الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ تَعَالَى (1) : (إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (وَكَذِلكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) .
1804-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إنَّ اللهَ تَعَالَى يَغَارُ، وَغَيْرَة اللهِ، أنْ يَأْتِيَ المَرْءُ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ". متفق عليه (3) .
369- باب فيما يقوله ويفعله من ارتكب منهياً عنه
قال الله تعالى (4) : (وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) .
وقال تعالى (5) : (إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ
ــ
التحذير. كما يقال: احذر غضب السلطان نفسه (وقال تعالى: إن بطش ربك) أي: أخذه بالعنف لأعدائه (لشديد) مضاعف (وقال تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى) أي: أهلها (وهي ظالمة) أسند إليها ما هو لأهلها مجازاً عقلياً من الإِسناد للمكان نحو نهر جار (إن أخذه أليم شديد) وجيع صعب.
1804-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يغار) المراد من الغيرة بالنسبة إليه تعالى غايتها من المنع كما قال (وغيرة الله) بفتح المعجمة وسكون التحتية (أن يأتي العبد ما حرم الله) أي: منع إتيان العبد ما حرمه (متفق عليه) .
باب ما يقوله ويفعله من ارتكب منهياً عنه
محرماً كان أو مكروهاً (قال الله تعالى: وإما) مركب من أن الشرطية، وأما المزيدة للتأكيد (ينزغنك من الشيطان نزغ) أي: أفسدك من الشيطان فساد (فاستعذ) أي تحصن من شره (بالله وقال تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف) لمة ووسوسة، من طاف به الخيال
(1) سورة البروج، الآية:12.
(2)
سورة هود، الآية:102.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: الغيرة، (9/281) .
وأخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش، (الحديث: 36) .
(4)
سورة الأعراف، الآية:200.
(5)
سورة الأعراف، الآية:201.
1805-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ حَلَفَ فَقَالَ في حَلفِهِ: بِاللَاّتِ وَالعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لَا إلَهَ إلَاّ اللهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ أُقَامِركَ فَلْيَتَصَدَّقْ". متفق عليه (1) .
***
ــ
1805-
(عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل) كفارة لذكرها في معرض التعظيم الموهم له (لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك) في القاموس قامره مقامرة وقماراً فقمره كنصره وتقمر راهنه فغلبه (فليتصدق) ليكون ثوابها كفارة لسيئته القولية (متفق عليه) قال في الجامع الكبير: ورواه الشافعي وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان.
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/النجم وأخرجه في كتاب الأدب والاستئذان والإِيمان، (11/467) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله (الحديث: 5) .
فَمَنْ أدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقْرَأ عَلَيْهِ فَواتِحَ سُورَةِ الكَهْفِ؛ إنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِيناً وَعَاثَ شِمالاً، يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا" قُلْنَا: يَا رسُولَ اللهِ، وَمَا لُبْثُهُ في الأرْضِ؟ قال:"أرْبَعُونَ يَوماً: يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمْعَةٍ، وَسَائِرُ أيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَذلكَ اليَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَال:"لا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ".
قُلْنَا: يا رسولَ اللهِ، وَمَا إسْراعُهُ في
ــ
أنت مؤمن وهو كافر، فقال الحافظ في الفتح: إنها ضعيفة فإن في سندها المسعودي وقد اختلط، والمحفوظ أنه عبد العزى بن قطن وأنه هلك في الجاهلية (فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف) أي: فإنها تدفع فتنته عن قارئها، كما ورد كذلك وقيل عشر آيات من آخر سورة الكهف. جاء ذلك في رواية أخرى قال القرطبي: والحزم والاحتياط أن يقرأ عشراً من أولها وعشراً من آخرها. وعند أبي داود من حديث النواس "فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها جوار لكم من فتنته" اهـ. (أنه خارج خله بين الشام والعراق) قال المصنف: هو في نسخ بلادنا بفتح المعجمة واللام وتنوين الهاء. وقال القاضي عياض: المشهور فيه فتح المعجمة وتشديد اللام ونصب الهاء غير منونة. قيل معناه سميت ذلك وتأمله ورواه بعضهم محله بضم اللام وبهاء الضمير أي: نزوله وحلوله. قال وكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين ببلادنا. وهو الذي رجحه صاحب نهاية الغريب وفسره بالطريق بينهما، وكان على المصنف حيث اقتصر على هذا المعنى فيما يأتي أن يضبطه (فعاث يميناً وعاث شمالاً) قال المصنف: روي بفتح المثلثة فيهما فعل ماض، وحكى القاضي أنه روى عاث: بصيغة اسم الفاعل قال التوربشتي: إنما قال يميناً وشمالاً إشارة إلى أنه لا يكتفي بإفساد ما يطؤه من البلاد، بل يبعث سراياه يميناً وشمالاً فلا يأمن من شره مؤمن، ولا يخلو من فتنته موطن (يا عباد الله فاثبتوا) أي: على الإِيمان ولا تزيغوا عنه (قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض) استئناف للسؤال عن قدر لبثه في الدنيا (قال أربعون يوماً) هو ما بين طلوع الشمس وغروبها (يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة) قال العلماء: هذا الحديث على ظاهره، وهذه الأيام الثلاث طويلة على هذا القدر المذكور في الحديث، يدل عليه قوله (وسائر) أي: باقي (أيامه كأيامكم) المعتادة في القدر (قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم) سألوا عن الذي هو كسنة، وظاهر جريان ذلك فيما هو كشهر وما هو كجمعة، وسكتوا عن ذلك لظهور أن لا فرق بينهما في ذلك (قال لا) أي: لا يكفيكم ذلك (أقدروا له) بضم الهمزة (قدره) أي: إنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه
الأرْضِ؟ قال: "كَالغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأتِي عَلَى القَوْمِ، فَيدْعُوهُم فَيُؤمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالأرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرىً وَأسْبَغَهُ ضُرُوعاً، وأمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأتِي القَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَولَهُ، فَيَنْصَرفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ
ــ
وبين الظهر كل يوم، فصلوا الظهر، ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر، فصلوا العصر. وهكذا ما بينها وبين المغرب وما بين المغرب والعشاء وما بينهما وبين الصبح والظهر والعصر، حتى ينقضي ذلك اليوم وقد وقع فيه صلوات سنة، كلها فرض مؤداة في وقتها.
واليومان الذي كشهر وكجمعه على قياس هذا. قال القاضي عياض: هذا حكم مخصوص، شرعه لنا صاحب الشرع، ولولا هذا الحديث ووكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام. قال العاقولي: أقول هذا مما جره التعمق في السؤال، إذ لو لم يسألوا وسكتوا، لكان حكمه حكم سائر الأيام ولكن سألوا، فجرى مثل ما جرى لبني إسرائيل وسؤالهم عن البقرة حتى بلغ بهم الحرج ما علمت، وما نقلناه من إجراء الحديث على ظاهره أولى مما مشى عليه التوربشتي من تأويله، وأن اليوم لا يزاد فيه أصلاً وأنه كنى يكون يوم كسنة الخ عن شدة أهواله وفتنه، وبتقدير الصلوات عن الاجتهاد عند مصادفة تلك الأهوال إلى كشفها. وقد ردّ ابن الجوزي ذلك التأويل، وكذا القرطبي في المفهم بما فيه طول (قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض. قال: كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم) أي: إلى أنه ربهم وإلى الإِيمان بذلك (فيؤمنون به ويستجيبون له) أي: ويجيبونه (فيأمر السماء) أي: بالمطر (فتمطر) أي: حالاً (والأرض) بالنصب أي: يأمرها بالنبات (فتنبت فتروح) أي: ترجع (عليهم سارحتهم) بالسين والراء والحاء المهملات: هي المال السائم (أطول) بالنصب حال (ما) مصدرية (كانت ذري) بضم الذال المعجمة جمع ذروة بضم وكسر أي: ترجع إليهم من المرعى أطول، ألوانها عظيمة السنام، مرتفعة من السمن والشبع، (وأشبعه ضروعاً) بالشين المعجمة والموحدة والمهملة أي: إملاءه وإسناد الشبع إليها من الإِسناد إلى السبب. وضبطه العاقولي بالمهملة والموحدة والغين المعجمة قال: أي: أطوله لكثرة اللبن (وأمده خواصر) أي: لكثرة امتلائها من الشبع (ثم يأتي القوم) أي: غير أولئك كما يدل عليه السياق وكون اللفظ الثاني إذا أعيد معرفة، غير الأول أغلبي لا كلي (فيدعوهم فيردون عليه قوله) ويثبتون على التوحد (فينصرف عنهم) أي: راجعاً (فيصبحون) أي: يصيرون (ممحلين) بالمهملة. قال التوربشتي: يقال أمحل
وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أوائِلُهُمْ عَلَى بُحيرَةِ طَبَريَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بهذِهِ مَرَّةً ماءٌ، وَيُحْصَرُ نَبيُّ اللهِ عِيسَى صلى الله عليه وسلم وأصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْراً مِنْ مِئَةِ دينَارٍ لأَحَدِكُمُ اليَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى صلى الله عليه وسلم وأصْحَابُهُ رضي الله عنهم إلى اللهِ تَعَالَى، فَيُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النَّغَفَ في رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ
ــ
أعجميان ألفهما كألف هاروت وما أشبهه، وعليه فالهمز قياس إنما هو على لغة من همز الألف، كقائم ووزنها فاعول اهـ. وقاق الحافظ في الفتح هما اسمان أعجميان عند الأكثرين. وقيل عربيان. واختلف في اشتقاقهما. فقيل من أجيج النار أي: التهابها. وقيل من الإِياجة أي الاختلاط وشدة الحر. وقيل من الأج أي: سرعة العدو. وقيل: من الأجاج أي: الماء الشديد الملوحة وجميع ما ذكر من الاشتقاق مناسب لحالهم (من كل حدب) بفتح أوليه المهملتين وبالموحدة النشر (ينسلون) أي: مسرعين (فيمر أولهم على بحيرة طبرية) بضم الموحدة وفتح المهملة وسكون التحتية مصغر بحرة وطبرية بفتح المهملة والموحدة اسم مكان بفارس (فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة) أي: في وقت (ماء) واسم كان أخر لنكارته وقدم عليه خبره الظرفي المسوغ للابتداء به (ويحصر) بضم التحتية وفتح المهملة الثانية من المحاصرة (نبي الله عيسى وأصحابه) أي: يمنعون من يأجوج ومأجوج من النزول إلى الأرض حتى (يكون رأس الثور لأحدهم) أي: عنده، وإنما ذكر رأس الثور ليقاس به البقية في ارتفاع القيمة وذهب بعضهم إلى أنه أراد برأس الثور نفسه أي: تبلغ قيمة الثور إلى ما فوق المائة لاحتياجهم إليه في الزراعة. قال التوربشتي ولم يصب لأن رأس الثور قل ما يراد به عند الإِطلاق نفسه، بل يقال: رأس ثور أو رأس من الثور، ثم إن في الحديث أنهم محصورون، وما للمحصور والزراعة لا سيما على الطور اهـ. (خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم) وذلك لقوة حاجتهم للطعام واضطرارهم إليه (فيرغب نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الله تعالى) أي: ابتهلوا وتضرعوا إليه وسألوه دفع أذى يأجوج ومأجوج وفي إهلاكهم (فيرسل الله تعالى عليهم) أي: على يأجوح ومأجوج (النغف) بضم النون وفتح الغين المعجمة وبالفاء دود يكون في أنوف الإِبل والغنم الواحدة نغفة (في رقابهم فيصبحون فرسى) بفتح الفاء وسكون الراء وبالسين المهملة (كموت نفس واحدة) أي: يموتون دفعة واحدة، قال التوربشتي: نبه بالكلمتين النغف وفرسى، على أنه تعالى يهلكهم في أدنى ساعة بأهون شيء وهو النغف. فيفرسهم فرس السبع فريسته، بعد
عِيسَى صلى الله عليه وسلم وأصْحَابُهُ رضي الله عنهم إلى اللهِ تَعَالَى، فَيُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النَّغَفَ في رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى صلى الله عليه وسلم، وأصْحَابُهُ رضي الله عنهم إلى الأرْضِ، فَلَا يَجِدُونَ في الأرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إلَاّ مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتَنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ رضي الله عنهم إلى اللهِ تَعَالَى، فَيُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى طَيْراً كَأَعْنَاقِ البُخْتِ، فَتَحْمِلُهُمْ، فَتَطْرَحُهُمْ حَيثُ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ عز وجل مَطَراً لَا يُكِنُّ مِنهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الأرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَقَةِ، ثُمَّ يُقَالُ للأرْضِ: أنْبِتي ثَمَرتكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأكُلُ العِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ حَتَّى أنَّ اللّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِي الفِئَامَ مِنَ النَّاسِ؛ وَاللِّقْحَةَ مِنَ البَقَرِ لَتَكْفِي القَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الغَنَمِ لَتَكْفِي الفَخِذَ
ــ
أن طارت نفرة البغي في رءُوسهم، فزعموا أنهم قاتلوا من في السماء (ثم يهبط نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الأرض) لذهاب المانع من النزول إليها قبل (فلا يجدون في الأرض موضع شبر) مفعول به ليجد (إلا ملأه زهمهم) بفتح الزاي والهاء (ونتنهم) بالنون والفوقية أي: سهم رائحتهم الكريهة (فيرغب نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الله تعالى) أي: في دفع ذلك (فيرسل الله طيراً كأعناق البخت) بضم الموحدة وسكون المعجمة وبالفوقية (فتحملهم فتطرحهم حيث يشاء الله تعالى) من بر أو بحر (ثم يرسل الله عز وجل مطراً) أي: عظيماً كما يدل عليه وصفه بقوله (لا يكن) بكسر الكاف وتشديد النون (منه بيت مدر) بفتح الميم والدال وهو الطين الصلب (ولا وبر) بفتح الواو الموحدة أي: الخبأ (فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة) من النقاء واللين (ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك ودري بركتك) أي: البركة التي كانت فيك أولاً (فيومئذ تأكل العصابة) بكسر المهملة الأولى (من الرمانة) لكمال كبرها (ويستظلون بقحفها) بكسر القاف وهو مقعر قشرها، شبهها بقحف الرأس وهو الذي فوق الدماغ، وقيل ما انفلق من جمجمته وانفصل قال السخاوي: في ختم سنن أبي داود (ويبارك في الرسل) بكسر فسكون (حتى أن اللقحة) بكسر اللام على الاسم وفتحها القريبة العهد بالولادة وجمعها لقح كبركة وبرك. واللقوح ذات اللبن وجمعها لقاح (من الابن) بكسر الألف والموحدة وبسكونها (لتكفي الفئام من الناس واللقحة) الكائنة أو كائنة (من البقر لتكفي القبيلة من الناس) هو فوق الفخذ عند علماء النسب (واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ) قال ابن فارس: هي بإسكان الخاء لا غير أما التي بمعنى العضو، فبفتح فكسر أو سكون أو بكسر فسكون أو فكسر اتباعاً، وهي لغات أربع جارية فيما كان على وزن علم، وعينه حرف
مِنَ النَّاسِ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى ريحاً طَيِّبَةً فَتَأخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ؛ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيها تَهَارُجَ الحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ ". رواه مسلم. قولهُ:" خَلَّةً بَينَ الشَّامِ والعِراَقِ ": أي طَرِيقاً بَيْنَهُمَا. وقولُهُ: " عَاثَ " بالعين المهملة والثاء المثلثة، وَالعَيْثُ: أَشَدُّ الفَسَاد. " وَالذُّرَى ": بضم الذال المعجمة وهو أعالي الأسْنِمَةِ وهوَ جَمعُ ذِروةٍ بضمِ الذالِ وكَسْرها " وَاليَعَاسِيبُ ": ذُكُورُ النَّحْلِ.
ــ
حلق. والفخذ تقدم أنهم الجماعة من الأقارب. وهم دون البطن، والبطن دون القبيلة كما يأتي في كلامه (من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض) بكسر الموحدة (روح كل مؤمن وكل مسلم) قال المصنف: كذا في جميع نسخ مسلم، وكل بالواو وإسناد القبض إلى الريح مجاز من الإِسناد إلى السبب (ويبقى شرار الناس يتهارجون) بالراء والجيم فيها (تهارج الحمر) بضمتين أي: تجامع الرجال النساء علانية بحضرة الناس، كما تفعل الحمير، ولا يكترثون لذلك. والهرج الجماع بكسر الراء يقال: هرج زوجته إذا جامعها، تهرجاً بتثليث حركة الراء ذكره المصنف (فعليهم) وحدهم دون المؤمنين (تقوم الساعة) أي: القيامة (رواه مسلم) ورواه الأربعة قال التوربشتي: فإن قيل: أوليس في هذه الأشياء الخارقة للعادة التي وردت في هذا الحديث وغيره من أحاديث َالدجال وظهورها على يديه مضلة للعقول، ومدعاة إلى اتباع الباطل وإخلال بما أعطى الله أنبياءه من المعجزات؟ فالجواب: أن الملعون إنما ترك ذلك لأن في نفس القصة ما يدع المتصبر عن الالتفات إليها فضلاً عن قبولها، ثم أنه لا يدعي النبوة بل يدعي الربوبية وهذا مما لا مساغ له في العقول ولا موقع له في القلوب لقيام دلائل الحدوث في نفس المدعي، مع أنه لم يترك دعواه حتى ألزم النقص الذي لا ينفك، ولا يخفى على ناظر مكانه، وهو العور الذي به. وإلى هذا المعنى أشار بقوله: ولكن أقولكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه أنه أعور الحديث. وقال أيضاً فإن قيل: أوليس قد ثبت في أحاديث الدجال أنه يخرج بعد خروج المهدي وأن عيسى يقتله كما في آخر الحديث، وذلك دليل أنه لا يخرج وهو صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، بل ولا تراه القرون الأولى من هذه الأمة، فما الحكم في قوله إن يخرج وأنا فيكم؟ فالجواب: إنما سلك هذه المسالك من التورية لإِبقاء الخوف على المكلفين من فتنته، واللجأ إلى الله تعالى من شره، لينالوا الفضل من الله ويتحققوا بالشح على دينهم؟ اهـ.
(وقوله خلة بين الشام والعراق أي: طريقاً بينهما) تقدم ضبط خلة، والخلاف فيه وما ذكره المصنف (وقوله عاث بالمهملة والمثلثة) تقدم أنه بصيغة الماضي، وحكي بصيغة اسم
1807-
وعن رِبعِيِّ بنِ حِرَاشٍ، قال: انطلقت مع أبي مسعود الأنصاري إلى حُذَيفَةَ بن اليمان رضي الله عنهم، فقال له أبو مسعود: حَدِّثْنِي ما سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، في الدَّجَّالِ، قال:"إنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ، وإنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَاراً، فَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءً فَنَارٌ تُحْرِقُ، وأمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ نَاراً، فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ. فَمَنْ أدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقَعْ فِي الَّذي يَراهُ نَاراً، فَإنَّهُ مَاءٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ" فقال أبو مسعود: وَأنَا قَدْ سَمِعْتُهُ. متفق عليه (1) .
ــ
1807-
(وعن ربعيّ) بكسر الراء وسكون الموحدة وبالمهملة (بن حراش) بكسر المهملة وتخفيف الراء آخره شين معجمة، وتقدم أنه تابعي (قال: انطلقت مع أبي مسعود الأنصاري) هو البدري لشهوده وقعتها أو سكناه بها، على الخلاف المتقدم فيه، (إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنهم فقال له أبو مسعود حدثني بما) أي: الذي (سمعت) بحذف العائد، ويحتمل كون ما مصدرية والمصدر المنسبك بمعنى المفعول، ولا يخفى ما فيه من البعد (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال قال:) أي: النبي صلى الله عليه وسلم كما يدل له قول أبي مسعود آخراً وأنا قد سمعته، وحذف العائد على حذيفة فلم يكتبه اكتفاء بدلالة المقام عليه (أن الدجال يخرج) أي: في أواخر الدنيا (وأن معه ماء وناراً) جملة معطوفة على الجملة المحكية قبلها أو حال من فاعل يخرج (فأما الذي يراه الناس) أي يبصرونه حال كونه (ماء فنار تحرق) بضم التحتية من الاحراق (وأما الذي يراه الناس ناراً فماء عذب) أي: حلو (طيب) ضد الكدر.
قال المصنف: قال العلماء: من جملة فتنه التي امتحن الله بها عباده ليحق الحق ويبطل الباطل، ثم يفضحه بعد، ويظهر عجزه وقال الحافظ: هذا كله يرجع إلى اختلاف المرء بالنسبة إلى الراءي، فإما أن يكون الدجال ساحراً فيخيل الشيء بصورة عكسه، وإما أن يجعل الله بأرض الجنة التي يسخرها للدجال ناراً وباطن النار جنة، وهذا هو الراجح وإما أن يكون ذلك كناية عن الرحمة والنعمة بالجنة، وعن المحنة والنقمة بالنار، فمن أطاعه فأنعم عليه بجنته يؤول أمره إلى دخول نار الآخرة وبالعكس، ويحتمل أن يكون ذلك من جملة المحنة والفتنة فيرى الناظر ذلك من دهشته فيظنها جنة وبالعكس اهـ. (فقال أبو مسعود وأنا قد سمعته متفق عليه) رواه البخاري في ذكر بني إسرائيل وفي الفتن. ورواه مسلم في
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل وفي الفتن، باب: ذكر الدجال، (13/87 و88) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال، وصفته وما معه، (الحديث: 107 و108)
1808-
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ في أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أرْبَعِينَ، لَا أدْرِي أرْبَعِينَ يَوماً أو أرْبَعِينَ شَهْراً، أو أرْبَعِينَ عَاماً، فَيَبْعَثُ اللهُ تَعالَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم، فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيسَ بَينَ اثْنَينِ عَدَاوةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ عز وجل
ــ
الفتن. ورواه أيضاً أبو داود في الملاحم من سننه عن حذيفة موقوفاً. وعن أبي مسعود الأنصاري مرفوعاً.
1808-
(وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين. لا أدري أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً. قال في فتح الباري: والجزم بأنها أربعون يوماً مقدم على هذا الترديد (فيبعث الله عيسى ابن مريم) أي: من السماء إلى الأرض (صلى الله عليه وسلم فيطلبه) أي: فيدركه بالشام (فيهلكه) أي: بأن يقتله ولا ينافيه من أنه يذوب حينئذ كذوبان الملح، لأن ذلك لعله يكون ابتداء اللقي، ثم يسارعه عيسى بالقتل زيادة في الإِهانة (ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة) يحتمل أنها المدة الخالصة من الأكدار البتة في زمن عيسى عليه السلام، وإلا فذكر الشيخ جلال الدين السيوطي أنه يمكث بعد نزوله أربعين سنة ولفظه في حاشية تفسير البيضاوي قوله في هذا الحديث: ويمكث في الأرض أربعين سنة. قال الحافظ عماد الدين ابن كثير: يشكل عليه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمرو: أنه يمكث في الأرض سبع سنين، قال: اللهم إلا أن يحمل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله. وتلك مضافاً إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء وكان عمره إذ ذاك ثلاثاً وثلاثين على المشهور. والله أعلم. أقول وقد أقمت سنين أجمع بذلك ثم رأيت البيهقي قال في كتاب البعث والنشور هكذا في الحديث: إن عيسى يمكث في الأرض أربعين سنة. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمرو فيبعث الله عيسى ابن مريم، فيطلبه فيهلكه ثم تلبث الناس بعده سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة. قال البيهقي: يحتمل أن يكون قوله: ثم يلبث الناس أي: بعد موته فلا يكون مخالفاً للأول، فترجح عندي هذا التأويل، لأن الحديث ليس نصاً في الإِخبار عن مدة لبث عيسى، وذاك نص فيها لأن ثم يؤيد هذا التأويل. وكذا قوله يلبث الناس بعده فيتجه أن الضمير فيه لعيسى، لأنه أقرب مذكور؛ ولأنه لم يرد في ذلك سوى الحديث المحتمل ولا ثاني له. وورد مكث عيسى أربعين سنة في عدة أحاديث، من طرق مختلفة: منها الحديث المذكور. وهو صحيح. ومنها ما أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل عيسى
ريحاً بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيرٍ أو إيمَانٍ إلَاّ قَبَضَتْهُ، حَتَّى لو أنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ، لَدَخَلَتْهُ عَلَيهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ، فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ في خِفَّةِ الطَّيْرِ، وأحْلامِ السِّبَاعِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفاً، ولا يُنْكِرُونَ مُنْكَراً، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ، فيَقُولُ: ألَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تأمُرُنَا! فَيَأمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَهُمْ في ذلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ في الصُّورِ، فَلَا يَسْمَعُهُ أحَدٌ إلَاّ أصْغَى لِيتاً وَرَفَعَ لِيتاً،
ــ
ابن مريم، فيمكث في الأرض أربعين سنة، لو يقول للبطحاء سيلي عسلاً لسألت". ومنها ما أخرجه أحمد في مسنده عن عائشة مرفوعاً في حديث الدجال:"فينزل عيسى ابن مريم فيقتله، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة، إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً" وورد أيضاً من حديث ابن مسعود عند الطبراني فهذه الأحاديث المتعددة أولى من ذلك الحديث الواحد المحتمل اهـ. (ثم يرسل الله عز وجل ريحاً باردة) تقدم في حديث النواس بدل باردة قوله طيبة فلعل طيبها بردها وبين جهة مهبها بقوله: (من قبل الشام فلا يبقى) بالتحتية (على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضت) من الإِسناد إلى السبب كما تقدم (حتى لو أن أحدكم) الخطاب للمؤمنين الموجود بعضهم حاله (دخل في كبد) بفتح فكسر على الأفصح أي: وسط وداخل (جبل لدخلته عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس) بكسر المعجمة (في خفة الطير) بكسر المعجمة وتشديد الفاء، والطير يجوز أن يكون اسم جمع طائر، وأن يكون واحد الطيور (وأحلام) بالمهملة (السباع) بكسر المهملة وبالموحدة وبعد الألف مهملة أيضاً. قال المصنف: قال العلماء: معناه يكونون في سرعتهم إلى الشر وقضاء الشهوة والفساد: كطيران الطير، وفي العدو خلف بعضهم بعضاً أحلام السباع العادية (لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً) لشدة الجهل (فيتمثل لهم الشيطان) أي: يتصور لهم على مثال شخص فيخاطبهم (فيقول ألا تستجيبون فيقولون. فما تأمرنا فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار) بتشديد الراء (رزقهم) أي: ما ينتفعون به (حسن عيشهم) أي: ما يعيشون به من الطعام والشراب والملبس: والجملة خبر بعد خبر وجملة وهم الخ حال، أتى بها لبيان ما ترتب على ضلالهم من رفاهية العيش وخصوبته. وفي الكلام حذف، أي: فيجيبونه لذلك كما جاء ما يدل لذلك. (ثم ينفخ في الصور) نفخة الصعق (فلا يسمعه) أي: النفخ المدلول عليه بالفعل. (أحد إلا أصغى ليتاً) بالصاد المهملة وبالغين المعجمة أي: مال (ورفع ليتاً
وَأوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إبِلِهِ فَيُصْعَقُ ويُصْعَقُ النَّاسُ حولهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ -أو قالَ: يُنْزِلُ اللهُ - مَطَراً كَأَنَّهُ الطَّلُّ أو الظِّلُّ، فَتَنْبُتُ مِنهُ أجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقالُ: يا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إلَى رَبِّكُمْ، وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: أخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعَمِئَةٍ وَتِسْعَةً وتِسْعِينَ؛ فَذَلِكَ يَومٌ يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيباً، وَذَلِكَ يَومَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ". رواه مسلم. "اللِّيتُ": صَفْحَةُ
ــ
وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله) أي: يطينه ويصلحه (فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل الله أو قال: ينزل الله مطراً كأنه الطل) بالمهملة (أو) شك من الراوي (الظل) بالمعجمة قال المصنف: والأصح بالمهملة، وهو الموافق للرواية الأخرى كمني الرجال (فتنبت منه) أي: بسببه أو من معدية للفعل (أجساد الناس من عجب الذنب) الباقي من جسد الإِنسان في القبر وهي عظم في أصل العصعص قدر الخردل (ثم ينفخ فيه) أي: الصور (أخرى) للبعث (فإذا هم قيام) من قبورهم (ينظرون) أو ينظر بعضهم بعضاً أو ينتظرون أمر الله فيهم (ثم يقال يا أيها الناس هلموا) كذا في نسخة بضمير الجماعة، وهي لغة تميم. وفي أخرى صحيحة بحذفها وهي لغة الحجاز، وبها جاء التنزيل قال الله تعالى:(قل هلم شهداءكم)(1)(إلى ربكم وقفوهم) أي: في عرصات القيامة (إنهم مسئولون) عن ما عملوه في الدنيا وتلبسوا به (ثم يقال) أي: للملائكة الموكلين بالناس يومئذ كما يدل عليه قوله (أخرجوا بعث النار) بضمير الجماعة وهو لا ينافي الحديث الصحيح عند البخاري، يقال لآدم اخرج بعث النار من ذريتك (الحديث) لجواز أمر كل منه ومنهم بذلك زيادة في التهويل والتفظيع، وبعث مصدر بمعنى المفعول، أي: المبعوث إليها (فيقال من كم فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) فالباقي من الألف للجنة واحد (فذاك يوم) بالرفع خبر اسم الإِشارة، ويجوز نصبه على الظرفية. والخبر محذوف وهو بالتنوين موصوف بقوله:(يجعل الولدان شيبا) الإِسناد إلى اليوم من الإِسناد إلى السبب (وذاك يوم يكشف عن ساق) أي: يكشف عن حقائق الأمور وشدائد الأهوال وكشف الساق، مثل في ذلك. وقيل يكشف عن ساق: أي: نور عظيم يخرون له سجداً. جاء هذا التفسير مرفوعاً (رواه مسلم
(1) سورة الأنعام، الآية:150.
العُنُقِ. وَمَعْنَاهُ يَضَعُ صَفْحَةَ عُنُقِهِ وَيَرْفَعُ صَفْحَتَهُ الأُخْرَى (1) .
1809-
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيسَ مِنْ بَلَدٍ إلَاّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إلَاّ مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ؛ وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أنْقَابِهِمَا إلَاّ عَلَيْهِ المَلَائِكَةُ صَافِّينَ تَحْرُسُهُمَا، فَيَنْزِلُ بالسَّبَخَةِ، فَتَرْجُفُ المَدِينَةُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، يُخْرِجُ اللهُ مِنْهَا كُلَّ كافِرٍ وَمُنَافِقٍ". رواه مسلم (2) .
ــ
الليت) بكسر اللام وسكون التحتية وبالمثناة الفوقية (صفحة العنق) بضمتين وبسكون الثاني تخفيفاً. (ومعناه يضع صفحة عنقه ويرفع صفحة الأخرى) أي: من عظم الهول وشدة الأمر.
1809-
(وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال) الاستثناء مرفوع، واسم ليس مجرور بمن: للتأكيد؛ وخبرها محذوف. أي: ليس بلد موجودة إلا سيطأه الدجال ابتلاء لأهله؛ وزيادة في ثواب التائبين. (إلا مكة والمدينة) والمسجد الأقصى ومسجد الطور، كما جاء ذلك في حديث رواه أحمد بسندٍ، رجاله ثقات أشار إليه الحافظ في الفتح (وليس نقب) بفتح النون وسكون القاف آخره موحدة أي: خرق قال في المصباح وهو في الأصل مصدر سمي به (من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين) حال مقدرة من الظرف المستقر (تحرسهما) استئناف بياني، أو حال بعد أخرى متداخلة أو مترادفة والمراد تحرسهما من الدجال (فينزل بالسبخة) بفتح المهملة والموحدة وبالخاء المعجمة، وهي الأرض الرملة التي لا تنبت لملوحتها، وهذه الصفة خارج المدينة من غير جهة الحرة.
وجاء في رواية أنه "ينزل بسبخة الجرف"(فترجف المدينة ثلاث رجفات) قال الحافظ: يجمع بينه وبين حديث لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال بأن الرعب المنفي الخوف والفزع، حتى لا يحصل لأحد فيها بسبب نزوله بها شيء منه، أو هو عبارة عن غايته وهو غلبته عليها والمراد بالرجفة الإِرفاق. وهو إشاعة مجيئه وأنه لا طاقة لأحد به، فيسارع حينئذ إليه من يتصف بالنفاق أو الفسق، فظهر حينئذ تمام أنها تنفي خبثها اهـ. (يخرج الله منها كل كافر ومنافق رواه مسلم) .
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في خروج الدجال ومكثه في الأرض
…
، (الحديث: 116) .
(2)
أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قصة الجساسة، (الحديث: 123) .
1810-
وعنه رضي الله عنه: أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ ألْفاً عَلَيْهِم الطَّيَالِسَةُ". رواه مسلم (1) .
ــ
1810-
(وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يتبع) بسكون الفوقية (الدجال من يهود أصبهان) بكسر الهمزة والموحدة وفتحها وتبدل فاء (سبعون ألفاً عليهم الطيالسة) جملة في محل الحال المقدرة (رواه مسلم) ورواه أحمد وأبو عوانة وابن حبان قال الحافظ في الفتح: ولا يلزم من هذا كراهة لبس الطيلسان. قال الحافظ السيوطي في كتاب "الأحاديث الحسان في فضل الطيلسان": وهو واضح لأن الكراهة تحتاج إلى نهي خاص به، ولا وجود له، وإذا لبس الكفار ملبوس المسلمين: لا يكره للمسلمين لبسه. قال الحافظ ابن حجر: وقيل المراد بالطيالس الأكسية اهـ. وزاد غيره أن المراد الطيلسان المقور. قال السيوطي: وهذا أصح الأقوال فيه، ويؤيده ما أخرجه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال:"يكون معه سبعون ألفاً من اليهود على رجل منهم ساج وسيف". قال ابن الأثير في النهاية: الساج: الطيلسان الأخضر، وقيل: هو الطيلسان المقور، ينسج كذلك.
قال الزركشي في الخادم: والمراد بالمقور المدور كما قاله الأزهري أنه ينسج مدوراً يعني كهيأة السفرة ولهذا شبه بتقوير البطيح والجيب اهـ. وقال القاضي أبو يعلى بن الفراء من الحنابلة: لا يمنع أهل الذمة من الطيلسان المقور الطرفين المكفوف الجانبين الملفف بعضها إلى بعض ما كانت العرب تعرفه وهو لباس اليهود قديماً والعجم أيضاً والعرب تسميه ساجاً، ويقال: إن أول من لبسه من العرب جبير بن مطعم. وكان ابن سيرين يكرهه اهـ.
وفي الأوائل للعسكري: أول من لبسه من العرب في الإِسلام عبد الله بن عامر بن كريز. وقيل جبير بن مطعم. وكذا قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: إن الطيلسان المقور لا أصل له في السنة، ولم يكن من فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، بل هو من شعار اليهود. وفي الصحيح "أن الدجال يخرج معه سبعون ألفاً من اليهود عليهم الطيالسة" وقال بعد كلام طويل ما لفظه: فتبين بهذه النقول أن كل من وقع في كلامه من العلماء: كراهة الطيلسان وكونه شعار اليهود، إنما أراد المنور، والذي على شكل الطرحة، يرسل من وراء الظهر والجانبين، من غير إدارة تحت الحنك، ولا إلقاء لطرفيه تحت الكتفين، وأما المربع الذي يدار من تحت الحنك ويغطى الرأس وأكثر الوجه ويجعل طرفاه على الكتفين، فلا خلاف في أنه سنة اهـ. كلام السيوطي ملخصاً.
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في بقية من أحاديث الدجال، (الحديث: 124) .
1813-
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَتَوجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُؤمِنِينَ فَيَتَلَقَّاهُ المَسَالِحُ: مَسَالِحُ الدَّجَّال. فَيقُولُونَ لَهُ: إلى أيْنَ تَعْمِدُ فَيَقُولُ: أعْمِدُ إلى هذَا الَّذِي خَرَجَ. فَيَقُولُونَ لَهُ: أوَمَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا؟ فَيقُولُ: مَا بِرَبِّنَا خَفَاءٌ! فَيَقُولُونَ: اقْتُلُوهُ. فَيقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ألَيْسَ قَدْ نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ أنْ تَقْتُلُوا أحَداً دُونَهُ، فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إلى الدَّجَّالِ، فَإذَا رَآهُ المُؤْمِنُ قالَ: يا أيُّهَا النَّاسُ، إنَّ هذَا الدَّجَّال الَّذي ذَكَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فَيَأمُرُ الدَّجَّالُ بِهِ فَيُشَبَّحُ؛
ــ
1813-
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج الدجال) قال في فتح الباري: الذي يدعيه أنه يخرج أولاً فيدعي الإِيمان والصلاح، ثم يدعي النبوة ثم يدعي الألوهية. كما أخرجه الطبراني من طريق سليمان بن شهاب قال: نزل على عبد الله بن المغنم وكان صحابياً، فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الدجال ليس به خفاء يجيء من قبل المشرق فيدعو إلى الدين فيتبع ويظهر، ولا يزال حتى يقدم الكوفة ويظهر الدين، ويعمل به ْثم يتبع ويحث على ذلك ثم يدعي أنه نبي فيفزع من ذلك كل ذي لب ويفارقه فيمكث بعد ذلك ثم يقول أنا إله فتغشى عينه وتقطع أذنه ويكتب بين عينيه كافر فلا يخفى ذلك على مسلم فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" وسنده ضعيف. (فيتوجه قبله) بكسر القاف وفتح الموحدة أي: جهته (رجل من المؤمنين) قال المصنف: قال أبو ْإسحاق. يقال إن هذا هو الخضر. وأبو إسحاق هذا هو راوي صحيح مسلم عن مسلم وكذا قال معمر في جامعه في أثر هذا الحديث، كما ذكره أبو سفيان وهذا منهم تصريح بحياة الخضر وهو الصحيح اهـ. (فتتلقاه المسالح) بالمهملتين (مسالح الدجال) بدل كل مما قبله (فيقولون له إلى أين تعمد) بكسر الميم أي: تقصد (فيقول أعمد إلى هذا الذي خرج) ضمن أعمد معنى: اذهب والإِتيان بالمجرور اسم إشارة للتحقير والإِهانة، كالتعبير بقوله وخرج (فيقولون له أو ما تؤمن بربنا فيقول) رداً لقولهم ربنا، الظاهر في عموم المتكلم وغيره (ما بربنا خفاء) أي: أن أوصافه العلية ظاهرة لا خفاء فيها، والدجال منظره يدل على كذبه (فيقولون) أي: لقول بعضهم لبعض (اقتلوه فيقول بعضهم لبعض) عبر عنهم أولاً بيقولون، وثانياً بما ذكرنا، تفنناً في التعبير ودفعاً لثقل التكرير، وإيماء إلى أن ما وقع من بعض القوم ورضي به الباقون جازت نسبته للجميع (أليس قد نهاكم ربكم) يعنون الدجال (أن تقتلوا أحداً دونه فينطلقون به إلى الدجال) فيأتون إليه (فإذا رآه المؤمن) أي: وقع بصره عليه ونظر ما بعينيه من العور وما بوجهه من كتابة كافر (قال) عند رؤيته له (يا أيها الناس هذا الدجال
فَيَقُولُ: خُذُوهُ وَشُجُّوهُ. فَيُوسَعُ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْباً، فَيقُولُ: أَوَمَا تُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ المَسِيحُ الكَذَّابُ! فَيُؤْمَرُ بِهِ، فَيُؤْشَرُ بِالمنْشَارِ مِنْ مَفْرِقِهِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ. ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بَيْنَ القِطْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قُمْ، فَيَسْتَوِي قَائِماً. ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: ما ازْدَدْتُ فِيكَ إلَاّ بَصِيرَةً. ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لَا يَفْعَلُ بَعْدِي بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ؛ فَيَأخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ، فَيَجْعَلُ اللهُ مِا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إلَى تَرْقُوَتِهِ
ــ
الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم) بحذف العائد اختصاراً لأن المقام له (فيأمر الدجال به فيشبح) بضم التحتية وفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة أي: يمد على بطنه (فيقول خذوه وشجوه) بالمعجمة والجيم من الشج قال المصنف: وهو الجرح في الرأس والوجه. يقال شجه إذا شق جلده. ويقال هو مأخوذ من شجت السفينة البحر إذا شقته جارية فيه كذا في المصباح. وهذا أحد وجوه ثلاث في روايات ذكرها المصنف. ثانيها أنها من التشبيح والشق معاً. وثالثها أنها من الشبح كذا قال المصنف. وصحح القاضي الوجه الثاني وهو الذي ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين، والأصح عندنا الأول (فيوسع) بالبناء للمفعول وهو بالتحتية والمهملة (ظهره وبطنه ضرباً) بالنصب على التمييز (فيقول أو ما تؤمن بي فيقول) صبراً على التعذيب في الله (أنت المسيح الكذاب) هو بمعنى الدجال على أحد الأقوال (فيؤمر به فيؤشر بالمئشار) قال المصنف: هكذا الرواية بالهمز فيهما وهو الأفصح ويجوز تخفيفاً إبدالها واوا في الفعل وياء في الثاني، ويجوز المنشار بالنون كما تقدم ذلك مراراً (من مفرقه) بفتح الميم وكسر الراء أي: وسطه (حتى يفرق بين رجليه) غاية للفعل (ثم يمشي الدجال بين القطعتين) زيادة في الفتنة (ثم يقول له قم فيستوي قائماً) أي: فيحيى فيستوي قائماً (ثم يقول له أتؤمن بي فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة) أي: استبصاراً أو تعرفاً أنك الدجال (ثم يقول) أي: المؤمن (يا أيها الناس إنه لا يفعل) أي: الفعل المدلول عليه بالمقام (بعدى بأحد من الناس فيأخذه الدجال ليذبحه) إذ لم يؤمن به (فيجعل الله ما بين رقبته إلى ترقوته) بفتح الفوقية وضم القاف وسكون الراء: وهي العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق من الجانبين. قال بعضهم: ولا تكون الترقوة لشيء من الحيوان غير الإِنسان. ثم إن "إلى" يحتمل أنها بمعنى الواو، لأن "بين" لا تضاف إلا إلى متعدد، ويحتمل أن يقال في الكلام مضاف مقدر أي أخر رقبته، ولعل هذا أقرب (نحاساً) بضم النون على الأفصح وبالمهملتين يحتمل إجرائه على ظاهره وحقيقته وأن الله يجعل الجلدة أو عليها النحاس ويحتمل أنه مجاز
نُحَاساً، فَلَا يَسْتَطِيعُ إلَيهِ سَبيلاً، فَيَأخُذُهُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ، فَيَحْسَبُ النَّاسُ أَنَّهُ قَذَفَهُ إلَى النَّارِ، وَإنَّمَا أُلْقِيَ فِي الجَنَّةِ". فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا أعْظَمُ النَّاس شَهَادَةً عِندَ رَبِّ العَالَمِينَ". رواه مسلم. وروى البخاري بعضه بمعناه.
"المسالِح": هُمُ الخُفَرَاءُ والطَّلائِعُ (1) .
1814-
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: ما سألَ أَحَدٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
ــ
أو كناية عن الحيلولة عنه وعدم التمكن منه كما قال (فلا يستطيع الوصول إليه) أي: بالقتل وفي نسخة فلا يستطيع إليه سبيلاً أي بالقتل (فيأخذ بيديه ورجليه) الباء مزيدة في المفعول للتأكيد كقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)(2)(فيقذف) بكسر الذال المعجمة أي: يرمى (به فيحسب الناس) أي: يظنون (أنه قذف في النار) لكونها بصورتها (وإنما ألقي) بالبناء للمجهول (في الجنة) حقيقة لأن ناره جنة، وبالعكس كما تقدم (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين) لأنه قال: الحق عند الظالم الكاذب الجائر، وإن ثبت ما تقدم من أنه الخضر فيكون فيه بيان وقت وفاته، وأنه لا يبقى إلى انقراض الدنيا، بل لا يلقى عيسى عليه السلام (رواه مسلم وروى البخاري) في كتاب الفتن (بعضه بمعناه) من حديث أبي سعيد ولفظه "يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فيدخل بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل وهو خير الناس أو من خير الناس، فيقول أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته. هل تشكون في الأمر؟ فيقولون لا فيقتله ثم يحييه فيقول والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه". (المسالح) بالمهملتين (هم الخفراء) بضم المعجمة وبالفاء (والطلايع جمع) طليعة وهو من يتقدم القوم ويتطلع لهم الأخبار. وقال بعضهم، المسالح: الرجل المسلم جمع مسلحة. وهم قوم ذو سلاح. ولعل المراد به هنا: مقدمة الجيش. أصله موضع السلاح ثم استعمل للثغر فإنه تعد فيه الأسلحة، ثم للجند المترصدين ثم لمقدم الجيش، فإنهم كأصحاب الثغور لمن وراءهم من المسلمين.
1814-
(وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال ما سأل أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الفن وأشراط الساعة، باب: في صفة الدجال وتحريم المدينة عليه وقتله المؤمن وإحيائه، (الحديث: 113) .
(2)
سورة البقرة، الآية:195.
عَن الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مِمَّا سَألْتُهُ؛ وإنَّهُ قَالَ لِي: "مَا يَضُرُّكَ" قُلْتُ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ وَنَهَرَ مَاءٍ. قالَ: "هُوَ أهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذَلكَ". متفق عليه (1) .
1815-
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَاّ وَقَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، ألَا إنَّهُ أعْوَرُ، وإنَّ رَبَّكُمْ عز وجل لَيْسَ بِأَعْوَرَ،
ــ
مما سألته) أي: عنه أو من سؤالي وهذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم أكثر ما سألته بحذف من (وأنه قال لي ما يضرك) وفي رواية مسلم وما ينصبك منه بنون وصاد مهملة ثم موحدة من النصب يعني التعب (قلت أنهم) بفتح الهمزة وبتقدير اللام المصرح بها في رواية البخاري قال الحافظ والظرف متعلق بمحذوف أي: الخشية أو نحوها لأنهم (يقولون أن معه جبل خبز) بضم المعجمة ولسكون الموحدة بعدها زاي أي: معه من الخبز قدر الجبل. أو أطلق الخبز وأريد به أصله: وهو القمح مثلاً. وفي رواية لمسلم معه جبال من خبز، ولحم ونهر من ماء وفي رواية "أن معه الطعام والأنهار" وفي رواية "أن معه الطعام والشراب" (ونهر ماء) بإسكان الهاء وبفتحها (قال: هو أهون على الله من ذلك) زاد مسلم. بل فقال هو أهون إلخ قال عياض: معناه هو أهون من أن يجعل ما يخلقه على يديه مضلاً للمؤمنين، ومشككاً لقلوب الموقنين، بل ليزداد الذين آمنوا إيماناً ويرتاب الذين في قلوبهم مرض. لا أن المراد بذلك: أنه ليس شيء من ذلك معه، بل المراد: أهون من أن يجعل شيئاً من ذلك آية على صدقه، سيما وقد جعل فيه آية ظاهرة في كذبه وكفره، يقرؤها من يقرأ ومن لا يقرأ، زائدة على شواهد كذبه من حديثه ونقصه. قال الحافظ في الفتح: وإنما أوله بذلك لصحة الأحاديث، بأن معه ما ذكر من الطعام والشراب. وقال ابن العربي: ويحتمل أن يكون المراد: هو أهون من أن يجعل ذلك له حقيقة، إنما هو تخييل وشبه على الأبصار، فيثبت المؤمن ويزل الكافر. ومال ابن حبان في صحيحه إلى ذلك (متفق عليه) .
1815-
(وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي إلا وقد أنذر قومه) وفي نسخة أمته (الأعور الكذاب) وذلك لأنهم علموا بخروجه وشدة فتنته، وتوهم كل نبي إدراك أمته فأنذرهم منه (إلا) بتخفيف اللام: أداة استفتاح وحرف تنبيه (أنه أعور وإن ربكم عز وجل ليس بأعور) جملة معطوفة على مدخول أن قبلها، وإنما اقتصر على ذلك مع أن أدلة
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الفتن، باب: ذكر الدجال، (13/80، 81) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في الدجال وهو أهون على الله عز وجل، (الحديث: 114) .
"ألا أُحدِّثُكمْ حديثاً عن الدجالِ ما حدَّثَ بهِ نبيٌّ قَومَهُ! إنَّهُ أعورُ، وَإنَّهُ يجيءُ مَعَهُ بِمِثالِ الجنَّةِ والنَّارِ، فالتي يقولُ إنَّها الجَنَّةُ هي النَّار". متفقٌ عليهِ (1) .
1817-
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الدَّجَّالَ بَيْنَ ظَهْرَانَي النَّاسِ، فَقَالَ:"إنَّ اللهَ لَيْسَ بِأعْوَرَ، ألَا إنَّ المَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنَى، كَأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ". متفق عليه
ــ
الدجال) أي: عن آيات كذبه (ما حدث به نبي قومه) أي: إن إنذاره لقومه كان بغيره (أنه أعور وأنه يجيء معه بمثال) بكسر الميم وتخفيف المثلثة (الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار) أي: وبالعكس واكتفي بما ذكره لدلالته عليه (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأشار إليه البخاري بقوله في آخر باب ذكر الدجال فيه أبو هريرة وابن عباس، وذكر الحافظ في الفتح: يحتمل أنه أشار لهذا الحديث وهو أقرب اهـ. ملخصاً.
1817-
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال بين ظهراني الناس) الظرف لغو متعلق "بذكر" وبين ظهراني: بفتح النون وكسر الياء لالتقاء الساكنين، بصيغة المثنى، أتى به للدلالة على زيادة الظهور وعدم الاختفاء؛ قال في فتح الباري: وزيدت الألف والنون فيه للنداء، ومعناه أن ظهرا منهم قدامه وظهرا خلفه، فكأنهم خفراء من جانبيه هذا أصله. ثم كثر حتى استعمل في الإِقامة بين القوم مطلقاً. ولذا زعم بعضهم أن لفظ "ظهراني" هنا زائدة (فقال إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة) فيه من المحسنات، الجناس المصحف. ومنه حديث:"ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى"(طافية) بياء غير مهموزة أي: بارزة ولبعضهم بالهمز وهي التي ذهب ضوءها.
قال عياض: روينا عن الأكثر بغير همز، وهو الذي صححه الجمهور وجزم به الأخفش، ومعناه أنها ناتئة نتوء حبة العنب من بين أخواتها. وضبطه بعضهم بالهمز، وأنكره بعض.
والأوجه: الإِنكار. فقد جاء في حديث آخر "أنه ممسوح العين مطموسة وليست حجراً ولا يابسة". وهذه صفة حبة العنب إذا سال ماؤها. وهذا يصحح رواية الهمز. قال الحافظ في الفتح: والحديث المشار إليه عند أبي داود. وجمع القاضي عياض بين الروايتين فقال:
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء، باب: قوله تعالى (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) ، (6/264) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، (الحديث: 109) .
1818-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ المُسْلِمُونَ اليَهُودَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ اليَهُودِيُّ مِنْ وَرَاء الحَجَرِ وَالشَّجَرِ. فَيَقُولُ الحَجَرُ وَالشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ هذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي تَعَالَ فَاقْتُلْهُ؛ إلَاّ الغَرْقَدَ فإنَّهُ مِنْ شَجَرِ اليَهُودِ" متفق عليه (1) .
1819-
وعنه رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرجُلُ على القَبْرِ، فَيَتَمَرَّغَ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هذَا القَبْرِ،
ــ
مذكور في القرآن في قوله تعالى (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس)(2) وأن المراد بالناس هنا الدجال من إطلاق اسم الكل على البعض. وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة، فيكون من جملة ما تكفل صلى الله عليه وسلم ببيانه والعلم عند الله اهـ.
1818-
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود وحتى يختبىء) أي: يختفي (اليهودي) من المسلم (من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر) أي: بلسان قاله بأن يقدره الله على النطق (يا مسلم هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد) بالمعجمة والقاف المفتوحتين والراء بينهما ساكنة آخره دال مهملة: شجر أضيف إليه البقيع مدفن المدينة (فإنه من شجر اليهود) قال الممينف: الغرقد نوع من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس، وهناك يكون قتل الدجال واليهود. وقال: أبو حنيفة الدينوري: إذا عظمت العوسجة صارت غرقداً اهـ. فأومأ إلى أن الإضافة إليهم لأدنى ملابسة (متفق عليه) .
1819-
(وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده) أي: بقدرته (لا تمر) أي: تذهب (الدنيا حتى يمر الرجل بالقبر فيتمرغ) بالغين المعجمة أي: يتقلب (عليه فيقول) مما أصابه من الأنكاد الدنيوية (يا ليتني مكان صاحب هذا القبر) . "يا" فيه:
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: قتال اليهود، (6/75) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل
…
، (الحديث: 82) .
(2)
سورة غافر، الآية:57.
وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ، ما بِهِ إلَاّ البَلَاءُ". متفق عليه (1) .
1820-
وعنهُ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ يُقْتَتَلُ عَلَيْهِ، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِئَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، فَيَقُولُ كُلُّ رجُلٍ مِنْهُمْ: لَعَلِّي أنْ أكُونَ أنَا أنْجُو" وَفي رواية: "يُوشِكُ أنْ يَحْسِرَ الفُرَاتُ عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ حَضَرَهُ فَلَا يَأخُذْ مِنْهُ شَيْئاً" متفق عليه (2) .
ــ
للتنبيه. وقيل: للنداء، والمنادى محذوف أي: يا قوم ليتني، وذلك لاستراحة الميت من نصب الدنيا وعنائها (وليس به الدين) أي: ليس سبب تمنيه الموت لأمر ديني عليه أو اختلال (ما به إلا البلاء) أي: ما سببه إلا تتابع المحن والأوصاب الدنيوية (متفق عليه) واللفظ لمسلم. ولفظ رواية البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول ليتني مكانه".
1820-
(وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يحسر) بفتح التحتية وكسر المهملة الثانية أي: ينكشف (الفرات) بضم الفاء آخره مثناة، وذلك لذهاب مائه (عن جبل من ذهب يقتتل) بصيغة المجهول من الاقتتال (عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون فيقول كل رجل منهم) أي: من المائة المتقاتلة وقد علموا أنه لا يبقى منها إلا واحد (لعلي أن أكون أنا أنجو) فيه حمل لعل على عسى أختها في معنى التوقع والإِشفاق. وفي الكلام مضاف مقدر: إما في المحكوم عليه أي: لعل شأني كوني أنجو، أو في المحكوم أي: لعلى ذا كون نجاة، ويصح ألا يقدر شيء، ويكون من حمل المصدر على اسم العين نحو زيد عدل مبالغة (وفي رواية يوشك) بضم التحتية وكسر المعجمة أي: يقرب (أن يحسر الفرات عن كنز من ذهب) فيه الاكتفاء بأن ومنصوبها عن جزئي الفعل (فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً) وذلك لأنه لا يصل إليه أحد إلا بعد التقاتل المذكور في الحديث قبله، فلا يصل إليه حتى يقتل عدداً. وقد يقتل هو، وإذا لم يتوجه إليه وامتثل النهي، سلم في نفسه وسلم منه غيره (متفق عليه) .
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور، (13/65) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشرط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل
…
، (الحديث: 54) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: الفتن، باب: خروج النار، (13/70) . =
1821-
وعنهُ، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "يَتْرُكُونَ المَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، لَا يَغْشَاهَا إلَاّ العَوَافِي يُريد - عَوَافِي السِّبَاعِ والطَّيرِ - وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ المَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وُحُوشاً، حَتَّى إذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الودَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهمَا". متفق عليه (1) .
ــ
1821-
(وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يتركون) أي: الناس (المدينة على خير ما كانت) أي: خير أكوانها أو خير ما كانت عليه (لا يغشاها إلا العوافي) وأدرج تفسيرها في الحديث بقوله (يريد عوافي السباع والطير) قال المصنف: هو صحيح في اللغة مأخوذ من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه، والظاهر أن الترك للمدينة سيكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ويوضحه قوله (وآخر من يحشر) بصيغة المجهور (راعيان من مزينة) بضم الميم وفتح الزاي وسكون التحتية وبعدها نون. قال المصنف: وهما آخر من يحشر، كما ثبت في صحيح البخاري (يريدان) أي: يقصدان (المدينة) النبوية (ينعقان) بكسر المهملة أي: يصيحان (بغنمهما فيجدانها) أي: المدينة (وحوشاً) أي: ذات وحوش، لذهاب أهلها عنها.
وعند مسلم وحشاً بالإِفراد. وحكى القاضي عن بعضهم. أن ضمير يجدانها عائد للغنم، وأن معناه إن غنمها تصير وحوشاً: إما بأن تنقلب ذاتها فتصير كذلك، أو تتوحش أو تنفر من أصواتهما. وأنكره واختار ما تقدم من عود الضمير على المدينة لا إلى الغنم. قال المصنف: وهو الصواب ومقابله غلط (حتى إذا بلغا ثنية) بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد التحتية هي الطريق في الجبل (الوداع) الذي يخرج إليه المشيعون للمسافر ويودعونه عنده (خرا على وجوههما) وما ذكرنا من أن ذلك سيقع هو المختار في معنى الحديث. وقال القاضي: إنه جرى في العصر الأول وانقضى. قال: وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين نقلت الخلافة إلى الشام والعراق، وذلك الوقت أحسن ما كانت المدينة للدين والدنيا أما الدين فلكثرة العلماء بها، وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها.
قال: وذكر الإِخباريون في بعض الفتن التي جرت في المدينه وخاف أهلها، أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها. أو أكثرها للعوافي، وخلت مدة، ثم تراجع الناس إليها. قال: وحالها اليوم قريب من هذا وخربت أطرافها اهـ. (متفق عليه) .
= وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، (الحديث: 31) .
(1)
أخرجه البخاري في كتاب: فضائل المدينة، باب: من رغب عن المدينة، (4/77 و78) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: في المدينة حين يتركها أهلها، (الحديث: 499) .
1822-
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يكُونُ خَلِيفَةٌ مِنْ خُلَفَائِكُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَحْثُو المَالَ وَلَا يَعُدُّهُ". رواه مسلم (1) .
1823-
وعن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَيَأتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ فَلَا يَجِدُ أَحَداً يَأخُذُهَا مِنهُ، وَيُرَى الرَّجُلُ الوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ". رواه مسلم (2) .
1824-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ
ــ
1822-
(وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يكون خليفة من خلفائكم في آخر الزمان يحثو المال) قال المصنف: يقال: حثيت أحثي حثياً، وحثوت أحثو حثواً لغتان (ولا يعده) رأيت بخط ابن الخياط محدث اليمن: الظاهر والله أعلم أنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد كثر المال في زمنه إلى الغاية حتى بلغ بهم النظر إلى استحلال ذمته وهو في آخر زمان الخلفاء. قال: كذا أظن والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم (رواه مسلم) .
1823-
(وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب فلا يجد أحداً يأخذها منه) وذلك لإِخراج الأرض كنوزها وفيضان المال (وترى) أيها الصالح للخطاب (الرجل الواحد) الوصف به لدفع توهم أن المراد جنسه الصادق بالواحد فما فوقه (يتبعه) بسكون الفوقية (أربعون امرأة) وذلك إما لقلة الرجال في الحروب، أو لكثرة الإِناث دون الذكور من الأولاد (يلذن) بضم اللام وسكون الذال المعجمة أي: يعتصمن (به من قلة الرجال وكثرة النساء) بفتح الكاف والكسر رديء، ويقال هو خطأ. ومن: تعليلية نحو (مما خطيئاتهم أغرقوا)(3)(رواه مسلم) .
1824-
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اشترى رجل من رجل) وذلك
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل
…
، (الحديث: 69) .
(2)
أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: الترغيب في الصدقة قبل أن لا توجد من يقبلها، (الحديث: 59) .
(3)
سورة نوح، الآية:25.
عَقَاراً، فَوَجَدَ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ، إنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ وَلَمْ أشْتَرِ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قالَ أحَدُهُما: لِي غُلَامٌ، وقالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ قال: أنْكِحَا الغُلَامَ الجَارِيَةَ،
ــ
في زمن بني إسرائيل كما يومىء إليه إخراج البخاري له فيه (عقاراً) بفتح المهملة وبالقاف والراء، وهو في اللغة كل ملك ثابت له أصل كالدار والنخل قال بعضهم: وربما أطلق على المتاع كذا في المصباح (فوجد الذي اشترى العقار في عقاره) أظهر في محل الإِضمار زيادة في الإِيضاح (جرة) بفتح الجيم وتشديد الراء وبالهاء قال في المصباح: هي إناء معروف جمعها جرار ككلبة وكلاب، وجرات وجر كتمرة وتمر. وبعضهم يجعل الجر لغة في الجرة (فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك) وعلل الأمر على طريق الاستئناف البياني بقوله (إنما اشتريت منك الأرض ولم أشتر الذهب) أي: وليس هو من أجزائها حتى يتناوله الشراء الوارد عليها (فقال الذي له الأرض) أي: باعتبار ما مضى قبل عقد البيع. ووقع لأحمد، المراد من ذلك ولفظه: فقال الذي باع الأرض: إنما بعتك الأرض. ووقع في نسخ مسلم اختلاف، كالأكثر رووه بلفظ فقال الذي شرى الأرض. والمراد باعها كما قال أحمد.
ولبعضهم الذي اشترى الأرض ووهم فلا وهم (إنما بعتك الأرض وما فيها) لعله أخبر عن مراده لا عن اللفظ الواقع بينهما حال العقد، ويحتمل أنه أخبر عنه وأنه قال: وأنكر المشتري التعرض له أو لم يره المشتري شاملاً لما وجده فيها، ورآه قاصراً عليها بل على ما يعتاد دخوله في بيع الأرض من المدر والأحجار المبنية فيها. ثم رأيت الحافظ في الفتح: أشار إلى الاحتمالات المذكورة قال: وحكم اختلافهما فيما ورد عليه العقد التحالف، ويرد المبيع هذا، باعتبار ظاهر اللفظ أنه وجد فيها جرة لكن في أخرى أنه اشترى داراً فعمرها فوجد فيها كنزاً، وأن البائع قال له لما دعاه إلى أخذه: ما دفنت ولا علمت. وأنهما قالا للقاضي ابعث من يقبضه وتضعه حيث رأيت فامتنع. وعليه فحكمه حكم الركاز في هذه الشريعة إن عرف أنه من دفين الجاهلية. وإلا فإن عرف أنه من دفين المسلمين فهو لقطة وإن جهل فحكمه حكم المال الضائع يوضع في بيت المال. ولعله لم يكن في شرعهم هذا التفصيل اهـ. (فتحا كما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد؟ قال أحدهما لي غلام) اسم للولد حال الصغر والشباب واجتماع القوة (وقال الآخر) بفتح الخاء المعجمة (لي جارية) أي بنت
قال: أنْكِحَا الغُلَامَ الجَارِيَةَ، وأنْفِقَا عَلَى أنْفُسِهمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا" متفق عليه (1) .
1825-
وعنهُ رضي الله عنه: أنَّه سمعَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "كانت امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بابْنِ إحْدَاهُمَا. فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا: إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وقالتِ الأخرَى: إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَا إلى دَاوُدَ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا
ــ
(فقال أنكحا) بكسر الكاف (الغلام الجارية وأنفقا على أنفسهما منه فتصرفا) وفي نسخة وتصرفا كذا في الرياض بالراء من التصرف. ولفظ البخاري "بالدال" من الصدقة ولفظ البخاري "فقال أنكحوا الغلام الجارية وانفقوا على أنفسهما منه وتصدقا". والحكمة في جمع الأولين وتثنية الثالث والرابع كما قال الحافظ: أن الزوجين كانا محجورين وإنكاحهما لا بد فيه مع ولييهما من غيرهما كالشاهدين، وكذا الإِنفاق، قد يحتاج فيه إلى المعين كالوكيل، وأما تثنية النفسين فللإِشارة إلى اختصاص الزوجين بذلك، وأما تثنية التصدق فللإِشارة إلى أن يباشرا الصدقة بأنفسهما بغير واسطة، لما في ذلك من الفضل؛ وأيضاً فهي تبرع لا يصدر من غير الرشيد ولا سيما ممن ليس له فيها ملك ووقع في رواية لمسلم وأنفقا على أنفسكما والأول أوجه اهـ. كلام الفتح (متفق عليه) أخرجه البخاري في بني إسرائيل. وأخرجه مسلم في البيوع.
1825-
(وعنه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كانت امرأتان) أي: في زمن بني إسرائيل (معهما ابناهما) جملة في موضع الخبر، أو الخبر الظرف. والمثني فاعله لاعتماده على المخبر عنه؛ قال في الفتح: لم أقف على اسم واحدة من هاتين المرأتين ولا على اسم واحدة من ابنيهما في شيء من الطرق (جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت) المذهوب بابنها (إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكما) وفي رواية الكشميهني: "فتحاكمتا" وعند البخاري في رواية "فاختصما"(إلى داود صلى الله عليه وسلم فقضى به للكبرى) قال القرطبي: الذي ينبغي أن يقال إن قضاء داود به لها لسبب اقتضى ترجيح قولها عنده، إذ لا بينة لإِحداهما، وكونه لم يعين في الحديث اختصاراً، لا يلزم منه عدم وقوعه، فيحتمل أن يقال: إنه كان بيد الكبرى وعجزت الأخرى عن إقامة البينة، قال: وهذا تأويل حسن جار على القواعد الشرعية، وليس في السياق ما يأباه ولا يمنعه، وسليمان لم ينقضه،
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء قبيل باب المناقب، (6/375، 376) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: استحباب إصلاح الحاكم بين الخصمين، (الحديث: 21) .
عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتَاهُ. فَقالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أشُقُّهُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ! رَحِمَكَ اللهُ، هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ للصُّغْرَى". متفق عليه (1) .
1826-
وعن مِرداس الأسلمي رضي الله عنه
ــ
إنما احتال للوقوف على حقيقة الأمر فوقف عليه. ولعل الكبرى لما رأت الجد من سليمان اعترفت بالحق وأقرت به، فحكم به. ونظير ذلك ما لو حلف منكر على نفي ما ادعى عليه به فحكم ببراءته منه ثم احتيل عليه حتى أقر بأن المحلوف عليه عنده، فإنه يؤاخذ بإقراره ولا يقال فيه: إنه نقض للحكم السابق (فخرجتا على سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم فأخبرتاه فقال) توصلاً للوقوف على حقيقة الأمر (ائتوني بالسكين) بكسر المهملة والكاف، سميت به لأنها تسكن حركة المذبوح (أشقه بينهما فقالت الصغرى: لا تفعل رحمك الله هو ابنها) أخد من جزعها الدال على عظيم شفقتها، وعدم ذلك في الكبرى مع ما انضاف إليه من القرائن الدالة على صدقها، ما هجم به على الحكم بأنه للصغرى كما قال (فقضى به للصغرى) ويحتمل كما تقدم إقرار الكبرى حينئذ به، ويحتمل أن يكون سليمان ممن سوغ له أن يحكم بعلمه قال ابن الجوزي: استنبط سليمان لما رأى الأمر محتملاً فأجاد، وكلاهما حكم بالاجتهاد إذ لو حكم داود بالنص لما ساغ لسليمان الحكم بخلافه. ودلت هذه القصة أن الفطنة والفهم موهبة من الله تعالى لا تتعلق بكبر سن ولا صغره، وفيه جواز حكم الأنبياء بالاجتهاد وإن كان وجود النص ممكناً لديهم بالوحي، ليكون في ذلك زيادة أجورهم ولعصمتهم من الخطأ إذ لا يقرون على الباطل لعصمتهم (متفق عليه) .
1826-
(وعن مرداس) بكسر الميم وسكون الراء وبالدال والسين المهملتين: ابن مالك (الأسلمي رضي الله عنه قال في التقريب: صحابي بايع تحت الشجرة وهو قليل الحديث.
قال في فتح الباري في غزوة الحديبية: وليس لمرداس في البخاري سوى هذا الحديث، ولا يعرف أحد روي عنه إلا قيس بن حازم، وجزم بذلك البخاري وأبو حاتم ومسلم وآخرون.
وقال ابن السكن: زعم بعض أهل الحديث: أن مرداس بن عروة الذي روى عنه زياد بن علاقة هو الأسلمي. قال: والصحيح أنهما اثنان. قال الحافظ في الفتح ففيه تعقب على المزي في قوله في ترجمة مرداس الأسلمي روى عنه قيس بن أبي حازم وزياد بن علاقة
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: إذا ادعت المرأة ابناً، (6/333، 335) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: بيان اختلاف المجتهدي، (الحديث: 20) .
قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ الشَّعِيرِ أوِ التَّمْرِ لَا يُبَالِيهُمُ اللهُ بَالَةً". رواه البخاري (1) .
1827-
وعن رفاعة بن رافع الزُّرَقِيِّ رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى
ــ
ووضح أن شيخ زياد بن علاقة غير مرداس الأسلمي (2)(قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يذهب الصالحون) أي: تقبض أرواحهم (الأول فالأول) بالنصب على تأويل مترتبين في محل الحال وبالرفع بدل مفصل من مجمل والظاهر منعه وأنه لا يعطف في هذا البدل إلا بالواو ونظير عطف الصفات المعرفة مع اجتماع منعوتها من خصائص الواو والعاطف هنا الفاء. ثم قال الزركشي: ويجوز النصب على الحال، أي: مترتبين. قال: وجاز وإن كان فيه أل لأن الحال ما يستخلص من التكرار أي: مترتبين قاله أبو البقاء وهل الحال الأول أو الثاني أو المجموع منهما فيه الخلاف في الخبر في هذا حلو حامض. لأن الحال أصلها الخبر. قال الدماميني: قيل قوله بأن الخبر في هذا حلو حامض هو الثاني لا الأول. غريب لم أقف عليه فحرر اهـ. (وتبقى حثالة كحثالة العشير أو التمر) كذا في نسخ الرياض بالمهملة والمثلثة وفي رواية بالفاء بدل المثلثة قال الخطابي: الحفالة بالفاء وبالمثلثة: الرديء من كل شيء.
وقيل آخر ما يبقى من الشعير عند الغربلة ويبقى من التمر بعد الأكل (لا يباليهم الله بالة) بالموحدة فيهما قال الخطابي أي: لا يرفع لهم قدراً ولا يقيم لهم وزناً وقال ابن بطال: وفي الحديث: "أن موت الصالحين من أشراط الساعة". وفيه الندب إلى الاقتداء بأهل الخير، والتحذير من مخالفتهم، خشية أن يصير من خالفهم ممن لا يعبأ الله به، وفيه انقراض أهل الخير آخر الزمان حتى لا يبقى إلا أهل الجهل صرفاً، ويؤيده حديث: "إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً اهـ. ملخصاً من الفتح (رواه البخاري) في المغازي في غزوة الحديبية موقوفاً عليه. وفي الرقاق مرفوعاً. وأحمد.
1827-
(وعن رفاعة) بكسر الراء وتخفيف الفاء وبالعين المهملة (بن رافع) بالحروف المذكورة ابن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق بتقديم الزاي (الزرقي) بضم
(1) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: في غزوة الحديبية، (الحديث: 11/214 و215) .
(2)
في الأصل تحريف، صحح من الفتح، وتقديم وتأخير، وبعد وضع الجمل في مواضعها ظهر بها شيء من الخلل وضعنا عليه رقم 7 ع.
1829-
وعن جابر رضي الله عنه قال: كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي فِي الخُطْبَةِ - فَلَمَّا وُضِعَ المِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلجِذْعِ مِثْلَ صَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَوضَعَ يَدَهُ عَلَيهِ فَسَكَنَ.
وَفِي روايةٍ: فَلَمَّا كَانَ يَومُ الجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أنْ تَنْشَقَّ.
وفي رواية: فصَاحَتْ صِيَاحَ الصَّبيِّ، فَنَزَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَخَذَهَا
ــ
فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم".
1829-
(وعن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان جذع) بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة وبالعين المهملة، هو ساق النخلة (يقوم إليه النبي صلى الله عليه وسلم) أي: مائلاً إليه (يعني في الخطبة) تفسير لوقت قيامه إليه مدرج في الحديث (فلما وضع المنبر) قيل: وذلك في عام سبع، وبه جزم ابن سعد. وقيل: سنة ثمان. وجزم به ابن النجار، ونظر في كل منهما الحافظ في باب الجمعة من الفتح، وفي الكلام حذف، أي: وصعد عليه صلى الله عليه وسلم كما صرح به في الرواية بعده (سمعنا للجذع) صوتاً (مثل صوت العشار) بكسر المهملة وتخفيف المعجمة: جمع عشراء بضم ففتح الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر ووقع في رواية للنسائي في الكبرى من حديث جابر اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج وهي بفتح المعجمة وضم اللام الخفيفة آخره جيم الناقة التي انتزع ولدها، وفي حديث أنس عند ابن خزيمة "فحنت الخشبة حنين الوالد". وعند الدارمي وابن ماجه:"فلما جاوزه خار ذلك الجذع كخوار الثور". وفي حديث أبي بن كعب عند أحمد والدارمي وابن ماجه: "فلما جاوزه خار الجذع حتى انصدع وانشق"(حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكن) وفي حديث بريدة عند الدارمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت يعني قبل أن تصير جذعاً وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها فيحسن نبتك وتثمر، فيأكل منك أولياء الله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اختار أن اغرسه في الجنة". وهذا اللفظ عند البخاري في أبواب الجمعة وهو عنده من حديث ابن عمر أخرجه في باب علامات النبوة بنحوه (وفي رواية فلما كان يوم الجمعة) بالرفع فاعل كان، وبالنصب خبرها. واسمها عائد إليه صلى الله عليه وسلم (قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فصاحت النخلة) أي: جذعها، مجاز مرسل من إطلاق اسم الكل على الجزء أو من مجاز الحذف مثل واسأل القرية (التي كان يخطب عندها حتى كادت) أي: قاربت (أن تنشق) انفعال من الشق، وفيه إدخال أن في خبر كاد وهو قليل جداً (وفي رواية) هي للبخاري (فصاحت) أي: النخلة كما صرح بها في الرواية وحذفها المصنف اكتفاء لذكرها في الحديث قبل، والضمير المؤنث يدل عليها
فَضَمَّهَا إلَيهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبي الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قال:"بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذَّكْرِ". رواه البخاري (1) .
1830-
وعن أبي ثعلبة الخُشَنِيِّ جُرثومِ بنِ ناشر
ــ
(صياح الصبي) أي: في غاية الشدة (فنزل النبي صلى الله عليه وسلم) أي: من على المنبر وسارّ لها (حتى أخذها فضمها إليه) تسكيناً لما قام بها من الشوق لحضرته وسماع خطبته (فجعلت تئن أنين الصبي) قال في المصباح: أن الرجل يئن أنيناً وأناناً بالضم: صوت (الذي يسكت حتى استقرت) أي: سكنت. زاد الإِسماعيلي فقال: "لو لم أفعل لما سكن". وفي رواية للإِسماعيلي أيضاً بلفظ: "لو لم احتضنه لحن إلى يوم القيامة". ولأبي عوانة وابن خزيمة وأبي نعيم من حديث أنس: "والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة" حزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أمر به فدفن وأصله في الترمذي بدون الزيادة. قال الحافظ: ووقع في حديث الحسن عن أنس قال: كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث يقول: يا معشر المسلمين الخشبة تحنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقائه فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه (قال) النبي صلى الله عليه وسلم (بكت على ما كانت تسمع من الذكر) قال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي نقلها الخلف عن السلف، ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكليف، قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكاً كالحيوان بل كأشرف الحيوان. وفيه تأكيد لقول من يحمل (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)(2) على ظاهره. وقد نقل ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال: ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد أعطي عيسى إحياء الموتى وأعطي محمداً حنين الجذع، حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك اهـ. (رواه البخاري) في أماكن من صحيحه، وأورده بهذا اللفظ الأخير بنحوه في علامات النبوة من حديث جابر وأخرجه في أبواب أخر كما تقدمت الإِشارة إليه.
1830-
(وعن أبي ثعلبة) بفتح المثلثة واللام والموحدة وسكون العين المهملة (الخشني) بضم المعجمة الأولى وفتح الثانية بعدها نون قال في لب اللباب: منسوب إلى الخشين بن النمر بن وبرة (جرثوم) بضم الجيم والمثلثة وسكون الراء (بن ناشر) بالنون والشين المعجمة
(1) أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة وفي غيره، (2/332) و (6/443، 444) .
(2)
سورة الإسراء، الآية:44.
- رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُوداً فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا" حديث حسن. رواه الدارقطني وغيره (1) .
ــ
والراء وقيل: اسمه جرثومة بزيادة هاء، وقيل: جرثم بحذف الواو، وقيل: جرهم بإبدال المثلثة هاء وبحذف الواو، وقيل: لاشق، وقيل: لاشوية، وقيل: ياسب، وقيل: ياسر، وقيل: عروف، وقيل: سق، وقيل: زيد، وقيل: الأسود. واختلف في اسم أبيه أيضاً. مات سنة خمس وسبعين. وقيل: بل قبل ذلك بكثير في أول خلافة معاوية بعد الأربعين خرج حديثه الجميع كذا في التقريب للحافظ روي له رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعون حديثاً اتفق الشيخان على ثلاثة أحاديث منها وانفرد مسلم بالرابع (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها) بالإِخلال بها إما بتركها أو بترك ركن من أركانها أو شرط من الشروط المتوقف صحتها عليه (وحد حدوداً) وذلك ككون الصبح مثلاً ركعتين وكل من الظهرين والعشاء أربعاً وككون الصوم فيما بين طلوع الشمس وغروبها (فلا تعتدوها) بالزيادة في ذلك ومن ثم حرم الوصال لدخوله في المنهي عنه؛ وفي الكشاف حدود الله أحكامه وأوامره ونواهيه، وعليه فمعنى لا تعتدوها أي: لا تتجاوز عنها وتتركها (وحرم أشياء) التنكير للتكثير (فلا تنتهكوها) بالوقوع وكان التحريم كالحجاب الحائل بين المكلف وبينها فلا يصل إليها إلا بانتهاكه وخرقه (وسكت عن أشياء) أي: لم يحكم فيها بوجوب أو حل أو حرمة (رحمة لكم) مفعول له (غير نسيان) هو ترك الفعل بلا قصد وبعد حصول العلم، بخلاف السهو. وكل منهما محال في حقه تعالى، لأن عمله بالذات؛ وما كان بالذات لا يتغير البتة (فلا تبحثوا عنها) أي: لا تسألوا عن حالها لأن السؤال عما سكت الله عنه يفضي إلى التكاليف الشاقة، بل نحكم بالبراءة الأصلية والحل في المنافع، والحرمة في المضار، والبحث بعد التفتيش (حديث حسن رواه الدارقطني وغيره) قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأربعين حديثاً: جمع المصنف بعد تخريج الحديث هذا حديث حسن وقد أخرج مسلم لرواته عن آخرهم لكن مكحولاً كثير الإِرسال، فلا يحتج بعنعنته إلا إذا صرح بالتحديث. وقد قيل: إنه لم يسمع من أبي ثعلبة ففيه انقطاع والله أعلم. قال أبو حاتم: سألت أبا مسهر هل سمع مكحول من أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما صح عندنا إلا أنس بن
(1) سنن الدارقطني ص 502.
1831-
وعن عبد الله بن أبي أَوْفَى رضي الله عنهما، قالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأكُلُ الجَرَادَ.
وَفِي رِوَايةٍ: نَأكُلُ مَعَهُ الجَرَادَ
ــ
مالك. قلت: فواثلة بن الأسقع فأنكره. وقال أبو زرعة: مكحول عن ابن عمر مرسل ولم يسمع من واثلة. وقال الدارقطني: لم يلق إلا أبا هريرة وإلا شداد بن أوس. وقال أبو حاتم: لم يسمع من معاوية ولا من واثلة ولم ير أبا أمامة وقال البخاري: لم يسمع من عبسة بن أبي سفيان إذا قلت لم يصح سماعه من أبي أمامة وواثلة وهما ممن تأخرت وفاتهما وكان معاصراً لهما فيبعد صحة سماعه من أبي ثعلبة أيضاً، وإن كان بحضرته والله أعلم اهـ. ومن خطه نقلت وقال السخاوي في تخريج الأربعين المذكورة هذا حديث حسن، أخرجه ابن أبي شيبة ومن طريقه الطبراني في معجمه الكبير ورواه الدارقطني في سننه وأبو نعيم في الحلية والحاكم في المستدرك ثم ذكر كلام شيخه أن مكحولاً كثير الإِرسال أرسل عن جماعة من الصحابة. قال: وقال الحافظ أبو سعيد العلائي في المراسيل له إنه معاصر لأبي ثعلبة في السن والبلد، فيحتمل أن يكون لقيه وأن يكون أرسل عنه قلت: وبالثاني جزم أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم وجماعة وحكاه المزي ممرضاً، وأيده شيخنا بقول أبي حاتم إنه لم يسمع من واثلة ولم ير أبا أمامة وقال: إنه إذا لم يصح سماعه عن أبي أمامة إلى آخر كلامه السابق، ولكن قد جزم غير واحد بسماعه من واثلة خلافاً لأبي حاتم منهم البخاري والترمذي وابن يونس، وليس ذلك بلازم، وعلى كل حال فمن يكون كثير الإِرسال لا يحتج من حديثه إلا بما يصرح فيه، على أنه قد اختلف في رفعه ووقفه. بل رواه بعضهم عن مكحول من قوله إلا أن الدارقطني قال: الأشبه بالصواب المرفوع وهو أشهر اهـ. وقد حسنه أبو بكر بن السمعاني في أماليه ثم المصنف والعراقي وشيخنا في أماليه وله شواهد ثم بينها وأطال فيه.
1831-
(وعن عبد الله بن أبي أوفى) بالفاء وهو كنية علقمة بن خالد بن الحارث رضي الله عنهما قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد) بفتح الجيم اسم جنس جمعي واحدته جرادة يطلق على الذكر والأنثى قاله الجوهري. وقال ابن النحوي في شرح البخاري: قال ابن دريد، سمي جراداً لأنه يجرد الأرض فيأكل ما عليها. وأطال الحافظ في تعريفه. ونقل الأصمعي أنه إذا خرج من بيضه فهو يرباه ثم قال: ولعابه سم على الأشجار لا يقع على شيء إلا أحرقه. وفي الغريب المصنف للأصمعي: الذكر من الجراد وهو الحنطب والعنطا زاد الكسائي: والعنطوب وقال أبو حاتم في كتاب الطير: "قالت العرب للذكر الجراد وللأنثى كذلك، وهي نثرة حوت يؤكل ولا يذبح. وقال أبو يعلى: والجندب
متفق عليه (1) .
1832-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ". متفق عليه (2) .
ــ
ضرب منه" وقال أبو حاتم، وأبو حجارب: شيخ الجنادب وسيدهم قال ابن خالويه: وليس في كلام العرب للجراد اسم أقرب من العصفور، وللجراد نيف وستون اسماً فذكرها، والجراد حلال بالإِجماع ويؤكل عند الكوفيين وإمامنا الشافعي، كيف كان ولو صاده المجوسي. وعند المالكي فيه تفصيل وأقوال، أطال ابن النحوي في بيانها وذكر أحاديث وآثاراً كثيرة في حل أكله، وأجاب عما توهم من الأحاديث من عدم حله وأورد فيه عن جابر قال: قال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق ألف أمة ستمائة في البحر وأربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمة الجراد فإذا هلك الجراد تتابعت الأمم مثل سلك النظام" (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (وفي رواية نأكل معه والجراد) بزيادة الظرف.
1832-
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) بالدال المهملة وبالغين المعجمة، وهو بالرفع خبر بمعنى الأمر أي: لكون المؤمن حازماً حذراً لا يؤتى من جهة الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدنيا وهو أولاهما بالحذر. وقال أبو عبيد: معناه لا ينبغي للمؤمن إذا نُكب من وجه أن يعود إليه. هذا ما فهم الأكثر، ومنهم الزهري راوي الحديث. وحمل أبو داود على أن معنى أنه من عوقب في الدنيا بذنب لا يعاقب عليه في الآخرة. فإن أراد أنه معناه المراد فيأتي أنه له سبباً يعني حمله على الأول قيل: المراد بالمؤمن الكامل أي: الذي وقفته معرفته على غوامص الأمور حتى صار يحذرها. وأما المؤمن المغفل فقد يلدغ مراراً وقوله: "من جحر" زاد بعض رواة البخاري "واحد" ووقع في بعض النسخ من "حجر حية" وهي رواية شاذة قال ابن بطال: وفيه أدب شريف أدب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته ونبههم كيف يحذرون مما يخافون من سوء عاقبته (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود.
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الذبائح، باب: أكل الجراد، (9/535) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الجراد، (الحديث: 52) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين، (10/439، 440) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين، (الحديث: 63) .
1833-
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً سِلْعَةً بَعْدَ العَصْرِ فَحَلَفَ بِاللهِ لأَخَذَهَا بِكذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَاماً لَا يُبَايِعُهُ إلَاّ لِدُنْيَا فَإنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى وَإنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ"
ــ
1833-
(وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة) أي: من الأصناف أي: أصناف ثلاثة (لا يكلمهم الله يوم القيامة) كلام بروإلطاف وقيل: المراد لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية (ولا ينظر إليهم) نظر رحمة وإسعاف، وإلا فعلمه لا يغيب عنه شيء (ولا يزكيهم) أي: لا يطهرهم من الذنوب ولا يثني عليهم (ولهم عذاب أليم) أي: مؤلم (رجل على فضل ماء) أي: ماء فضل عن حاجته (بالفلا) بالفاء واللام والألف المقصورة جمع فلاة: وهي الأرض لا ماء فيها، ونظيرها في الجمع المذكور حصاة وحصى وجمع الجمع أفلاء كسبب وأسباب (يمنعه من ابن السبيل) أي: المسافر وسمي بذلك ترفقاً به قاله البيضاوي أي: من المسافر المحتاج له ويستثنى من الوعيد، ما لو كان المسافر المحتاج للماء حربياً أو مرتداً، وأصراً على الكفر، فلا يجب بذل الماء له (ورجل بايع رجلاً بسلعة) بالباء مزيدة في المفعول للتأكيد أو ضمن بايع معنى قابل أو عوض وهي بكسر المهملة الأولى وسكون اللام: البضاعة وجمعه سلع نحو سدرة وسدر (بعد العصر) خص بالذكر لشرفه باجتماع ملائكة الليل والنهار فيه (فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا) كناية عن ثمن (فصدقه) أي: المشتري (وهو) أي: الحالف (على غير ذلك) الذي حلف عليه بأن أخذها بأقل أو وهو أي: الثمن، المكنى عنه على غير ذلك أي: أقل وتحريم الحلف المذكور والوعيد الشديد غير مقصور على العصر بل عام لكل من أتى بذلك أي: زمن كان، وتخصيص العصر بالذكر لما ذكر. وقيل خص لعظيم الإِثم فيه وإن حرمت اليمين الفاجرة كل وقت إلا أن الله سبحانه عظم شأن هذا الوقت لاجتماع الملائكة، ووقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلظت فيه العقوبة لئلا يقدم عليها فيه تجرؤاً، فإن من تجرأ عليها فيه أعادها في غيره وكان السلف يحلفون بعد العصر تغليظاً لليمين (ورجل بايع) أي: عاهد (إماماً) على النصرة له والدخول في طاعته (لا يبايعه إلا لدنيا) أي: فإن أعطي منها دام على الطاعة وإلا نكث وأفسد كما قال: (فإن أعطاه منها وفى) بتخفيف الفاء أي: بما التزمه (وإن لم يعطه منها لم يف) هو تصريح بما يفهم مما قبله زيادة في تقبيح كل من فعليه والسعي بذلك عليه قال في الفتح:
متفق عليه (1) .
1834-
وعنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ" قالوا: يَا أبَا هُرَيْرَةَ أرْبَعُونَ يَوْماً؟ قالَ: أبَيْتُ، قَالُوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قال: أبَيْتُ. قالُوا: أرْبَعُونَ شَهْراً؟ قالَ: أبَيْتُ. "وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الإنْسَانٍ إلَاّ عَجْبَ الذَّنَبِ، فِيهِ يُرَكَّبُ الخَلْقُ، ثُمَّ يُنَزِّلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ البَقْلُ". متفق عليه (2) .
ــ
واستحقاقه هذا الوعيد لكونه غش إمام المسلمين، ومن لازم غشه غشهم لما ليه من التسبب إلى إثارة الفتنة ولا سيما إن كان ممن يتبع على ذلك اهـ. (متفق عليه) ورواه أحمد.
1834-
(وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بين النفختين) أي: نفخة الصعق ونفخة البعث (أربعون قالوا) لم يعين المصنف أسماء القائلين ولا أحداً منهم (يا أبا هريرة أربعون يوماً) بتقدير همزة قبله (قال أبيت) بالموحدة فالتحتية فالفوقية أي: امتنعت أن أجزم بتعيينها كذلك. وكذا في قول (قالوا أربعون عاماً قال أبيت قالوا أربعون شهراً قال أبيت) والحاصل كما قاله المصنف: أن مراده الامتناع من الجزم بأن المراد يوماً أو شهراً أو عاماً بل الذي يجزم به أنها أربعون مجملة وقد جاءت مفسرة من رواية غيره في غير مسلم أربعون سنة (ويبلى كل شيء من الإِنسان) من لحم وعصب وعروق وعظم وظفر وشعر (إلا عجب الذنب) هو بفتح العين المهملة وسكون الجيم أي: العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب، وهو رأس العصعص.
ويقال له عجم بالميم وهو أول ما يخلق من الآدمي، وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه، ثم هذا عام مخصوص بغير الأنبياء فلا يبلون وكذا الشهداء (فيه يركب الخلق) بصيغة المجهول ونائب الفاعل المرفوع بعده (ثم) للتركيب في الذكر وإلا فمدخولها سابق على تركيبه (ينزل الله من السماء ماء) على صورة المني (فينبتون) بضمِ الموِحدة أي: من عجب الذنب بأن تجمع إليه أجزاؤه شيئاً فشيئاً (كما ينبت البقل) شيئاً فشيئاً وهو بفتح الموحدة وسكون القاف قال ابن فارس: هو كل نبات اخضرت به الأرض (متفق عليه) .
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات والمساقاة والأحكام، باب: من بايع رجلاً لا يبايعه إلا للدنيا (5/25) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الإِزار
…
، (الحديث: 173) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: التفسير/في تفسير سورة الزمر، (8/424) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين، (الحديث: 141) .
1835-
وعنه، قال: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَومَ، جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ، فَقالَ بَعْضُ القَومِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إذَا قَضَى حَدِيثَهُ قالَ: أيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ " قال: هَا أنا يَا رسُولَ اللهِ. قال: "إذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ" قال: كَيفَ إضَاعَتُهَا؟ قال: "إذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إلى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ". رواه البخاري (1) .
ــ
1835-
(وعنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم) جملة في محل الحال من ضميرها، ويحتمل العكس (جاءه أعرابي) قال الحافظ: لم أقف على اسمه (فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث) أي: استمر فيما كان فيه ولم يقطعه لجواب السائل (فقال بعض القوم) أي: حاضري المجلس (سمع ما قال) أي: قوله (فكره ما قال) أظهر، والمقام للإِضمار دفعا لتوهم كراهة القائل لو جيء بالضمير (وقال بعضهم بل) إضراب عن ْقول الأولين من غير إبطال (لم يسمع) وإنما حصل لهم التردد لما ظهر لهم من عدم التفات في النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤاله وإصغائه نحوه، ولكونه كان يكره السؤال عن هذه المسألة بخصوصها؛ وقد تبين عدم انحصار تركه الجواب فيما ذكروه منها بل احتمل أنه ليكمل حديثه الذي كان فيه أو ليوحي إليه به، ويؤيده الأول من هذين وقوله (حتى إذا قضى حديثه) حتى: غاية لقوله مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أي: استمر فيه إلى إتمامه. وإذا شرط جوابه: (قال أين السائل عن الساعة) في كتاب العلم أين أراه السائل بزيادة أراه بضم الهمزة أي: أطنه ورفع السائل والشك عن محمد بن فليح قال في الفتح ورواه ابن فليح بلفظ أين السائل من غير شك (قال: هأنا) أي: حاضر (يا رسول الله قال: إذا ضيعت الأمانة) بالبناء للمجهول. وعند البخاري فإذا ضيعت والفاء فصيحة أي: إن شئت معرفة وقتها (فانتظر الساعة) فالشوط الثاني: وجوابه جواب الشرط المقدر (قال: كيف إضاعتها، قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله) أي: جعل لهم فإلى بمعنى اللام (فانتظر الساعة) قال ابن المنير: ينبغي أن يجعل هذا الحديث أصلاً في أخذ الدروس والقراءة والحكومات والفتاوى عند الازدحام على السبق وفي الحديث "من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر"(رواه البخاري) في كتاب العلم وفي كتاب الرقاق.
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: من سُئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل، (1/132 و11/285) .
1836-
وعنه: أنَّ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإنْ أصَابُوا فَلَكُمْ، وإنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ". رواه البخاري (1) .
1837-
وعنه رضي الله عنه (2)(كُنْتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، قالَ: خَيْرُ النَّاسِ للنَّاسِ يَأتُونَ بِهِمْ في السَّلاسِلِ فِي أعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الإسْلَامِ.
ــ
1836-
(وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يصلون) أي: الأئمة (لكم) أيها المسلمون (فإن أصابوا) أي: وافقوا والصواب فيها وهم عارفون به، لأنه لا يجوز مباشرة أمر لمن لا يعلم حكم الله فيه (فلكم) الأجر أي: ولهم أيضاً لذلك، وسكت عنه لوضوحه وظهوره، لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً عليه ولدلالة قوله (وإن أخطئوا فلكم وعليهم) هذا يحمل على ما إذا كان ما أتى به من الخطأ غير موجب للإِعادة كالحدث مثلاً والإِخلال بما يحرم الإِخلال به إلا أنه غير مبطل كتأخير الصلاة وإخراجها عن وقت أدائها بغير عذر، فهو حرام. وإذا ْفعلت خارجة فهي صحيحة (رواه البخاري) .
1837-
(وعنه) أي: أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً عليه في تفسير قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت) أي: أظهرت (للناس قال:) أي: أبو هريرة (خير الناس للناس) قال الحافظ ابن كثير في التفسير: المعنى خير الأمم وأنفع الناس للناس، ولذا قال تعالى:(تأمرون بالمعروف)(2) الآية (يأتون) أي: الناس (بهم في السلاسل في أعناقهم) في محل الصفة أو الحال من السلاسل (حتى يدخلوا في الإِسلام) قال الحافظ ابن كثير: وهكذا قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والربيع عن أنس وعطية العوفي يعني خير الناس للناس أي: هذا المتفق عليه. وفيه تفسير الآية. وقوله يأتون بهم الخ بيان لكمال لطف الله بهم، وأنهم يؤسرون على ما يحوزون به الشرف في الدارين، وهو بمعنى الحديث المرفوع بعده ولعله أخذه منه. وفي حديث درة بنت أبي لهب مرفوعاً:"خير الناس أقرؤهم وأفقههم في ْدين الله وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم". وعن ابن عباس موقوفاً عليه في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)(3) قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. قاله ابن كثير. والصحيح أن هذه الآية عامة
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه، (2/157) .
(2)
سورة آل عمران، الآية:110.
(3)
سورة آل عمران، الآية:110.
1838-
وعنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"عَجِبَ اللهُ عز وجل مِنْ قَومٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ فِي السَّلاسِلِ" رواهما البخاري. معناه: يُؤْسَرُونَ وَيُقَيَّدُونَ ثُمَّ يُسْلِمُونَ فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ (1) .
1839-
وعنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَحَبُّ البِلادِ إلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا
ــ
في جميع الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذين يلونهم. وفي مسند الإِمام أحمد من حديث معاوية بن حيدة مرفوعاً "أنتم موفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل". حديث مشهور حسنه الترمذي، وصححه الحاكم في المستدرك. وإنما فضلت هذه الأمة من تقدمها بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أشرف خلق الله وأكرمهم عليه، وبعثه الله بشرع عظيم كامل لم يعطه نبياً قبله ولا رسولاً من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه اهـ.
1838-
(وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عجب ربك) وفي نسخة عجب الله. المراد منه لاستحالة قيام حقيقة العجب بالله تعالى غايته من الرضا والإِكرام (من قوم يدخلون الجنة) بصيغة المجهول أي: يفعلون المقتضى لدخولها بالوعد الصادق وهو الإِيمان، ففيه مجاز مرسل من إطلاق اسم المسبب على السبب، (في السلاسل) في تعليلية أي: لوضعها في أعناقهم حال الأسر ثم يسلمون، أو ظرفية أي: إنهم يسلمون وهم فيها أسرى (رواهما البخاري) أي: الحديث الموقوف على أبي هريرة والمرفوع (معناه) أي: المذكور فيهما (يؤسرون ويقيدون ثم يسلمون فيدخلون الجنة) فالأسر باعتبار ما كانوا يرونه نقمة وباعتبار ما تجلى عنه نعمة.
1839-
(وعنه) رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحب البلاد) أل فيه للجنس (إلى الله مساجدها) لأنها البيوت التي أذن الله فيها أن ترفع ويذكر فيها اسمه بالتسبيح والتقديس والثناء عليه جل وعلا، ويقام فيها الصلاة، ويقرأ فيها القرآن، وينشر فيها العلوم، ويعرض فيها لنفحات الحي القيوم. والبلاد جمع بلد في القاموس البلد والبلدة كل قطعة من الأرض.
مستحيزة عامرة أو غامرة. وفي الصحاح البلد الأرض. وفي النهاية البلد من الأرض ما كان مأوى للحيوان وإن لم يكن فيه بناء، وفي المصباح يطلق البلد والبلدة على كل موضع من
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: الأسارى في السلاسل (6/101 و8/169) .
وَأبْغَضُ البِلَادِ إلَى اللهِ أسْوَاقُهَا". رواه مسلم (1) .
1840-
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه من قولهِ قال: لَا تَكُونَنَّ إن اسْتَطَعْتَ أوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ، وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا
ــ
الأرض عامراً كان أو خلاء. وفي التنزيل إلى بلد ميت أي: إلى أرض ليس بها نبات ولا مرعى، فيخرج ذلك بالمطر فترعاه أنعامهم فأطلق الموت، على عدم النبات والمرعى، وأطلق الحياة على وجودهما اهـ (2) . (وأبغض البلاد إلى الله) تعالى (أسواقها) جمع سوق وهو اسم لكل مكان وقع فيه التبايع ممن يتعاطى البيع. وفي المصباح: السوق يذكر ويؤنث. وقال أبو إسحاق التأنيث أفصح وأصح والتذكير خطأ، لأنه يقال سوق نافقة ولم يسمع نافق. والنسبة إليها سوقي وسبب البغض أنها محل للفحش والخداع والربا والأيمان الكاذبة واختلاف الوعد والإِعراض عن ذكر الله تعالى، وغير ذلك مما في معناه، والحب والبغض من الله تعالى إرادته الخير والشر، وفعل ذلك لمن أسعده وأشقاه والمساجد محل نزول الرحمة والأسواق ضدها. وقال السيوطي: هذا مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه ولا يقوم به قيام العرض بالجوهر أراد بمحبة المساجد حب ما يقع فيها من ذكر، وتلاوة كتابه، والاعتكاف، ونشر العلم والصلوات. ويبغض الأسواق بغض ما فيها من غش وخديعة وخيانة وسوء معاملة مع كون أهلها لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، ولا يغضون أبصارهم عن المحارم (رواه مسلم) .
1845-
(وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه تقدمت ترجمته في باب أدب المجلس والجليس (من قوله) أي: موقوفاً عليه وهو في محل الحال (قال: لا تكونن إن استطعت) جملة شرطية محذوفة الجواب، لدلالة المقام عليه أي: فلا تكونن من أول داخل فيها ولا خارع منها وهي معترضة بين اسم يكون وهو المستكن في الفعل وخبرها وقوله (أول من يدخل السوق ولا آخر) معطوف عليه (من يخرج منها) وأتى بالجملة تنبيهاً على أن التكاليف على هذه الأمة، حسب طاقتها وقدر استطاعتها. وعلل ما ينهى عنه بقبوله (فإنها) أي: السوق (معركة الشيطان) أي: يريد فيها القبائح من الغش والخداع والأيمان الكاذبة، والأفعال المنكرة، ويريد ذلك لأوليائه من الإِنس (وبها ينصب رايته) والمبادرة إليها دخولاً،
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد، (الحديث: 288) .
(2)
صححت العبارات السابقة بمراجعة القاموس والنهاية والمصباح. ع.
رواه البخاري (1) .
1843-
وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي الدِّمَاء". متفق عليه (2) .
ــ
والناس مفعوله لكن الرواية على الأول (من كلام النبوة الأولى) أي: ذوي النبوة المتقدمة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) أي: إذا أردت فعل شيء فإن كان مما لا يستحى فيه من الله ولا من الناس لإِباحته فافعل وإلا فلا، وعليه فالأمر للإِباحة. ويجوز أن يكون الأمر للتهديد أي: إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت فإنك مجازى عليه، أو أن الأمر بمعنى الخبر أي: إذا نزع منك الحياء فعلت ما شئت من حرام وحلال، إذ لا رادع يردعك، وتقدم في بيان كثرة طرق الخير تعريف الحياء (رواه البخاري) وقال السخاوي في تخريج الأربعين حديثاً التي جمعها المصنف: هذا حديث صحيح كوفي المخرج رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والطبراني والقطيعي. في زوائد المسند وجمع آخرون يطول الكلام بذكرهم.
1843-
(وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) أي: التي وقعت بين الناس في الدنيا، والمعنى أول القضايا القضاء في الدماء ويحتمل أن يكون التقدير أول ما يقضى فيه الأمر الكائن في الدماء ولا يعارضه حديث:"أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته" لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق، والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق. وما في الحديث موصول حرفي ومتعلق الجار محذوف أي أول القضاء يوم القيامة في الدماء، أي: في الأمر المتعلق بالدماء. وفي الحديث عظيم أمر الدماء، فإن البداءة تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة، وتفويت المصلحة وإعدام البنية الإِنسانية غاية في الذم، وقد ورد في التغليظ في أمر القتل آيات كثيرة، وأحاديث صحيحة، ولا يخالف حديث الباب حديث:"أنا أول من يحشر للخصومة" يعني هو ورفيقاه حمزة وعبيدة وخصومهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة لأن حديث الباب محمول على الجماعة؛ وذاك على الآحاد (متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء والأدب، باب: إذا ما لم تستح فاصنع ما شئت، (10/434) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: اول الديات والرقاق، باب: القصاص يوم القيامة (12/166) .
وأخرجه مسلم في كتاب: القسامة، باب: المجازاة بالدماء في الآخرة، وأنها
…
، (الحديث: 28) .
1844-
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُلِقَتِ المَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الجَانُّ مِنْ مَارِجٍ من نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ". رواه مسلم (1) .
1845-
وعنها رضي الله عنها، قالت: كان خُلُقُ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم القُرْآن. رواهُ
ــ
1844-
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقت الملائكة من نور) فلذا كانت أجساماً لطيفة نورانية لها قدرة على التشكل بأيّ صورة كانت (وخلق الجان) هو إبليس وهو أبو الشياطين، وقيل المراد به أبو الجن وهل هو إبليس أو غيره قولان (من مارج) بالراء فيه (من نار) بيان لمارج فإنه في الأصل للمضطرب، من مرج إذا اضطرب قال ابن عادل: من الأولى لابتداء الغاية، وفي الثانية وجهان: البيان والتبعيض، والمارج ما اختلط من أحمر وأصفر وأخضر، وهذا مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلط بعضها ببعض، وقيل: الخالص. وقيل: الأحمر، وقيل: الحمرة في طرق النار، وقيل: المختلط بالسواد وقيل: اللهب المضطرب. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر ونحوه عن مجاهد. وقيل: المارج المرسل غير ممنوع. قال المبرد: والمارج النار المرسلة التي لا تمنع وقال أبو عبيدة والحسن: المارج المختلط من النار، وأصله مرج إذا اضطرب واختلط قال الفرضي قوله من نار: نعت لمارج (وخلق آدم مما وصف لكم) ببناء الفعل للمجهول أي: مما ذكر لكم في التنزيل من أنه من التراب قال تعالى: (منها خلقناكم)(2) ثم عجن فصار طيناً قال تعالى حكاية عن إبليس (خلقتني من نار وخلقته من طين)(3) ثم ترك حتى تجمد وتغير وصار حمأ مسنوناً، ثم يبس حتى صار يصلصل أي: يصوت إذا نقر قال تعالى (ولقد خلقنا الإِنسان من صلصال من حمأ مسنون)(4) وقال تعالى: (خلق الإِنسان من صلصال كالفخار)(5)(رواه مسلم) ورواه أحمد.
1845-
(وعنها قالت كان خلق) بضم المعجمة واللام أي: سجية (نبي الله صلى الله عليه وسلم القرآن) قال العارف بالله تعالى السهروردي صاحب عوارف المعارف: لا يبعد أن قول عائشة: فيه رمز
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: في أحاديث متفرقة، (الحديث: 60) .
(2)
سورة طه، الآية:55.
(3)
سورة الأعراف، الآية:12.
(4)
سورة الحجر، الآية:26.
(5)
سورة الرحمن، الآية:14.
مسلم في جملة حديث طويل (1) .
1846-
وعنها، قالت: قال رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أحَبَّ اللهُ لِقَاءهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءهُ" فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أكَراهِيَةُ المَوتِ، فَكُلُّنَا نَكْرَهُ المَوتَ؟ قال: "لَيْسَ كَذَلِكَ، ولكِنَّ المُؤْمِنَ
ــ
غامض وإيماء خفي إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت الحضرة الالهية أن تقول كان متخلقاً بإخلاق الله تعالى، فعبرت عن ذلك المعنى بقولها. كان خلقه القرآن استحياء من سبحات الجلال وستر الحال بلطف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها فكما أن معاني القرآن لا تتناهى، فكذلك أوصافه الجميلة الدالة على عظم أخلاقه لا تتناهى، وفي كل حالة من أحواله يتجدد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وما يفيضه الله عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله، فإذاً التعرض لحضرة جزئيات أخلاقه الحميدة تعرض لما ليس من مقدور الإِنسان ولا من ممكنات عاداته. قال الحراني: بفتح المهملة وتشديد الراء: ولما كان عرفان قلبه صلى الله عليه وسلم بربه عز وجل كما قال عليه الصلاة والسلام: "بربي عرفت كل شيء" كانت أخلاقه أعظم خلق، فلذا بعثه إلى الناس كلهم ولم يقصر رسالته على الإِنس حتى عمت الجن ولم يقصرها على الثقلين حتى عمت جميع العالمين (رواه مسلم في جملة حديث طويل) .
1846-
(وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) فيه حث على القيام بالطاعات والدأب فيها والإِخلاص المرتب عليه من فيوض الله ما لا يحصى ومن تشريفات العامل. لذلك ما لا يستقصى، فيحب العامل لذلك لقاء الله لما أعد له ويحب الله لقاءه (ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت يا رسول الله أكراهية الموت) الهمزة للاستفهام أي: أيراد بكراهية لقاء الله تعالى كراهية الموت فهذا مشكل؟ (فكلنا نكره الموت) بحسب الطبع وإن كان محبوباً بالنظر لما وراءه مما أعد لصالح المؤمنين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (قال: ليس كذلك) أي: ليس الأمر كذا الذي توهمته (ولكن) استدراك بإثبات ما يوهم شمول النفي له والنون مشددة (المؤمن) وفي نسخة إن
(1) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، (الحديث: 139) . مطولاً.
إذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أحَبَّ لِقَاءَ اللهِ فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءهُ، وإنَّ الكَافِرَ إذَا بُشِّرَ بِعَذابِ اللهِ وَسَخَطهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ وكَرِهَ اللهُ لِقَاءهُ" رواه مسلم (1) .
ــ
المؤمن بزيادة إن (إذا بشر برحمة الله) من النعيم والإِحسان المعدين له (ورضوانه وجنته) وذلك التبشير عند الاحتضار (أحب لقاء الله) لما يعلم من عظيم ما ينتقل إليه ويحل به من وفضل ربه (فأحب الله لقاءه) أي: رضيه وأثنى عليه (وأن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه) فيه تهكم واستهزاء، إذا استعملت البشارة الموضوعة في الأمر السار للمبشر في ضده ومنه قوله تعالى:(فبشرهم بعذاب أليم)(2)(كره لقاء الله) لما يعلم من سوء منقلبه فإنه في الدنيا خال من العذاب، وفي الآخرة مؤبد فيه مخلد (فكره الله لقاءه) أي: أبعده من رحمته وكرهه وذمه في عالم الملكوت - (رواه مسلم) وفي الجامع الصغير حديث "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي من حديث عائشة وعبادة. وفي الجامع الكبير بعد ذكر المتن كما في الجامع الصغير رواه الطيالسي وأحمد والدارمي والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس عن عبادة بن الصامت ورواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة. ورواه الطبراني عن معاوية وذكر الحديث كما ذكره المصنف لكن قال: قالوا يا رسول الله لكنا نكره الموت "قال ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا احتضر جاء البشير من الله بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إلى الله (3) من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه، وإن الفاجر إذا احتضر جاءه ما هو صائر إليه من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه" وقال: رواه أحمد والنسائي من حديث ابن حبان اهـ. قال المصنف هذا الحديث يفسر آخره أوله، ويبين المراد بباقي الأحاديث المطلقة:"من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله". ومعنى الحديث إن الكراهة المعتبرة ما يكون عند النزع حالة عدم قبول توبة، ولا غيرها فحينئذ يبشر كل بما يصير إليه ويكشف له عنه، فأهل السعادة يحبون لقاء الله، لينتقلوا إلى ما أعد الله لهم، ويحب الله لقاءهم، أي: ثم فيجزل لهم العطاء والكرامة، وأهل الشقاوة يكرهون لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه ويكره الله لقاءهم أي: يبعدهم عن رحمته وكرامته ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهيته سبحانه لقاءهم. وليس معنى الحديث أن سبب كراهة الله لقاءهم كراهيتهم ذلك، ولا أن
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء
…
، باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء، (الحديث: 15) .
(2)
سورة آل عمران، الآية:21.
(3)
كذا في الأصل ولعلم إليه.
1847-
وَعَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ صَفِيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ رضي الله عنها، قالتْ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفاً، فَأَتَيْتُهُ أزُورُهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الأنْصَارِ رضي الله عنهما، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أسْرَعَا. فقال صلى الله عليه وسلم:"عَلَى رِسْلِكُمَا، إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ" فَقَالَا: سُبْحانَ اللهِ يَا رسولَ اللهِ، فقالَ: "إنَّ
ــ
سبب حبه لقاء الآخرين حبهم ذلك بل هو صفة لهم اهـ. وفي النهاية من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه والموت دون لقاء الله. قال في الفتح: كذا أخرجه النسائي بهذه الزيادة وهي من كلام عائشة مما يظهر، وذكرتها استنباطاً مما تقدم. قال في النهاية: المراد بلقاء الله المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله، وليس الغرض به الموت لأن كلاً يكرهه، فمن ترك الدنيا وأحب الآخرة أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله، لأنه إنما يصل إليه بالموت. وقوله والموت دون لقاء الله، يبين أن الموت خير اللقاء، لكنه معترض دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه - ويحتمل مشاقه على الاستسلام لما كتب الله له وقضى، حتى يصل إلى الفوز بالثواب العظيم اهـ. وكذا قال كل من أبي عبيد القاسم بن سلام والخطابي: أن معنى محبة لقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا، وعدم محبة استمراره فيها لاستعداده للارتحال عنها، والكراهة عند حكمه. قال أبي عبيد: ومما بينه أن الله سبحانه وتعالى عاتب قوماً بحب الحياة بقوله: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها)(1) .
1847-
(وعن أم المؤمنين صفية) بفتح المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتية (بنت حيي) بضم المهملة وفتح التحتية الأولى وتشديد الثانية تقدمت ترجمتها رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً) أي: في جزء منه كما يومىء إليه تنكيره (فحدثته ثم قمت لأنقلب) أي: أرجع إلى منزلي (فقام معي ليقلبني) أي: ليرجعني (فمر رجلان من الأنصار) قال الحافظ في الفتح: لم أقف في شيء من كتب الحديث على تسميتهما إلا أن ابن العطار في شرح العمدة زعم أنهما أسيد بن حضير وعباد بن بشر ولم يذكر لذلك مستنداً رضي الله عنهما فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا) أي: في المشي (فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما) بكسر الراء ويجوز فتحها أي: على هينتكما في المشي، فليس هنا ما تكرهانه. وفيه شيء محذوف.
أي: إمشيا على هينتكما (إنها صفية بنت حيي فقالا: سبحان الله يا رسول الله) زاد البخاري في رواية "وكبر عليهما ذلك" وفي رواية "فقال يا رسول الله وهل يظن بك إلا خيراً" (فقال إن
(1) سورة يونس، الآية:7.
الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإنِّي خَشِيْتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرّاً - أَوْ قَالَ: شَيْئاً -". متفق عليه (1) .
1848-
وعن أبي الفضل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال:
ــ
الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) قيل هو على الحقيقة وإن الله تعالى أقدر من ذلك. وقيل: هو على سبيل الاستعارة من كثرة إغرائه، فكأنه لا يفارق كالدم فاشتركا في شدة الاتصال وعدم المفارقة (وإني خشيت) أي: خفت (أن يقذف) بكسر الذال المعجمة أي: يلقي (في قلوبكما شراً أو قال شيئاً) قال الحافظ: المحصل من الروايات: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينسبهما إلى أنهما يظنان به سوءاً لما تقرر عنده من قوة إيمانهما ولكن خشي عليهما أن يوسوس لهما الشيطان ذلك، لأنهما غير معصومين، فقد يمضى بهما ذلك إلى الهلاك فبادر إلى إعلامها حسماً للمادة وتعليماً لما بعده إذا وقع له مثل ذلك، كما قال، الشافعي: فقد روى ابن عساكر في تاريخه أن الشافعي كان في مجلس ابن عيينة فسأله عن فقه هذا الحديث فقال: إن كان القوم اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا بتهمتهم إياه كفاراً لكن النبي صلى الله عليه وسلم أدب من بعده فقال: "إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا حتى لا يظن بكم الظن السوء" لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتهم وهو أمين الله في أرضه، فقال ابن عيينة: جزاك الله خيراً يا عبد الله ما يجيئنا منك إلا كل ما نحبه، نقله السيوطي عنه في زهر الربى على المجتبى، لكن نقله الحافظ في الفتح عن الحاكم بلفظ إن الشافعي كان في مجلس ابن عيينة فسأله عن الحديث فقال إنما قال لهما ذلك، لأنه خاف عليهما الكفر إن ظنا به التهمة فبادر إلى إعلامها نصيحة لهما قبل أن يهلكا بقذف الشيطان في نفوسهما ما يهلكان به (متفق عليه) قال الحافظ في الفتح: في الحديث فوائد: منها التحرز عن التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار.
قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حقوق العلماء ومن يقتدى بهم فلا يجوز لهم أن يفعلوا ما يوجب ظن السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص، لأن فعل ذلك يكون سبباً لسوء الظن بهم ولإِبطال الانتفاع بعلمهم.
1848-
(وعن أبي الفضل) كنية (العباس بن عبد المطلب) بن هاشم عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الاعتكاف، باب: هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، (4/243) .
وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: بيان أنه يستحب عن رؤي خالياً بامرأة وكانت زوجه
…
، (الحديث: 24) .
وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ:" هَذَا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ "، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ:" انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ "، فَذَهَبْتُ أنْظُرُ فَإذَا القِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيما أرَى، فَواللهِ مَا هُوَ إلَاّ أنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أرَى حَدَّهُمْ كَلِيلاً وَأَمْرَهُمْ مُدْبِراً. رواه مسلم.
" الوَطِيسُ " التَّنُّورُ، ومعناهُ: اشْتَدَّتِ الحَرْبُ
ــ
عليها إلى قتالهم) متعلق بنظر (فقال هذا حين حمى الوطيس) حين خبر المبتدأ وبنى لإِضافته للجملة التي صدرها مبني والبناء فيه هو الراجح ويجوز إعرابه فيكون مرفوعاً وقد روي بالإِعراب. والبناء قول الشاعر. على حين عاتبت المشيب على الصبا. (ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات) أي: صغاراً وهي التي يقال لها الحصباء (فرمى بهن) ويحتمل أن يكون أخذ قبضة من تراب أيضاً فرمى بها لما جاء من قوله "فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينه تراباً من تلك القبضة". ويحتمل أن يكون اشتملت القبضة على الحصى والتراب فرمى بهن (وجوه الكفار) فوصل التراب كل كافر وفي ذلك معجزة له إذ ليس في القوة البشرية إيصال ذلك إلى أعينهم، ولا يسع كفه ما يعمهم وإنما كان من صنع الله تعالى لنبيه ولذا قال (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (1) وكذا قوله (ثم قال) أي: وقت التهاب الحرب وشدته (انهزموا ورب الكعبة) فهذه معجزة فعلية (فذهبت أنظر) أي: قبل الرمي والقول المذكور، والفاء للترتيب الذكرى (فإذا القتال على هيئته) أي: في الالتهاب والتكافؤ من الجانبين (فيما أرى فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته) أي: وأخبرهم بانهزامهم (فما زلت أرى حدهم) قوتهم (كليلاً) أي: ضعيفة (وأمرهم مدبراً) فغلبوا وانقلبوا صاغرين (رواه مسلم) في المغازي من صحيحه (الوطيس) بفتح الواو وكسر الطاء وبالسين المهملتين هو (التنور) تقدم أنه بالفوقية المفتوحة وتشديد النون وبالراء، وهذا قول مقابل قول الجمهور ونقله القرطبي عن المطرز. وفال المنصف في شرح مسلم قال الأكثر هو شبه التنور يخبز فيه ويضرب مثلاً لشدة الحر التي يشبه حرها حره. وقال الأصمعي: هو حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد أن يطأ عليها، فيقال: الآن حمي الوطيس. وقيل بل هو الضراب في الحرب.
وقيل الوطيس الذي يطيس الناس أي: يدفعهم قالوا: وهذه اللفظة من فصيح الكلام وبديعه، الذي لم يسمح من واحد قبله صلى الله عليه وسلم (ومعناه اشتدت الحرب) هو على الأقوال الأربعة
(1) سورة الأنفال، الآية:17.
يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، ومَلبسُهُ حرامٌ، وَغُذِّيَ بالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ رواه مسلم (1) .
1850-
وعنه رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ"
ــ
يقبل دعاء آكل الحرام فقال (ثم ذكر الرجل) ولفظ ثم للترتيب في الوجود لا في الرتبة (يطيل السفر) في العبارة من نحو حج أو جهاد، والجملة صفة أو حال من رجل لأن أل فيه جنسية (أشعث) أي: متفرق شعر الرأس (أغبر) مغبر الوجه هما حالان مترادفان من فاعل بطيل أو متداخلان (يمد يديه إلى السماء) حال من ضمير أشعث أو مما قبله قائلاً (يا رب يا رب) أي: أن هذه الحالات دالة على أن الداعي حقيق بالإِجابة ومع ذلك فلا يستجاب دعاؤه للحرام فما بال من لم يكن كذلك وتلبس بالحرام (ومطعمه حرام) حال من فاعل قائلاً وهو مصدر بمعنى المطعوم (ومشربه حرام وغذي بالحرام) بضم الغين المعجمة وكسر الذال أيضاً أي: عني به، ففيه الإِشارة إلى مأكله حال صغره. وفي قوله ومطعمه: الإشارة إلى مآكله حال كبره أي: أنه استوى حالتاه في أكل الحرام (فأنى) أي: كيف أو من أين والاستفهام للاستعباد (يستجاب) أي: الدعاء (لذلك) الرجل أو اللام للتعليل أي: لكون ما ذكر حراماً. ففيه إيماء إلى أن حل المطعم والمشرب مما يتوقف عليه إجابة الدعاء، ولذا قيل إن للدعاء جناحين أكل الحلال وصدق المقال (رواه مسلم) والترمذي وقال: حسن غريب. ورواه ابن المبارك في الزهد. قال السخاوي: وأخرجه الإِمام أحمد في المسند والدارمي في مسنده وأبو عوانة في صحيحه.
1850-
(وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة) أي: ثلاثة من الأصناف (لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم) وذلك لسوء عملهم من غير ضرورة بهم إليه (شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر) قال الواحدي: هو العذاب الذي يخلص وصفه إلى القلب. والعذاب كل ما يعي الإِنسان ويشق عليه. قال: وأصل العذاب في كلام العرب المنع، يقال عذبته عذاباً إذا منعته وعذب عذوباً، أي: امتنع وسمي الماء عذباً لأنه يمنع
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، (الحديث: 65) .
التُّرْبَةَ يَومَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فيها الجِبَالَ يَومَ الأحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَومَ الإثْنَينِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَومَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأربِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوابَّ يَومَ الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ صلى الله عليه وسلم، بَعْدَ العَصْرِ مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ في آخِرِ الخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ". رواه مسلم (1) .
1853-
وعن أَبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه قَالَ: لَقَدِ انْقَطَعتْ في يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ
ــ
خلق الله التربة) بضم الفوقية من أسماء التراب (يوم السب وخلق فيها) أي: التربة مادة الأرض (الجبال يوم الأحد) أوتاداً لها ورواسي (وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء) قال المصنف: كذا في مسلم وروي في غيره "وخلق الفتن يوم الثلاثاء" كذا رواه ثابت بن واسم قال: وهو ما يقوم المعاش ويصح به التدبير كالحديد وغيره من جواهر الأرض، وكل شيء يقوم به صلاح كل شيء فهو نفسه، ومنه إتقان الشيء (وخلق النور) كذا في مسلم بالراء ورواه غيره بنون في آخره قال القاضي: وكذا رواه بعض رواة مسلم وهو الحوت ولا منافاة (يوم الأربعاء) بفتح الهمزة وكسر الباء وفتحها وضمها ثلاث لغات حكاهن صاحب المحكم، وجمعها أربعاوات وحكي أيضاً أرابيع (وبث فيها) أي: الأرض (الدواب) المراد المعنى العام أي: كل ما دب عليها (يوم الخميس وخلق آدم صلى الله عليه وسلم بعد العصر من يوم الجمعة) من للتبعيض، أو للابتداء. وقوله (في آخر الخلق) متعلق بخلق وقوله (في آخر ساعة من النهار) يدل على ما قبلها بإعادة العامل ثم أبدل منه أيضاً قوله (فيما بين العصر إلى الليل رواه مسلماً ورواه أحمد في مسنده.
1853-
(وعن أبي سليمان) كنية (خالد بن الوليد) بفتح الواو وكسر اللام وسكون التحتية بعدها دال مهملة من المعتبرين عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي رضي الله عنه أسلم بين الحديبية والفتح وقيل: كان إسلامه قبل غزوة موتة بشهرين، وكان أميراً على قتال أهل الردة وغيرها والفتوح، إلى أن مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين (قال: لقد انقطعت في يدي يوم موتة) بضم الميم وسكون الواو وبالفوقية موضع بقرب الشام وكانت في جمادى سنة
(1) أخرجه مسلم في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام، (الحديث: 27) .
تِسْعَةُ أسْيَافٍ، فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلَاّ صَفِيحَةٌ يَمَانِيَّةٌ. رواه البخاري (1) .
1854-
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يقولُ:"إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أصَابَ، فَلَهُ أجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ وَاجْتَهَدَ، فَأَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ" متفق عَلَيْهِ (2) .
1855-
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا
ــ
ثمان وقيل كانت في صفر، وكان الفتح بعدها في رمضان (تسعة أسياف) بتقديم الفوقية وذلك من قوة الضرب والقتال (فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية) أي: سيف على تلك الصفة. (رواه البخاري) فيه كمال ثباته في لجة الحرب وقوة بأسه وقد قال الشاعر في ممدوحه:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
فالمدح بكسر السيوف في الحرب أحرى وأولى.
1854-
(وعن عمرو بن العاص) بن وائل السهمي الصحابي المشهور رضي الله عنه تقدمت ترجمته في باب فضل السحور، (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا حكم الحاكم فاجتهد) أي: وهو من أهل الاجتهاد فيما يسوغ الاجتهاد فيه (ثم أصاب فله أجران) أجر لاجتهاده وأجر لإِصابته (وإن حكم واجتهد) أي: وهو أهله (فأخطأ فله أجر) لاجتهاده الذي هو من أهله وإن لم يصب فيه، أما من ليس أهلاً له فيأثم به أصاب أو أخطأ (متفق عليه) .
1855-
(وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحمى من فيح) بفتح الفاء وسكون التحتية وبالمهملة أي: انتشار (جهنم) وقوة لهبها (فأبردوها) بوصل الهمزة وضم الراء لأنه ثلاثي من برد الماء حرارة جوفي أي: اسكن حرارتها. وحكي كسر الراء، وحكى عياض قطع الهمزة وكسر الراء من أبرد الشيء إذا عالجه فصيره بارداً. وقال الجوهري: إنها لغة
(1) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤته، (7/397) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، (13/268) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، (الحديث: 15) .
بِالمَاءِ" متفق عَلَيْهِ (1) .
1856-
وعنها رضي الله عنها، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَومٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" متفق عَلَيْهِ. وَالمُخْتَارُ
ــ
رديئة (بالماء. متفق عليه) وهذا محمول على ما كانت تصفه أسماء بنت أبي بكر من رش الماء على بدن المحموم من بدنه وثوبه، وليس المراد اغتسال المحموم بالماء أو انغماسه فيه، لأن ذلك مضر. والصحابي لا سيما مثل أسماء التي كانت تلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها أو الخطاب خاص بأهل الحجاز وما والاهم، إذ كانت أكثر الحميات التي تعرض لهم من العرضية الحادثة عن شدة الحرارة، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر. قال ابن القيم: فالخطاب وإن كان لفظاً عاماً إلا أن المراد به خاص أي كما ذكرنا. وقال القاضي: غير بعيد أن المراد بالحمى: الحمى الصفراوية، فإن الأطباء يسلمون أن صاحبها يبرد بسقي الماء البارد الشديد البرد نعم ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، وأن المراد بالغسل مثل ما قالوه أو قريب منه. وقد كانت أسماء تصب الماء في جيب الموعوك. قال عيسى بن دينار أي: بين طوقها وجسدها. فهذه أسماء شاهدت الرسول صلى الله عليه وسلم وهي في القرب منه على ما علم، فتأولت الحديث على نحو ما قلناه. والحاصل: أن الحميات مختلفات، منها ما يناسبه الإِبراد ومنها ما لا يناسبه، والحديث محمول على الأول فيعمل ما يناسبه على ما لا يليق به. وقيل يحتمل أن الحمى المأمور بالانغماس لها ما يكون سببها العين أو السم أو السحر فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، أخرج ابن أبي شيبة عن الأسود قال: سألت عائشة عن النشرة فقالت: ما تصنعون بهذا فهذا الفرات إلى جانبكم من أصابه نفس أو سم أو سحر فليأت الفرات فليستقبل، فينغمس فيه سبع مرات.
1856-
(وعنها رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات وعليه صوم) أي: وتمكن من قضائه أو كان أفطر عدواناً (صام عنه وليه) أي: إن أراد ذلك، وإن شاء أخرج من تركته عن كل يوم مداً من طعام (متفق عليه) وبه أخذ الشافعي في القديم، وهو المعتمد فجوز للولي الصوم عن الميت الذي عليه الصوم كما ذكر أن يصوم أو يطعم (والمختار) تبعاً للقول القديم
(1) أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة النار (10/150) .
وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: لكل داء دواء واستحباب التداوي، (الحديث: 81) .
وقَالَ لَهُمَا: أنْشُدُكُمَا اللهَ لَمَا أدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَإنَّهَا لَا يَحِلُّ لَهَا أنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي، فَأقْبَلَ بِهِ المِسْوَرُ، وَعَبدُ الرحْمَانِ حَتَّى اسْتَأذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَا: السَّلَامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، أنَدْخُلُ؟ قالت عَائِشَةُ: ادْخُلُوا. قالوا: كُلُّنَا؟ قالتْ: نَعَمْ ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، وَلَا تَعْلَمُ أَنَّ معَهُمَا ابْنَ الزُّبَيرِ، فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيرِ الحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي، وَطَفِقَ المِسْوَرُ، وَعَبدُ الرَّحْمَانِ يُنَاشِدَانِهَا إِلَاّ كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولانِ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الهِجْرَةِ؛ وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ،
ــ
المذكور من هجرها والشفع وعدم القبول (على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة) بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري أبو عبد الرحمن صحابي ابن صحابي (وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث) بفتح التحتية وضم المعجمة وبالمثلثة ابن وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهري (وقال لهما أنشدكما الله) أي: أسألكما مقسماً عليكما به (لما) بفتح اللام وتشديد الميم أي: إلا (أدخلتماني على عائشة فإنها) أَي: عائشة أو الضمير للقصة (لا يحل) أي: يجوز (لها أن تنذر قطيعتي) وهي أداها اجتهادها إلى جوازه لأنه طاعة فالتزمته بصفة النذر وإلا فلو رأته محرماً، فالظن لها أن لا تفعله فضلاً عن كونها تلتزمه فضلاً عن كونها تنذره (فأقبل به المسور) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو وبالراء (وعبد الرحمن) وسارا (حتى) وصلا الدار (استأذنا على عائشة فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته أندخل) هذه صيغة الاستئذان المحبوب كما تقدم في بابه (قالت عائشة أدخلوا قال: كلنا؟ قالت نعم أدخلوا كلكم) بالرفع تأكيد لضمير الجماعة المرفوع وقوله (ولا تعلم أن معهما ابن الزبير) جملة حالية من فاعل قالت (فلما دخلوا) المنزل (دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة رضي الله عنه وطفق يناشدها) أي: يسألها الرضا عنه وأن تكلمه (ويبكي) لما أصابه من ذلك (وطفق) أخذ (المسور وعبد الرحمن يناشدانها) يسألانها (إلا كلمته وقبلت منه) بتشديد اللام أي: لا يسألانها إلا تكليمه وقبولها منه عذره ورضاها عنه (ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة) أي: الهجر للأخ المسلم فوق ثلاث، فكيف بالرحم المحرم (ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه) أي: المسلم لغرض نفسه (فوق ثلاث ليال) أما الهجر لله فيجوز ما دام باقياً على تلك المعصية التي هجر لأجلها كما تقدم من هجر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كعب وصاحبيه، لما تخلفوا عن غزوة تبوك حتى تاب الله
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الفَجْرَ، وَصَعِدَ المِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ العَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا. رواه مسلم (1) .
1860-
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ". رواه البخاري (2) .
1861-
وعن أمِّ شَرِيكٍ رضي الله عنها: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمرها بِقَتْلِ
ــ
ثلاث وتسعين سنة وما في رأسه ولحيته شعرة بيضاء. ويقال إنه بلغ مائة ونيفاً وما في رأسه ولحيته إلا نبذ من شعر أبيض، وعدة ما روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أحاديث وسكت من ترجمه عن بيان محل وفاته (قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية (المنبر فخطبنا) واستمر يخطب (حتى حضرت الظهر) بزوال الشمس (فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطب حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس فأخبرنا ما كان وما هو كائن) إن كان المراد جميع ذلك كما يومىء إليه لفظ الموصول، فيكون فيه معجزة بخرق الأوقات والمباركة فيها، حتى اتسعت لنشر ذلك كله وذكره، وإن كان المراد بعضاً منهم فيحتمل ذلك ويحتمل أن لا (فأعلمنا) أي: بالآيات (أحفظنا) أي: أكثرنا حفظاً لها (رواه مسلم) في الفتن من صحيحه.
1860-
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله) بأن نذر صوماً أو صلاة أو غيرهما من أعمال البر تقرباً إلى الله تعالى (فليطعه) حتماً لالتزامه بالنذر، فهو كالواجب بأصل الشرع في تحتم الإِتيان به، وإن اختلف الفقهاء في أنه يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزه (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ولا ينعقد الندر لأنه التزام قربة تقرباً إلى الله تعالى (رواه البخاري) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
1861-
(وعن أم شريك) بفتح الشين المعجمة وكسر الراء وسكون التحتية: هي العامرية.
ويقال: الغامدية، تقدمت ترجمتها رضي الله عنها قريباً (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها بقتل
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة، (الحديث: 25) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: الإِيمان، باب: النذر في الطاعة، (11/504) .
تَدْرُونَ مِمَّ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُبْصِرُهُمُ النَّاظِرُ، وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاس مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيقُولُ النَّاسُ: أَلَاّ تَرَوْنَ مَا أنْتُمْ فِيهِ
ــ
ابن جعفر المذكور عقبه صريح في أن أطيب اللحم لحم الظهر اهـ. (فنهس منها نهسة) هو بالسين المهملة كما قال المصنف. قال القاضي عياض: رواه أكثر الرواة بالسين المهملة.
ووقع لابن ماهان بالمعجمة وكلاهما صحيح بمعنى أخذ بأطراف أسنانه. قال الهروي قال أبو العباس: النهس بالمهملة بأطراف الأسنان وبالمعجمة بالأضراس. وقال القاضي مجد الدين الفيروزأبادي في كتابه تخيير الموشين في التعبير بالسين والشين: النهس والنهش قصم الشيء بمقدم الأسنان، والفعل منه على مثال منع يمنع (وقال: أنا سيد الناس) شمل آدم وغيره من بنيه فلو أعم منطوقاً من قوله أنا سيد ولد آدم، ونهيه عن تفضيله عن الأنبياء محمول على تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه فهو كفر. وقوله لمن قال له يا سيد البرية: ذاك إبراهيم محمول على أنه قال: قبل أن يعلم فضله عليه (يوم القيامة) التقييد للإطباق عليه حينئذ والظهور لكل كما بينه ما بعده بخلاف الدنيا إذ ينكر ذلك الكافريه الجاحد فضله وإلا فهو سيد الناس حقيقة في الدارين ومثله قوله تعالى: (مالك يوم الدين)(1) وهو مالك لما فيه وفي غيره من أيام الدنيا (هل تدرون مم) أي: لأي سبب (ذاك) أشير إليه مع قربه بما يشار به للبعيد تفخيماً نحو قوله تعالى: (ذلك الكتاب)(2) . وسكت عن جوابهم من نحو الله أعلم ورسوله إما لظهوره أو أنه بادرهم بالبيان قبل الإِتيان به (فقال يجمع الله الأولين والآخرين) أي: من سائر المكلفين ولا ينافيه قوله فيما يأتي أبوكم آدم لإِمكان كون الساعي من ذلك النوع الإِنساني لشرفه أو من الإِنس وسكت عن الجن والسكوت عن الشيء لا ينفيه (في صعيد واحد) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية أي: أرض وذكر باعتبار لفظ الصعيد (فينظرهم الناظر ويسمعهم الداعي) بضم التحتية في الفعلين (وتدنو) أي: تقرب (منهم الشمس) قدر ميل وهل المراد به ما يكتحل به أو المسافة المعلومة؛ قولان تقدما في باب الخوف (فيبلغ الناس) مفعول مقدم (من الغم) بالمعجمة في المصباح قيل للحزن غم لأنه يغطي السرور والحلم اهـ. (والكرب) بفتح فسكون مصدر كربه الأمر إذا همه ومن بيان لما في قوله (ما لا يطيقون ولا يحتملون) وهي فاعل مبلغ (فيقول الناس ألا) بتخفيف اللام (ترون) تنظرون (إلى ما أنتم فيه) أتى بـ "ما" تفخيماً للأمر
(1) سورة الفاتحة، الآية:4.
(2)
سورة البقرة، الآية:2.
إِلَى مَا بَلَغَكُمْ، ألَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أبُوكُمْ آدَمُ، فَيَأتُونَهُ فَيقُولُونَ: يَا آدَمُ أنْتَ أَبُو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وأمَرَ المَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، وأسْكَنَكَ الجَنَّةَ، ألَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ؟ ألَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغْنَا؟ فَقَالَ: إنَّ رَبِّي غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ،
ــ
نحو قوله تعالى: (فغشيهم من اليم ما غشيهم)(1) . وأبدل منه بإعادة الجار (إلى ما بلغكم) وعطف على ترون قوله (وتنظرون) وفي نسخة ألا تنظرون من نظر الأمر تفكر فيه أي: تفكرون (من يشفع لكم إلى ربكم) أي: في الخلاص مما أنتم فيه (فيقول بعض الناس) أتى ببعض هنا وحذفه فيما قبل تفنناً في التعبير (لبعض) اللام للتبليغ (أبوكم آدم) أي: سلوه ذلك أو المنظور إليه لذلك أبوكم تعبيرهم بدعاء كل رسول باسمه حتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن حرمة ندائه صلى الله عليه وسلم باسمه مقيدة بهذه الدار، ومثله كل نبي (فيأتونه فيقولون يا آدم أنت أبو البشر) أتوا بذلك تهييجاً له على المطلوب منه لأن الطبع يدعو الأصل لفعل ما ينفع الفرع. والبشر بفتحتين الإِنسان يطلق على المفرد الجمع قال في المصباح: العرب ثنوه ولم يجمعوه. قال البيضاوي في قوله تعالى عن قوم فرعون: (أنؤمن لبشرين مثلنا)(2) ثنى البشر لأنه يطلق للواحد كقوله تعالى: (بشراً سوياً)(3) وللجمع كقوله (فأما ترين من البشر أحداً)(4) أي: وليس المراد أحدهما فلو لم يثن لربما توهم إرادة غير المراد (خلقك الله بيده) أي: بقدرته (ونفخ فيك من روحه) أي: من روح مشرف بإضافته إليه تعالى (وأمر الملائكة) أي: أن يسجدوا حذف اكتفاء بدلالة (فسجدوا لك) أي: إليك وإلا فالسجود لله تعالى، وهو لهم حينئذ قبلة بمنزلة الكعبة لنا (وأسكنك الجنة) أي: التي يدخلها المؤمنون في الدار الآخرة على الصحيح. وفيه دليل أهل الحق على وجودها الآن (ألا تشفع لنا إلى ربك) عرض وطلب برفق وذكروا ما يهيجه عليه بقولهم (ألا ترى ما نجن فيه وما بلغنا) بفتح المعجمة على أن الفاعل مضمر يعود لما دل عليه ما نحن فيه، أو بالسكون على أن الضمير فاعل، وحذف ما بلغوه من الأتعاب، إيماء إلى شدته وأنه تقصر العبارة عن بيانه (فقال: إن ربي غضب اليوم غضباً) المراد به لاستحالة قيام حقيقته بالله سبحانه وتعالى، غايته مجازاً مرسلاً: إما إرادة الانتقام أو نفسه (لم) وفي نسخة لن (يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإنه)
(1) سورة طه، الآية:78.
(2)
سورة المؤمنون، الآية:47.
(3)
سورة مريم، الآية:17.
(4)
سورة مريم، الآية:26.
ألَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيقُولُ لَهُمْ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإنَّي كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلاثَ كَذبَاتٍ؛ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأتُونَ مُوسَى فَيقُولُونَ: يَا مُوسَى أنَتَ رَسُولُ اللهِ، فَضَّلَكَ اللهُ بِرسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ،
ــ
بخليله (اشفع لنا إلى ربك) لعل سر الإِضافة لضمير المخاطب فيه وفي قرائنه أن تربيته لهم أكمل منها لغيرهم من الخلق إذ أوصلهم غاية الشرف ولم يصل إلى أدنى مراتبهم أحد من البشر، وفيه إيماء إلى التوسل بهم لأن للمضاف كمال الانتساب للمضاف إليه، وذلك يقتضي الإِدلال والسؤال (أما) وفي نسخة ألا (ترى إلى ما نحن فيه) يحتمل أنهم قالوا وما بلغنا، كما فيما قبله فيهما وتركه الراوي اكتفاء بدلالة ما قبله وإنهم تركوا ذلك لكونه من باب الإِطناب واشتد بهم الكرب آخراً فامتنعوا منه (فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني كنت كذبت ثلاث كذبات) قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله في سارة أختي. والحق أنها ليست معاصي أي: سأسقم وفعله كبيرهم إن كانت الأصنام تنطق وأختي أي: في الإِسلام لكنها لما كانت بصورة الكذب، سماها كذباً وعدها ذنباً اشفق منه على نفسه، وذلك لأن من كان أعرف بالله تعالى وأقرب منه منزلة كان أعظم خطراً وأشد خشية، وعلى هذا سائر ما أضيف إلى الأنبياء من الخطأ (نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس) أي: من عدا نبينا صلى الله عليه وسلم حتى إبراهيم بسماعه كلامه القديم النفسي بغير واسطة. ومثل موسى في ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فكلمه الله تعالى ليلة المعراج. ولا يلزم من اختصاص موسى عن إبراهيم بما ذكر فضله عليه لأنه قد يكون للمفضول خصيصية بل خصائص لا تكون لأفضل منه. وقد ثبت النص بالحديث المرفوع في إبراهيم أنه سيد البرية، خرج من عمومه نبينا صلى الله عليه وسلم وبقي عليه فيما عداه فتناول موسى وغيره، والناس عام مخصوص (اشفع لنا إلى ربك) يحتمل أن إلى فيه وفي قرائنه: بمعنى عند. كقول أبي كثير الهذلي:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره
…
أشهى إلي من الرحيق السلسل
وعلى قول البصريين الذين لا يثبتون لها معنى سوى انتهاء الغاية مطلقاً، فيكون في
ألَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فيقُولُ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإنَّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْساً لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي؛ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى. فَيَأتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أنْتَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ في المَهْدِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، ألَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فيَقُولُ عِيسَى: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْباً، نَفْسِي نَفْسِي
ــ
الحديث تضمين أي: اشفع لنا متوسلاً إلى ربك (ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها) هو القبطي خباز فرعون قال بعض المفسرين في قوله تعالى: (أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا)(1) الآية فيه إشارة لمنع قتال الكافرين بغير إذن الله. ولهذا لما قتل موسى ذلك القبطي الكافر قال: هذا من عمل الشيطان الآية اهـ. ثم إن هذا من موسى من كمال معرفته بعظمة ربه عز جلاله، فإنه أشفق من قتله ذلك مع أن الله أخبر بنص القرآن أنه غفر له (نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته) أطلقت عليه مجازاً مرسلاً لكونه صدر عن كلمة كن من غير أب (ألقاها إلى مريم وروح منه) أي: من أمره (وكلمت الناس في المهد) حال من فاعل كلم (اشفع لنا إلى ربك) قال الأبي: لم يأت أن الخلق تلجأ إلى غير هذه الأربع وخص الأربع. لأنهم أفضل الرسل بعده صلى الله عليه وسلم، وأولوا العزم من الرسل الذين أمر أن يصبر كما صبروا. قال المصنف: الحكمة في أن الله تعالى ألهمهم سؤال آدم ومن بعده في الابتداء ولم يلهموا سؤال نبينا صلى الله عليه وسلم إظهار فضيلته فإنهم لو سألوه ابتداء لكان يحتمل أن غيره يقدر على ذلك ويحصله، وأما إذا سألوا غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه فامتنعوا ثم سألوه فأجاب وحصل غرضهم فهو النهاية في ارتفاع المنزلة وكمال القرب وعظيم الإِدلال والأنس. وفيه تفضيله صلى الله عليه وسلم على جميع المخلوقين من الرسل الآدميين والملائكة، فإن هذا الأمر العظيم، وهو الشفاعة لا يقدر على الإِقدام عليه غيره صلى الله عليه وسلم (ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) علل امتناعه عن الشفاعة بظهور الجلال، فخاف منه (ولم يذكر ذنباً) كذا في هذه الرواية قال السيوطي في
(1) سورة الحج، الآية:39.
ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأسَكَ، سَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأرْفَعُ رَأْسِي، فَأقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأبْوَابِ". ثُمَّ قَالَ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى". متفق عَلَيْهِ (1) .
ــ
قبله صلى الله عليه وسلم وبعده (ثم يقال) أي: على لسان جبريل كما في حديث أحمد (يا محمد ارفع رأسك) أي: من السجود (سل تعطه) كذا بحذف الواو عند مسلم وهي ثابتة عند البخاري نبه عليه في الفتح، وزاد البخاري "وقل تسمع واشفع تشفع" وزاد في رواية "وادع تجب".
ثم الهاء في لفظه بالسكت. فهي ساكنة ينطق بها وقفاً لا وصلاً، ويجوز أنها ضمير المفعول الثاني عائد على المسؤول المدلول عليه بقوله (فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب أمتي يا رب) أي: سؤالي خلاص أمتي أي: خلص أمتي من موبقات القيامة فهو مرفوع أو منصوب (فيقال يا محمد أدخل (الجنة) من أمتك) بيان لمن في قوله: (من لا حساب عليهم) وذلك كل السبعين ألفاً الذين سأل عكاشة أن يكون منهم وقد سبق ذلك في حديث طويل لابن عباس في باب التوكل (من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم) أي: باقي أمتك (شركاء الناس فيما سوى ذلك) الباب الأيمن (من) بقية (الأبواب) الثمانية (ثم قال) صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده) عند مسلم والذي نفس محمد بيده (إن ما بين المصراعين) بكسر الميم وبالمهملتين جانبا الباب (من مصاريع الجنة) جمع المصراع باعتبار تعدد الأبواب (كما) وعند مسلم لكما بزيادة لام (بين مكة وهجر) بفتح الهاء والجيم مدينة عظيمة قال المصنف: هي قاعدة البحرين. قال: الجوهري في صحاحه هجر اسم بلد مذكر مصروف قال: والنسبة إليه هاجري. وقال: أبو القاسم الزجاج في الجمل هجر يذكر ويؤنث قال المصنف: وهجر هذه غير هجر المذكورة في حديث القلتين تلك قرية من قرى المدينة كان يصنع بها القلال (أو) للشك من الراوي في أنه قال: بين مكة وهجر أو قال: (كما بين مكة وبصرى) بضم الموحدة وسكون المهملة مدينة معروفة، بينها وبين دمشق ثلاث مراحل وهي مدينة حوران وبينها وبين مكة شهر (متفق عليه) رواه البخاري في التفسير وفي أحاديث الأنبياء. ورواه
(1) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير سورة الإِسراء وفي كتاب الأنبياء باب قوله تعالى (إنا أرسلنا =
1865-
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: جَاءَ إبراهيم صلى الله عليه وسلم بِأُمِّ إسْماعِيلَ وَبِابْنِهَا إسْمَاعِيل وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعهَا عِنْدَ البَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوقَ زَمْزَمَ في أعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَاكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَاباً فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقاً، فَتَبِعَتْهُ أمُّ إسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أنِيسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَاراً، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، قَالَتْ لَهُ: آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إذاً لَا يُضَيِّعُنَا،
ــ
مسلم في الأنبياء، وكذا أخرجه الترمذي في الأيمان وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي في الوليمة، وأخرجه ابن ماجه في الأطعمة كما قاله المزي في الأطراف.
1865-
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم بأم إسماعيل) واسمها هاجر وقيل آجر بفتح الجيم فيهما قبطية وهبها لسارة ملك مصر الذي أراد سارة فمنعه الله منها وحديثه في البخاري (وبابنها إسماعيل وهي ترضعه) جملة حالية من أم إسماعيل (حتى وضعها) أي: هاجر وسكت عن إسماعيل لاستلزام وضعها ثمة وضعه معها إذ كان رضيعاً لا مرضع له غيرها (عند البيت) أي: الكعبة (عند دوحة) بفتح المهملتين وسكون الواو بينهما (فوق زمزم) صفة للدوحة أي: كائنة وثابتة فوقها (في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد) أي: من الإِنس (وليس بها ماء فوضعهما) بضمير التثنية وأفرد أولاً تفنناً في التعبير وإلا فالمراد في الموضعين منه واحد (هناك) أي: عند الدوحة (ووضع عندهما جراباً) بكسر الجيم (فيه تمر وسقاء) بكسر المهملة وتخفيف القاف وبالمد إناء يكون للماء واللبن (فيه ماء ثم قفى) بتشديد الفاء (إبراهيم) أي: جعل قفاه لجهة هاجر (منطلقاً) إلى الشام (فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أي تذهب وتتركنا) بالنصب بأن بعد الواو في جواب الاستفهام وبالرفع عطفاً على الفعل قبله (بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء) أي: مما يؤكل ويشرب (فقالت له ذلك) أي: يا إبراهيم أين تذهب إلخ (مراراً) أخرج عمرو بن شيبة من طريق أنها نادته بذلك ثلاثاً (وجعل لا يلتفت إليها) وانصرف إلى طريقه (فقالت له آلله) بمد الهمزة وهي للاستفهام (أمرك بهذا قال: نعم قالت إذاً) حرف جواب وجزاء (لا يضيعنا) بالنصب ولا يضر الفصل بلا، وبالرفع على إهمالها فإن أعمالها عند اجتماع شروطه جائز
= نوحاً
…
) ، (6/264، 265، 8/300) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، (الحديث: 327) .
ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرُونَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ (1) :(رَبِّ إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) حَتَّى بَلَغَ (يَشْكُرُونَ)[إبراهيم: 37] . وَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ، وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى - أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ - فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ في الأرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِي تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أحَداً؟ فَلَمْ تَرَ أحَداً. فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِي، رَفَعَت طَرفَ
ــ
لا واجب (ثم رجعت) إلى ابنها (فانطلق إبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان عند الثنية) بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد التحتية وذلك عند الحجون بفتح المهملة (حيث لا يرونه) بدل من التثنية (استقبل) جواب ذا الوقتية المضمنة معنى الشرط (بوجهه البيت) فيه استحباب استقبال القبلة حال الدعاء (ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه فقال:) عطف على دعا كالعطف في قوله توضأ زيد فغسل وجهه ويديه، (رب إني أسكنت من ذريتي) أي: بعضهم (بواد غير ذي زرع) هو مكة وكونها كذلك ليتم التفرغ فيها للعبادة فإن الزرع والأكساب الدنيوية مانعة منه (عند بيتك) إضافة تشريف ووصفه بقوله (المحرم) لذلك أي: المحرم الصيد عنده وقطع الشجر والمقاتلة وغير ذلك (ربنا ليقيموا الصلاة) بمكة لإِسكانه لهم ثمة ففيه تحريض للمقيم بمكة على عبادة المولى والإِعراض عن أعراض الدنيا فإنها حينئذ تنقاد له (فاجعل أفئدة من الناس) أي: من افئدتهم (تهوي) أي: تسرع (إليهم) شوقاً. عن بعض السلف لو قال: الناس لازدحمت عليه الروم وفارس والناس كلهم، ولكن قال: من الناس فاختص به المسلمون (وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) نعمتك وقد استجاب الله دعاءه (وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء) أي: وتأكل من ذلك الثمر (حتى إذا نفد) بكسر الفاء وبالدال المهملة (ما في السقاء) أي: من الماء (عطشت وعطش ابنها) بكسر الطاء (وجعلت تنظر إليه) أي: تبصره (يتلوى أو قال) أي: ابن عباس (يتلبط) بموحدة بعدها مهملة أي يتمرغ ويضرب بنفسه الأرض (فانطلقت كراهية) بتخفيف التحتية مفعول له (أن تنظر إليه) أي: وهو كذلك (فوجدت الصفا) بالقصر طرف جبل أبي قبيس (أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي) أي مكة (تنظر هل ترى) أي: تبصر (أحداً
(1) سورة إبراهيم، الآية:37.
مَكَّةَ؛ فَرَأَوْا طَائِراً عائِفاً، فَقَالُوا: إنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بهذا الوَادِي وَمَا فِيهِ مَاء. فَأَرْسَلُوا جَرِيّاً أَوْ جَرِيَّيْنِ، فَإذَا هُمْ بِالمَاءِ. فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ؛ فَأَقْبَلُوا وَأُمُّ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فقالوا: أتَأذَنِينَ لَنَا أنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ في المَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ ابن عباس: قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " فَألْفَى ذَلِكَ أُمَّ إسْمَاعِيلَ، وهي تُحِبُّ الأنْسَ " فَنَزَلُوا، فَأرْسَلُوا إِلَى أهْلِهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِهَا أهْلَ أبْيَاتٍ وَشَبَّ الغُلَامُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِيْنَ شَبَّ، فَلَمَّا أدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأةً مِنْهُمْ: وَمَاتَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إبْرَاهِيمُ بَعْدَما تَزَوَّجَ
ــ
بالمهملة والفاء، الذي يحوم على الماء ويرود ولا يمضي عنه (فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جرياً) بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد التحتية أي: رسولاً سمي بذلك لأنه يجرى مجرى مرسله أو لأنه يجري مسرعاً في حوائجه (أو جريين) شك من الراوي (فإذا هم بالماء فرجعوا) فيه إطلاق ضمير الجمع على ما فوق الواحد. وهذا يؤيد الرواية الثانية (فأخبروهم فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت نعم ولكن لاحق لكم في الماء) أي: بل الحق فيه مختص بي فإن شئت منحت وإن شئت منعت (قالوا نعم قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم فألفى) بالفاء أي: وجد (ذلك أم إسماعيل) بالنصب مفعول ألفى (وهي تحب الأنس) بضم الهمزة ضد الوحشة (فنزلوا فأرسلوا إلى أهليهم) فجاءوا (فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات) حتى غاية لمقدر أي: وكثروا وكان بمعنى صار (وشب الغلام) أي: إسماعيل (وتعلم العربية منهم) قال السيوطي: فيه تضعيف لقول من روى أنه أول من تكلم بالعربية كما أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس. لكن أخرج الزبير بن بكار في النسب بسند حسن من حديث على أول من فتق الله لسانه بالعربية البينة إسماعيل. قال الحافظ ابن حجر: وبهذا القيد يجمع بين الخبرين فيكون أوليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان لا الأولية المطلقة فيكون بعد تعلمه من جرهم، ألهمه الله العربية الفصيحة البينة فنطق بها، ويؤيده ما حكى ابن هاشم عن الشرقي بن قطامي أن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم. قال: ويحتمل أن تكون الأولية مقيدة بإسماعيل بالنسبة إلى بقية إخوته من ولد إبراهيم. وفي الوشاح لابن دريد أول من نطق بالعربية يعرب بن قحطان بن إسماعيل (وأنفسهم) بفتح الفاء من النفاسة أي: كثرت رغبتهم فيه وللإِسماعيلي وآنسهم من الإِنس (وأعجبهم حتى شب) أي كبر ونشأ (فلما أدرك) أي: بلغ (زوجوه امرأة منهم) قال:
إسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إسْمَاعِيلَ؛ فَسَأَلَ امْرَأتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خرَجَ يَبْتَغِي لَنَا - وفي روايةٍ: يَصِيدُ لَنَا - ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ؛ وَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإذَا جَاءَ زَوْجُكِ اقْرَئِي عليه السلام، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئاً، فَقَالَ: هَلْ جَاءكُمْ مِنْ أحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءنا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي: كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا في جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أنْ أقْرَأَ
ــ
ابن إسحاق اسمها عمارة بنت سعد. وقال السهيلي حدا بنت سعد وقال: عمر بن شعبة حيي بنت أسعد (وماتت أم إسماعيل) ظاهر السياق أن موتها بعد تزوج ابنها (فجاء إبراهيم بعد ما) مصدرية (تزوج إسماعيل) أي: بعد تزوجه (يطالع تركته) أي: يتفقد حال ما تركه هذا وقد ورد أنه كان يزور هاجر وإسماعيل كل شهر على البراق يغدو غدوة ثم يأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله في الشام، أخرجه الفاكهي من حديث علي بسند حسن (فلم يجد إسماعيل) عطف على جاء (فسأل امرأته عنه) أي: أين هو (فقالت خرج يبتغي) أي: يطلب (لنا) رزقاً أي: بالصيد كما قال المصنف (وفي رواية) أي: للبخاري كما صرح به آخر (يصيد لنا) أي: بدل قولها يبتغي لنا رزقاً يعني والروايات يفسر بعضها بعضاً (ثم سألها عن عيشهم) ما يعيشهم من الطعام والشراب (وهيئتهم) أي: حالتهم (فقالت نحن بشر) أي: متلبسين به وفسرت الشر بقولها (نحن في ضيق وشدة) أي: في ضيق من المعاش وشدة من أمره (وشكت إليه) أي: من ذلك. ولما رأى مزيد التبرم وشدة الضجر مما ابتلاها الله تعالى به زيادة في الدرجات خشي أن يسري حالها إلى ولده فيقع في مثل حالها فأمره بفراقها كما قال (قال) أي: إبراهيم (فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام أي: أبلغيه سلامي، وجملة الأمر جواب الشرط غير الجازم وليس في أولها رابط من الفاء، ولا بدلها من إذا الفجائية (وقولي له يغير عتبة بابه) كناية عن طلاق امرأته. واستنبط منه البلقيني عند ذلك من كنايات الطلاق وكنى عن المرأة بعتبة الباب لما فيها من الصفات الموافقة لها وهي حفظ الباب وصون ما في داخله وكونها محل الوطء (فلما جاء إسماعيل) من صيده (كأنه آنس) بالمد أي: أحس (شيئاً فقال هل جاءكم من أحد) مزيدة لتقدم الاستفهام (قالت نعم جاءنا شيخ) بالتنوين وقوله (كذا وكذا) كناية عن صفته (فسألنا عنك فأخبرته فسألني) عبرت عن نفسها أولاً بضمير الجمع تأكيداً ثم بضمير الواحد تفنناً في التعبير ودفعاً لاستكراره ثقل تكرير اللفظ بعينه (كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد) بفتح الجيم أي مشقة (وشدة) أي: قوة فهو كعطف
عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أنْ أُفَارِقَكِ! الْحَقِي بِأَهْلِكِ. فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأتِهِ فَسَألَ عَنْهُ. قَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا قَالَ: كَيفَ أنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللهِ. فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ، قَالَ: فمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَت: الماءُ،
ــ
للرديف (قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول) لك عطف على أمرني (غير عتبة بابك قال: ذاك) بكسر الكاف خطاب المؤنثة (أبي وقد أمرني) بتغيير عتبة الباب (أن أفارقك) يحتمل أن يكون على تقدير الباء أي: بمفارقتك وألا يقدر لأن أمر يصل إلى المفعول الثاني تارة بالجار، وأخرى بنفسه (الحقي بأهلك) بفتح المهملة وهو من كنايات الطلاق، والسياق يقضي بأنه نوى الطلاق الذي أمر به وصرح به بقوله (فطلقها) وفيه استحباب مفارقة من لا صبر لها عنده عند تعاور الشدائد، وبر الوالد وتنفيذ أمره والمسارعة إليه (وتزوج منهم امرأة أخرى) قال الواقدي وغيره: اسمها سامة بنت مهلهل. وقيل: اسمها عاتكة. وقيل رغلة بنت نصاص. وقيل جرة. وقيل هالة بنت الحارث. وقيل سلمى وقيل الحنفاء وقيل السند بنت مضاض وقيل رغلة بنت يسحب بن يعرب بن لود بن جرهم (فلبث عندهم إبراهيم ما شاء الله) أي: قدر مشيئته أو قدر الذي شاءه الله (ثم أتاهم بعد) بالبناء على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه. وفي نسخة بعد ذلك بنصب بعد لإِضافته لفظاً (فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه قالت) أتى بالفاء فيما تقدم لبيان أن إجابتها عقب سؤاله فوراً وحذفت هنا لعدم تعلق القصد بفورية جوابها. أو ترتبه أو استئناف بياني أشار إليه البيضاوي في سورة المؤمنين حيث قال: تعالي في آية (فقال الملأ)(1) وفي أخرى (وقال الملأ)(2) بالفاء في الأولى وبحذفها في الثانية (خرج يبتغي لنا قال: كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بحير) أي: في خير إلهي وفيض رباني. ويحتمل أن الباء للملابسة (وسعة) بفتح المهملة الأولى (وأثنت على الله تعالى) أي: حمدته (فقال: ما طعامكم قالت اللحم قال: فما شرابكم قالت الماء) أي: ماء زمزم ويحتمل وهو وغيره من
(1) سورة هود، الآية:27.
(2)
سورة الأعراف، الآية:60.
قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالمَاءِ. قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ، قَالَ: فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَاّ لَمْ يُوَافِقَاهُ. وَفِي رواية: فجاء فَقَالَ: أيْنَ إسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتْ امْرأتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ؛ فَقَالَتْ امْرَأتُهُ: ألَا تَنْزِلُ، فَتَطْعَمَ وَتَشْرَبَ؟ قَالَ: وَمَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: طَعَامُنَا اللَّحْمُ وَشَرَابُنَا المَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرابِهِمْ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو القاسم صلى الله عليه وسلم: بَرَكَةُ دَعوَةِ إبْرَاهِيمَ. قَالَ: فإذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السلام وَمُرِيِهِ يُثَبِّتُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أتاكُمْ مِنْ أحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أتانَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وَأثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَألَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرتُهُ، فَسَألَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأخْبَرْتُهُ
ــ
باقي المياه كماء مطر ومحمول من خارجها (قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن لهم يومئذ حب) أي: شيء من أي نوع منه (ولو كان لهم دعا لهم فيه) أي: لتعمه البركة بدعائه (قال) ابن عباس: (فهما لا يخلو) بالمعجمة يقال خلوت بالشيء إذا لم أخلط به غيره (عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه) في رواية أخرى إلا اشتكي بطنه (وفي رواية) هي للبخاري، وهي في سياق مجيئه المرأة الثانية السابقة فيما قبله (فجاء) أي: إبراهيم (فقال أين إسماعيل فقالت امرأته ذهب يصيد فقالت امرأته) كرره للتأكيد ولزيادة الإِيضاح (ألا) بتخفيف اللام أداة عرض (تنزل فتطعم وتشرب) بفتح الفوقية فيهما وبالنصب بأن في جواب العرض (قال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء) أعادت ذكر الطعام والشراب المستغني كنهما بذكرهما في السؤال تلذذاً بطول الخطاب واستعذاباً بالإِطناب، ودفعاً لإِيهام أن الماء قد يكون لهم طعاماً وشراباً، وإن كان ذلك في زمزم (قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم قال) أي: ابن عباس (فقال أبو القاسم) كنية النبي (صلى الله عليه وسلم) كني بولده القاسم ولا يجوز تكنية غيره بها مطلقاً كما تقدم (بركة دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم) أي: الاحتزاء بهما بمكة فهو مبتدأ أو خبر وثاني الخبرين محذوف لدلالة المقام عليه (قال) أي: إبراهيم (فإذا جاء زوجك) أي: من الصيد (فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت) بتشديد الموحدة (عتبة بابه فلما جاء إسماعيل) من الصيد كأنه آنس شيئاً كما جاء في رواية وجد ريح أبيه (فقال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم) أي أتانا (شيخ حسن الهيئة) وفي نسخة بإثباته (وأثنت عليه) أي: ذكرت بعض أوصاف كمال إبراهيم (فسألني
قَالَ: يَا إسْمَاعِيلُ، إنَّ اللهَ أمَرَنِي بِأمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أمَرَكَ رَبُّكَ؟ قالَ: وَتُعِينُنِي، قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإنَّ اللهَ أمَرَنِي أَنْ أَبْنِي بَيْتاً هاهُنَا، وأشَارَ إِلَى أكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأتِي بِالحِجَارَةِ وَإبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحجارة وَهُمَا يَقُولَانِ:(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) .
ــ
سمعت رجلاً يقول بكيا حتى أجابهما الطير أي: لتباعد لقائهما. زاد الفاكهي وكان عمر إيراهيم يومئذ مائة سنة، وعمر إسماعيل ثلاثين سنة (قال يا إسماعيل إن الله تعالى أمرني بأمر قال: فامنع ما أمرك ربك قال وتعينني) ، هو داخل في حيز الأمر كما في رواية أخرى إنه أمرني أن تعينني عليه (قال وأعينك) وللكشميهني بالفاء بدل الواو (قال فإن الله تعالى أمرني أن أبني بيتاً ها هنا وأشار) بقوله ها هنا (إلى أكمة) بفتحتين تل. وقيل شرفة كالرابية وهو: ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد، وربما غلظ وربما لم يغلظ، والجمع أكم كقصب وأكمات كقصبات، وجمع الأكم إكام مثل جبل وجبال وجمع الأكام أكم بضمتين ككتاب وكتب، وجمع الأكم آكام مثل عنق وأعناق كذا في المصباح (مرتفعة على ما حولها) من الأرض وتقدم أن السيول كانت لا تعلوها (فعند ذلك رفع) إبراهيم (القواعد) أي: الأساس (من البيت) ورفعها البناء عليها وقال السيوطي: القواعد أي التي كانت قواعد البيت قبل ذلك كما أخرجه أحمد عن ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أن القواعد كانت في الأرض السابعة (فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة) وإبراهيم على المقام ينزل به لأخذ الحجر من إسماعيل، ثم يعلو به فيضعه محله من البناء كما قال (وإبراهيم يبني) عطف معمولين على معمولي عامل واحد (حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر) يعني المقام زاد في حديث عثمان أنه نزل عليه الركن والمقام من الجنة فكان يقوم على المقام ويبني عليه، فلما بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه وأخذ المقام فجعله لاصقاً بالبيت، فلما فرغ من بناء الكعبة جاء جبريل فأراه المناسك كلها، ثم قام إبراهيم وإسماعيل تلك المواقف، وحجه وإسحاق وسارة من بيت المقدس، ثم رجع إبراهيم إلى الشام فمات بالشام كذا بالتوشيح (فوضعه له فقام عليه) أي: على المقام (وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ربنا تقبل منا) بناء البيت (إنك أنت السميع) لدعائنا (العليم) ببناء بيتنا (وفي رواية أن
وفي روايةٍ: إنَّ إبْرَاهِيمَ خَرَجَ بِإسْمَاعِيلَ وَأُمِّ إسْمَاعِيلَ، مَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إبْرَاهِيمُ إِلَى أهْلِهِ، فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إسْماعيلَ حَتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءَ نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ: يَا إبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قَالَ: إِلَى اللهِ، قَالَتْ: رَضِيْتُ باللهِ، فَرَجَعَتْ وَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الشِّنَّةِ وَيَدُرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا، حَتَّى لَمَّا فَنِيَ المَاءُ قَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَداً. قَالَ: فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتِ الصَّفَا، فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ هَلْ تُحِسُّ أحداً، فَلَمْ تُحِسَّ أَحَداً، فَلَمَّا بَلَغَتِ الوَادِي سَعَتْ، وأتَتِ المَرْوَةَ
ــ
إبراهيم خرج بإسماعيل وأم إسماعيل) بالجر عطف على إسماعيل وقوله (معهم شنة) بالمعجمة والنون المشددة، هي الجلدة البالية، والمراد: هنا السقاء الذي عبر به عنها في الرواية السابقة حال من فاعل خرج، وجملة (فيها ماء) في محل الصفة (فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة) أي: من مائها (فيدر لبنها) بفتح التحتية وكسر الدال المهملة وضمها. في المصباح: در اللبن دراً من بابي ضرب وقتل (على صبيها) أي: إسماعيل (حتى قدم) أي: إبراهيم (مكة) وهي بولدها معه (فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله) سارة بالشام (فاتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا نادته من ورائه يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله قالت رضيت بالله) كذا في جميع نسخ الرياض التي وقفت عليها بحذف مفعول بلغوا (1) وهو مصرح به في البخاري ففيه حتى لما بلغوا كداء نادته، غايته أن نسخ البخاري مختلفة الضبط أهو بضم فقصر أم بفتح فمد (فرجعت) عنه إلى محلها (وجعلت تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها) يجوز في جملة تدر أن تعطف على خبر جعل، وأن تعطف على جملة جعلت (حتى لما فني الماء قالت لو ذهبت) حرف تمن فلا جواب لها أو شرط حذف جوابها أي: لكان أولى اكتفاء بدلالة الحال عليه (فنظرت لعلي أحس) أي: أجد (أحداً قال: فذهبت فصعدت) بكسر المهملة الثانية (الصفا فنظرت) أي: تأملت (ونظرت) أي: كررت النظر وفي نسخة الاقتصار على نظرت الأول (هل تحس أحداً فلم تحس) أي: لم تر (أحداً) ولم تشعر به (فلما بلغت الوادي) المسيل، وفيه انخفاض امتنع به رؤيتها لولدها فخافت عليه فأسرعت كما قال (وسعت) أي: أسرعت كما قال: في الرواية السابقة فسعت سعي المجهود (وأتت المروة) أي: بعد تركها السعي وعودها لعادتها قبل وصولها الوادي، كما
(1) دكن في نسختين إحداهما مخطوطة لفظ (كداء) . ع.
الرَّسُولُ. "وَألْفَى": معناه وَجَدَ. قَولُهُ: "يَنْشَغُ": أيْ: يَشْهَقُ (1) .
1866-
وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "الكَمْأَةُ
ــ
ولي) وعبر عنه به لأنه تولى قفاه حال انصرافه (والجري) بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد التحتية (الرسول) تقدم، وأنه سمي بذلك لجرأته على مرسله أو لجريه إسراعاً في حاجته (وألفي) بالفاء (معناه وجد) فهو من أفعال القلوب (وقوله ينشغ) بضبطه السابق قريباً (أي: يشهق) ويعلو صوته وينخفض كالذي ينازع. وقال بعضهم: النشغ الشهق من الصدر، حتى يكاد يبلغ به الغشي.
1866-
(وعن سعيد بن زيد) بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي، نسبة إلى عدي بن كعب بن لؤي، وهو ابن عم عمر يجتمعان في نفيل، وكان أبوه اعتزل الجاهلية وجهالاتهم ووحد الله تعالى بغير واسطة. وقيل نزل فيه وفي سلمان وأبي قوله تعالى (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها)(2) الآية. أمه فاطمة بنت ربعي الخزاعية، أسلم هو وزوجته أم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر أول الإِسلام وبسببها كان إسلامه، أحد العشرة المبشرة بالجنة رضي الله عنه بعثه صلى الله عليه وسلم مع طلحة يتجسسان الأخبار في طريق الشام، فقدما المدينة يوم وقعة بدر فأثبت صلى الله عليه وسلم سهمهما وأجرهما، فلذا عدا في البدريين، وكان مجاب الدعوة، وقصته مشهورة مع أروى بنت قيس، لما شكته إلى مروان بن الحكم وادعت عليه أنه غصبها شيئاً من أرضها فعميت، ثم تردت في مرقا دارها فكانت فيها (3) . روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وأربعون حديثاً، منها في الصحيحين ثلاثة، اتفقا على اثنين منها، والثالث للبخاري وحده. وكان سعيد موصوفاً بالزهد محترماً عند الولاة. روى عنه قيس بن أبي حازم وأبو عثمان النهدي. توفي رضي الله عنه بمنزله بالعقيق وحمل على أعناق الرجال فدفن بالبقيع سنة إحدى وخمسين أو خمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة وصلى عليه ابن عمر وكان له من الولد ثلاثة عشر ذكراً وثماني عشرة أنثى (قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الكمأة) بفتح
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء، باب: يزفون النسلان في المشي (6/283) .
(2)
سورة الزمر، الآية:17.
(3)
لعله (في بئر دارها فكانت قبرها) . ع.
ِمِنَ المَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ" متفق عَلَيْهِ (1) .
***
ــ
الكاف والهمزة وسكون الميم آخره هاء واحده كمء بحذف الهاء ولا نظير له في ذلك إلا خبأة وخبء قاله ابن الأعرابي (من المن) الذي أنزله الله على بني إسرائيل كما جاء كذلك في رواية وامتن به عليهم (وماؤها شفاء للعين) أي: من دائها. واختلف هل يستعمل صوفاً أو تربي به الأكحال. وهل المراد بمائها ما يعتصر بها، أو الماء الذي تنبت به (متفق عليه) قال في الجامع الصغير: ورواه أحمد والترمذي من حديث سعيد. ورواه أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عائشة. ورواه أبو نعيم أيضاً من حديث أبي سعيد بلفظ "الكمأة من المن والمن من الجنة وماؤها شفاء العين".
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: المنَّ شفاء للعين، (10/137، 138) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الأشربة
…
، (الحديث: 158) .