جرير وابن نصر "570" وغيرهما من طريق عبد الرزاق بلفظ:«هي به كفر» ، فهي مختصرة من الرواية الأولى، وعلى فرض أنها تعارضها فإن الرواية الأولى أقوى إسناداً فتقدم عليها. فقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما وهو ترجمان القرآن ومن أئمة العربية بأن الكفر المذكور في الآية المراد به الكفر الأصغر، مع أن كلا من " من " و" ما " في الآية من صيغ العموم، فتشمل " من " كل حاكم بغير الشرع، وتشمل " ما " كل نظام أو قانون يحكم به، وقد رجَّح شيخاي الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ ابن عثيمين رحمها الله القولَ الأول، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يكون كفراً مخرجاً من الملة مطلقاً حتى يصحبه اعتقاد جواز الحكم به، أو أنه أفضل من حكم الله أو مثله، أو أي مكفِّر آخر. وقد أطال الحافظ ابن القيم في كتاب الصلاة: فصل كفر الاعتقاد وكفر العمل،=
4-
من يحكم بعادات آبائه وأجداده أو عادات قبيلته - وهي ما تسمى عند بعضهم ب: السُّلُوم - وهو يعلم أنها مخالفة لحكم الله، معتقداً أنها أفضل من حكم الله أو مثله أو أنه يجوز الحكم بها، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة.
5-
أن يطيع من يحكم بغير شرع الله عن رضى، مقدماً لقولهم على شرع الله، ساخطاً لحكم الله، أو معتقداً جواز الحكم بغيره، أو معتقداً أن هذا الحكم أو القانون أفضل من حكم الله أو مثله"1".
=ص55-59 في التفريق بين كفر الاعتقاد وبين كفر العمل، وذكر أن الحكم بغير ما أنزل الله من كفر العمل، ونقل عن السلف نصوصاً صريحة في ذلك، وذكر أن هذا الكفر لا يخرج من الملة، ثم قال: «وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين
…
» . والله أعلم.
"1" أما من تابع من يحكم بغير الشرع مع أنه كان راضياً بحكم الله معتقداً أنه أفضل وأصلح للعباد ولكن تابع هؤلاء لهوى في نفسه، كأن يريد وظيفة ونحو ذلك فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يكفر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/70 عند كلامه على هذه المسألة:" أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أصحاب الذنوب "، وقال الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد 2/158: " إننا لو =
ومثل هؤلاء من يتبع أو يتحاكم إلى الأعراف القبلية - التي تسمى: السُّلوم - المخالفة لحكم الله تعالى، مع علمه بمخالفتها للشرع، معتقداً جواز الحكم بها، أو أنها أفضل من الشرع أو مثله، فهذا كله شرك أكبر مخرج من الملة"1".
والدليل على أن هذا كله شرك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]"2"، وقوله تعالى:
=قلنا بكفرهم لزم من ذلك تكفير كل صاحب معصية يعرف أنه عاص لله ويعلم أنه حكم الله ".
"1" وألحق بهم بعض العلماء من يقلد العلماء أو المذاهب الفقهية ويترك الدليل لقول مقلده، فيقدم قول مقلده عليه تعصُّباً له. ينظر فتح المجيد آخر باب من أطاع العلماء....، والدين الخالص 2/66، وينظر تفسير الآية "31" من التوبة في تفسير الشوكاني.
"2" روى الإمام أحمد "18525"، ومسلم "1700" عن البراء بن عازب أن هذه الآية نزلت في شأن اليهود، وقال البراء أيضاً في آخر هذه الرواية بعد ذكر هذه الآية والآيات بعدها قال:«هذه في الكفار كلها» ، وذكر الحافظ ابن جرير الخلاف في المراد بالكفر في هذه الآية، فذكر فيها خمسة أقوال: 1- أنه عُني به اليهود. 2- أنه عني به المسلمون أي من لم يحكم منهم بما أنزل الله. 3- أنه كفر دون كفر. 4- أنها نزلت في أهل الكتاب ومراد بها جميع الناس. 5- أن الكفر لمن لم يحكم بالشرع جاحداً به، والظلم والفسق للمقر به، وذكر آثاراً كثيرة في هذه الأقوال، ثم رجح القول الأول.
...................................................................................
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: "قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لَمْ يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقداً ذلك ومستحلاً له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار، وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر، فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول» . وقال ابن العربي في تفسير هذه الآية أيضاً بعد ذكره للخلاف في هذه المسألة: «وهذا يختلف: إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوىً ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين"، وما ذكره ابن العربي من كفر من بدل الشرع مجمع عليه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 3/267، وعليه يحمل ما ذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 15/163 عند كلامه على حكم جنكز خان بالياسق من الإجماع على كفر من حكم به، بدليل أن الحافظ ابن كثير رحمه الله قرنه بالحكم بالشرائع السابقة التي أكثرها مبدل، ويؤيد هذا أن جنكز وابنه كانا يدعيان أنهما نائبان عن رب السماء كما في البداية والنهاية 1/162، ولا يصح حمل كلامه رحمه الله على حكاية الإجماع على كفر من لم يحكم بجميع ما أنزل الله مطلقاً،، فإن كلامَ كثير من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم يدل على وجود الخلاف في هذه المسألة، والقرطبي إنما ذكر في كلامه السابق هذا القول كأحد الأقوال في تفسير آية المائدة التي هي عمدة من قال بكفره، فهذه المسألة بلا شك مسألة خلافية، ولهذا
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وروي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} فقلت: إنا لسنا نعبدهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أليس يحرِّمون ما أحلَّ اللهُ، فتُحرِّمونه، ويُحِلُّون ما حرَّم الله، فتحلُّونه؟ " قال: قلت: بلى. فقال صلى الله عليه وسلم: " فتلك عبادتهم ""1". فذكر في هذا الحديث أن طاعتهم في مخالفة الشرع عبادة لهم، وذكر الله تعالى في آخر الآية أن ذلك شرك، ولأن من كره شرع الله كفر، لقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد: 9]"2".
رجح بعض كبار علماء عصرنا كشيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد بن عثيمين القول الآخر في هذه المسألة كما سبق، والله أعلم.
"1" رواه البخاري في التاريخ الكبير 7/106، والترمذي في التفسير "3095"، وابن جرير في تفسيره "16631-16633"، وابن أبي حاتم في تفسيره "10057". وقد حسَّنه شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 3/67، والشيخ محمد ناصرالدين في صحيح الترمذي "2471". وله شاهد من قول حذيفة عند ابن جرير "16634"، وابن أبي حاتم "10058" ورجاله ثقات، لكن في سنده انقطاع.
"2" ينظر ما يأتي عند الكلام على كفر البغض في الفصل الآتي – إن شاء الله تعالى -.
6-
من يدعو إلى عدم تحكيم شرع الله، وإلى تحكيم القوانين الوضعية محاربةً للإسلام وبغضاً له، كالذين يدعون إلى سفور المرأة واختلاطها بالرجال الأجانب في المدارس والوظائف وإلى التعامل بالربا، وإلى منع تعدد الزوجات، وغير ذلك مما فيه دعوة إلى محاربة شرع الله، فالذي يدعو إلى ذلك مع علمه بأنه يدعو إلى المنكر وإلى محاربة شرع الله ظاهر حاله أنه لم يدع إلى ذلك إلا لما وقع في قلبه من الإعجاب بالكفار وقوانينهم واعتقاده أنها أفضل من شرع الله، ولما وقع في قلبه من كره لدين الإسلام وأحكامه، وهذا كله شرك وكفر مخرج من الملة، ومن كانت هذه حقيقة حاله فقد وقع في الشرك الأكبر، وإن كان يظهر أنه من المسلمين فهو نفاق أيضاً؛ للأدلة التي سبق ذكرها في الفقرة السابقة، بل هنا أولى؛ لأن الدعوة إلى الشيء شر من مجرد اتباعه"1".?
"1" ينظر في جميع الصور السابقة أكثر المراجع المذكورة عند بيان الصورتين الأوليين لهذا النوع، وينظر في الصورة الأخيرة أيضاً ما يأتي عند الكلام على النفاق الأكبر في الفصل الثالث من هذا الباب – إن شاء الله تعالى -.