الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: ما ورد في النهي عن التصرية
…
الفصل الخامس: ورد في النهي عن التصرية
212 -
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعدُ فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردَّها وصاع تمرٍ".
رواه البخاري1 واللفظ له، ومسلم2، وأبو داود3، والترمذي4، والنسائي5، وابن ماجه6، ومالك7، وأحمد8، كلهم من طرقٍ عنه به.
وفي لفظ لهم - عدا الترمذي وابن ماجه - زيادة: "لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضرٌ لبادٍ". وفي لفظ للبخاري ومسلم وغيرهما بدل قوله: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" جاء: "وأن يستام الرجل على سوم أخيه".
وقد روى الترمذي هذه الجمل مفرَّقة في مواضع.
1 صحيح البخاري - مع الفتح -[كتاب البيوع (4/رقم 2148،2150،2151) ، كتاب الشروط (5/رقم 2727) ] .
2 صحيح مسلم [كتاب البيوع (3/1155-1159) ] .
3 سنن أبي داود [كتاب البيوع (3/722،727) ] .
4 جامع الترمذي [كتاب البيوع (3/553-554) ] .
5 سنن النسائي [كتاب البيوع (7/252،253،254،255) ] .
6 سنن ابن ماجه [كتاب التجارات (2/753) ] .
7 الموطأ (2/526) .
8 المسند (2/242، 248، 259، 273، 317، 386، 406، 410، 420، 430، 460، 463، 469، 481) .
وعند مسلم وأبي داود والترمذي وأحمد1 من طريق محمد بن سيرين عنه به مرفوعاً: "من اشترى شاةً مصرَّاةً فهو بالخيار ثلاثة أيام".
ورواه مسلم وأحمد2 أيضاً من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه به بنحوه بذكر ثلاثة أيام.
وقوله في الحديث: "وصاع تمرٍ" جاء في بعض الروايات: "صاع من طعامٍ لا سمراء". وقد بيّن الحافظ ابن حجر3 أن الطعام في هذه الروايات ينبغي تفسيره بالتمر لموافقة الروايات الأخرى التي جاء فيها ذكر التمر، ولذا قال البخاري عن هذا الاختلاف:"التمر أكثر"4، يعني أكثر الروايات عليه. والله أعلم.
213 -
(2) عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتلقَّى جلب، ولا يبع حاضرٌ لبادٍ، ومن اشترى مصرَّاة أو ناقةً - قال شعبة: إنما قال: ناقة، مرة واحدة - فهو فيها بآخر النظرين إذا هو حلب، إن ردَّها ردَّ معها صاعاً من طعامٍ" أو قال: "صاعاً من تمر".
رواه أحمد5 واللفظ له، وابن أبي شيبة6، والبيهقي7. كلهم من طرقٍ عن الحكم سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه به.
1 المسند (2/507) .
2 المرجع السابق (2/417) .
3 فتح الباري (4/426) .
4 ذكر البخاري هذا عقب حديث رقم (2148) .
5 المسند (4/314) .
6 المصنف (5/250) .
7 السنن الكبرى (5/319) .
وهذا إسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر1. ولا تضرّ الجهالة بالصحابي؛ لأن الصحابة كلهم عدول.
قال البيهقي في قوله: "أو صاعاً من تمرٍ": "يحتمل أن يكون شكاً من بعض الرواة، فقال: صاعاً من هذا أو من ذلك، لا أنه من وجه التخيير ليكون موافقاً للأحاديث الثابتة في هذا الباب".
وذكر الحافظ ابن حجر الاحتمالين2 - وهما أن تكون "أو" للشك أو للتخيير - ولم يرجّح بينهما مع أن لفظ أحمد صريح في أن "أو" شك من الراوي؛ لأن عنده: أو قال: "صاعاً من تمرٍ". وهذه الصيغة صريحة في الشك. والله أعلم.
214 -
(3) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستقبلوا السُّوق، ولا تحفِّلوا، ولا ينفِّق بعضكم لبعض".
رواه الترمذي3 واللفظ له، وابن أبي شيبة4، ومن طريقه أحمد5، والطحاوي6، والبيهقي7. كلهم من طرق عن أبي الأحوص عن سماك عن عكرمة عنه به.
1 فتح الباري (4/426) .
2 المرجع السابق.
3 جامع الترمذي [كتاب البيوع (3/568) ] .
4 المصنف (5/168) .
5 المسند (1/256) .
6 شرح معاني الآثار (4/7) .
7 السنن الكبرى (5/317) .
وقد تكلم في حديث سماك بن حرب عن عكرمة. وقد سئل ابن المديني عن رواية سماك عن عكرمة فقال: "مضطربة"، وقال يعقوب بن شيبة:"روايته - أي سماك - عن عكرمة خاصة مضطربة"، وقال العجلي في سماك:"جائز الحديث إلا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء"1.
فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف، إلا أنه يرتقي بشواهده التي تقدم ذكرها فيكون حسنًا. والله أعلم.
والمحفّلات: التي جمع لبنها في ضرعها.
ومعنى قوله: "ولا ينفِّق بعضكم لبعض" أي لا يقصد أن ينفِّق سلعته على جهة النجش، فإنه بزيادته فيها يرغِّب السامع، فيكون قوله سبباً لابتياعها ومنفقاً لها2.
215 -
(4) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم صلى الله عليه وسلم أنه حدثنا قال: "بيع المحفَّلات خِلابة، ولا تحل الخِلابة لمسلم".
رواه ابن ماجه3، وابن أبي شيبة4، والبيهقي5، وابن عبد البر6. كلهم من طرقٍ عن جابر الجعفي عن أبي الضحى عن مسروقٍ عنه به.
1 تهذيب التهذيب (4/233-234) . وقد تقدم عند حديث رقم (131) .
2 النهاية في غريب الحديث (5/99) .
3 سنن ابن ماجه [كتاب التجارات (2/753) ] .
4 المصنف (5/95) .
5 السنن الكبرى (5/317) .
6 التمهيد (18/209-210) .
وجابر الجعفي أثنى عليه سفيان، وقال شعبة: صدوق في الحديث. ووثقه وكيع. وكذبه ابن معين وغيره. وقال ابن معين أيضاً: لا يكتب حديثه ولا كرامة. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أيضاً: ليس بثقةٍ ولا يكتب حديثه. واتهمه غير واحد بالقول بالرجعة وغيرها من عقائد الرافضة1. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى إنه ضعيف رافضي2.
إلا أن الحديث قد جاء من وجه آخر. فقد رواه الدارقطني في العلل3 من طريق محمد بن جعفر الوركاني حدثنا أبو شهاب عن الأعمش عن خيثمة عنه به، ولفظه:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المحفلات من الغنم، وقال: خلابة بين المسلمين". والخلابة: الخداع4.
وأبو شهاب هو عبد ربه بن نافع قال فيه يحيى بن سعيد: ليس بالحافظ. ووثقه ابن معين وابن سعد وغيرهما. وقال أحمد: ما بحديثه بأس. وقال النسائي: ليس بالقوي5. ولذا جعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق يهم"6.
وقد خالفه الثوري كما عند عبد الرزاق7، وكذلك أبو معاوية الضرير عند ابن أبي شيبة8، ويعلى بن عبيد عند البيهقي9، فوقفوا الحديث على ابن مسعود رضي الله عنه.
1 تهذيب التهذيب (2/47-51) .
2 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (878) .
3 العلل (5/48) .
4 النهاية في غريب الحديث (2/58) .
5 تهذيب التهذيب (6/129) .
6 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (3790) .
7 مصنف عبد الرزاق (8/198) .
8 مصنف ابن أبي شيبة (5/94) .
9 السنن الكبرى (5/317) .
وفي إسناد ابن أبي شيبة والبيهقي زيادة في الإسناد وهي ذكر الأسود بين خيثمة وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وقد رواه موقوفًا عن ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا أبو عثمان النهدي، كما عند البخاري1.
فمما سبق يتبين أن الحديث جاء مرفوعاً وموقوفاً. والذي يترجح لي من هذا الاختلاف هو الوقف؛ لكونه رواية الأحفظ والأكثر. وممن رجح الوقف الدارقطني2. والله أعلم.
216 -
(5) عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا جَلَب ولا جَنَب ولا اعتراض، ولا يبيع حاضرٌ لبادٍ، ولا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو إذا حلبها بخير النظرين: إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمرٍ".
رواه الدارقطني3 واللفظ له، والبزار4، وابن عدي5، والطبراني في الكبير6 - كلهم مختصراً - من طرقٍ عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه به.
وكثير بن عبد الله المزني كذبه الشافعي وأبو داود. وقال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أحمد: منكر الحديث، ليس بشيء. وقال
1 صحيح البخاري - مع الفتح [كتاب البيوت (4/رقم 2149) .
2 العلل (5/48) .
3 سنن الدارقطني (3/75) .
4 مسند البزار (8/323) .
5 الكامل (6/60) .
6 المعجم الكبير (17/17) .
أبو زرعة: واهي الحديث، ليس بالقوي. وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث. وقال النسائي أيضاً: ليس بثقة1.
فمما تقدم يتبين أن كثير بن عبد الله المزني ضعيف جداً. وأما ما اختاره الحافظ ابن حجر من أنه "ضعيف، أفرط من نسبه إلى الكذب"2، ففيه تساهل؛ لما سبق من أقوال الأئمة فيه.
وأصاب الحافظ الذهبي فجعله في مرتبة "واهٍ"3، وفي موضع آخر:"متروك"4.
فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف جداً. وأما النهي عن التصرية فهو ثابت عن غير واحدٍ من الصحابة كما تقدم ذكر أحاديثهم. والله أعلم.
ومما ورد في هذا الفصل أيضاً:
(6)
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وسيأتي5.
1 تهذيب التهذيب (8/422) .
2 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (5617) .
3 الكاشف (3/5) .
4 المغني في الضعفاء (2/129) .
5 سيأتي برقم (219) .
دلالة الأحاديث السابقة:
يستفاد مما تقدم النهي عن التصرية.
والتصرية فسرها أبو عبيد وغيره بجمع اللبن وحبسه في الضرع. وفسّرها الشافعي بأنها صرُّ - أي ربط - أخلافها ولا تحلب أياماً حتى يجتمع اللبن في ضرعها، فإذا حلبها المشتري استغزرها.
قال الخطابي: قول أبي عبيد حسن، وقول الشافعي صحيح1.
وإنما نهي عن التصرية لأنها غشٌّ وخداعٌ2.
وقد دلت الأحاديث السابقة على أن المشتري للمصرّاة مخيّرٌ بين إمساكها وبين ردِّها وردّ صاعٍ من تمرٍ معها مكان ما حلب من اللبن أول مرّة. وإلى هذا ذهب مالك3، والشافعي4، وأحمد5.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس له ردّ المصراة بالعيب، ولكنه يرجع بنقصان العيب6.
واعترض الحنفية على ما ورد من الأحاديث في التخيير بين إمساك المصرّاة وبين ردّها ورد صاع من تمر بما يأتي:
أولاً: الطعن في صحة هذا الحديث؛ لأنه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ولا يقبل من حديثه ما خالف القياس الجلي7.
1 معالم السنن (3/723) ، النهاية في غريب الحديث (3/27) .
2 شرح صحيح مسلم (10/162) .
3 المدونة (3/287) ، المعونة (2/1073) .
4 الحاوي الكبير (5/236) .
5 المغني (4/233) ، الإنصاف (4/399) .
6 المبسوط (13/103) .
7 المرجع السابق (13/40) .
قال ابن حجر: وهو كلام آذى قائله به نفسه، وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه، وقد ترك أبو حنيفة القياس الجلي لرواية أبي هريرة وأمثاله.
ونقل ابن حجر عن ابن السمعاني قوله: "والتعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة، وقد اختص أبو هريرة رضي الله عنه بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له"1.
وقال الحافظ ابن حجر: "ثم مع ذلك لم ينفرد أبو هريرة رضي الله عنه برواية هذا الأصل، فقد أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر2،
1 فتح الباري (4/427) .
2 سنن أبي داود [كتاب البيوع (3/727-728) ] ، ورواه ابن ماجه [كتاب التجارات (2/753) ] ، والبيهقي (5/319)،كلهم من طريق عبد الواحد بن زياد عن صدقة بن سعيد الحنفي عن جُميع بن عمير التَّيمي عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً بلفظ:"من ابتاع محفَّلةً فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردّها ردّ معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً". وفي إسناده جميع بن عمير، قال فيه البخاري: فيه نظر. وقال أبو حاتم: محله الصدق، صالح الحديث. وحسّن الترمذي بعض حديثه. واتهمه ابن حبان بوضع الحديث. [تهذيب التهذيب (2/112) ] . وجعله الحافظ ابن حجر في مرتبة:"صدوق يخطئ". [تقريب التهذيب: رقم الترجمة (968) ] .
وكذلك فإن صدقة بن سعيد، قال فيه أبو حاتم: شيخ. وضعفه الساجي وابن وضاح. [تهذيب التهذيب (4/415) ] .
وجعله الحافظ ابن حجر في مرتبة: "مقبول". [تقريب التهذيب: رقم الترجمة
(2912)
] .
فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف. وقد ضعفه الحافظ ابن حجر أيضاً. (فتح الباري: 4/426) ، وله طرق أخرى تأتي في الحاشية الآتية.
وأخرجه الطبراني من وجهٍ آخر عنه1، وأبو يعلى من حديث أنس2، وأخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث عمرو بن عوف المزني3، وأخرجه أحمد من رواية رجلٍ من الصحابة لم يسمّ4"5.
وكذلك فقد أفتى ابن مسعود رضي الله عنه بمثل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه كما عند البخاري عنه رضي الله عنه، قال:"من اشترى شاةً محفّلة فردّها فليردّ معها صاعاً من تمر"6.
وأما قول بعض الحنفية باحتمال أن يكون ابن مسعود رضي الله عنه سمع الحديث من أبي هريرة رضي الله عنه وأفتى به7، فالجواب أن هذا الاحتمال ظن لا دليل عليه. ولو سُلِّم أنه أفتى بما سمعه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه،
1 لعله من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما به، وقد أخرجه من هذا الطريق الدارقطني (3/74) .
وقد تقدم أن ليث بن أبي سليم ضعيف. انظر: حديث رقم (9) .
وقد ذكر الدارقطني في سننه (3/75) أن عاصم بن عبيد الله رواه عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما، وعاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب ضعفه ابن معين وغيره، وقال ابن سعد: لا يحتج به، وقال أحمد: ليس بذاك، وقال أبو حاتم: منكر الحديث مضطرب الحديث، وقال البخاري: منكر الحديث. وجمهور الأئمة على ضعفه، إلا أنه صالح للاعتبار. انظر: تهذيب التهذيب (5/47-48) .
2 تقدم برقم (100) . وقد تقدم أن فيه إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف جداً.
3 تقدم برقم (216) . وهو بإسناد ضعيف جداً.
4 تقدم برقم (213) . وهو حديث صحيح.
5 فتح الباري (4/427) .
6 صحيح البخاري - مع الفتح -[كتاب البيوع (4/ رقم 2149) ] .
7 إعلاء السنن (14/59-60) .
فإنه رضي الله عنه وهو الذي لا يجادل أحد في فقهه - لو كان يرى فيما حدث به أبو هريرة رضي الله عنه مخالفة للقياس واستبعاد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله ما قبله.
ثانياً: دعوى الاضطراب في الحديث، لذكر التمر فيه تارة، والقمح أخرى، واللبن أخرى، واعتباره بالصاع، وبالمثل أو المثلين تارة، وبالإناء أخرى1.
والجواب: أن الطرق الصحيحة لا اختلاف فيها، والضعيف لا يعل به الصحيح2.
ثالثاً: قالوا إن ضمان المتلفات يتقدر بالمثل بالكتاب والسنة، وفيما لا مثل له بالقيمة، وإيجاب التمر مكان اللبن مخالف لما ثبت بالكتاب والسنة، وكذلك فإن فيه تسوية بين قليل اللبن وكثيره فيما يجب مكانه، وهذا مخالف للأصول؛ لأن الأصل أنه إذا قل المتلف قلّ الضمان، وإذا كثر المتلف كثر الضمان، وهنا الواجب صاع من التمر قلّ اللبن أو كثر3.
والجواب عن هذا أن يقال: حديث المصرّاة أصل مستثنى من تلك القواعد، لمعنى يخصه، وبيانه أن اللبن الحادث بعد العقد ملك للمشتري، فيختلط باللبن الموجود حال العقد، وقد يتعذر الوقوف على قدره، فاقتضت حكمة الشرع أن جعل ذلك مقدراً لا يزيد ولا ينقص دفعاً للمنازعة، وإنما خص ذلك بالطعام لأنه قوت كاللبن، وجعل تمراً لأنه غالب قوتهم ولا يحتاج في تقوته إلى كلفة4.
1 إعلاء السنن (14/60) .
2 فتح الباري (4/427) .
3 المبسوط (13/40) .
4 شرح الزركشي (3/561-562) . وانظر: التمهيد (18/208-209) .
وأما تضمينه بغير جنسه ففي غاية العدل، فإنه لا يمكن تضمينه بمثله البتة، فإن اللبن في الضرع محفوظ غير معرضٍ للفساد، فإذا حلب صار عرضةً لحمضه وفساده، فلو ضمن اللبن الذي كان في الضرع بلبنٍ محلوبٍ في الإناء، كان ظلماً تتنزه الشريعة عنه.
وأيضاً فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد، فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري، وقد يكون أقل منه أو أكثر، فيفضي إلى الربا، لأن أقل الأقسام أن تجهل المساواة1.
رابعاً: دعوى مخالفته لحديث "الخراج بالضمان"2، فالجواب أن يقال:
1 أعلام الموقعين (1/517) .
2 انظر: أعلام الموقعين (1/516) .
وهذا الحديث جاء عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً من طريقين:
الطريق الأولى: عن مخلد بن خفاف عن عروة عنها به:
رواه أبو داود [كتاب البيوع (3/777-779) ] ، والترمذي [كتاب البيوع (3/581-582) ] ، والنسائي [كتاب البيوع (7/254،255) ] ، وابن ماجه [كتاب التجارات (2/753-754) ] ، وأبو داود الطيالسي (ص206) ، وأحمد (6/49،208،237) وغيرهم، كلهم من طرقٍ عن ابن أبي ذئب به.
ومخلد بن خفاف - بضم الخاء -[المغني في ضبط أسماء الرجال (ص93) ]، قال فيه البخاري: فيه نظر، وفي سماع ابن أبي ذئب منه عندي نظر، ولا يعرف له غير هذا الحديث كما قال ابن عدي. وذكره ابن حبان في الثقات. [تهذيب التهذيب (10/74- 75) ] . وجعله الحافظ ابن حجر في مرتبة "مقبول" [تقريب التهذيب: رقم الترجمة (6536) ] .
وقد حكم أبو حاتم على هذا الإسناد بأنه إسناد لا تقوم به الحجة. [الجرح والتعديل (8/347) ] .
الطريق الثانية: هشام بن عروة، عن أبيه عنها به:
رواه أبو داود [كتاب البيوع (3/780) ] ، وابن ماجه [كتاب التجارات (2/754) ] ، والطحاوي (4/21-22) ، والدارقطني (3/53) ، والحاكم (2/14-15) وغيرهم، كلهم من طرقٍ عن مسلم ابن خالد الزنجي به، وفيه قصة.
ومسلم بن خالد الزنجي تقدم الكلام فيه وأنه ضعيف [تقدم عند حديث رقم (33) ]، ولذا قال أبو داود في هذا الحديث عقب إخراجه له:"هذا إسناد ليس بذاك".
وقد تابع مسلم بن خالد الزنجي جرير بن عبد الحميد كما ذكر ذلك الترمذي (3/582)، وعقبه بقوله:"يقال تدليس، دلس فيه جرير، لم يسمعه من هشام بن عروة".
وتابعه أيضاً عمر بن علي المقدسي، كما رواه البيهقي (5/322) بإسناده عنه عن هشام به، إلا أن عمر بن علي هذا مشهور بالتدليس [تعريف أهل التقديس (ص130-131) ، وقد ذكره في المرتبة الرابعة] .
فمما تقدم يتبين أن الحديث بمجموع طرقه حسن. والله أعلم.
إن صاع التمر ليس عوضاً عن اللبن الحادث، وإنما هو عوض عن اللبن الموجود وقت العقد في الضرع1.
خامساً: قالوا إن حديث المصراّة منسوخ2. وناسخه إما حديث النهي عن بيع الدين بالدين، أو حديث "الخراج بالضمان"، وقيل غير ذلك.
والجواب: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا دلالة على النسخ3.
هذا أشهر ما اعترض به الحنفية على حديث المصرّاة، وتبيّن الجواب عنها.
وبالجملة فإن حديث المصرّاة أصلٌ بذاته لا يعارض بغيره، بل هو مشتمل على العدل مع المشتري والبائع. والله أعلم.
1 أعلام الموقعين (1/517) .
2 شرح معاني الآثار (4/19-22) .
3 فتح الباري (4/427) .
وظاهر الأحاديث السابقة أن هذا الحجم ثابت في مصراة الإبل والغنم، ويلحق بهما البقر؛ لأنها في معنى الإبل والغنم، بل البقر أولى؛ لأنها أغزر لبنًا وأكثر نفعًا1، وإنما اقتصر عليهما لغلبتهما عندهم2.
ويلحق بها أيضًا كل محفلة3؛ للجامع بينها وهو تغرير المشتري4، وقيل: لا يلحق ببهيمة الأنعام غيرها5 وقيل: يلحق بها جميع الحيوانات المأكولة6.
وكذلك فإن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على أن المشتري له الخيار مدة ثلاثة أيام، وذهب بعض العلماء إلى أن للمشتري الرد قبل الثلاثة وبعدها؛ لأنه تدليس، فملك الرد إذا بينه كسائر التدليس7.
قال ابن قدامة: العمل بالخبر أولى8.
1 المغني (4/236) .
2 فتح الباري (4/423) .
3 انظر: صحيح البخاري [كتاب البيوع، ترجمة الباب رقم 64) ] .
4 الفتح (4/423) .
5 المغني (4/236-237) .
6 المجموع (11/271) .
7 المغني (4/236) .
8 المرجع السابق.