الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
أصول كلامية ينبني عليها فروع فقهية:
أصول وسائل متنوعة:
أصل:
قال الشيخ أبو الحسن 1 رضي الله عنه: السعادة والشقاوة لا يتبدلان. ومعنى ذلك أن الاعتبار في الأعمال بالخواتيم 2. فلا ينفع من مات على الكفر تقدم قناطير من إيمان ولا يضر من مات على إيمان قناطير من كفران.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يتبادلان، وتحرير المسألة في كتب الكلام وقد ذكرناها محررة في كتاب منع الموانع.
وألفاظ الشافعي رضي الله عنه وفروعه تدل على القول، بما قاله أبو الحسن.
1 علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري إمام المتكلمين وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن دين الله عز وجل والمصحح لعقائد المسلمين مولده سنة ستين ومائتين وقبل سنة سبعين قال أبو بكر الصيرفي وهو في نظراء الشيخ أبي الحسن كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجرهم في اقماع السمسم توفي في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وقيل سنة عشرين وقيل سنة ثلاثين.
- ابن قاضي شهبة 1/ 113، تاريخ بغداد 11/ 346، تبيين كذب المفتري ص 128، شذرات الذهب 2/ 303، النجوم الزاهرة 3/ 259.
2 فالإيمان في الخاتمة يدل على أن صاحبه قدر له السعادة أزلا والكفر في الخاتمة يدل على ما سبق في علم الله من شقاوته ويدل على هذا وصف الله تعالى من مات على الإيمان بالسعادة ومن مات على الكفر بالشقاوة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} .
ويترتب على السعادة الخلود في الجنة ونوابعه وعلى الشقاوة الخلود في النار ونوابعه فمقصود الأشاعرة السعادة والشقاوة من حيث ترتب آثارهما في الآخرة.
أما ألفاظه. فقد قال رضي الله عنه في خطبة الرسالة، وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه.
وأما فروعه فقد قال في الحج
…
1
أصل:
العلم: "الاعتقاد الجازم المطابق لموجب" فما لا مطابقة فيه -من الاعتقادات الجازمة ليس بعلم، فلا علوم لأرباب الضلالات وذوي الجهالات. وهو بخلاف الظن؛ إذ لا تشترط المطابقة فيه2. فلو قال لآخر: أنت تعلم أن هذا الإنسان -الذي في يدي- حر حكم بعتقه. بخلاف ما لو قال: أنت تظن. نقله الرافعي عن الروياني عن بعض الأئمة.
ولو قيل [أطلقت] 3 امرأتك؟ فقال: اعلم أن الأمر على ما تقوله. ففي كونه إقرار بالطلاق وجهان. حكاهما الرافعي في فروع الطلاق من حكاية الروياني عن جده أصحهما: ليس بإقرار، لأنه أمره أن يعلم ولم يحصل هذا العلم. قلت: ويمكن تخريج هذا الفرع على أن الأمر لا يستلزم الإرادة، فإنه طلب منه أن يعلم هذا الأمر ولم يرده؛ إذ لو أراده لأنشأ إيقاع الطلاق.
ثم أقول: أمره أن يعلم ولم يحصل هذا العلم. فيه نظر، لأنه لما أمره أن الأمر على ما يقول، ومراده بما يقول قوله: الآن طلقت امرأتك، لأن يقول:"فعل مضارع حقيقة في الحال" وأيضًا فلا قول له إلا ذلك؛ وإنما يكون الأمر [على] 4 ما قال الآن إذا كانت الآن طالقًا. فظاهر العبارة أن هذا إقرار.
وقد يقال: ليس قوله إلا الاستفهام عن أنه هل طلق امرأته؟ فكأنه قال: اعلم أن الأمر على الاستفهام الذي نقوله على أنه لو قال: له على ألف - فيما أعلم [أو أشهد] 5 لزمه الألف، بخلاف ما لو قال: فيما أحسب أو أظن. ذكره أبو سعد الهروي وشريح الروياني في "أدب القضاء" قال أبو سعد: "لا انفصال للعلم عن الظن عند علماء الأصول".
وذكر الرافعي المسألة الولى في آخر الباب الأول من الإقرار.
1 بياض في آوب.
2 سقط في ب.
3 في حاشية "أ" أطلقتك.
4 سقط في "ب".
5 في ب وأشهد.
وأما الثانية: وهي فيما أظن أو أحسب؛ فلم يذكرها غير أنه ذكر قبل ذلك بنحو ورقة فيما لو قال: لي عليك ألف، فقال: أظن أو أحسب أنه ليس بإقرار.
وسبقه إليه البغوي في التهذيب. وهي غير هذه المسألة، لأنها فيمن اقتصر على قوله في الجواب: أظن، ومسألتنا فيمن قال: علي فيما أظن، فالمؤاخذة في مسألة أبي سعد وشريح أقرب منها في مسألة البغوي والرافعي.
أصل:
اختلف في الاسم -هل هو المسمى؟ اختلافًا حررناه في كتاب "منع الموانع" وحرره الشيخ الإمام رحمه الله في تفسيره في آخر سورة الرحمن، ولا خلاف أنه غير التسمية وهنا فروع: منها.
قال صاحب التتمة: لو قال لها: اسمك طالق لم تطلق إلا أن يريد الذات. وأعلم أن الصحيح. الذي عليه الأشعري في الأصول. أن الاسم المسمى على تفصيل في أسماء الله تعالى مذكور في موضوعه. وقضيته أن يطلق هنا.
فإما أن يكون صاحب التتمه فرعه على أنه غيره، وأما ما قاله فلذلك1.
ومنها قال الرافعي -في فتاوى أبي الليث2- إن بعضهم قال: لو قال: بسم الله لا أفعل كذا فهو يمين- ولو قال: بصفة الله، فلا، لأن الأول من إيمان الناس".
قال الرافعي: ولك أن تقول: إذا قلنا: الاسم هو المسمى؛ فالحلف بالله تعالى، وكذا إن جعل الاسم تسمية، وإن أراد بالاسم التسمية لم يكن يمينًا، وقوله: بصفة اللهز يشبه أن يكون يمينًا إلا أن يريد الوصف.
قلت: وفيه نظر. فلا قائل بأن الاسم التسمية، إنما الخلاف أنه هل هو المسمى؟
وإذا كان هو المسسمى فلا فرق بين أن تقول: بالله أو باسم الله. فليكن يمينًا، وإلى ذلك [الإشارة] 3 بقوله: إذا قلنا: الاسم هو المسمى "فالحلف بالله" وتلك موافقة لمنقول أبي الليث فكيف أخرجها مخرج الاعتراض عليه فالذي [يحمل] 4 من كلامه
1 بياض في أ "ب".
2 نصر بن حاتم بن بكير الفقيه أبو الليث الشالوسي.
قال الحاكم: أقام بنيسابور لسماع المبسوط كتبًا عنه في مجسد أبي العباس الأصم سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، قال المطوعي: هو من أوائل أصحاب أبي العباس وأفاضلهم. ابن قاضي شهبة 1/ 119.
3 سقط في ب.
4 سقط في ب.
موافقة منقول أبي الليث إلا أن يريد بالاسم التسمية، وقد يقال: لا يصح هذا الاستعمال، فلا نسمع إرادته إياه، وقوله "بصفة الله" يشبه أن يكون يمينًا إلا أن يريد وصف كلام لا يتبين لي معناه، ولا أدري ما وصفه غير صفته؛ فلينظر ذلك.
أصل:
اختلف أئمتنا في الكلام فقال قدماؤهم: "حقيقة في النفساني مجاز في اللساني". وهو عن أبي الحسن نصًا، وقيل مشترك بينهما. ولا قائل منا بأنه مجاز في النفساني حقيقة في اللساني؛ إنما ذلك من أقوال القدرية.
ومن أدلة أئمتنا قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} 1 وقوله تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} 2. قال: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} وقول عمر يوم السقيفة "كنت زورت في نفسي كلامًا" وقوله الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد
…
البيت، وقوله:
قد كنت أحجو أبا عمرو أخا ثقة
…
حتى ألمت بنا يومًا ملمات
وهذا من مستنبطاتي وهو وبعض ما قبله؛ فلم أجدني سبقت إليه، ومع هذا فالكلام في عرف الناس اللساني، وعليه يحمل يمين الحالف. نعم ينبني على الكلام النفساني مسائل.
منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم" 3 فهل يقوله بلسانه أو بقلبه؟ فيه وجهان.
قال الرافعي: نقلًا عن الأئمة4. "يقوله بقلبه".
وقال الشيخ الإمام: "تيويب الشافعي يدل على أنه يقوله بلسانه".
وقال النووي في الذكار: "ولغات التنبيه أنه الأظهر". وقال في شرح المهذب. "إن جمع بينهما فحسن".
1 المجادلة "8".
2 سورة يوسف "77".
3 متفق عليه من رواية أبي هريرة أخرجه البخاري 4/ 188 في الصوم باب فضل الصيام "164/ 1151""163/ 1151".
4 انظر تصحيح التنبيه ص 47، نهاية المحتاج 2/ 331، شرح المهذب 69/ 356، تحفة المحتاج 1/ 690.
قلت: وهذه العبارة توهم أن القائل بذلك يقتصر على اللساني ولا يجعل قوله: "في النفس" مطلوبًا. ولا أرى بذلك قائلًا. بل الخلاف عندي [مردود] 1 إلى أنه هل يقتصر على النفسي فيكون أبعد عن الرياء والسمعة. أو يضم إليه اللساني؟
فمن قال: يقوله بلسانه لا يمكنه أن يقول: لا يقوله بقلبه، بخلاف من عكس وحكى الروياني في البحر وجهًا ثالثًا: إن كان في صوم رمضان فبلسانه، أو النقل فبقلبه، واستحسنه، والمسألة محذوفة من الروضة.
ومنها: الغيبة: وهي ذكر الشخص بما يكرهه.
قال الغزالي: في الإحياء، وتبعه النووي في الأذكار: إنها تحصل بالقلب كما تحصل باللفظ".
تنبيه:
ليس مما نحن فيه اختلاف أصحابنا في صحة النذر. بالنية مجردًا عن لفظ وما2 إذا نوى بقلبه التتابع في صوم منذور.
مسألة:
اتفق أئمتنا على أن المضطر إلى فعل ينسب إليه الفعل الذي اضطر إليه. ثم اختلفوا في تعريفه.
فقال شيخنا أبو الحسن كرم الله وجهه: "المضطر الملجأ إلى مقدوره لدفع ضرر متوقع بتقدير عدم المقدور الملجأ إليه".
وقال القاضي أبو بكر3: المضطر هو المحمول على ما عليه فيه ضرر من مقدوراته لدفع ما هو أشر منه.
وزعمت المعتزلة أن المضطر لا ينسب إليه الفعل. وأنه هو الذي يفعل فيه الغير فعلًا هو من قبيل مقدوراته. ثم اختلفوا:
1 سقط في "ب".
2 وفي "ب" ما.
3 محمد أبو بكر بن الطيب بن محمد القاضي المعروف بالباقلاني الملقب بشيخ السنة ولسان الأمة المتكلم على مذهب أهل السنة وأهل الحديث وطريقة أبي الحسن الأشعري إمام وقته من أهل البصرة وسكن بغداد وإليه رياسة المالكيين في وقته توفي في يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة.
الديباج المذهب 2/ 228، وفيات الأعيان 4/ 269، تاريخ بغداد 5/ 379، العبر 3/ 76، شذرات الذهب 3/ 168، شجرة النور 1/ 97، ترتيب المدارك 4/ 585- 603.
فقال أبو علي الجبائي1: لا يشترط أن يكون المفعول فيه غير قادر على مدافعة الفاعل. وقال ابنه أبو هاشم2: "بل يشترط ذلك".
إذا عرفت هذا فقد اتفقوا على أن الملجأ قادر على ما ألجئ إليه، وأنه لم يفعل غيره فيه فعلًا، لا خلاف بين الأشعرية والمعتزلة في ذلك. وإن اختلفت عباراتهم في تعريفه بما هو مذكور في كتب المتكلمين.
فالملجأ دون المضطر المعتزلة، ومثله عند الأشاعرة، ودونهما المكره المذكور في كتب الفقهاء.
وعلى هذه الأصول من عدم اختياره بالكلية وصار كالآلة المحضة فلا يتعلق به إثم، وهو المضطر عند المعتزلة كمن شد وثاقه وألقى على شخص فقتله بثقله، أو كان على دابة فمات وسقط على شيء فإنه لايضمن، وليس كالمكره، ولا كالمضطر.
ومن مسائل القاعدة:
المضطر لأكل الميتة يجب عليه أكلها على الصحيح، وفي وجه لا يجب، وقد يوجه بأصول المعتزلة فيقال: "لا فعل للمضطر ولا اختيار حتى يتعلق به إيجاب ويكتفي بضرورة الداعية عنده.
وقد أورد بعضهم على تعريف القاضي متناول الميتة حالة المخمصة فإنه مضطر بنص الكتاب. ولا ضرر عليه في تناولها. وهو إيراد منقدح عندي، وإن كان بعض المعنيين بالقاضي. قال:
1 محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره وإليه نسبة الطائفة الجبائية له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب نسبته إلى حبى من قرى البصرة اشتهر في البصرة ودفن بجبى سنة ثلاث وثلاثمائة.
له تفسير حافل مطول رد عليه الأشعري.
وفيات الأعيان 1/ 4180، البداية والنهاية 11/ 125، مفتاح السعادة 2/ 35، الأعلام للزركلي 6/ 256.
2 عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي من أبناء أبان مولى عثمان عالم بعلم الكلام من كبار المعتزلة له آراء انفرد به وتبعته فرقة سميت بالهاشمية نسبة إلى كنيته أبي هاشم وله مصنفات الشامل في الفقه وتذكرة العالم والعدة في أصول الفقه، وتوفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
وفيات الأعيان 1/ 292، البداية والنهاية 11/ 176، تاريخ بغداد 11/ 55، الأعلام 4/ 7.
إن كان المضطر نفسه تائقة للميتة فما خلا أكله عن ضرر، وإلا فلا أسلم تسميته بالمضطر. فهذا عندي ضعيف، فإنه مضطر بوضع اللسان ونص الكتاب وشهادة الحس وإن لم يكن [تائقًا]1.
وهذه القاعدة إذا ضم إلى فروعها فروع الإكراه تكاثرت جدًاز
والقول الفصل: إن الإكراه لا ينافي التكليف. ولذلك يأثم المكره على القتل بالإجماع، ويجب عليه القصاص على الأصح.
وأما المضطر، فلا ريب أنه عند المعتزلة غير مكلف لانتفاء الفعل منه، وأما عندنا فإنه مكلف، ثم ناحية التكليف فيه وفي المكره قررناها في كتابنا "جمع الجوامع" وفيما علقنا عليه من شرح إشكالاته المسمى "منع الموانع" فلا نعيده. غير أني صححت في "جمع الجوامع" امتناع تكليف المكره كالملجأ والغافل والمختار عندي الآن. الجريان مع الجماعة الأشعرية على أنه يجوز تكليفه. وإن كان غير واقع. لقوله صلى الله عليه وسلم:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"2.
1 في ب سقط.
2 قال السخاوي في المقاصد ص 228، حديث:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقع بهذا اللفظ في كتب كثيرين من الفقهاء والأصوليين حتى إنه وقع كذلك في ثلاثة أماكن من الشرح الكبيرن وقال غير واحد من مخرجه وغيرهم: إنه لم يظفر به، ولكن قد قال محمد بن نصر المروزي في باب طلاق المكره من كتاب الاختلاف، يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: رفع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان، وما أكرهوا؛ غير أنه لم يسق له إسنادًا ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان: وابن عدي في الكامل من حديث ابن فرقد، عن أبيه عن الحسن عن ابي بكرة مرفوعًا بلفظ: رفع الله عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ والنسيان، والأمر يكرهون عليهن جعفر وأبوه ضعيفان، لكن له شاهد جيد أخرجه أبو القاسم الفضل بن جعفر التميمي المعروف بأخي عاصم في فوائده، عن الحسن بن أحمد أو الحسين بن محمد على ما يحرر، وكلاهما ثقة عن محمد بن المصفى، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس بلفظ: رفع الله والباقي كلفظ الترجمة ورواه ابن ماجه وابن أبي عاصم ومن طريقه الضياء في المختارة كلاهما عن محمد بن المصفى به لكن بلفظ: وضع بدل رفع ورجاله ثقات، ولذا صححه ابن حبان ورواه البيهقي وغيره إلا أنه فيه تسوية الوليد فقد رواه بثر بن بكر عن الأوزاعي فأدخل بين عطاء وابن عباس عبيد بن عمير أخرجه الطبراني والدارقطني والحاكم في صحيحه من طريقه بلفظ: تجاوز بدل وضع، قال البيهقي: جوده بشر بن بكر، وقال الطبراني في الأوسط: لم يروه عن الأوزاعي يعني مجودًا إلا بشر تفرد به الربيع بن سليمان وله طرق عن ابن عباس، =
ومن قواعد الفقهاء ما قدمناه في القواعد العامة وأحلنا فيه على هذا المكان "والإكراه يسقط أثر التصرف" وهذا موضع تحقيقه.
فأقول: من صدر على يديه شيء. ولا أقول: فعل، لأن الفعل يستدعي فاعلًا وسنذكر ما لا نسميه فعلًا بالجملة الكافية كحركة المرتعش.
إذا عرفت هذا فذلك الشيء إما أن يصدر باختيار منه وإرادة له فهو المختار؛ سواء أكان حبه واختياره -بصدوره عنه- ناشئًا من قبل نفسه وداعية قلبه. أو دعاء إلى ذلك داع- من سائل أو غيره، فرب من يفعل ما يكره حياء من السائلين وإسعافًا للطالبين. أو حبًا لأن يقال فعل. وهذه أمور لا تخرجه عن كونه مختارًا.
وأما أن يصدر لا باختيار؛ فإما أن يكون بكراهة حملته على إصدار ذلك الفعل أو لا.
إن لم يكن فإما أن يكون له شعور بما صدر أو لا، إن لم يكن فهو الغافل من نائم.
= بل للوليد فيه إسنان آخران رواه محمد بن المصفى عنه عن مالك عن نافع عن ابن عمرو عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن عقبة بن عامر، وقد قال ابن أبي حاتم في العلل: سألت أبي عنها فقال: هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة، وقال في موضع آخر: لم يسمعه الأوزاعي من عطاء؛ إنما سمعه من رجل لم يسمعه، أتوهم أنه عدب الله بن عامر الأسلمي، أو إسماعيل بن مسلم، وقال: ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده، وقال عبد الله بن أحمد في العلل، سألت أبي عنه فأنكره جدًا وقال: ليس يروي هذا إلا عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقل الخلال عن أحمد قال: من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع؛ فقد خالف كتاب الله، وسنة رسول الله؛ فإن الله أوجب في قتل النفس الخطأ الكفارة، يعني من زعم ارتفاعها عن العموم في خطاب الوضع والتكليف، وقال محمد بن نصر -عقب إيراده له كما تقدم: إلا أنه ليس له إسناد يحتج بمثله، ورواه العقيلي في الضعفاء في حديث الوليد عن مالك، ورواه البيهقي، وقال: قال الحاكم، هو صحيح غريب تفرد به الوليد عن مالك، وقال البيهقي من موضع آخر: إنه ليس بمحفوظ عن مالك، ورواه الخطيب في ترجمة سوادة بن إبراهيم من كتاب الرواة عن مالك، وقال بعد سياقه: من جهة سوادة عنه: سوادة مجهول والخير منكر عن مالك. انتهى، والحديث يروي عن ثوبان وأبي الدرداء، وأبي ذر، ومجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلًا، لا سيما وأصل الباب حديث أبي هريرة في الصحيح من طريق زاررة بن أوفى عنه بلفظ: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، وزاد في آخره، وما استكرهوا عليه ويقال إنه مدرجة فيه وقد صحح ابن حبان والحاكم وغيرها هذا الخبر كما أشرت إليه، وقال النووي في الروضة وفي الأربعين إنه حسن وبسط الكلام عليه في تخريج الأربعين وكذا تكلم عليه شيخنا في تخريج المختصر وغيره.
ونحوه. وإن كان له شعور. ولكن لا ينسب إليه ذلك الشيء فذلك كالمرتعش بتحريك يده. ولا يقال: إنه حركها. وإن كان بكراهة وحمل حامل له على أن يفعل؛ فإن كان لا يجد مندوحة عن الفعل البتة ولا مخلصًا منه فهو الملجأ.
والفرق بينه وبين المرتعش عسير. فليجعلا قسمًا واحدًا.
ومن صوره من ألقى من شاهق فوقع على إنسان فقتله؛ فهو لا يجد بدًا من الوقوع ولا اختيار له فيه؛ وإنما هو آلة محضة كالسكين، فهذا لا يقول أحد: إنه مكلف ولا ينسب إليه فعل.
نعم تردد الذهن فيمن ألقى من شاهق وعلى الأرض طريحان، ولم يدهشه الإلقاء، وطرح بنفسه في حالة الإلقاء من ناحية أحدهما إلى ناحية الآخر، فسقط عليه فقتله، هل يكون قائلًا بهذا العذر، والأقرب أن هذا إن تصور فهذا كالمكره على أحد شيئين ففعل أحدهما وسنتكلم فيه.
وإن وجد مندوحة عن الفعل، ولكن بالصبر على إيقاع ما أكره به؛ فالضابط في هذا أن ينظر إلى تلك المندوحة، فإن كانت في نظر العقلاء أشد مما أكره عليه فهذا مكره.
وذلك كمن قال له قادر على ما يتوعد به: طلق زوجتك وإلا قتلتك.
ففي نظر العقلاء تقديم طلاق الزوجات على زهوق ألأرواح وإن لم يكن في نظر العقلاء أشد، كمن قيل له اقتل زيدًا وإلا منعتك الطعام والشراب يومًا واحدًا، لا تقتل بين ما يتحقق الإكراه فيه وما لا يتحقق. وقد بان بهذا أن الملجأ لا فعل له ولا يقبل التكليف والمكره له فعل واختيارية قدم بها على ما أكره عليه على ما توعد به؛ فهو كالمختار فلا يمتنع في العقول تكليفه؛ غير أن الشارع رفقًا بنا ونظرًا إلينا وشفقة علينا رفع هذه المشقة عنا، وقال ما حاصله:"إن كل مندوحة تكون أشد من المكره عليه لا أكلف الصبر عليه وارفع معها آثار ذلك الفعل، وأصيره كلا فعل البتة" وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "وما استكرهوا عليه".
فإن قلت: إذا كان المكره والمختار سواء في الاختيار فما الفرق بينهما.
فإن قلت: قال القاضي في كتاب التقريب: "والفرق بينهما أن المختار مطلق
الدواعي والإرادات، والمكره مقصور الدواعي والإرادة على فعل ما أكره عليه. لا يختار غيره"؛ فإن قيل: ولم صارت هذه حاله؟
قلنا: لما يخافه من عظيم الضرر، فهذا يدفع [أعظم] 1 الضررين بأدونهما، ودواعيه مقصورة عليه لأجل ذلك. انتهى وهو صحيح ولا فرق إلا هذا.
وكون الشارع لم يكلفه الشطط بالصبر على ما هدد به. ثم قال له: "ولئن فعلت المكره عليه كان فعلك كلا فعل، لمكان الإكراه".
فللشارع في المكره لطفان خفيان -إسقاط حكم الفعل الناشئ عنه، وعدم التكليف بالصبر على ما توعد المكره عليه- وهذه من خصائص هذه الأمة المشرفة بنبيها الكريم على الله. محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي إنه لرؤوف رحيم. ونبي كريم. ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم:"ورفع عن أمتي الخطأ".
ولو كانت حقيقة الإكراه تنافي التكليف لما افترق الحال فيه بني أمه وأمه. وهنا تنبيهات:
أحدها: هذا الإكراه الذي أسقط الشارع حكمه لا بد من بقاء حقيقته ليتحقق في نفسه، وقد ينضم إليه ما لا يزيل حقيقته؛ فلا اعتبار به، أو ما يزيل الحقيقة فلا يسقط حكمه، إذ ليس هناك إكراه.
وهذا كمن قيل له: طلق زوجتك، فقال: طلقت زوجاتي كلهن [فيقع] 2 عليهن، لأنه مختار لا مكره.
وقد ينضم إليه ما يتردد الذهن في أنه مزيل لكونه إكراهًا أو غير مزيل، فيقع الخلاف في أنه هل يسقط أثر التصرف به أو لا يسقط؟ وأمثلته فيالفئقه كثيرة، ونحن نذكر هنا فرعًا واحدًا، وهو المكره على أحد شيئين. كمن قيل له: طلق إحدى زوجتيك وإلا قتلتك، وحمل على تعيين إحداهما لا على إبهام الطلاق، إما هذه أو هذه. وإلا قتلتك، فقال: طلقت هذه، فهل هذا اختيار، لأن إيثاره لهذه على تلك. وقد كان قادرًا على العكس، يدل على أنه مختار لفراقها، وليس باختيار؛ لأنه لا يجد مندوحة عن واحدة منهما، ولو عين الأخرى لجاء فيها هذا القول بعينه.
1 سقط في "ب".
2 في "ب" ليقع.
فيه وجهان:
أولهما: هو الأصح عند الرافعي والنووي.
والثاني: هو الأرجح في نظري، ولا فرق عندي بينه وبين المكره على قتل معينة إلا أن هذا يجد محيصًا عمن طلقها برفيقتها، وذاك لا يجد إلا بنفسه، وليس هذا الفرق بطائل؛ فإن القول في المختص بها مقول في رفيقتها، وكل قول انعكس بنفسه بطل من أصله.
وقول من ادعى أنه مختار. إن إقدامه على هذا دليل على اختياره لفراقها دون تلك مختل.
ولكنا نقول في جوابه: لم قلتم: إن الداعي إلى تعيينها ترجيح فراقها، وقد يكون هجم على ذكرها هجمًا، وهذا يتفق كثيرًا لمن حمل على شيء من شيئين، وقد أعوزه الفكر والذعر عن الميز بينهما. وإن سلمنا أن الداعي إيثار فرؤاقها، فالذي آثره إنما هو ذكرها على ذكر تلك، لا حب فراقها على حب فراق تلك. وإن سلمنا أن فراقها عنده بتقدير التعارض راجح على فراق تلك؛ فهذا موضع نظر لا أتذمم فيه ترجيحًا.
التنبيه الثاني:
وقد عرفت أن شرط الإكراه مرفوع الحكم أن يكون المتوعد فيه. في نظر العقلاء أشد من المكره عليه، والمعنى بنظر العقلاء ما شهد له الشرع بالاعتبار. فعرف من هذا أن الإكراه لا يرفع حكم القصاص، ولا يرفع الإثم عن المكره.
بيانه: أن نفسه ونفس من أكره على أن يقتله مستويان في نظر الشارع؛ فإيثاره نفسه ناشئ عن شهوات الأنفس وحظوظها ومحبتها للبقاء في هذه الدار أزيد من بقاء غيرها، وهذا القدر ليس من نظر العقلاء، أعني عقلاء الشرع الذين يتقيدون به فيما يأتون ويذرون.
وبهذا خرج كثير من المسائل التي سنذكرها فيما استثنى من قول "الإكراه يسقط أثر التصرف".
فإذا قيل لنا: يستثنى الإكراه على القتل؛ فإنه لا يسقط أثر التصرف بدليل الإثم إجماعًا والقصاص على الصحيح.
قلنا: ليس هو من حيث إيثار نفسه مكرهًا بل مختارًا، ومن ثم أثم وأقتص منه، ولا هذا النظر الذي نظره وآل به إلى تقديم نفسه على غير [لمشهود] 1 له من الشعر بالاعتبار، فإن الكفاءة في القصاص شرعًا منحصرة في الإسلام والحرية والبعضية، والله أعلم.
التنبيه الثالث:
شرط كون الإكراه مرفوع الحكم أن يكون مرتبًا على فعل المكلف، فإن الشارع جعل فعله حينئذ. كلا فعل. فإن كان الحكم مترتبًا على أمر حسي غير فعل المكلف ولو كان ناشئًا عن فعله، فلا يرفع حكم الإكراه. بل الإكراه حينئذ لأن موضع الإكراه الفعل ولم يترتب عليه شيء، وموضع الحكم الانفعال. ولم يقع2 عليه الإكراه. وإن كان هو أثر الفعل فالشارع قد يرتب الحكم على الفعل، وقد يرتبه على الانفعال، وهو في الأول. من خطاب التكليف الذي رفع شفقة علينا عند الإكراه. وفي الثاني من خطاب الوضع والأسباب والعلامات. فكيف يرتفع؟
وبهذا خرج الإكراه على الرضاع وعلى الحديث. فإذا أكره امرأة حتى أرضعت خمس رضعات حرم ذلك الإرضاع، لأن الحرمة منوطة بوصول اللبن إلى الجوف حتى لو حلبت قبل موتها وأسقى الصبي بعد موتها، حرم.
التنبيه الرابع:
شرط كون الإكراه مرفوع الحكم أن يكون بغير حق، فهو موضع الرخصة والتخفيف من الشارع، أما إذا كان بحق. فقد كان من حق هذا المكره أن يفعل، فإذا لم يفعل أكره ولم يسقط أثر فعله وكان آثمًا -على كونه أحوج [على] 3 أن يكره.
وهذا كالمرتد والحربي يكرهان على الإسلام فإسلامهما صحيح وهما آثمان بكونما أحوجًا إلى الإكراه عليه، ثم الإسلام إن وقع فيهما -عند الإكراه باطلًا كما وقع ظاهرًا، فهو يجب ما قبله. وإلا فحكمهما في الظاهر حكم المسلمين، وفي الباطن هما كافران لما أضمراه من خبث الطوية.
ووقع النظر فيمن [لم يكن كفره] 4 بفساد العقيدة بالامتناع عن التلفظ [بكلمة الشهادة مع القدرة عليها إذا تصور مثل هذا وأكره على التلفظ] 5 بكلمة الحق فهل
1 في "ب" مشهود.
2 في "ب" ليقع.
3 في "ب" إلى.
4 في "ب" فمن لم يكره كفره.
5 سقط في أوالمثبت من ب.
يصح باطنًا كما يصح ظاهرًا لأن اللفظ وافق العقيدة، ولا اعتبار بما توسط من الإكراه أولًا. لأن الإكراه أسقط حكم هذا التلفظ. والتلفظ إما شرط في الإيمان أو شرط منه فكأنه غير متلفظ.
والأقرب عندي هذا الثاني، لكن يكاد يكون فرض مثل هذا فرض بمستحيل.
والمسألة قريبة الشبه بما إذا أراد المكره على الطلاق إيقاع الطلاق، والأصح أنه يقع لحصول اللفظ والإرادة.
ويقرب منها ما إذا قال: طلق زوجتي وإلا قتلتك فطلق، فقد صحح الشيخان وقوع الطلاق. قالا لأنه أبلغ في الأذن، وفيه وجه أنه لا يقع، لأن الإكراه يسقط حكم اللفظ.
وفي الوكيل بالطلاق إذا أكره عليه احتمالان للروياني أبي العباس؛ غير أن الانصراف عن التلفظ بكلمتي الشهادة من غير عذر ينبغي أن يكون كفر أقطعًا.
التنبيه الخامس:
كذا وقع في عبارة الفقهاء. والإكراه بحق ولم يقولوا: الإكراه على حق. وبينهما فرق. فإن [كل] 1 مكره بحق مكره على حق وليس كل مكره على حق مكرهًا بحق، ألا ترى أن الذمي الذي أكره على الإسلام أكره على حق، ولكن ما أكره بحق؛ إذ ليس من الحق إكراه مثل هذا، ولهذا كان الصحيح أنه لا يصح إسلامه؛ فكأن الأصحاب عدلوا عن التعبير بالإكراه على حق إلى الإكراه بحق لأنه أعم.
فإن قلت: لو قال ولي الدم لمن عليه القصاص: طلق امرأتك وإلا اقتصصت منك، لم يحصل الإكراه، على ما جزم به الرافعي في كتاب الطلاق، وهذا إكلاه بحق وليس إكراهًا على حق، وأما كونه إكراهًا بحق فلأن القصاص حق المكره.
وأما كونه ليس على حق فلأن الطلاق ليس حق المكره حتى يحمل عليه.
فبان بهذا الفرع أن شرط الإكراه أن لا يكون حلالًا؛ وإلا فلا يحصل إكراه، وخرج منه أنه ينبغي أن يقال: الإكراه على حق. ولا يقال: الإكراه بحق.
قلت: ليس الإكراه -حيث المتوعد به حلال. واقعًا بحق، بل هو واقع بباطل. فإن مستحق القصاص ليس له أن يكره به على الطلاق؛ إذ ليس الطلاق من حقه، فالجار
1 في "ب" فكل.
والمجرور في قولنا: الإكراه بحق ليس معناه أن يكون المكره به حقًا؛ بل أن يكون الإكراه نفسه حقًا، ولا يكون الإكراه حقًا إلا على حق كإكراه القاضي المفلس على بيع ماله عند من يرى ذلك وهو الرافعي والنووي، أما الشيخ الإمام فعنده أن القاضي يتولى البيع بنفسه، فليصور في غير ذلك. واعلم أن ما جزم به الرافعي من أن الإكراه بالقصاص ليس بإكراه فيه نظر. والذي ينبغي أن يكون هنا إكراهًا.
التنبيه السادس:
قد تقدم الكلام على المستنى من قولهم، "الإكراه يسقط أثر التصرف" في أوائل الكتاب، ومن هنا يتحقق الجواب عن سبب ما استثنى.
أصل:
اتفق أئمتنا على امتناع مقدورين قادرين خالفين أو مكتسبين -أما بين قادرين- خالق ومكتسب فلا يمتنع.
ووافقهم أبو الحسن البصري من المعتزلة1، وأطبقت المعتزلة سواء على جواز ذلك وعليه أكثر الحنفية، وهي من آثار مسألة خلق الأفعال.
وقد تخرج عليه مسألة فقهية تعاكس فيه التخريج وهي قطع الأيدي باليد الواحدة؛ فمن منع ذلك. وهم الحنفية- قالوا: كل واحد من الفاعلين فاعل بمقدور نفسه فيختص كل منهم بالقطع الذي مقدوره دون مقدور صاحبه، فكان قطع كل جزء قطعًا على سبيل الانفراد؛ فلم يكن قطعًا لليد بكمالها -فكيف تقطع يده [في] 2 مقابلها.
فيقال للحنفية: هذا كلام من يمنع مقدورين "بين" قادرين وأثرًا عن [مأثورين] 3 وأنتم لا تمنعونه، فلم يكن اللائق بكم القول بذلك.
وإذا قيل لهم هذا. قالوا هم: "معاشر الشافعية أنتم تمنعون مقدورًا بين
1 هو الحسين بن علي بن إبراهيم أبو عبد الله البصري الحنفي المعتزلي كان مقدمًا في الفقه والكلام، ولد سنة ثلاث وتسعين ومائتين "هـ" وقيل سنة ثمان وثمانين وصنف التصانيف الكثيرة منها المعرفة، والرد على ابن الراوندي وغير ذلك وتوفي يوم الجمعة لليلتين خلتا من ذي الحجة سنة تسع وستين وستمائة هـ.
- تاريخ بغداد 8/ 73، شذرات الذهب 3/ 68، الفوائد البهية ص 31.
2 سقط في "ب".
3 في "ب" مؤثرين.
مكتسبين؛ فلم قطعتم الأيدي باليد الواحدة وأصولكم تأباه".
والجواب عن هذا قد قررناه في شرح المختصر في تضاعيف الكلام على مسألة التعليل بعلتين. والحنفية يوافقون على [قتل] 1 النفوس بالنفس الواحدة ويعتقدون بين النفوس والأيدي فرقًا وليس الأمر عندنا على ما يزعمون.
فرع: قال: من حملت منكن هذه الخشبة فهي طالق -وهي خفيفة تستقل كل واحدة بحملها، فحملتها [منهن واحدة- طلقت]2.
مسألة:
المأثور عن شيخنا أبي الحسن [رحمه الله] 3 أن العقل العلم، وعن القاضي أنه بعض العلوم الضرورية، وقال قوم: العلم الضروري.
وعن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: هو آلة التمييز. وقال إمام الحرمين في البرهان: ما جزم عليه أحد من علمائنا غير الحارث المحاسبي4. فإنه قال: العقل غريزة يتأتى بها درك العلوم وليست [منها] 5، وقد اختلف كلام الإمام في تعريف الحارث المحاسبي هذا. فإنه ارتضاه في البرهان. وفي الشامل حكاه. ثم قال: إنه لا يرضاه، وإنه يتهم النقلة عنه فيه وأطال في رده بما لسنا له الآن.
والمختار عندنا في تعريف العقل، أنه ملكة يتأتى بها درك المعلومات.
ثم اختلف أئمتنا في محله: فالمعروف عن الشافعية أن محله القلب. وهو الصحيح الذي دلت عليه صرائح الكتاب والسنة، قال تعالى:{لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 6 وقال تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وقال تعالى: {قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 في "ب" كرم الله وجهه.
4 الحارث بن أسد أبو عبد الله المحاسبي أحد مشايخ الصوفية وشيخ الجنيد إمام الطريقة، ويقال إنما سمي المحاسبي لكثرة محاسبته لنفسه ذكره أبو منصور التيمي وقال هو إمام المسلمين في الفقه والتصوف والحديث والكلام وكتبه في هذه العلوم أصول من ينصف فيها توفي ببغداد سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
ابن قاضي شهبة 1/ 59، تهذيب التهذيب 2/ 134، مرآة الجنان 2/ 142، شذرات الذهب 2/ 103، النجوم الزاهرة 2/ 316، تاريخ بغداد 8/ 211.
5 سقط في "ب".
6 الحج 46.
بِهَا} 1 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} 2.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة" 3، الحديث.
وذكر إمام الحرمين، في النهاية في باب أسنان إبل الخطأ أنه لم يتعين للشافعي. رضي الله عنه محله.
وذهب قوم إلى أن محله الدماغ "وهو المعروف عن أبي حنيفة رضي الله عنه".
وقيل: "لكل حاسة منه نصيب" قال الأستاذ أبو إسحاق: هو أحد قولي أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه. قلت: وفي كلام الإمام في باب أسنان إبل الخطأ، ما يقطع بأن العقل ليس محل اليدين. إذا عرفت هذا
…
4.
مسألة:
قال أئمتنا من طوائف أهل السنة. إن الحل والحرمة والطهارة والنجاسة وسائر المعاني الشرعية ليست من صفات الأعيان.
فإذا قلنا: هذا حلال أو حرام، طاهر أو نجس؛ فليس ذلك راجعًا إلى نفس الذات ولا إلى صفة نفسية قائمة بها، بل هو من صفات التعليق، وصفة التعليق لا تعود إلى وصف في الذات.
فليس معنى قولنا: الخمر حرام ذاتها ولا تجرع الشارب إياها؛ وإنما التحريم راجع إلى قول الشارع في النهي عن شربها، وذاتها لم تتغير، وهذا كمن علم زيدًا قاعدًا بين يديه؛ فإن علمه. وإن تعلق بزيد، لم يغير من صفات زيد شيئًا، ولا أحدث لزيد صفة ذاتز وذهب من ينتمي إلى أبي حنيفة رضي الله عنه -من علماء الكلام- إلى أن الأحكام الشرعية صفات للمحل، ورأوا أن التحريم والوجوب راجعان إلى ذات الفعل المحرم والواجب. والمسألة مقررة في أصول الديانات وينبني عليها فروع.
1 الأعراف 179.
2 ق "37".
3 متفق عليه من رواية النعمان بن بشير البخاري 1/ 126 في الإيمان/ باب فضل من استبرأ لدينه "52" وفي 4/ 290 "2051" ومسلم 3/ 1219 في المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات "107/ 1599".
4 بياض في الأصل.
منها: أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} 1 و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 2 ونحوه. هل هو مجمل.
فمن قال: [بإضافة الحل والحرمة إلى الأعيان نفي الإجمال ويلزمه الوقوع فيه]3. لأن الذات إذا كانت محرمة فينبغي أن يصادف التحريف ما لاقاها من الأفعال، حتى يحرم النظر إلى الأم، وغير ذلك مما لم يقل به أحد.
ومن لم يقل بذلك أثبت الإجمال غير أنه يدعي في اللفظ عرفصا عامًا يقضي بأن المراد العفل المقصود من الذات لا نفسها.
فانظر كيف تأدى مذهبنا -الذي مقتضاه في الآية الإجمال- إلى عدم الإجمال بما طرأ من العرف العام؟ وكيف تأدى مذهبهم الذي مقتضاه عدم الإجمال- إلى الإجمال بما أدى إليه القول بعدم الإجمال من أمور فجمع على أنها غير مقصودة. فصار المراد عندنا تحريم أكل الميتة. وترحيم نكاح الأمهات، وهو معقول من العرف وسياق الكلام يدرأ عنه الإجمال.
وإذا كان المحرم أكل الميتة فقط فيجوز التزود من الميتة لمن لم يرج الوصول إلى الحلال من المضطرين، وكذا لمن رجاه على الأصح إذ المتزود غير آكل.
ومنها: أن المعقود عليه في النكاح عندنا منفعة البضع. ولا نقول: أنها في حكم الأجزاء.
وقال أبو حنيفة: بل هو عين المرأة بوصف الحل، وهو وجه ضعيف عندنا، ومعناه أنها منافع جعلت في حكم الأجزاء، وحرف المسألة أن منافع البضع عندهم أجزاء حكمًا، وعندنا بل منافع حكمًا كما هي منافع حسًا، والمسألة مقررة في الخلافيات، ومن ثم نقول: يقبل النكاح الفسخ بالعيوب كما يقبله عقد الإجارة.
ونقول: وطء المشتري الجارية المشتراه مثل استخدامها لا يمنع الرد بالعيب.
ونقول: الخلوة لا تقرر المهر، لأن المعقود عليه المنفعة ولم يتسوفها، ومجرد الخلوة لا يقتضيها والحر لا يدخل تحت اليد.
وهم لما قالوا: المعقود عليه عينها. جعلوا تسليمها نفسها مع التمكن بالخلوة -
1 المائدة 30.
2 النساء 23.
3 سقط في ب.
كافيًا. والأصل في المسائل كلها: أن قولنا: "هذه المسألة حلال" ليس معناه كون الحل صفة عين عندنا، حتى تكون عينها معقودًا عليها؛ بل إن الانتفاع بها حلال.
وعندهم بل معناه أن العين حلال بناء على أن الحل من صفات الأعيان.
مسألة:
الحسن والقبح بمعنى ترتب المدح أو الذم عاجلًا، والثواب أو العقاب آجلًا -شرعي ولا عقلي، خلافًا للمعتزلة ومن وافقهم من فقهاء الفرق.
وفيه مسائل: منها:
النجش حرام على الناجش وإن لم يعرف بالخبر الوارد فيه.
قال بعض أصحابنا: لأن تحريم الخداع يعرف بالعقل، واعترضه الرافعي بأن ذلك ليس معتقدنا، وأجبنا عنه في شرح المختصر بأنه لم يقل:"إن العقل حرم" حتى يقال له: ليس ذلك معتقدنا؛ بل إنه أدرك التحريم وعرفه، والعقل إدراك لا محالة واعلم أن ما عزاه الرافعي إلى المختصر من أن الشافعي رضي الله عنه أطلق القول فيه بتعصية الناجش، وشرط في البيع على البيع للتأثيم العلم بالنهي- لعله تبع فيها الإمام فإنه عزال إلى الشافعي ذلك لكنه لم ينص على ذكر المختصر، والذي في المختصر والأم اشتراط العلم بالنهي في الموضعين.
ومنها: من لم تبلغه الدعوة مضمون بالدية والكفارة ولا يجب القصاص على قاتله على الصحيح؛ إذ ليس هو مسلمًا.
ومنها: إسلام الصبي الصحيح عندنا أنه لا يصح، لأن صحته فرع تقدم الإلزام به، ولا إلزام مع الصبي شرعًا.
وقال أبو حنيفة رحمه الله" يصح بناء على أن العقل يوجب على الصبي والبالغ العاقلين".
ومنها: لا ينعقد نذر صوم يوم العيد وأيام التشريق ولا يصح صومه للنهي عنه.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: "يصح" لأن مطلق الصوم عبادة، فيكون حسنًا، فيستحيل أن ينهي عنه لعينه، فيجب صرف النهي إلى أمر وراءه كترك إجابة الداعي مثلًا. قال: ولا يلزم على هذا الصوم في الحيض والنفاس، فإن ذلك من باب النفي لا من باب النهي، ومعنى النفي إخبار الشرع بانعدام هذه العبادة شرعًا زمان الحيض، لقيام المنافي وهو حدث الحيض والنفاس.
وأطال الحنفية في هذا، ولا يصح لهم فرق، وما بالهم يعقلون كون الحيض مانعًا، ولا يعقلون كون العيد مانعًا ولا احتجاج على الشرع فله أن يجعلهما مانعين.
ومنها: شهادة بعض أهل الذمة على بعض لا تقبل، وقال أبو حنيفة رحمه الله: تقبل، لأن المانع من القبول تهمة الكذب، وقبح الكذب، ثابت عقلًا فكل متمسك بدين يجتنبه.
أصل:
ذهب الإمام فخر الدين إلى أن الحياة "قوة النفس والحركة واعتدال المزاج" وهذا رأي لبعض الفلاسفة. والذي عليه أئمتنا. أنها معنى زائد على ذلك به، يستعد العضو لقبول الحس والحركة؛ فهي عرض على كل قول -ومن ثم لو قال لها "حياتك طالق" لا تطلق وهو الصحيح.
أصل:
الصحيح احتياج الممكن -في حالة بقائه- إلى المؤثر.
مسألة:
اختلاف الصفة هو كاختلاف العين؟ فيه نظر واحتمال يتخرج عليه أنه هل يكفر منكرو صفات الباري سبحانه وتعالى؟
وقد أخذ ابن الرفعة الخلاف في التكفير من اختلاف قول الشافعي رضي الله عنه في من نكح امرأة على أنها مسلمة فلم تكن؛ فإن القول بالصحة -وهو الصحيح الجديد- مأخذه أن المعقود عليه معنى لا يتبدل بالخلف كاختلاف العين ولو اختلفت العين كما لو قالت:
زوجني من زيد، فزوجها من عمرو، لم يصح.
ووافقه الشيخ الإمام على هذا التخريج إلا أنه استشكله -فإن الأصح فيما إذا قال: بعتك هذا الفرس وكان بغلًا، عدم الصحة.
ولقائل أن يقول في قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} 1 الآية دالة على أن الجهل بالصفة جهل بالموصوف؛ وإلا فهم يؤمنون باليوم الآخر وإن كذبوا الرسل، وفي القرآن آيات صريحة
1 التوبة 29.
في أن أهل الكتاب يكذبون باليوم الآخر مع أنهم يقولون: إنهم يؤمنون به.
أصل:
اختلف أئمتنا في أن الأفعال المحكمة هل تدل على كون فاعلها عالمًا بها؟
كذا عبارتهم فاعلها، ولو قالوا: من صدرت على يديه كان خيرًا؛ فإن تسميته فاعلها -مع اختلافهم في أنه هل فعلها- مما لا ينبغي.
إذا عرفت هذا فقد آل بهم خلافهم إلى اختلافهم في أن النائم هل يفعل؟
قال إمام الحرمين في الشامل: إن من سلك مسلك الأدلة -وزعم أن الإتقان يدل على علم المتقن. منع صدور أفعال محكمة من النائم. إلى أن قال: ومن أبطل طريق الاستدلال وأسند العلم إلى الضرورة لم يمتنع عنده صدور أفعال محكمة من النائم.
ثم قال: وهذا في الأفعال الكثيرة المتقنة؛ فأما القليل من الأفعال فلم يمنع أحد من أصحابنا أن يتصور من النائم ذكره بعد ما نقل أن المعتزلة أجمعوا على النائم يفعل القليل وأن القول فيمن استمرت به الغفلة كالقول في المغمور في النوم.
ثم قال: وذهب القاضي -في جميع المحققين- إلى أنا نجوز وقوع القليل، ولا نقطع بأن الصادر من النائم مقدور له، بل يجوز أن تكون حركاته ضرورية وأن تكون اختيارية، وأطال الإمام في هذا -وعليه مسائل منها:
لو دبت صغيرة فارتضعت من كبيرة نائمة أخيل انفساح النكاح على الصغيرة خلافًا للداركي.
أصل:
نبحث فيه عن معنى السبب والعلة.
قد كثر تداول هاتين اللفظتين على لسان حملة الشريعة. من المتكلمين والأصوليين والفقهاء واللغويين والنحاة، وربما وقع في بعض الأذهان أن السبب هو العلة، وليس كذلك؛ بل الفرق بينهما كامن عند أهل اللسان وأهل الشرع، أما أهل اللسان، فقال اللغويون: السبب كل شيء يتوصل به إلى غيره، ومن ثم سموا الحبل سببًا. وذكروا أن العلة المرض وحدث يشغل صاحبه عن وجهه. واعتل عليه بعلة [إذا] 1 إعاقته عن أمر، وكلمات يدور معناها على أمر يكون عنه أمر آخر.
1 في "ب" أن.
ولا حرج عليك إذا قلت: أمر يؤثر في أمر آخر لأنك هنا متكلم على المعنى اللغوي، ولأنا لا نعنى بالتأثير الاختراع بل ما عنه عادة الأثر بلا تخلف.
وذكر النحاة ما يؤخذ منه أنهم يفرقون بينهما حيث ذكروا أن اللام للتعليل، ولم يقولوا للسببية، وقال أكثرهم: الباء للسببية ولم يقولوا للتعليل، [وهذا تصريح بأنهما غيران]1.
وقال ابن مالك: الباء للسببية والتعليل، ومثل للسببية بقوله تعالى:{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} 2 وللعلة بقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} 3.
وذكروا أيضًا الاستعانة، ومعنى الاستعانة غير معنى السب والعلة.
فإن قلت: اكتشف لي الغطاء عن ذلك، لينفع في فهم ما أنت بصدده.
قلت: الباء الداخلة على الاسم، الذي لوجوده أثر في وجود متعلقها- ثلاثة أقسام. باء الاستعانة، وباء السبب. وباء العلة.
وذلك لأنها إن صح نسبة العامل إلى مصحوبها مجازًا فهي باء الاستعانة، نحو كتبت بالقلم، وتعرف أيضًا بأنها الداخلة على أسماء الآلات.
وإلا فإن كان المعلق إنما وجد لأجل وجود مجرورها فهي باء العلة نحو "فبظلم" ألا ترى أن وجود التحريم ليس إلا لوجود الظلم وتعرف بأنها الصالحة غالبًا. لحلول اللام محلها.
وذكر غالبًا ليخرج نحو غضبت له، وغضب له. وإلا يكن المتعلق كذلك فهي باء السببية نحو {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} ألا ترى أن إخراج الثمرات مسبب عن وجود الماء ولم يكن لأجل الماء بل لأجل مصلحة العباد.
وبهذا التقسيم علمت أن باء الاستعانة لا تصح في الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى؛ فهذا منتهى قول الناقلين عن العرب.
1 وفي "ب" قال ابن مالك: الباء للسببية والتعليل وهذا تصريح بأنهما غيران.
2 إبراهيم "32".
3 النساء "60".
وأما أهل الشرع فالسبب والعلة يشتركان عندهم في ترتيب السبب والمعلول عليهما، ويفترقان من وجهين.
أحدهما:
أن السبب ما يصلح الشيء عنده. لا به والعلة ما يحصل به.
وأنشد ابن السمعاني في كتاب القواطع على ذلك قول الشاعر1:
ألم تر أن الشيء للشيء علة
…
يكون به كالنار تقدح بالزند
ولكنه اختار في تعريف السبب أنه ما يوصل إلى المسبب مع جواز المفارقة بينهما.
قال: وقيل إنه مقدمة يعقبها مقصود لا يوجد إلا بتقدمها ولا أثر لها فيه ولا في تحصيله، [قال] 1: وهذا كالحبل سبب إلى [الوصول] 2 إلى الماء ثم الوصول بقوة النازح لا بالحبل، وكذلك الطريق سبب إلى الوصول إلى المكان المقصود ثم الوصول بقوة الماشي لا بالطريق. وحل القيد سبب لفرار المقيد، والفرار بقوته لا بالحبل.
قال: ويمكن الاستدلال على ذلك بقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3 فجعل ضرب القتيل بلحم بعض البقرة سبب الحياة؛ فلا أثر لذلك في الحياة، وكذلك ضرب موسى البحر بالعصا. فدل هذا على أن السبب هو الموصل مع جواز المفارقة.
وأطال ابن السمعاني في تعريف السبب والعلة والشرط وعقد لذلك بابًا مستقلًا.
والثاني، بأن المعلول يتأثر عن علته بلا واسطة بينهما والشرط يتوقف الحكم على وجوده، والسبب إنما يفضي إلى الحكم بواسطة أو وسائط.
ولذلك يتراخى الحكم عنها حتى تؤخذ الشرائط وتنتفي الموانع.
وأما العلة فلا يتراخى الحكم عنها. إذا لا شرط لها، بل متى وجدت أوجبت معلولها بالاتفاق حكى الاتفاق أمام الحرمين والآمدي4 وغيرهما، ووجهوه بدلائل كثيرة.
1 سقط في "ب".
2 في "ب" للوصول.
3 البقرة 73.
4 علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي سيف الدين الآمدي شيخ المتكلمين في زمانه ومصنف الأحكام ولد بآمد سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ويحكى عن ابن عبد السلام أنه قال: ما تعلمنا قواعد البحث إلا منه، وقال أبو المظفر بن الجوزي لم يكن في زمانه من يجاريه في الأصلين وعلم الكلام توفي رحمه الله في صفر سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
قبان قاضي شهبة 2/ 79، وفيات الأعيان 2/ 445، شذرات الذهب 5/ 144.
فإن قلت: هذا إنما هو في العلة العقلية.
قلت: الشرعية تحاكي العقلية أبدًا لا يفترقان إلا في أن تلك موجبة بنفسها، وهذه ليست موجبة- فإن قلت: فما معنى قولكم العلة الموجبة إذا كان الإيجاب للعلل على أصولكم.
قلت: قال إمام الحرمين في الشامل ما نصه: ليس المراد بقولنا العلة توجب المعلول، أنها تثبته كما تقتضي القدرة حدوث المقدور؛ ولكنا أردنا بالإيجاب تلازم العلة والمعلول، واستحالة ثبوت أحدهما دون الثاني. انتهى.
وهذا في الحقيقة هو الفرق الأول الذي أشرنا إليه بين العلة والسبب؛ فإن المسبب لا يلزم السبب لجواز تخلفه لمانع أو فقد شرط، والعلة سالمة من ذلك، فالملازمة فيها موجودة أبدًا.
وأما الفرق الثاني:
فقد ذكره الإمام في الشامل أيضصا قبل ذلك، وحكى عن المعتزلة أنهم قالوا [جميعهم] 1 "يجوز وجود السبب وانتفاء المسبب إذا تحقق مانع من وجود السبب".
وأنهم قالوا: الحكم تحب مقارنته للعلة، ولا يجب مقارنة السبب للمسبب؛ بل يجب استنجازه عنه. انتهى.
وهو المعنى بقولنا: "إن السبب لا يفضي إلى الحكم إلا بواسطة"
إذا عرفت هذا فقول النافذ طلاقه: "أنت طالق"؛ فإنه يستعقب ووقع الطلاق من غير توقف على شرط. وقوله: "إن دخلت الدار فأنت طالق" سبب؛ فإنه لا يفضي إلى الحكم إلا بواسطة دخول الدار.
وترى السبب منصوبًا، والمسبب مفقودًا، ولا كذلك العلة.
1 في "ب" بأجمعهم.
وأعلم أن الأصوليين لم يعتنوا بتحقيق الفرق بين العلة والسبب، وربما وقع في كلامهم أنهما سواء، لأن مقصدهم الوصف الذي ترتب بعده الحكم وله مدخل فيه، وليس ذلك إنكارًا منهم للفرق، بل لما لم يحتاجوا إليه لم يذكروه، وهو واقع لا محالة.
واستعمله الغزالي رحمه الله في الفقيات على نحو ما أيدناها، فقال في الجراح.
الفعل الذي له مدخل في الزهوق إن لم يؤثر في الزهوق ولا فيما يؤثر فيه فهو الشرط وإن أثر فيه وحصله فهو العلة كالقد والجزء وإن لم يؤثر في الزهوق ولكن أثر في حصوله فهو السبب كالإكراه، ولا يتعلق القصاص بالشرط، ويتعلق بالعلة وكذا بالسبب على تفصيل فيه.
واعترضه الرافعي بأنه لم يف بهذا الاصطلاح في الشرط والسبب لكونه سمى الحفر سببًا في الغصب وشرطًا في الجراح.
وأجاب عنه ابن الرفعة بأنه إنما جعل الحفر شرطًا في الجراح وسببًا في الغصب؛ لأن الضمان ترتب على الحفر إذا انعدمت التردية، وفي الجراح لا يجب القصاص به إذا انعدمت، ويؤيده أنه في باب الديات جعل الحفر سببًا لتعلق الدية به. وهو جواب صحيح، حاصله أن الحفر صالح للسببية وللشرطية، فإذا ترتب عليه المسبب كان سببًا وإلا كان شرطًا، والقصاص لا يترتب فلا يكون بالنسبة إليه. سببًا بل شرطًا، والضمان ترتب فيكون بالنسبة إليه سببًا وهذا حسن، وعند هذا نقول: أعلم أن الوسائط بين الأسباب والأحكام تنقسم إلى مستقلة وغير مستقلة.
فالمستقلة بضاف الحكم إليها ولا يتخلف عنها وهي العلل.
وغير المستقلة: منها ما له مدخل في التأثير ومناسبة إن كان في قياس المناسبات وهو السبب، ومنها ما لا مدخل له، ولكن إذا انعدم ينعدم الحكم وهو الشرط بهذا يتبين لك ترقي رتبة العلة عن رتبة السبب، ومن ثم يقولون: إن المباشرة تقدم على السبب، ووجهه أن المباشرة علة، والعلة أقوى من السبب، ومن ثم لو فتح زقًا بمحضر من مالكه فخرج ما فيه والمالك يمكنه التدارك فلم يفعل فوجهان.
أحدهما: يضمن كما لو رآه يقتل عبده أو يحرق ثوبه فلم يمنعه.
والثاني: لا، والفرق أن القتل والتحريق مباشرة، وفتح الزق سبب. والسبب يسقط حكمه مع القدرة على منعه.
ونظير المسألة: إذا صالت عليه البهيمة، وأمكنه الهرب ولم يهرب ففي الضمان وجهان، وقد يكون الضمان في مسألة البهيمة أرجح منه في الزق؛ لأن الإنسان قد تحصل له عند الصيال -دهشة تشغله عن الدفع.
تنبيه:
لا يسحب أن الشرط أضعف حالًا وأنزل رتبة من السبب، بل الشرط يلزم من عدمه العدم، وهو من هذه الجهة أقوى من السبب، إذا السبب لا ملازمة بينه وبين المسبب. انتفاء وثبوتًا، بخلاف الشرط.
ومن ثم قال القفال الكبير. فيما نقله ابن السمعاني عنه: "الطريق في التمييز بين العلة والسبب والشرط أنا ننظر إلى الشيء؛ فإن جرى مقارنًا للشيء أو غير مقارن ولا تأثير للشيء فيه دل على أنه سببه، وأما الشرط فهو ما يختلف الحكم بوجوده وعدمه، هو مقارن غير مقارن للحكم كالعلة سواء -إلا أنه لا تأثير له فيه؛ وإنما هو علامة على الحكم من غير تأثير أصلًا.
وقال ابن السمعاني: "الشرط ما يتعين الحكم بوجوده". قال: والسبب لا يوجب تغيير الحكم، بل يوجب مصادفته وموافقته. ثم ذكر كلام القفال الذي ذكرناه. وليس مرادهما أنه يوجب الحكم.
مسألة:
قال علماؤنا: الشرط إذا دخل على السبب ولم يكن مبطلًا كان تأثيره في تأخير حكم السبب إلى حين وجوده، ولا في منع السببية.
مثاله: إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو أنت طالق [إن] 1 دخلت الدار فالسبب قوله: أنت طالق، والشرط الداخل عليه. وهو قوله: إن دخلت، مقدمًا كان أو مؤخرًا. لا يؤثر شيئًا في قوله:"أنت طالق" بل في حكمه.
وإنما قلنا: ِإنه لا يؤثر في "أنت طالق" لأن "أنت ط الق" ثابت مع الشرط كما هو ثابت بدونه، ولكن الشرط أوقف حكمه ومنعه؛ فكان أثر الشرط في منع حكم العلة لا في نفس العلة، بدليل أنه لو لم يقترن به الشرط ثبت حكم العلة. وربما عبروا عن هذا بأن الشرط لا يبطل السببية ولكن يؤخر حكمها فالسبب ينعقد ولكن الشرط يوقفه. ويؤخر حكمه فإذا ارتفع الشرط عمل السبب عمله. ومن ثم يقولون: الصفة وقوع لا إيقاع
1 سقط في "ب".
ويقول الشيخ الإمام الوالد رحمه الله: إن دخلت الدار فأنت طالق، إنشاء للتعليق لا تعليق للإنشاء، ومعنى هذا أن السببية انعقدت في الحال، وحكمها تأخر بمقتضى الشرط إلى وجود الصفة.
وأقول أنا: إذا دخلت الدار طلقت، لكونه قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، لا لكونها دخلت. فأفهم هذا فلقد ذهل عنه ذاهلون، وأعلم أن أحدًا منا لا يقول: إنها طلقت لدخولها؛ بل إنما طلقت بالتعليق وحده لما انتفت عنه الموانع.
فإن قلت: فقد قال الفقهاء: التعليق مع الصفة تطليق.
قلت: ليس معناه أن الصفة جزء من التطليق، بل إنها شرط يوقف الحكم ويؤخر من أجلها وليس كل ما توقف عليه الحكم علة ولا جزء علة.
هذا هو الحق: فالعلة فعل الزوج فقط. الذي يتصرف تارة بالتنجيز وتارة بالتعليق وليس لفعل الزوج أثر.
وربما يقولو: الموقوف على دخول الدار، الطلاق لا التطليق.
وربما قالوا أيضًا: المعلق الطالقية نزولًا لا الطالقية سببًا. وقد عرفت ما يعنون بهذه العبارات كلها.
والحاصل أن تعليق الطلاق عندهم بمنزلة من يتخير الوكالة ويعلق التصرف على شرط لا بمنزلة من يعلق أصل الوكالة.
فإن قلت: حاصل هذا الكلام أن التعليق إيقاع وتطليق، والمجزوم به -في كلام الإمام والغزالي والرافعي والنووي ما نصه ومن لفظ الروضة نقلته "إن مجرد التعليق ليس بتلطليق ولا إيقاع ولا وقوع".
قلت: قد أطال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله في كتاب التحقيق: في مسألة التعليق الذي رد به على ابن تيمية1 وهو من نفائس كتبه.
1 أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقي الحنبلي أبو العباس تقي الدين ابن تيمية شيخ الإسلام ولد بحران كان كثير البحث في فنون الحكمة داعية إصلاح في الدين آية في التفسير والأصول، فصيح اللسان، قلمه ولسانه متقاربان له مصنفات عديدة انتفع بها أهل العلم على مختلف منحاهم:
الدرر الكامنة 1/ 144، البداية والنهاية 4/ 135، النجوم الزاهرة 9/ 271، الأعلام 1/ 144.
الكلام على جواب هذا بما حاصله أن ذلك لا يدفع كون التعليق سببًا وهو المدعي هنا.
وصرح به الأصحاب عند كلامهم على أن العزم عند الرجوع -هل هو على شهود التعليق أو الصفة؟ فقالوا: التعليق موقع والصفة محل.
قال: والشافعية قد يمنعون إطلاق الإيقاع على التعليق، لاعتقاد أن الإيقاع، يستعقب الوقوع، لا لإنكار كون التعليق سببًا.
قال: وللمسألة التفات على مسألة التكوين والمكون.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: "الشرط إذا دخل على السبب منع انعقاده سببًا في الحال". وربما قالوا: الشرط داخل على نفس العلة وأصلها، لا على حكمها.
قالوا: والشرط يحول بين العلة ومحلها؛ فلا تصير علة معه.
فحرف المسألة بيننا وبينهم أن الشرط هل يمنع انعقاد سبب الحكم حتى يكون الحكم عند انتفاء الشرط مستندًا إلى البقاء على الأصل لا إلى انتفاء الشرط أو لا يمنع انعقاد العلة بل يمنع وجود حكمها حتى يكون الدال على انتفاء الحكم صيغة الشرط. وهذا أصل عظيم في الخلافيات. عظم فيه تشاجر الفريقين، وعليه مسائل.
منها: تعليق الطلاق أو العتق بالملك باطل عندنا؛ لأن التطليق المعلق سبب وقوع الطلاق، والتعليق أثر في تأخير حكمه مع بقاء سببه.
وإذا بقيت السببية لزم أن يكون المحل مملوكًا، فإن اتصال السبب بالمحل المملوك شرط لانعقاده، ليكون السبب مفضيًا إلى الحكم عند وجود الشرط.
ولهذا لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق لم يصح، لأن السبب لا يفضي إلى حكمه وإن وجد الشرط.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يصح، لأن التطليق معلق بالشرط، فلم يكن سببًا لوقوع الطلاق فلا يشترط له ملك المحل، بل ينقعد التطليق يمينًا، لأنه إن قصد بها لمنع فهو موجود بوقوع الطلاق عند وجود الشرط، وكذا إن قصد الطلاق، لأنه أضاف الطلاق إلى الملك وكان كلامه مقيدًا فانعقد صحيحًا. هذا حاصل كلامهم.
فإن قلت: قرر لي وجه اشتراط كون السبب لا ينعقد حتى يتصل بالمحل المملوك؛ فإنه مما يتوقف فيه النظر، إذ قد يقول قائل: ينعقد السبب وإن لم يتصل بمملوك.
قلت: لا حاجة بك هنا إلى تقرير هذا، بل يكفيك اتفاق الفريقين عليه؛ فإن الإمامين متفقان عليه، ولذلك اتفقا فيما ول قال لأجنبية:"إن دخلت الدار فأنت طالق" على أنها لا تطلق، وإن دخلت وهي زوجة؛ وإنما اختلفا في أنه هل وجد السبب في صورة النزاع أو لم يوجد؟
وبهذا يعلم أن من يحتج على الخصوم، بما رواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ليس على رجل طلاق فيما لا يملك ولا عتاق فيما لا يملك ولا بيع فيما لا يملك"1 لا تتم له الحجة حتى يثبت أن التعليق قبل الملك كائن فيما لا يملك، وإلا فأبو حنيفة رضي الله عنه يقول له: "أنا قائل بموجب الحديث، وأنا لا أجعل عملية الطلاق فيما يملك لأني لا أعقد السبب في الحال. فتأمل ذلك -فيه- تعرف مقدار معرفة مأخذ الأئمة.
فلو اتفق الإمامان على انعقاد السبب لاتفقا على عدم الصحة، أو على عدم انعقاده لاتفقا على الصحة، ولكنهما اختلفا، فالشأن في تثبيت أحد القولين قبل الاستدلال بالحديث.
نعم: أصحابنا يروون من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال لي عمل لي: أعمل لي عملًا حتى أزوجك ابنتي فقلت: إن تزوجها فهي طالق ثلاثًا، ثم بدا لي أن أتزوجها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته فقال لي:"تزوجها؛ فإنه لا طلاق إلا بعد نكاح"، فتزوجتها. فولدت لي أسعد وسعيد2..
1 أخرج أحمد في المسند 2/ 190، وأبو داود في السنن في كتاب الطلاق/ باب في الطلاق قبل، النكاح حديث "2190"، والترمذي 3/ 486 في الطلاق باب ما جاء لا طلاق قبل النكاح "1181"، والنسائي في السنن 7/ 12 في الإيمان والنذور، والحاكم في المستدرك 2/ 204- 205 في كتاب الطلاق.
2 الدارقطني في السنن 4/ 36 في كتاب الطلاق "97".
ومن حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق، قال: طلق ما لا يملك1.
وهذان: لا سيما الحديث الثاني -صريحان في مذهبنا، وقد رواهما الدارقطني؛ غير أن في سندهما مقال. ولقد تأملت هذه المسألة وأعملت فيها فكري واختبرت قريحتي وتلوت ما عندي من العلم. فلم أنته إلى ما يثلج له الصدر من ظن غالب؛ بل إن مذهب الشافعي رضي الله عنه، في هذه المسألة عندي راجح رجحانًا [لست] 2 معه على ثقة من التزحزح بما يحدث من الشبهات.
أما رجحانه: فلأني أظن أن حديث "ليس على الرجل طلاق فيما لا يملك". ظاهر فيما يتبادر إلى الفهم منه من أنه لا يعلق إلا من يطلق. ومعتضد بهذين الحديثين وإن كانا غير صحيحين وبما يؤيدهما من أحاديث آخر، ولأني أظن أن الشرط لا يمنع انعقاد السببية.
غير أن ظني هذا، دون ما ظننته من الحديث، فلو ترقت دلالة الحديث عندي على مرامي، إلى درجات غلبة الظن لترقي بسببها ظني أن الشرط لا يمنع انعقاد السببية استدلالًا بالفرع على الأصل، لكن لم يترق، وللبحث مجال في منع الشرط انعقاد السببية؛ فهذه المسألة مما استخير الله فيه وأسأله التوفيق لوجه الصواب، وأعرف رجحان مذهب الشافعي رضي الله عنه، لكنه كما علمت رجحانًا لا أستطيع معه على الفتيا به. ويتلوه مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه في إحدى الروايتين "عنه" أنه يجوز تعليق العتق قبل الملك، ولا يجوز تعليق الطلاق فهو عندي أرجح من مذهب أبي حنيفة، لما عرف من التشوف إلى العتق، ومن وقوعه في غير مملوك بالسراية.
ويتلوه مذهب أبي حنيفة فيجواز تعليق الأمرين، ولولا الأحاديث الظاهرة في خلافه لكان عندي أرجح المذاهب، ولولا أن صحيحها غير صريح في مرامنا، وضعيفها لا تنهض به الحجة لكان أضعف المذاهب.
1 الدارقطني في السنن 4/ 16 في الطلاق حديث "47"، قال صاحب التنقيح: حديث باطل فيه أبو خالد الواسطي هو عمرو بن خالد وهو وضاع، وقال أحمد ويحيى هو كذاب.
2 سقط في ب.
وأضعفها مذهب مالك رحمه الله، فإنه فرق بين التعميم والتخصيص، ولا وجه له فيما يتبين لي.
وأضعف من مذهب مالك مذهب ابن حزم1؛ فإنه وافق أبا حنيفة على أن الشرط يمنع انعقاد السبب، ثم زاد فقال:"يمنعه مطلقًا"، ومن قال:"لا يقع الطلاق المعلق رأسًا" وعليه أبو عبد الرحمن الشافعي المعتزلي2 ولعلهما خرقًا إجماع الأمة.
وقد حاول الشيخ الإمام القضاء عليهما بذلك في كتابه التحقيق، وذكر أن هذا الذي عليه ابن حزم ليس هو مذهب إمامه داود، وذكر أن مذهب شريح فيمن قال:"أنت طالق إن دخلت الدار" أنه يلزمه الطلاق دخلت أم لم تدخل.
قلت: وتلخص من هذا أن الشرط الداخل على السبب قاطع له عند ابن حزم وأبي عبد الرحمن أحدهما يصير الكلام لغوًا، ويقابله قول شريح:"إنه يفسد في نفسه ولا يعترض السبب فيعمل عمله".
ولكن شريح يقصر على ما إذا بدأ بالسبب قبل الشرط، ولا بقوله فيما إذا عكس فقال:"إن دخلت فأنت طالق".
وفقهاء الفرق لا يلغون الشرط. ثم اختلفوا، فأشدهم إعمالًا [له] 3 الشافعي رضي الله عنه، حيث قال:"إنه منتصب سببًا في الحال".
وأبو حنيفة يقول: "سيصير سببًا في ثاني الحال، وأما في الحال فلا هو سبب ولا هو منهي".
1 الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الفارسي الأصل ثم الأندلسي القرطبي اليزيدي ولد الإمام أبو محمد في آخر يوم في رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة بقرطبة.
قال الذهبي: كان ينهض بعلوم جمة ويجيد النقل ويحسن النظم والنثر وفيه دين وخير ومقاصده جميلة ومصنفاته مفيدة.
سير أعلام النبلاء 18/ 194، البداية والنهاية 12/ 98، دائرة المعارف الإسلامية 1/ 254، وفيات الأعيان 3/ 325.
2 أبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز البغدادي.
حدث عن الشافعي والوليد بن مسلم الثقفي، ابن السبكي 2/ 64.
3 سقط في "ب".
ومنها: الصحيح عندنا، في رجوع الشهود -أن العزم على شهود التعليق دون شهود، الصفة في الطلاق والعتق لأن السبب.
وفي وجه، رآه مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه عليهم جميعًا، ولعل قائل هذا من مذهبنا يجعل الصفة جزء علة، وهو احتمال للوالد رحمه الله ذكره في كتاب "التحقيق" ثم صرح بأن الأرجح أنه شرط فليس جزء علة، وهو الحق كما قدمناه.
ومنها قال ابن الحداد: إذا قال أحد الشريكين للعبد: إذا دخلت الدار فنصيبي حر، وقال الآخر مثل ذلك فدخل عنق "عليهما" ولم يحك صاحب البحر سواه، ولو لم يكن التعليق ينعقد سببًا في الحال لكان الوجه التفصيل بين أن يقول الشريك بعد شريكه أولًا؛ فإن قالا معًا فالأمر كذلك، وإلا فتأخر قول أحدهما يوجب سبق انعقاد قول صاحبه سببًا لنصيبه.
فيشبه أن يقال: إذا دخل عتق على الأول، لأن السبب انعقد له قبل صاحبه، فيسري عليه إذا كان موسرًا.
ومنها خيار الشرط يورث خلافًا لأبي حنيفة رضي الله عنه أن الخيار لا يمنع نقل الملك؛ بل الملك حاصل وينتقل إلى الوارث، والثابت بالخيار، حق الفسخ والإمضاء؛ وذلك حق شرعي أمكن انتقاله إلى الوارث كما في الرد بالعيب.
وعندهم خيار الشرط صفة حسية تقوم بالمختار والثابت به يشبه نقل الملك واستيفائه وهي صفة من صفاته تفوت بفواته.
ومنها: أن كلًا من المتعاقدين مستبد بالفسخ في خيار الشرط، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: غير مستبد، بل لا بد من حضور شريكه في العقد.
وحرف المسألة أن الخيار عندنا عبارة عن ملك فسخ العقد، وليس بمانع من انعقاد البيع، سببًا للملك. وعندهم عبارة عن استيفاء أحد الجانبين.
ومنها: البيع بشرط الخيار ينعقد سببًا لنقل الملك في الحال؛ وإنما يظهر تأثير الشرط في تأثير حكم السبب، وهو اللزوم الذي لولا دخول الشرط لثبت -وهذا على القول المنصور في الخلاف. وهو انتقال الملك إذا كان الخيار لهما.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا ينعقد سببًا لنقل الملك. بل دخول الشرط
منع كونه سببنًا في مدة الخيار؛ فإذا سقط الخيار وزال الشرط انعقد حينئذ سببًا.
وحرف المسألة ما ذكرناه من أن حقيقة الخيار عندنا ملك فسخ ما ثبت، وعنده استيفاء ما كان.
ومنها: التكفير قبل الحنث يجوز عندنا لانعقاد السبب، ولا يجوز عندهم لا بالمال ولا بالصوم، لأن اليمين معلقة بالشرط، وهو الحنث. فلا ينعقد سببًا في حق الكفارة حتى يوجد الحنث.
وإذا تأملت هذه المسائل عرفت أنا غفلنا سببًا تخلف عنه مسببه لقيام مانع أو تخلف شرط؛ فلم يمنع انعقاد الأسباب، وإن تأخرت المسببات.
والخصوم لم يعقلوا ذلك فمنعوه، ولعلهم لا يفرقون بين العلة والسبب؛ فمن ثم يقولون: "لا يتأخر السبب عن مسببه، ولا يتوقف على شرط [فإن المعلوم لا يتأخر علته ولا يتوقف على شرط] 1 صحيح.
وقد ذكر أئمتنا أن العلة الموجبة على القول بها -لا يجوز أن يكون إيجابها لمعلولها مشروطًا بشرط، قال إمام الحرمين في الشامل: والخائضون في العلل متفقون على ذلك.
وأما قولهم: إن السبب والعلة سواء. فلسنا نوافقهم عليه؛ بل هما مفترقان، وسنعقد لذلك مسألة على الأثر ونبين وجود السبب وانتفاء المسبب لمانع، ولا كذلك العلة.
فائدة: علمت الأصل العظيم الذي عظم فيه تشاجر الفريقين في الخلافيات وتبين لكل رأينا فيه، وقد حاد الإمام عنه في الفرع الشهير -وهو تعليق الوقف بالموت، ونحن نذكره ملخصًا.
فنقول: استفتي في زمن الأستاذ أبي إسحاق في رجل قال: وقفت داري على المساكين بعد موتي، فأفتى الأستاذ بوقوع الوقف بعد الموت وقوع العتق في المدير وساعده أئمة الزمان. قال الإمام: وهذا تعليق على التحقيق، بل هو زائد عليه؛ فإنه إيقاع تصرف بعد الموت. [قال الرافعي: وهذا كأنه وصية] 2 يدل عليه أن في فتاوي
1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
2 سقط في ب.
القفال أنه: لو عرض الدار على البيع صار راجعًا عنه.
قال الشيخ الإمام: وقول الإمام: إنه تعليق على التحقيق صحيح؛ غير أن التعليق بالموت في التمليكات يصح وصية [بالوقف] 1 فالوقف أولى، وقوله: إنه زائد عليه؛ فإنه إيقاع تصرف بعد الموت، يقال له: الوصية والتدبير كذلك، والحق أنه ليس واحد منهما إيقاع تصرف بعد الموت، وذلك أن التعليق عندنا تصرف ناجز الآن، وأثره يقع عند وجود الصفة، وعند الحفية يقدر كالنازل عند وجود الصفة ويرد عليهم التدبير.
فالذي قاله الإمام: من أنه إيقاع تصرف بعد الموت، يشبه ما يقوله الحنفية، والذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه وذكره الأصحاب صحة الوقف كما أفتى به الأستاذ. وكاد الشيخ الإمام يدعي الإجماع عليه، قال: وإن كان ابن الرفعة حاول إثبات خلاف فيه فذلك غير صحيح، قال: وينبغي أن تجعل هذه المسألة أصلًا من الأصول أعني تعليق الوقف بالموت، قال:"ولا يخالف فيها حنفي ولا غيره"..
فروع: قد يتخيل أنها ترد نقضًا على أصلنا:
منها: لو علق الراهن [على] 2 عتق المرهون بفكاك الرهن، نفذ عند الفكاك، وإن لم ينفذ عتق الراهن المنجز، لأن مجرد التعليق لا يضر بالمرتهن وحين يترك لا يبقى له حق.
وقد يقال: كيف سوغتم تعليق من لا يملك التنجيز فإن الراهن المعسر لا ينفذ عنقه على الصحيح وكذا الموسر على قول.
والجواب: أن عدم نفاذه ليس إلا لتعلق حق المرتهن، ولذلك لو أذن المرتهن نفذ، فالمقتضى قائم، ولكن منع منه مانع لم يوجد في صورة التعليق؛ فليس كالتعليق بل الملك إذ لا مقتضى هناك، ولو علق الراهن العتق بصفة أخرى وحدت بعد فكاك الرهن، فالأصح النفوذ.
ومنها: إذا قال العبد لزوجته: إن فعلت كذا فأنت طالق ثلاثًا ثم عتق ثم فعلته، فالأصح وقوع الثالثة، والخلاف جار.
ولو علق فقال: إن عتقت فأنت طالق ثلاثًا. والأصلح أيضًا وقوع الثالثة.
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
ولا خلاف في تعليق عتق الراهن بالفكاك أنه ينفذ -وفرق الإمام بفرق خدش فيه الرافعي بما لا يخدشه، وقد أطال الشيخ الإمام رحمه الله في شرح المهذب- الكلام عليه بما لا نطيل به.
وحاصل الفرق أن التعليق في الرهن مع قيام المقتضى وفي الطلاق قبله والشيخ الإمام وشيخه ابن الرفعة متفقان على صحة هذا الفرق مخالفان الرافعي في قوله: لعلك لا تنقاد إليه.
ومنها: الإيلاء لا يصح إلا من زوج؛ فلو حلف على ترك وطء أجنبية كان يمينًا محضة. فإن نكحها فلا إيلاء- وهذا جار على القاعدة في أن التصرف قبل الملك لاغ.
غير أن لنا وجهًا أنه إذا نكحها صار موليًا وعليه السؤال فمن قائل: إن منزعه جواز التعليق في النكاح قبل الملك وهو قول حكاه صاحب التقريب يوافق الحنفية، وهذه طريق الإمام الغزالي. وعلى هذا سقط السؤال.
ومن قائل: إنه جار مع القول بأن التعليق قبل الملك باطل، وهو قضية طريقة الرافعي لأنه احتج بأن اليمين باقية وهي المانعة من الوطء، وعليها صاحب التتمة وكلام القاضي أبي الطيب في التعليقة -دال لها- فإنه جزم بها الوجه في الإيلاء مع تضعيفه للقول بالتعليق قبل الملك.
غير أن الرافعي ذكر هذا الوجه الذي في الإيلاء -نسبة ناسبون إلى رواية صاحب التقريب، وصاحب التقريب إنما روى التعليق قبل الملك فيما يظهر؛ فالجمع بين أنه رواه صاحب التقريب وأنه مفرع على المذهب جمع بين ما في النهاية وما في التتمة ولا يجتمعان فيما يظهر.
فرع:
لقاعدة الشروط الداخلة على الأسباب هو في نفسه أصل من الأصول الفقهية، الشروط المعلق عليها كلها، عند الإطلاق تحمل على حياة الشخص المعلق -ولك أن تقولك الحياة شرط للشروط المعلق عليها؛ فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت حر. فلا يعتق حتى يدخل الدار في حياة السيد، وإن مات انقطع حكم التعليق.
وقال مالك: لا ينقطع بل يعتق بدخوله بعد موت السيد، ولعل هذا منه مخالفة لهذا الأصل على الإطلاق أو في باب العتق بخصوصه.
وهذه القاعدة ذكرها الوالد رحمه الله استطرادًا في كتاب اعتراض الشرط على الشرط. وقد يعترض عليها بما إذا قال: إن مت فأنت حر بعد موتي بشهر؛ فإن حكم التعليق لا ينقطع بالموت بل يتوقف العتق على انقضاء الشهر، وكذا إذا قال إن مت فأنت حر إن شئت، الصحيح يوقف العتق على مشيئة العبد بعد موت مولاه.
أصل قاطع 1:
لا يجوز عقلًا اجتماع علتين على معلول واحد. وهذا الأصل مهدنًا له في شرح المختصر، وناضلنا عنه وادعينا قيام القاطع عليه، وحكمنا عليه بأن مخالفه محجوج ببراهين العقول، ونزلنا عليه من الفروع الفقهية، ما يرتفع عن همم الزمان. وحظ هذا الكتاب أن يقول: "هذه قاعدة مضطردة منعكسة لا سبيل إلى انتقضاها بشيء من الصور سواء عرفت هذه العلة بالمؤثر أم بالعرف أم بالباعث، وكلام العقلاء في جميع العلوم من المتكلمين والأصوليين والنحاة والفقهاء متطابق على هذا، وما هي عندي إلا قاعدة كامنة في أفئدة العقلاء.
أما المتكلمون فواضح تطابق آرائهم عليها.
وأما النحاة؛ فلو عددت لك ما يدل على ذلك لأكثرت وخرجت عن مسائل الفقه، ويكفيك قولهم:"لا يجتمع عاملات على معمول واحد".
وأما الفقهاء فقد أكثرت في شرح المختصر من كلامهم، وسأتحفك هنا بمقدار نافع.
وأما الأصوليون، فاختلافهم فيه إنما نجده عند نظرهم في المسألة بخصوصها ثم إذا خاضوا بعيدًا عنها وجدت أفئدتهم تحوم حول المنع.
فإن قلت: فقد وضح اختلافهم الشديد فيها وأكثر المتأخرين -منهم- على الجواز.
قلت: [علم] 2 أنه رب قاعدة مستقرة في الأذهان، غائبة عند المناظرة عليها عن العيانن بل يحاول الإنسان -إذ ذاك، دليلًا عليها فلا يجده، فيجنح، إلى إنكارها، وحسه وعقله يكذبانه ولو أعطي التأمل حقه ورزق من التوفيق ما يؤيده لوجد الدليل، على ما هو مركوز في طباعه إذا كان حقًا، أو لحما الله ذلك من قبله إذا كان باطلًا.
1 هذا الأصل سقط من ب.
2 سقط من "ب".
ولست بالمطيل هنا في الكلام على ذلك بعد ما أطلت في الشرح والعرض الآن، إنه لا يوجد، وصفان -فصاعدًا- يحسن أن يضاف الحكم إلى كل منهما لو انفرد إلا والحال إذا ذاك على وجهين.
أحدهما:
أن يتعاقبا: وحينئذ فقد يضاف الحكم إلى الول منهما كما في السببين إذا اجتمعا؛ فقد قال الأصحاب في الجراح: "يعول على الأول منهما". وتكلمنا على ذلك في قاعدة الأسباب.
ونظيره في العبادات أنا نقول: من أحدث ثم أحدث حدثًا على حدث لم يتخللهما طهارة أن الحديث الثاني لم يفعل شيئًا.
ويظهر أثر ذلك -إذا فرعنا على القديم في أن سبق الحدث لا يبطل الصلاة، أنه لو أخرج باقي الحدث عمدًا لم تبطل صلاته؛ بخلاف ما لو ابتدأ عمدًا حدثًا ثانيًا فإنها تبطل على الصحيح فيهما في تفاريع القديم.
وقد يضاف إلى الثاني فقط كما في اجتماع السبب والمباشرة وقد يضاف إلى أخيلهما وأنسبهما سواء كان الأول أو الثاني.
فعلى التقارير كلها لا يضاف إليهما جميعًا، ولئن أضيف إليهما جميعًا فالإضافة إلى المجموع منهما، وكل منهما جزء غلة لا علة مستقلة، فلا اجتماع لعلتين على معلول واحد.
ولئن أضيف إلى كل منهما على سبيل الاستقلال ولن ترى ذلك إن شاء الله في صورة من الصور عن إمام من أئمة الهدى، فالصادر حكمان لا حكم واحد، كل مضاف إلى علته؛ فلا اجتماع لعلتين على معلول واحد
الوجه الثاني:
أنه يوجد الوصفان معًا -وهو غمرة هذا البحر وموضع التحقيق من هذه المسألة- فإما أن يبطل علمهما بالكلية، أو يعمل أنسبهما وأخيلهما إن كان فيهما أنسب وأخيل أو يعمل واحد منهما لا بعينه أو يعمل مجموعهما، أو يعمل كل منهما، ولكن يكون الناشئ حكمان لا حكم واحد.
فهذه خمس طرق لا سادس لها، وليس في شيء منها إعمال علتين مستقلتين؛ بل إما [لا أعمال] 1 فلا حكم فرارًا من العمل بعلتين، وإما إعمال ولكن حكمان فلا يعود
1 في ب الإعمال.
على معلول واحد، وإما [إعمال] 1 ولكن العلة واحدة لا لعلل، والشريعة على هذا جارية قادرة، وفروع الفقه عليه دائرة داره.
وأنا أضرب لك من الأمثلة ما يوضح الفرض، ويكشف الصدى عن القلب، وآتيك بصور لم تتهيأ إلا لمن طوف متون الفقهيات وخاض لججها.
وها أنا أفرد الطرق طريقًا طريقًا، وهو [صنع] 2 ليس من صنعي في شرح المختصر، وإن كان ذلك أفحل.
[القول3 في أحكام تتأخر عن أسبابها. ولا يمكن القول بمقارنتها لها.
منها: بيع الخيار يتأخر فيه نقض الملك إلى انقضاء الخيار على أحد الأقوال.
ومنها: الطلاق الرجعي مع البينونة.
ومنها: الوصية يتأخر نقلها في الملك في الموصي به إلى بعد الموت.
ومنها: السلم والبيع إلى أجل تتأخر عنه المطالبة إلى انتهاء الأجل] .
فصل:
فيما ازدحم عليه علتان فكان ازدحامهما سبب دمارهما وإهمالهما ولو على وجه.
وفيه مسائل:
منها: لو اتحد الخاطب وأوجب كل واحد من الوليين النكاح له معًا صح على الصحيح، ويتقوى كل واحد من [الإيجابين] 4 بالآخر.
وحكى العبادي عن القاضي وغيره أنه لا يصح؛ لأنه ليس أحدهما أولى بالاعتبار من الآخر فتدافعا.
ومنها: الخنثى إذا أمنى من ذكره وحاض من فرجه؛ فقد نص الشافعي رضي الله عنه على أنه لايبلغ، وأنه لابلوغ له إلا باستكمال خمس عشرة سنة.
ولكم تأول الأكثرون هذا النص، وكاد الشيخ الإمام [الوالد] 5 يجنح إلى ظاهر
1 في ب الإعمال.
2 في ب صنيع.
3 من قوله القول في أحكام يتأخر فيه إلى قوله انتهاء الأجل.
4 في ب الجانبين.
5 سقط في ب.
النص فقال في باب الحجر: "وقفت على النص، وتأويله صعب، وقال في باب الإقرار: تأويله [مشكل]1.
ومنها: وكل اثنين في خلع امرأته -هذا على ألف وهذا على ألفين فأوقعها الخلع معًا. بأن صدر خطابهما لها معًا؛ فقالت: قبلت منكما أو كانت وكلت وكيلين فطلق كل واحد من وكيلي الزوج [مع واحد من وكيلي الزوجة] 2 قال البغوي في الفتاوي، لا يقع شيء لأن الخلع من جانب الرجل معارضة، فهو كما لو وكل وكيلًا ببيع عبد بألف وآخر ببيعة بألفين فباعًا معًا لا يصح.
ومها: إذا قال لشريكه الموسر: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر في حال إعتاقك.
فسنذكر هذا الفرع في مسائل العلة هل تفارق المعلول، وتذكر فيه احتمال اندفاع اللفظ. ويمكن توجيه اندفاعه بتزاحم العلتين اللتين تقتضي [كل منهما ما] 3 تقتضيه الأخرى؛ فإنا لا ندري حينئذ عمن يقع العتق ولا لمن الولاء.
ويمكن توجيه أعمال السراية بأنها أقوى لكونها قهرية فتكون من قسم أعمال الأصل، وإلى هذا ذهب القفال والشيخ أبو علي؛ ولكن عللاه بعلة أخرى سنذكرها في تفارق العلة والمعلول. ويمكن عكسه بأن اللفظ أقوى من الحكم، وهو أيضًا من أعمال [أخيل] 4 العلتين، وهو المنقول عن القاضي أبي الطيب في هذا الفرع كما سيأتي في موضعه، ونقله الروياني عن عامة الأصحاب.
1 في ب شكل معًا.
2 سقط في ب.
3 في ب منهما مثل ما.
4 في ب أحد.