الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن الغش في البيع
…
الفصل الثالث: ورد في النهي عن الغش في البيع
191 -
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صبرة طعامٍ، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال:"ما هذا يا صاحب الطعام"؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس منّي".
رواه مسلم1 واللفظ له، وأبو داود2، والترمذي3، وابن ماجه4، وأحمد5. كلهم من طرقٍ عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عنه به.
قال الترمذي: "حسنٌ صحيحٌ".
وفي لفظ أبي داود: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يبيع طعاماً فسأله: كيف تبيع، فأخبره. فأوحي إليه: أدخل يدك فيه فأدخل يده فإذا هو مبلول
…
" الحديث.
وجاء الحديث من وجهٍ آخر، فقد رواه مسلم6، وأحمد7 من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه مرفوعاً. ولفظه:"من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا".
1 صحيح مسلم [كتاب الإيمان (1/99) ] .
2 سنن أبي داود [كتاب البيوع (3/731-732) ] .
3 جامع الترمذي [كتاب البيوع (3/606) ] .
4 سنن ابن ماجه [كتاب التجارات (2/749) ] .
5 المسند (2/242) .
6 صحيح مسلم [كتاب الإيمان (1/99) ] .
7 المسند (2/417) .
وقوله: "من غشَّ فليس مني"، قال الطحاوي - بعد أن ذكر جملة من الأحاديث التي فيها أن من فعل كذا فليس منا، ومنها هذا الحديث - قال:"فكانت هذه الأشياء التي نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت منه أو كانت فيه عنه أشياء مذمومة، فكان الله عز وجل قد اختار له صلى الله عليه وسلم الأمور المحمودة، ونفى عنه الأمور المذمومة، فكان من عمل الأمور المحمودة منه، ومن عمل الأمور المذمومة ليس منه، كما حكى الله عز وجل عن نبيه إبراهيم من قوله في ذريته {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1، وكما قال عز وجل مخبراً لعباده قصة داود صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّية} 2 في أمثالٍ لهذا موجودة في الكتاب معناه المعنى الذي ذكرنا، فدلّ أن كل عاملٍ عملاً على شريعة نبيه الذي عليه اتباعه فإنه منه، وأنّ كل عاملٍ عملاً تمنعه منه شريعة نبيه الذي عليه أتباعه ليس منه لخروجه عن ما دعاه إليه وعن ما هو عليه إلى ضدِّ ذلك"3 انتهى.
وقال الخطابي: "معناه: ليس على سيرتنا ومذهبنا. يريد أن من غشَّ أخاه وترك مناصحته، فإنه قد ترك اتباعي والتمسك بسنتي. وقد ذهب بعضهم إلى أنه أراد بذلك نفيه عن دين الإسلام، وليس هذا التأويل بصحيح، وإنما وجهه ما ذكرت لك، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه:(أنا منك وإليك) ، يريد
1 سورة إبراهيم، آية (36) .
2 سورة البقرة، آية (249) .
3 شرح مشكل الآثار (3/379) .
بذلك المتابعة والموافقة، ويشهد لذلك قوله تعالى:{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} " 1 انتهى.
وقال النووي: "تأويل الحديث، قيل: محمول على المستحل بغير تأويل، فيكفر ويخرج من الملة، وقيل: معناه ليس على سيرتنا الكاملة وهدينا. وكان سفيان بن عيينة رحمه الله يكره قول من يفسره بليس على هدينا، ويقول: بئس هذا القول. يعني بل يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر"2 انتهى.
وقول سفيان الذي أشار إليه النووي رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح عن يحيى بن سعيد القطان، قال: كان سفيان يكره هذا التفسير "ليس منا": ليس مثلنا3.
وقد رواه الترمذي4 معلقاً بإسناد أبي داود، إلا أنه ذكر أن سفيان هو الثوري، وليس ابن عيينة.
وقد ورد مثل هذا الإنكار عن ابن مهدي، وأحمد بن حنبل. وقال ابن مهدي:"لو أنّ رجلاً عمل بكل حسنةٍ أكان يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم". وقد ذكر أحمد أن تفسير "ليس منا" بليس مثلنا أنه من كلام المرجئة، الذين يرون أن المعاصي لا تنقص من الإيمان. وليس مراد أحمد الحكم بالكفر على من غش، فإنه سئل
1 معالم السنن (3/732) .
2 شرح صحيح مسلم (2/108) .
3 سنن أبي داود (3/732) .
4 جامع الترمذي (4/284) .
عن هذا الحديث ونحوه فقال: "على التأكيد والتشديد، ولا أكفر أحداً إلا بترك الصلاة"1.
وقد ورد حديث: "من غشنا فليس منا" عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم، إليك تفصيلها:
192 -
(2) عن أبي بردة بن نيار رضي الله عنه قال: انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بقيع المصلَّى، فأدخل يده في طعامٍ ثم أخرجها فإذا هو مغشوش أو مختلف. فقال:"ليس منا من غشنا".
اختلف في هذا الحديث، فرواه أحمد2 باللفظ المذكور، وابن أبي شيبة3، والبزار4، والطبراني في الكبير5، والبخاري - تعليقاً - في التاريخ الكبير6، كلهم من طرقٍ عن شريك عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن جميع بن عمير عنه به.
وعند أحمد أن جميع بن عمير رواه عن خاله أبي بردة بن نيار. وعند البزار أن جميع بن عمير رواه عن عمه يعني أبا بردة.
وتابع قيس بن الربيع شريكاً كما ذكر الطبراني7 والدارقطني8، إلا أنه قال: عن سعيد بن عمير عن عمه أبي بردة9.
1 النقل عن ابن مهدي وأحمد، من السنة للخلال (ص576-579) . وانظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (19/294) .
2 المسند (3/466) ، (4/45) .
3 المصنف (5/383) .
4 مسند البزار - مخطوط - (2/85-ب) .
5 المعجم الكبير (22/198) .
6 التاريخ الكبير (8/227) .
7 المعجم الأوسط (4/293) .
8 العلل (6/24-25) .
9 المرجع السابق.
وخالفهما عمار بن زريق وذلك فيما رواه الحاكم1 بإسناده عن الأحوص بن جواب عنه عن عبد الله بن عيسى عن عمير بن سعيد عن عمه به.
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، وعم عمير بن سعيد هو الحارث بن سويد النخعي"، ووافقه الذهبي.
وفي هذا نظر؛ فإن المحفوظ في حديث عبد الله بن عيسى أنه يرويه عن جميع بن عمير أو سعيد بن عمير عن أبي بردة بن نيار. وقد ذكر البخاري2 ترجمة لعمير بن سعيد عن عمه أبي بردة بن نيار. وخطّأ أبو حاتم البخاري وقال: "إنما هو سعيد بن عمير"3.
وقد بيّن الحافظ المزي4، وابن حجر5 أن أبا بردة بن نيار عم لسعيد بن عمير، وذلك أن سعيد بن عمير اسمه سعيد بن عمير بن نيار، وقيل: ابن عقبة بن نيار، فيكون أبو بردة بن نيار عمٌّ له أو عمٌّ لأبيه، وهو على كلا الحالتين عمٌّ له. وهذا هو الذي يترجح لي، أي أن عبد الله بن عيسى إنما يروي الحديث عن سعيد بن عمير عن أبي بردة ابن نيار. وشريك لم يتابع في قوله جميع بن عمير عن خاله أبي بردة.
وقد خطّأ البيهقي شريكاً في إسنادٍ فيه عن شريك عن وائل بن داود عن جميع ابن عمير عن خاله أبي بردة
…
" الحديث. قال البيهقي: "هكذا
1 المستدرك (2/9) .
2 التاريخ الكبير (6/533) .
3 بيان خطأ الإمام البخاري في تاريخه (ص91) .
4 تهذيب الكمال (11/25) ، (33/71) .
5 الإصابة في تمييز الصحابة (4/19) .
رواه شريك بن عبد الله، وغلط فيه في موضعين، أحدهما: في قوله جميع بن عمير، وإنما هو سعيد بن عمير
…
"1 الخ.
وتقدم الكلام2 في شريك القاضي وأنه صدوق يخطئ كثيراً. وقد توقف الحافظ ابن حجر في هذا الاختلاف بعد أن ذكر أن أبا بردة عم لسعيد بن عمير بخلاف جميع، فقال:"فما أدري أهو واحد اختلف في اسمه أو هما اثنان"3.
ورواه الطبراني في الأوسط4، بإسناده عن يحيى بن عقبة بن أبي العيزار عن عبد الله بن عيسى عن مجمع عن أبي بردة عن أبي موسى به.
قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن عيسى عن مجمع عن أبي بردة عن أبي موسى إلا يحيى بن عقبة".
ويحيى بن عقبة بن أبي العيزار قال فيه أبو حاتم: يفتعل الحديث. وقال ابن معين وأبو داود: ليس بشيء. وقال ابن معين أيضاً: كذاب خبيث، عدو الله كان يسخر به. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي وغيره: ليس بثقة5.
فمما سبق يتبين أن هذا الطريق ضعيف جداً، وقد يكون موضوعاً. وقد ظن هذا الراوي أن أبا بردة في الإسناد هو ابن أبي موسى الأشعري، وأنه يرويه عن أبيه فجعل يقول: عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه والله أعلم.
1 السنن الكبرى (5/263) .
2 تقدم الكلام فيه عند حديث رقم (131) .
3 الإصابة (4/19) .
4 المعجم الأوسط (4/293) .
5 لسان الميزان (6/270) .
فمما سبق من هذا الاختلاف على عبد الله بن عيسى يترجح أنه يرويه عن سعيد ابن عمير عن عمه أبي بردة بن نيار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وسعيد بن عميرٍ هذا هو ابن نيار، وقيل: ابن عقبة بن نيار الأنصاري الحارثي، قال فيه ابن معين: لا أعرفه1. وقال فيه الفسوي: لا بأس به2. وذكره ابن حبان في الثقات3. وجعله ابن حجر في مرتبة: "مقبول"4.
والذي يظهر لي أنه في مرتبة "صدوق".
فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد حسن. وهو بشواهده يرتقي إلى الصحيح لغيره، والله أعلم.
193 -
(3) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا، ومن رمانا بالليل فليس منا".
رواه الطبراني في الكبير5 عن علي بن عبد العزيز، ثنا سعيد بن منصور عن الدراوردي عن ثور بن زيد عن عكرمة عنه به.
ورواه القضاعي6 من طريق شيخ الطبراني، إلا أنه لم يذكر قوله "من غشنا فليس منا"، وكذلك الطحاوي7 من طريق الدراوردي، ولم يذكر هذه الجملة أيضاً. فالظاهر أنهما اختصرا الحديث. والله أعلم.
قال الهيثمي عن إسناد الطبراني: "رجاله رجال الصحيح"8.
1 تاريخ الدارمي عن يحيى بن معين (ص120) .
2 المعرفة والتاريخ (3/101) .
3 الثقات (4/288) .
4 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (2375) .
5 المعجم الكبير (11/221) .
6 مسند الشهاب (1/229) .
7 شرح مشكل الآثار (3/364) .
8 مجمع الزوائد (4/882) .
وقد تقدم الكلام1 في الدراوردي، وأنه صدوق يخطيء، وبقية رجاله ثقات. فعلى هذا فيكون هذا الإسناد حسناً، وبالنظر إلى شواهده يكون صحيحاً لغيره. والله أعلم.
194 -
(4) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعامٍ وقد حسَّنه صاحبه، فأدخل يده فيه، فإذا طعامٌ رديء، فقال:"بع هذا على حدة، وهذا على حدة، من غشنا فليس منّا".
رواه أحمد2 واللفظ له، والبزار3، والطبراني في الأوسط4، كلهم من طرق عن أبي معشر عن نافعٍ عنه به.
قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن نافع إلا أبو معشر".
وأبو معشر، هو نجيح السِّندي المدني، تقدم5 أنه ضعيف، ولا سيما في المقبري ونافع.
فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف. والله أعلم.
إلا أن الحديث قد جاء من وجهٍ آخر، فقد رواه الدارمي6، وابن عدي7، والبخاري في التاريخ الكبير8 - تعليقاً -، كلهم من طرقٍ عن
1 عند حديث رقم (141) .
2 المسند (2/50) .
3 كشف الأستار (2/82) .
4 المعجم الأوسط (3/63-64) .
5 تقدم عند حديث رقم (138) .
6 سنن الدارمي (2/323) .
7 الكامل (7/207-208) .
8 التاريخ الكبير (7/165) .
أبي عقيل يحيى بن المتوكل أخبرني القاسم بن عبيد الله عن سالم عنه به بنحوه. وفيه "لا غشّ بين المسلمين، من غشنا فليس منا".
ويحيى بن المتوكل ضعفه ابن معين، وقال: ليس حديثه بشيء. وقال أيضاً: منكر الحديث، وجاء عنه أنه قال: ليس به بأس. وقال أحمد: واهي الحديث1. وضعفه ابن المديني وأبو حاتم والنسائي2.
وجعله ابن حجر في مرتبة "ضعيف"3. فعلى هذا فهو صالح للاعتبار، وقد توبع كما سبق.
فمما سبق يتبين أن الحديث بهذا الإسناد حسنٌ لغيره. وكذلك يشهد له ما ورد من الأحاديث في النهي عن الغش، وقد سبق ذكرها. والله أعلم.
195 -
(5) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منّا، والمكر والخداع في النار".
رواه ابن حبان4، والطبراني في الكبير5 والصغير6، وأبو نعيم في الحلية7، كلهم من طريق الفضل بن الحباب الجمحي، ثنا عثمان بن الهيثم، ثنا أبي عن عاصم عن زر عنه به.
1 في المطبوع من تهذيب التهذيب وقع نسبة هذا القول إلى الراوي عن أحمد وهو أحمد بن أبي يحيى، وسقط ذكر أحمد بن حنبل، وهو موجود في تهذيب الكمال (21/513) .
2 تهذيب التهذيب (11/271) .
3 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (7633) .
4 الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان (2/326) .
5 المعجم الكبير (10/138) .
6 المعجم الصغير (1/261) .
7 حلية الأولياء (4/189) .
قال أبو نعيم: "غريب من حديث عاصم، تفرد بن عثمان، ولم نكتبه إلا من حديث الفضل بن حباب".
وفي إسناده عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود. قال فيه ابن معين: لا بأس به. وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب وهو ثقة. وقال أبو حاتم: محله الصدق، صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني: في حفظه شيء1. وجعله الحافظ ابن حجر في مرتبة "صدوق له أوهام، حجة في القراءة"2.
وعثمان بن الهيثم هو ابن جهم العبدي أبو عمرو البصري المؤذن، قال فيه أبو حاتم: كان صدوقاً غير أنه بأخرة كان يتلق ما يلقن. وقال الساجي: ذكر عند أحمد بن حنبل فأومى إلى أنه ليس بثبت. وقال الدارقطني: صدوق كثير الخطأ3.
وجعله ابن حجر في مرتبة "ثقة، تغير فصار يتلقَّن"4.
والذي يظهر لي أنه صدوق تغيّر.
ولم يذكر من روى عنه في حال تغيره. إلا أن أبا حاتم ذكر أنه تغير بأخرة.
والرواي عن عثمان بن الهيثم في هذا الحديث وهو الفضل بن الحباب الجمحي البصري، إنما روى عنه بأخرة. وبيان ذلك أن عثمان بن الهيثم توفي سنة عشرين ومائتين5، بينما ولد الفضل بن الحباب سنة ستٍ ومائتين6،
1 تهذيب التهذيب (5/39) .
2 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (3054) .
3 تهذيب التهذيب (7/158) .
4 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (4525) .
5 تاريخ مولد العلماء ووفياتهم (2/488) .
6 سير أعلام النبلاء (14/7) .
فيكون عمره حين وفاة عثمان بن الهيثم أربع عشرة سنة. وقد صرّح الذهبي بأنه سمع في سنة عشرين ومائتين1، وهي السنة التي توفي فيها عثمان بن الهيثم.
فمما تقدم يترجّح أنه سمع منه بعد تغيّره. وقد ذكر الذهبي أن الفضل بن الحباب أبو خليفة الجمحي آخر من حدّث عن عثمان بن الهيثم2.
وأما أبوه وهو الهيثم بن جهم العبدي البصري، فقال فيه أبو حاتم:"لم أرَ في حديثه مكروها"3. ولم أقف على توثيق معتمدٍ فيه بعد البحث في كلام أئمة الجرح والتعديل. وكلام أبي حاتم هذا لا يكفي في توثيقه.
فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف، إلا أنه يرتقي بشواهده إلى الحسن. والله أعلم.
وأما الجملة الثانية من الحديث وهي قوله: "والمكر والخديعة في النار"، فلها شواهد من حديث قيس بن سعد بن عبادة وأنس وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين -.
أما حديث قيس بن سعد رضي الله عنهما:
فرواه ابن عدي4 بإسناده عن جراح بن مليح عن أبي رافع عنه به. ولفظه: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المكر والخديعة في النار" لكنت من أمكر الناس.
1سير أعلام النبلاء (14/7) .
2المرجع السابق.
3 الجرح والتعديل (9/83) .
4 الكامل (2/162) .
والجراح بن مليح البهراني الحمصي، قال فيه ابن معين: شامي ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لا بأس به وبرواياته1.
وجعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق"2.
وأما أبو رافع، فلم أقف على تمييزه، وقد قيل: إنه نفيع بن رافع الصائغ، وهو ثقة ثبت3. والذي يظهر أن ابن حجر اعتمد هذا، فإنه قد حكم على هذا الإسناد بأنه لا بأس به4. والله أعلم.
وأما حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:
فرواه ابن عدي5 أيضاً، والحاكم6، كلاهما من طريق سنان بن سعد الكندي عنه به. ولفظه:"المكر والخديعة والخيانة في النار".
وسنان بن سعد الكندي، ويقال: سعد بن سنان. قال فيه أحمد: لم أكتب أحاديث سنان بن سعد؛ لأنهم اضطربوا فيها، فقال بعضهم: سعد بن سنان، وبعضهم سنان بن سعد. وقال أيضاً: يشبه حديثه حديث الحسن لا يشبه حديث أنس. [وقال أيضاً: روى خمسة عشر حديثاً منكرة كلها ما أعرف منها واحداً] . وقد ساق هذه الأحاديث ابن عدي في الكامل في ترجمته. وقال ابن معين: ثقة. وقال ابن سعد والنسائي: منكر الحديث. وقال ابن حبان: حدث عنه المصريون وأرجو أن يكون الصحيح سنان بن سعد، وقد اعتبرت
1 تهذيب التهذيب (2/68) .
2 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (909) .
3 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (7182) .
4 فتح الباري (4/417) .
5 الكامل (3/357) .
6 المستدرك (4/607) .
حديثه فرأيت ما روي عن سنان بن سعد يشبه أحاديث الثقات، وما روى عن سعد بن سنان وسعيد بن سنان فيه المناكير، كأنهما اثنان1.
وخلص فيه الحافظ الذهبي إلى أنه ليس بحجة2، وهو أولى من قول الحافظ ابن حجر: صدوق له أفراد3.
ويشهد لقول أحمد في كون حديثه يشبه أن يكون عن الحسن أن الحسن جاء عنه هذا المتن سواء مرسلاً، وذلك فيما رواه أبو داود في مراسيله4 عن يونس عن الحسن به مرسلاً. والله أعلم.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
فرواه إسحاق بن راهويه5، وأبو نعيم في أخبار أصبهان6، كلاهما من طريق عطاء الخراساني عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المكر والخديعة في النار"، وزاد أبو نعيم:"الخيانة".
وعطاء الخراساني لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه7، فالإسناد منقطع.
وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه من وجه آخر. فقد رواه البزار8، وابن عدي9، كلاهما من طريق عبيد الله بن أبي حميد الهذلي عن أبي المليح بن أسامة عنه به بلفظ:"المكر والخديعة في النار".
1 تهذيب التهذيب (3/471-472) ، وما بين القوسين من الضعفاء للعقيلي (2/119) .
2 الكاشف (1/278) .
3 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (2238) .
4 المراسيل (ص159) .
5 مسند إسحاق بن راهويه - مسند أبي هريرة - (ص370) .
6 أخبار أصبهان (1/253) .
7 جامع التحصيل (ص291) .
8 كشف الأستار (1/69) .
9 الكامل (4/326) .
وعبيد الله بن أبي حميد الهذلي ضعفه ابن معين ودحيم وأبو داود وغيرهم. وقال أحمد: ترك الناس حديثه. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أيضاً: يروي عن أبي المليح عجائب. وقال أيضاً: ضعيف، ذاهب الحديث، لا أروي عنه شيئاً. وقال الحاكم وأبو نعيم: يروي عن أبي المليح وعطاء مناكير1.
ولذا جعله الحافظ ابن حجر في مرتبة: "متروك الحديث"2.
فهذا الإسناد ضعيف جداً. وقد ضعّفه الحافظ ابن حجر، فقال فيه:"ضعيف"3. والأولى الحكم عليه بالضعف الشديد، وأما الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه فيبقى ضعيفًا. والله أعلم.
هذه هي الطرق التي وقفت عليها في هذا المتن، وهو بمجموعها يرتقي إلى درجة الحسن. والله أعلم.
196 -
(6) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السُّوق فرأى طعامًا مصبَّراً، فأدخل يده فيه، فأخرج طعاماً رطباً قد أصابته السماء. فقال لأصحابه:"ما حملك على هذا"؟ قال: والذي بعثك بالحق إنه لطعامٌ واحد. قال: "أفلا عزلت الرطب على حدة، واليابس على حدة فيبتاعون ما يعرفون، من غشنا فليس منا".
رواه الطبراني في الأوسط4 بإسناده عن إسماعيل بن أبي أويس حدثني سليمان بن بلال عن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة عنه به.
1 تهذيب التهذيب (7/9-10) .
2 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (4285) .
3 تغليق التعليق (3/244) .
4 المعجم الأوسط (4/123) .
قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن أنس بن مالك إلا بهذا الإسناد، تفرد به إسماعيل بن أبي أويس".
وقال الهيثمي عن إسناد هذا الحديث: "رجاله ثقات"1. وفي قوله نظر؛ وذلك أن إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس قال فيه أحمد: لا بأس به. وقال ابن معين: صدوق ضعيف العقل ليس بذاك. وقال فيه وفي أبيه: يسرقان الحديث. وقال أيضاً: مخلط يكذب ليس بشيء. وقال أبو حاتم: محله الصدق وكان مغفلاً. وقال النسائي: ضعيف. وقال مرّة: غير ثقة2.
وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه"3. والذي يظهر لي أنه ضعيف. وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن سبب تخريج البخاري لحديثه في صحيحه4.
وأما إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة فوثقه أبو داود. وقال أبو حاتم: شيخ5. وجعله الحافظ في مرتبة "مقبول"6.
والذي يظهر لي أن أقل أحواله أن يكون صدوقاً.
وفي الإسناد علة خفية وهي الانقطاع، فإن إسماعيل بن إبراهيم لم يرو عن أحدٍ من الصحابة. ولذا جعله الحافظ ابن حجر في الطبقة السادسة في كتابه التقريب7. وقد توفي إسماعيل هذا سنة تسع وستين ومائة8. ومن
1 مجمع الزوائد (4/82) .
2 تهذيب التهذيب (1/310-311) .
3 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (460) .
4 هدي الساري (ص410) .
5 تهذيب التهذيب (1/272) .
6 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (413) .
7 المرجع السابق.
8 تهذيب التهذيب (1/272) .
المعلوم أن أنسًا رضي الله عنه توفي سنة اثنتين وتسعين، وقيل: سنة ثلاثٍ وتسعين1. فبين وفاتيهما أكثر من ستٍ وسبعين سنة. وقد كان أنس رضي الله عنه في البصرة، وإسماعيل هذا مدني. فكل هذا يؤكد عدم سماعه من أنس رضي الله عنه.
فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف، إلا أن له شواهد تؤيده قد سبق ذكرها؛ فيكون بهذا حسناً. والله أعلم.
197 -
(7) عن قيس بن أبي غَرَزة2 رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بصاحب طعامٍ يبيع طعامه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا صاحب الطعام، أسفل الطعام مثل أعلاه؟ فقال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غش المسلمين فليس منهم".
رواه أبو يعلى3 واللفظ له، وابن أبي عاصم4، والطبراني في الكبير5، كلهم من طرق عن عثمان بن أبي شيبة عن معاوية بن ميسرة بن شريح عن الحكم بن عتيبة عنه به.
قال ابن أبي عاصم: "لا أحسب أحداً من أهل الأرض حدث به إلا عثمان".
ومعاوية بن ميسرة بن شريح الكندي، قال فيه أبو حاتم: شيخ6. وذكره ابن حبان في الثقات7.
1 تاريخ مولد العلماء ووفياتهم (1/222،223) .
2 بفتح المعجمة والراء ثم الزاي المنقوطة. الإصابة (3/256) .
3 مسند أبي يعلى (2/233) .
4 الآحاد والمثاني (2/261) .
5 المعجم الكبير (18/359) .
6 الجرح والتعديل (8/386) .
7 الثقات (7/469) .
والحكم بن عتيبة مدلِّس1، ولم يصرّح بالسماع في هذا الحديث. وقال ابن عبد البر في قيس بن أبي غرزة:"روى عنه الحكم ولا أدري سمع منه أم لا"2. وقال ابن حجر: "روايته عنه مرسلة بلا شك"3.
فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف لحال معاوية بن ميسرة، ولانقطاعه، إلا أن له شواهد تؤيده تقدم ذكرها، فيكون بها حسناً. والله أعلم.
198 -
(8) عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بطعامٍ فأدخل يده فيه فقال: "من غشنا فليس منَّا".
رواه الطبراني في الأوسط4 بإسناده عن سوار بن مصعب عن مطرف بن طريف عن أبي الجهم عنه به.
قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن مطرف إلا سوَّار بن مصعب، ولا يروى عن البراء إلا بهذا الإسناد".
وسوار بن مصعب، هو الهمداني، تقدم5 أنه ضعيفٌ جداً.
فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف جداً. والله أعلم.
وقد ذكر البخاري في التاريخ الكبير6 إسناداً آخر لهذا الحديث، وذلك من طريق محمد بن عيسى الوابشي سمع شريكاً عن سعيد بن ميمون عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من غشنا فليس منا".
1 تعريف أهل التقديس (ص58) ، وقد ذكره في المرتبة الثانية من المدلِّسين.
2 الاستيعاب - المطبوع في حاشية الإصابة - (3/238) .
3 تهذيب التهذيب (8/401-402) .
4 المعجم الأوسط (4/281) .
5 تقدم عند حديث رقم (138) .
6 التاريخ الكبير (3/513) .
ومحمد بن عيسى الوابشي، وسعيد بن ميمون كلاهما ذكرهما البخاري1 وابن أبي حاتم2 ولم يذكرا فيهما جرحاً ولا تعديلاً.
وشريك النخعي قد تقدم الكلام فيه3 وأنه صدوق كثير الخطأ.
فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف، ويشهد له الأحاديث الصحيحة في هذا الفصل، فيكون بها حسناً. والله أعلم.
199 -
(9) عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا".
رواه الطبراني في الأوسط4 بإسناده عن قيس بن الربيع عن فضيل بن جرير عن مسلم بن مخراق عنه به.
وقيس بن الربيع هو الأسدي أبو محمد الكوفي، كان شعبة يثني عليه، ووكيع يضعفه. وقال عفان: ثقة. وقال أحمد: روى أحاديث منكرة. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أيضاً: ضعيف لا يكتب حديثه. وقال أيضاً: ضعيف الحديث لا يساوي شيئاً. وضعفه علي بن المديني جداً. وقال ابن نمير: كان له ابن هو آفته، نظر أصحاب الحديث في كتبه فأنكروا حديثه وظنوا أن ابنه قد غيرها. وقال الطيالسي: إنما أُتي قيس من قِبَلِ ابنه، كان ابنه يأخذ حديث الناس فيدخلها في خرج كتاب قيس ولا يعرف الشيخ ذلك. وقال
1 التاريخ الكبير (3/513) ، (1/203) .
2 الجرح والتعديل (4/63) ، (8/37) .
3 تقدم عند حديث رقم (131) .
4 المعجم الأوسط (1/298) .
أبو زرعة: لين. وقال النسائي: متروك. وقال مرة: ليس بثقة1. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه "صدوق تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به"2.
والذي يظهر لي أنه ضعيف. والله أعلم.
إلا أنه قد توبع، فقد رواه البخاري في التاريخ الكبير3 تعليقاً من طريق عبيد الله بن موسى عن أبي عمران الطحان - وهو فضيل بن جرير - به.
وفضيل بن جرير قال فيه أبو حاتم: شيخ4. وذكره ابن حبان في الثقات5.
ومسلم بن مخراق ذكره البخاري6 وابن أبي حاتم7 ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. وذكره ابن حبان في الثقات8. ولذا جعله ابن حجر في مرتبة "مقبول"9.
فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف، إلا أنه يرتقي بشواهده التي سبق ذكرها إلى الحسن. والله أعلم.
1 تهذيب التهذيب (8/392-394) .
2 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (5573) .
3 التاريخ الكبير (7/123) .
4 الجرح والتعديل (7/71) .
5 الثقات (7/316) .
6 التاريخ الكبير (7/272) .
7 الجرح والتعديل (8/194) .
8 الثقات (5/397) .
9 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (6644) .
200 -
(10) عن أبي الحمراء رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بجنبات رجلٍ عنده طعامٌ في وعاء، فأدخل يده فيه، فقال:"لعلك غششت، من غشّ فليس منَّا".
رواه ابن ماجه1 واللفظ له، والترمذي في العلل الكبير2، وابن عدي3، والدولابي4، وأبو أحمد الحاكم5. كلهم من طرق عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي داود عنه به.
وأبو داود هذا هو نفيع بن الحارث الأعمى، كذبه قتادة. وقال ابن معين: يضع، ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أيضاً: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال الدولابي والدارقطني: متروك6. وجعله ابن حجر في مرتبة: "متروك"7.
وقد سأل الترمذي البخاري عن هذا الحديث فقال: "لا يصح لأبي الحمراء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث"8.
وقد تساهل البوصيري في الحكم على هذا الحديث فقال فيه: "ضعيف"9. وحقّه أن يقال فيه ضعيف جداً. والله أعلم.
1 سنن ابن ماجه [كتاب التجارات (2/749) ] .
2 العلل الكبير (1/528) .
3 الكامل (7/61) .
4 الكنى والأسماء (1/25) .
5 الأسامي والكنى (4/198-199) .
6 تهذيب التهذيب (10/471-472) .
7 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (7181) .
8 العلل الكبير (1/528) .
9 مصباح الزجاجة (2/182) .
201 -
(11) عن ضميرة بن أبي ضميرة - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منّا من لم يرحم صغيرنا، ولم يعرف حقَّ كبيرنا، وليس منّا من غشنا، ولا يكون المؤمن مؤمناً حتى يحب للمؤمنين ما يحبُّ لنفسه".
رواه الطبراني في الكبير1 بإسناده عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده ضميرة به.
وحسين بن عبد الله بن ضميرة كذَّبه مالك وأبو حاتم وابن الجارود، وتركه علي وأحمد والدارقطني. وقال أحمد أيضاً: لا يساوي شيئاً. وقال ابن معين: ليس بثقة ولا مأمون. وقال أبو زرعة وأبو داود: ليس بشيء. وزاد أبو زرعة: يضرب على حديثه2.
فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف جداً، وقد يكون موضوعاً. وأما متن الحديث، فإن النهي عن الغش ثابت من أوجهٍ أخرى صحيحة كما سبق.
وأما قوله "ليس منا من لم يرحم صغيرنا
…
" الحديث، فقد ورد عن عبد الله ابن عمرو، وابن عباس، وأنس رضي الله عنهم وغيرهم3. وهو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده. والله أعلم.
1 المعجم الكبير (8/308) .
2 لسان الميزان (2/289) .
3 انظر هذه الأحاديث في نصب الراية (4/26-27) .
202 -
(12) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم، ولا يحلُّ لمسلم باع من أخيه بيعاً فيه عيب إلا بيّنه له".
رواه ابن ماجه1 واللفظ له، وأحمد2، والروياني3، والطبراني في الأوسط4 والكبير5، والحاكم6، ومن طريقه البيهقي7. كلهم من طرق عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عنه به.
ووقع عند الطبراني في الأوسط بدل عبد الرحمن بن شماسة: "أبو الخير"، وهو مخالف لرواية غيره، و "أبو الخير" ليست كنية لعبد الرحمن بن شماسة.
قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن يزيد بن أبي حبيب إلا ابن لهيعة، ولا يروى عن عقبة إلا بهذا الإسناد".
وفيما قاله الطبراني نظر؛ لأن يحيى بن أيوب قد رواه أيضاً عن يزيد بن أبي حبيب كما رواه الطبراني نفسه، وهو أيضاً عند ابن ماجه والروياني والحاكم.
وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
وقال الحافظ ابن حجر فيه: "حديث حسن؛ لمتابعة يحيى بن أيوب لابن لهيعة عليه، وباقي رجاله ثقات"8.
1 سنن ابن ماجه [كتاب التجارات (2/755) ] .
2 المسند (4/158) .
3 مسند الصحابة (1/159) .
4 المعجم الأوسط (1/77) .
5 المعجم الكبير (17/317) .
6 المستدرك (2/8) .
7 السنن الكبرى (5/320) .
8 تغليق التعليق (3/223) . وانظر: فتح الباري (4/364) .
وقد روى البخاري تعليقاً قوله: "لا يحل لمسلم
…
" الحديث، إلا أنه جعله من قول عقبة بن عامر رضي الله عنه1. ولذا قال الحافظ ابن حجر: "كأن القطعة التي علقها البخاري عنده أنها من قول عقبة، وأنها مدرجة في الحديث، لأنني وجدتها في جميع الروايات عنه هكذا موقوفة، والله أعلم"2.
ولم أقف على من رواه مسنداً إلى عقبة بن عامر رضي الله عنه موقوفاً عليه. وقد سبق أنه رواه مرفوعاً ابن لهيعة ويحيى بن أيوب. فيكون الحديث المرفوع حسناً كما قال الحافظ ابن حجر - فيما سبق -، والله أعلم.
203 -
(13) عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من باع عيباً لم يبينه لم يزل في مقت الله، ولم تزل الملائكة تلعنه".
رواه ابن ماجه3 بإسناده عن بقية بن الوليد عن معاوية بن يحيى عن مكحول وسليمان بن موسى عنه به.
وبقية بن الوليد قال فيه ابن المبارك: كان صدوقاً، ولكنه كان يكتب عمَّن أقبل وأدبر. وقال أبو زرعة: بقية عجب إذا روى عن الثقات فهو ثقة. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: إذا قال: حدثنا وأخبرنا، فهو ثقة، وإذا قال: عن فلان فلا يؤخذ عنه؛ لأنه لا يدري عمّن أخذه. ووصفه بالتدليس ابن حبان أيضاً4. ولذا قال الحافظ ابن حجر:
1 صحيح البخاري - مع الفتح - (4/362) .
2 تغليق التعليق (3/223) .
3 سنن ابن ماجه [كتاب التجارات (2/755) ] .
4 تهذيب التهذيب (1/474-476) .
"صدوق كثير التدليس عن الضعفاء"1. وذكره في المرتبة الرابعة من مراتب المدلسين2.
ولم يصرِّح في الحديث بالسماع.
ومعاوية بن يحيى هو الصدفي أبو روح الدمشقي، قال فيه ابن معين: هالك، ليس بشيء. وقال أبو زرعة: ليس بقوي، أحاديثه كأنها منكرة ما حدث بالري، والذي حدث بالشام أحسن حالاً. وقال أبو حاتم: ضعيف في حديثه إنكار. وضعفه أبو داود والنسائي. وقال النسائي أيضاً: ليس بثقة. وقال أيضاً: ليس بشيء3.
وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه "ضعيف وما حدث بالشام أحسن مما حدث بالري"4.
فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف. وقد ضعفه البوصيري، فقال:"هذا إسناد ضعيف، لتدليس بقية بن الوليد وضعف شيخه"5.
وجاء الحديث من وجهٍ آخر، فقد رواه أحمد6، والحاكم7، والبيهقي8، كلهم من طرقٍ عن يزيد بن أبي مالك، ثنا أبو سباعٍ، قال: اشتريت ناقةً
1 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (734) .
2 تعريف أهل التقديس (ص121) .
3 تهذيب التهذيب (10/219-220) .
4 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (6772) .
5 مصباح الزجاجة (2/192) .
6 المسند (3/491) .
7 المستدرك (2/9-10) .
8 السنن الكبرى (5/320) .
من دار واثلة ابن الأسقع، فلما خرجت بها أدركنا واثلة وهو يجر رداءه، فقال: يا عبد الله، اشتريت؟ قلت: نعم. قال: هل بيَّن لك ما فيها؟ قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: فقال: أردت بها سفراً أم أردت بها لحماً؟ قلت: بل أردت عليها الحج. قال: فإن بخفها نقباً. قال: فقال صاحبها: أصلحك الله، أيْ هذا تفسد عليّ. قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحلّ لأحدٍ أن يبيع شيئاً ألا يبين ما فيه، ولا يحل لمن يعلم ذلك ألا يبينه".
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
وفي قوله نظر؛ فإن أبا سباع مجهول كما قال الذهبي1. وقد نقل الحسيني عن أبي حاتم أنه قال فيه: مجهول2. ولم أقف على كلام أبي حاتم في الجرح والتعديل، ثم وقفت على كلام الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة3، وقد بيّن فيه أن الحسيني وهم في نقله هذا عن أبي حاتم، وبيّن الحافظ أن سبب وهمه أن الذهبي ذكر في مقدمة ميزان الاعتدال4 أنه إذا أطلق لفظة "مجهول" فمراده أن أبا حاتم قالها. فلما وقف الحسيني على قول الذهبي في أبي سباع أنه مجهول نسبها الحسيني إلى أبي حاتم اعتماداً على ما ذكره الذهبي في مقدمة الميزان. ولعلّ الذهبي ذكر هذا ويعني به في الغالب، أو أنه غفل عما ذكره في المقدمة، فقال فيه "مجهول" من غير أن يعني أن أبا حاتم جهّله. والله أعلم.
1 ميزان الاعتدال (6/210) ، والمغني في الضعفاء (2/468) .
2 الإكمال (2/279) .
3 تعجيل المنفعة (ص487) . وانظر: لسان الميزان (7/50) .
4 ميزان الاعتدال (1/6) .
فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف أيضاً، إلا أن الحديث يتقوى بطريقيه، وكذلك بشواهده، فيكون بها حسناً.
وأما الوعيد الوارد في هذا الحديث فهو ضعيف لعدم وجود ما يعضده. والله أعلم.
دلالة الأحاديث السابقة:
يستفاد مما تقدم النهي عن الغش، وأنه ليس من أخلاق المؤمنين وسيرتهم، فغش المسلمين مخالف للنصيحة لهم التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"الدين النصيحة، فقيل له: لمن يا رسول الله؟ فقال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"1.
وفي الصحيحين2 عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم".
ولذا ذكر الإمام الدارمي هذا الحديث في كتاب البيوع من سننه3، ثم ذكر بعده حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم في النهي عن الغش.
وللغش مفاسد كثيرة في الأموال ونزع البركات، ومن أسباب تسليط الكفار على المسلمين4.
وضابط الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائعٍ أو مشترٍ فيها شيئاً لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل5.
وإذا وقع البيع على شيء مغشوش، فللمشتري الخيار إذا وقف عليه6 كما سيأتي في حديث المصرّاة، فإنها من الغش وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم لمشتريها الخيار. والله أعلم.
1 تقدم تخريجه في الدراسة الفقهية للفصل السابق.
2 صحيح البخاري - مع الفتح -[كتاب الإيمان (1/ رقم 57) ] ، صحيح مسلم [كتاب الإيمان (1/75) ] .
3 سنن الدرامي (2/322) .
4 انظر في هذا: الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/239-243) .
5 المرجع السابق (1/238) .
6 شرح السنة (8/167) .