المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ - رسائل السنة والشيعة لرشيد رضا - جـ ٢

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌الحق أن علياً كرم الله وجهه كان مكلفا بتليغ أمر خاص

- ‌ قو

- ‌الكلمة الأولى في الهجرة المحمدية

- ‌الكلمة الثانية مناقب الصديق في قصة الهجرة:

- ‌(الأولى) :

- ‌(الرابعة) :

- ‌(السابعة) :

- ‌(الثامنة) :

- ‌المعية الإلهية معنى إضافي يختلف باختلاف موضوعه ومتعلقه

- ‌(الثانية عشرة) :

- ‌(الثالثة عشرة) :

- ‌الكلمة الثالثة(تفنيد مراء الروافض

- ‌تفنيد شبهتهم على منقبة {ثاني اثنين} :

- ‌ من أكبر جنايات الروافض على الإسلام والمسلمين أنهم جعلوا أبا بكر وعليا رضي الله عنهما خصمين

- ‌تفنيد شبهتهم على نهيه عن الحزن

- ‌تفنيد تحريفهم لقوله {إن الله معنا}

- ‌ت ف

- ‌السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما

- ‌ الزواج من رجل شيعي أو امرأة شيعية

- ‌جواب صاحب المنار

- ‌المناظرة بين أهل السنة والشيعة

- ‌الرسالة الأولى: للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين

- ‌ مشاربه

- ‌مطالبة علماء الشيعة برأيهم في دعوى المناظرة:

- ‌كتاب ورسالة من سائح شيعي أديب

- ‌س ال

- ‌السنة والشيعةالاتفاق بينهما والوسيلة إليهورأينا ورأي علامة الشيعة فيه

- ‌جواب العلامة آل كاشف الغطاء

- ‌تعليقنا الوجيز على هذه الدعوى وأدلته

الفصل: الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ

الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) } .

وهذا الكتاب كسائر كتب الروافض يدل على أنهم أشد غيظاً بهم من جميع الكفار (1) ، فإن هذا الرافضي زعم أن جميع المسلمين فروا في أثر المؤلفة قلوبهم من أهل مكة.

قال: ((ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة: علي (ع) يضرب بالسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعباس آخذ بلجام بغلته صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابه.

قيل: وابن مسعود إلى جانبه الأيسر، وقيل: ثبت معه تسعة من بني هاشم، وهو الذي اعتمده الشيخ المفيد في الإرشاد)) . اهـ.

وهو لم يعتمد على إرشاد مفيده وهو من شيوخهم وكبار مصنفيهم في تأييد نحلتهم، فذكر ما اعتمد بصيغة التمريض بعد جزمه هو بثبات الثلاثة -فقط.

ثم زعم أن‌

‌ قو

له تعالى {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى

(1) لذلك نجد أن اللعن والشتم وتكفير للصحابة رضي الله عنهم المسطر في أمهات كتب القوم يفوق عشرات بل مئات بل آلاف ما ورد في حق فرعون وهامان وأبي جهل وغيرهم من رؤوس الكفر وصناديده، ويقول نعمة الله الجزائري في كتابه الأنوار النعمانية (ج2 ص244 منشورات الأعلمي بيروت) ما نصه:((الإمامية (أي الشيعة الاثنا عشرية) قالوا بالنص الجلي على إمامة علي وكفروا الصحابة ووقعوا فيهم)) .

وعلى أي حال فإن هذه الأقوال التي شُحنت بها تلك الكتب في حق الصحابة رضي الله عنهم قد أعطت الحجة - كما سمعته من بعض الدعاة - لليهود والنصارى بأن يطعنوا في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّ أصحاب ذلك النبي المبشر به في كتبهم موصوفون بالإيمان والصلاح والتقوى ونصرة الدين، بينما أصحاب محمد فعامتهم مرتدون منقلبون على أعقابهم، وهم ليسوا أشداء على الكفار ولا رحماء بينهم، وإنما أشداء بينهم وأرأف وأرحم بالكفار منهم بقرابة نبيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم!

ص: 23

المؤمنين} خاص بهؤلاء الذين ثبتوا معه صلى الله عليه وسلم!

فيقال له: ولماذا عطف على ما قبله بـ (ثم) الدالة على التراخي؟

أليس دليلا على أن الرسول والذين ثبتوا معه كانوا قد اضطربوا عند اضطراب الجمهور في تلك الهزيمة؟

أوليس نزول السكينة لازماً أو ملزوماً لعودة المهاجرين والأنصار من أهل بيعة الرضوان تحت الشجرة إلى القتال؟

وهل عادوا إلا بعد أن زال بذلك الاضطراب واختلاط الأمر الذي عرض لهم بفرار المؤلفة قلوبهم؟

وهل زال ذلك إلا بما أنزل الله عليهم من السكينة لما سمعوا نداء الرسول صلى الله عليه وسلم ونداء العباس رضي الله عنه وعلموا مكانه صلى الله عليه وسلم؟

وهل يكون أصحاب هذه الكَرَّة الناهضة بعد تلك الفَرَّة العارضة - وهم أصحاب المواقف السابقة والفتوحات اللاحقة - من الجبناء المستحقين لغضب الجبار، ويكون فرارهم خذلاناً للرسول وتعمداً لإسلامه للكفار، كما افترى الرافضي الكَفَّار (1) ؟

(1) الكفار بالفتح صيفه مبالغة من الكفر، ونعنى به المعنى اللغوي، وهو المبالغ في ستر الشيء وإخفائه. (ر)

ص: 24

وخلاصة المعنى الذي يدل عليه عطف إنزال السكينة بـ (ثم) الدال على تأخيره عن تولى الأدبار:

أن الاضطراب المنافي للسكينة - بانهزام الطلقاء - كان عاماً؛ إذ تبعه انهزام السواد الأعظم على غير هدى، وهو أمر طبيعي في مثل هذه الحال، فإن اختلف سببه فقد اتفق المآل.

فالجيش اضطرب لهزيمة عدد كثير منه، والرسول صلى الله عليه وسلم اضطرب باله حزنا على المسلمين، ثم بعد أن تمت حكمة الله في ابتلائهم بذلك أنزل سكينته على رسوله، فأمر عمه العباس بنداء المهاجرين والأنصار، فناداهم فاستجابوا لله وللرسول صلى الله عليه وسلم إذ أنزل الله السكينة عليهم بدعوته والعلم بمكانه.

إن الرافضي عمد بعد أن ذكر مجمل القصة بما وافق هواه من نقل، وما مزجه به من تأويل باطل، إلى تحريف الآيتين في هذه الغزوة، فزعم أنها توبيخ لجميع الصحابة رضي الله عنهم ما عدا الذين ثبتوا وهم في زعمه ثلاثة بل واحد في الحقيقة، وخص أصحاب بيعة الرضوان بالذكر، بل بالذم المقتضى للكفر.

قال، بعد أن

ص: 25

زعم أنهم أسلموا صاحبَ الدين لجفاة الأعراب وطغام هوازن وثقيف ما نصه:

((فأين ما بايعتم به الله سبحانه وما أعطيتموه من العهد والميثاق يوم بيعة الرضوان على أن لا تفروا عنه، ومن فر فهو في النار، ومن قتل فهو شهيد؟ فما وفيتم ببيعكم الذي بايعتم به سبحانه (كذا) إذ يقول {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً} أنقضتم العهد؟ أم استقلتم البيع؟ {ثم وليتم مدبرين} غير متحرفين لقتال ولا متحيزين إلى فئة، ومن يفعل ذلك {فقد باء بغضب من الله} )) . اهـ بحروفه وتحريفه لكلام الله تعالى.

إذ جعل ذلك كله تفسيراً لآية يوم حنين - التي لم تكن إلا تذكيراً للمؤمنين بعناية الله تعالى بهم ونصره إياهم على ما وقع فيهم من الاضطراب والتولى في أول المعركة -، وقد أراد بهذا التحريف أن يهدم كل ما للصحابة الكرام من الثناء في كتاب الله، ويجعلهم من شرار الخلق عند الله، ويحول رضوان الله عنهم إلى غضبه، ووعدهم إياهم بالجنة إلى وعيدهم بالنار.

ص: 26

أرأيت هذا الرافضي كيف لم يتم آية الشراء؛ لأنها حجة عليه ومبطلة لتأويله؟ وهو قوله تعالى {ومن أوفى بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} فلو علم الله تعالى أنهم ينقضون العهد أو يستقيلون هذا البيع لما أمرهم بالاستبشار به، ولما عبر عنه بأنه هو الفوز العظيم، أي دون غيره.

وقد أشار بقوله: ((أم استقلتم البيع)) ، إلى قول الأنصار رضي الله عنهم عند بيعة العقبة للنبي صلى الله عليه وسلم على منعه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم، ووعده لهم بالجنة إذ قالوا:((لا نقيل ولا نستقيل)) . (1)

وقد شهد الله ورسوله لهم بالوفاء، وشهد عليهم الرافضي بالخيانة والغدر، واستقالة البيع!

وقد أعاد بعد هذا القول ذكر ما زعمه من فرار عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام، وأنزل بموافقته القرآن، وكان أعظم ناشر له في الأرض بعد رسوله عليه الصلاة والسلام.

(1) أخرجه أحمد في المسند (3 / 322، 323 - 339) ، والحاكم في المستدرك (2 / 624 - 625) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقال الحاكم:((صحيح الإسناد، جامع لبيعة العقبة)) وهو كما قال رحمه الله. وانظر: البداية والنهاية للحافظ ابن كثير (3 / 159 - 160)

ص: 27

ثم فسر السكينة ((بتثبيت القلب وتسكينه وإيداعه الجرأة والبسالة)) وقال: ((وإنما أنزلها الله على رسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهم الثلاثة أو العشرة الذين مر ذكرهم)) .

وقد جهل أن هذا التفسير طعن فيهم لأنه نص على أن هذه المعاني من السكينة لم تكن للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لهم في أول القتال، لعطف نزولها على تولية الأدبار بـ ((ثم)) المفيدة للتراخي.

والصواب اللائق به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه المؤمنين رضي الله عنهم ما ذكرنا.

ثم إنه بعد هذا الطعن في جميع الصحابة رضي الله عنهم والاستثناء معيار للعموم على أنه حصره بعد في علي وحده - قال:

((فإذا تدبرت حالة المسلمين وما قرعهم فيه وعاتبهم به سبحانه، وكيف باهى الله سبحانه بأمير المؤمنين ذلك العسكر المجر والجحفل الحاشد بأعلام الصحابة وأكابر المهاجرين والأنصار وصناديدهم ومن إليهم الإيماء والإشارة، ظهرت لك عظمته ومكانته من الله ورسوله، ومبلغه من الدفاع عن الدين والدولة. . .)) إلى آخر ما أطال به وأسهب من المعاني الشعرية في تحقير جميع المؤمنين حتى خص بالذكر

ص: 28

الزبير وطلحة وسعد بن وأبي وقاص الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وخالد بن وليد سيف الله ورسوله وفاتح العراق والشام ورافع لواء الإسلام، وأبا دجانة وسهل بن حنيف وسعد بن عبادة والحارث ابن الصمة وأبا أيوب وأمثالهم من صناديد الإسلام الأعلام، فزعم كاذباً مفتريا أن تلك الصدمة ((أطارت أفئدتهم وشردت بهم في كل واد)) ليقول في علي:((وكيف قام في وجهها وانتدب لصدها وأقدم على ردها بصدر أوسع من الفضاء وقلب أمضى من القضاء)) زعم بل أقسم أنه ((لقد فاز من بين أصحاب رسول الله بأجرها، واستولى على فضلها وطار بفخرها)) كأنه يشعر شعوراً خفياً لا يدركه عقله بأنه لا يتم له إثبات غلوه فيه إلا بافتراء مناقب له مقرونة بتحقير سائر إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالكذب على الله في الأمرين: كزعمه أنه تعالى قرعهم وباهى به، تعالى الله عن ذلك. (1)

ثم ذكر أنه يقول هذا غير مزدرٍ لتلك العصبة الهاشمية وهم التسعة الذين ثبتوا معه صلى الله عليه وسلم أيضاً - أي كما أزدرى سائر الصحابة -، وإنما استثناهم من الازدراء لنسبهم لا لشجاعتهم وفضلهم، وذلك

(1) ومن هذا القبيل - بل هو أعظم من مجرد المباهاة- ما زعموه من المناجاة وأن الله تعالى قد ناجى علياً رضي الله عنه في حنين، كما في بصائر الدرجات الكبرى للصفار (ج 8 باب: 16، ص 431) .

ص: 29

تحقير لهم.

فقد قال بعده: ((فو الله الذي لا إله غيره ما ثبت أولئك إلا بثباته، ولا ركنوا إلا لدفاعه ومحاماته، علماً منهم بكفايته لحمايتهم والذَّب عنهم؛ فإن كل من ألم بالتاريخ وقرأ اليسير علم أن أولئك الهاشميين لم يكن لهم قبل ذلك موقف مشهور ولا مقام مذكور، ولا دَوَّن لهم التاريخ قتل أحد)) .

إلى أن قال غلواً في الاطراد والمدح وإسرافا في الازراء والقدح وتهويلا للأمر:

((بربك دع التكلف وخبرني منصفاً لو فر أمير المؤمنين (ع) من بين أولئك التسعة مع ما يعلمونه من بأسه وشجاعته، أكان يثبت منهم أحد؟ كلا والله.

وحينئذ تكون الطامة الكبرى والقارعة العظمى بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذهب الدين والدولة، وفي ذلك هلاك الأمم بعد نجاتها، وانقراضها بعد حياتها، فثابت إليه تلك الفئة التي لم تتجاوز مائة (؟) مقاتل هو السبب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبقاء الدين والدولة، ونجاة الخلق من الهلكة)) .

ثم فرع على هذه التخيلات الشعرية، والتهويلات الخطابية

ص: 30

والمفتريات الرافضية، بتخطئة الأمة الإسلامية في تولية أمرها (يعني الإمامة العظمى) غير صاحب هذه المنة عليها وعلى الدين والدولة، وعلى..... من أستغفر الله من الإشارة إليه، وإن كان حاكى الكفر ليس بكفر.

ثم قفى على تخطئة الأمة على تخطئة الأمة بتخطئة الشيخين البخاري ومسلم وأمثالهما من رواة صحاح السنة لأنهما لم يفتريا في القصة ما افتراه هو وأمثاله على الله في كتبه، وعلى رسوله في سنته، وعلى خيرة أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقد بدأ طعنه في الشيخين بقصد هدم السنة وصرف المسلمين عنها بقوله:

((وأعجب للشيخين في صحيحيهما كيف لم يذكر الأمير المؤمنين (ع) من ذلك الموقف العظيم والنصر الباهر شيئاً، وقد نطق بذلك الذكر الحكيم؟)) .

وسنرد طعنه على الشيخين في نحره في المنار، وإنما غرضنا في التفسير الدفاع عن كتاب الله والكذب عليه.

إن الله تعالى لم يذكر في القرآن أن عليا رضي الله عنه هو الذي نصر المؤمنين في حنين لا بمنطوق ولا مفهوم، وإنما أسند

ص: 31

ذلك إلى نفسه عز وجل {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين} وقال {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} ، ولم يقل (وعلى علي) وحده، ولا على الثلاثة أو التسعة الذين زعم الشيعة أنه لم يثبت معه صلى الله عليه وسلم غيرهم.

وقد مر أنه ثبت معه ثمانون رجلاً (1) عرفوا بأسمائهم، وهو لا ينفى ثبات غيرهم أيضاً؛ لأن العدد لا مفهوم له.

وقال {وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا} ولم يقل إن علياً هو الذي عذبهم وهو الذي هزمهم، ولم يقل ذلك أحد من المحدثين ورواة السيرة النبوية.

فإن زعم أنهم كتموها لأنهم كانوا يكتمون فضائل على وحده!

(قلنا) : إنهم لم يرووا من مناقب أحد من الصحابة بقدر ما رووا من مناقبه رضي الله عنه وعنهم (2)

، ومما رواه ثباته مع النبي صلى الله عليه وسلم وتخصيص الشيخين عباساً وأبا سفيان بن الحارث بالذكر لأنه ثبت عندهما بشروطهما المعروفة، كما أنهما لم يذكر أبا بكر وعمر أيضاً، وهو قد نقل عن البخاري رواية معلقة زعم أنها تدل على أن عمر رضي الله عنه كان من المدبرين. ولم يرو البخاري في

(1) وورد في بعض الروايات أنهم كانوا مائة، وقد قال الحافظ ابن حجر:((وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد من ثبت يوم حنين)) . اهـ، وانظر: فتح الباري (8 / 29 - 30) .

(2)

يقول الحافظ الذهبي في تلخيص الموضوعات: ((لم يرو لأحد من الصحابة في الفضائل أكثر مما روي لعلي رضي الله عنه، وهي على ثلاثة أقسام: صحاح وحسان، وقسم ضعاف، وفيها كثرة، وقسم موضوعات وهي كثيرة إلى الغاية ولعل بعضها ضلال وزندقة)) . انظر هامش كتاب الصواعق المحرقة ص (186) .

ويقول الحافظ ابن حجر: ((قال أحمد وإسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي، وكأن السبب في ذلك أنه تأخر، ووقع الاختلاف في زمانه وخروج من خرج عليه، فكان ذلك سبباً لانتشار مناقبه من كثرة من كان بينها من الصحابة رداً على من خالفه)) . انظر: فتح الباري 7 / 89.

ص: 32

صحيحه حديثاً ما في مناقب معاوية، وروى الأحاديث الكثيرة في مناقب على كرم الله وجهه.

وإذا كان البخاري ومسلم قد تركا الرواية عمن لا يثقان بعدالته من الروافض فهل يلامان ونحن نرى مثل هذا المؤلف منهم يفتري الكذب على الله ورسوله، ويحرف كلام الله تعالى غلوا في علي - كرم الله وجهه وأغناه بمناقبه الكثيرة الصحيحة عن ذلك - وإزراءً وقدحاً في خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعناً فيهم بالباطل؟

ليس في التزام الشيخين للصدق مثار للعجب، وإنما العجب من هذا الرافضي كيف لم يستح من الله حيث أسند إلى كتابه ما ليس فيه، بل ما فيه خلافه أيضا من رضاه عن المهاجرين والأنصار وحيث أقسم به أنه ما ثبت أحد في حنين إلا على و 3 أو 9 ثبتوا بثباته، والاعتماد على محاماته، لا بشجاعتهم ولا بأيمانهم ولا بحرصهم على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم!

ثم كيف لم يستح منه تعالى ومن رسوله وسيد خلقه، الذي

ص: 33

لم يكن لعلي فضلٌ إلا من فضله، حيث زعم أنه لولاه لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب الدين والدولة، وهلكت الأمم وانقرضت؟ فجعل له المنة وحده على رسول الله وعلى دينه وعلى جميع خلقه بما افتراه من ثباته وحده معه!

ولو ثَبَتَ ثباتُه وَحْدَه لما اقتضى كل هذه المنن؛ فإن النصر لم يكن بمن كان معه صلى الله عليه وسلم أولاً، بل بفضل الله ثم تأييده، وبعود المهاجرين والأنصار إلى القتال (1) ، وإنزال ملائكته لتثبيتهم في مواقف النزال.

ألم يؤمن بقول الله تعالى له صلى الله عليه وسلم {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك (2) وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} فكيف يسلط عليه من يقتله؟

أو لم يعلم بأن أفراداً وجماعات قصدوا قتله صلى الله عليه وسلم مراراً فعصمه الله منهم ولم يكن علي معه؟

ألم يؤمن بما ثبت في الكتاب والسنة من وعد الله لرسوله بالنصر وإظهار دينه على الدين كله، ومن إيعاد أعدائه بالخدلان؟

ومن ذلك جزمه صلى الله عليه وسلم بأن ما جمعته هوازن لقتاله صلى الله عليه وسلم في حنين

(1) أقول: ورد في رواية نقلها صاحب بحار الأنوار (21 / 150 - 151) عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنه (لما انهزم الناس يوم حنين: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد)) فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون: لبيك

) .

وهذه العبارة النبوية - وإن كانت ثابتة في غزوة بدر الكبرى وليس في هذا الموطن في حنين - إلا أن المراد من إيرادها - زيادةً على أثر عودة المقاتلين على سير المعركة - توجيه تساؤل للشيعة المتهمين لعامة الصحابة بالنفاق والارتداد عن الدين مفاده: أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء قد ربط بين استمراريةٍ هذا الدين واستمرارٍ عبادة الله، وبين بقاء هذه العصابة المباركة من أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين الذين شملهم هذا الدعاء بأجمعهم، فهل استثنى منهم أحداً؟ وهل دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه بأن يُبقي مجموعة من المرتدين أو المنافقين؟! وكيف يربط بين عبادة الله واستمراريتها بمجموعة من الكفرة المرتدين؟! ثم كيف يعقل أن يكون الكفرة المرتدون هم المؤتمنون على نقل الدين واستمرارية عبادة الله تعالى في الأرض؟!

أما أهل السنة والجماعة فيقولون: حاشاهم رضي الله عنهم عن تلك الأوصاف، فمثل هذا الدعاء النبوي فيه دليل على عدالتهم وإسلامهم، وأن عبادة الله سبحانه إنما يؤديها وينقلها المؤمنون على رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

(2)

الأخبار مستفيضة في أن الآية هكذا نزلت {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} كما يقول نعمة الله الجزائري وغيره من أكابر علماء الإمامية الذين استوعب كثيراً من كلامهم شيخهم الموصوف عندهم بثقة الإسلام الأجل وهو النوري الطبرسي في كتابه " فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب".

ص: 34

غنيمة للمسلمين كيف يقول: ((إنه لولا علي لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وزالت دولة الإسلام وهلكت الأمم)) ؟! وهل كانت هوازن قادرة على ما عجز عنه سائر العرب مع أن المسلمين كانوا أقوى منهم في كل شيء ونصر الله فوق ذلك؟

ألم يكتف بجعل ما جاء به من الغلو والافتراء ذريعة للطعن في جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الثلاثة أو التسعة الذين اعترف بفضلهم لنسبهم وإنزال السكينة عليهم، وفي أَجَلِّ رواة السنة الصحيحة وممحصيها من الكذب، حتى جعل المنة لعلي على رسول الله وخاتم النبيين في حياته، وبلوغ دعوته، وتأييد الله ونصره له، وبقاء دينه وأمته؟! أبمثل هذا تكون دعاية المسلمين إلى الرفض وتحقير الصحابة ورجال السنة؟!

والذي يعلمه بالبداهة كل صحيح العقل مستقل الفكر مطلع على تاريخ الإسلام أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم لم يكونوا جبناء بل كانوا أشجع خلق الله (1) ، وأن

(1) والحقيقة أن ما سبق من كلمات وآراء تثبت كيفية الكيل بميكالين والازدواجية في نظرة هذا الكاتب - الذي يرد الشيخ المؤلف عليه وأمثاله - إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن هؤلاء الصحابة الذين يتحدث عنهم هنا هم الذين شهدوا بقية المعارك بشجاعة وبسالة والملاحم سواء التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده ولو سُلِّمَ جدلاً أنهم هربوا يوماً واحداً في حنين!

ولكن في الجانب المقابل لو تأملنا نظرتهم إلى إمامهم الثاني عشر والذي ظل الخوف مشرِّدا له حتى لم يقرّ به قرار، ولا تلقته دار، وزاد خوفه على خوف الخائفين وهربه على هرب الهاربين؛ إذ لم يُسمع مطلقاً عن شخص ظل خائفاً هارباً لأكثر من 1169 سنة، وذكر علماؤهم كالطوسي في الغيبة ص 203 أنّ الإمام ما منعه من الظهور لأوليائه إلا الخوف، فمثل هذا الهارب الخائف لا سبيل إلى الطعن فيه بمثل هذه الأمور بأي حال من الأحوال، وأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالطعن فيهم أسهل ما يكون! ولله في خلقه شؤون!

ص: 35

الله تعالى أيد رسوله صلى الله عليه وسلم بنصره وبهم في جملتهم لا بعلي وحده، كرم الله وجوههم ووجهه، كما قال عز وجل {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} الآية.

وإن الذين ثبتوا معه صلى الله عليه وسلم في بدر، وهم أذلة جائعون، حفاة راجلون، قليل مستضعفون فنصرهم الله على صناديد قريش وفرسانها الذين هم ثلاثة أضعافهم ما كانوا ليجبنوا عن قتال هوازن وهم على النسبة العكسية من مشركي بدر معهم، ولكن الله تعالى ابتلاهم بما تقدم ذكره مع بيان سببه تمحيصاً ليزدادوا إيمانا به وبعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم وتأييده بنصره، ولا يغتروا بالكثرة وحدها.

ولو أقسم مقسم بالله تعالى على خلاف ما أقسم عليه هذا الشيعي الذي ملك عليه الغلو أمره، وسلب التعصب عقله، فقال:

والله الذي لا إله غيره إن الله تعالى ما بعث محمداً خاتماً للنبيين، ومكملاً للدين، ورحمة للعالمين، إلا وهو قد كَفَلَ نَصْرَه على أعدائه الكافرين، وعِصْمَتَه من اغتيال المغتالين، بفضله وحده لا بفضل علي ولا غيره.

وأنه لو لم يخلق على بن أبي طالب، أو لم

ص: 36

يكن في جيش رسوله في حنين لما قتل رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم ولا زال دين الله من الأرض، ولا هلكت الأمم والشعوب، ولوَفَّى الله تعالى بوعده لرسوله بنصره على أعدائه كلهم.

لو أقسم السني المحب لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القسم الموافق لكتاب الله وسنة رسوله وللتاريخ الصحيح وللمعقول من سنن الاجتماع، لكان قسمه أبر وأصدق وأرضى لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعلي عليه السلام والرضوان من قسم ذلك الشيعي على جهله وتعصبه المخالف لكل ما ذكر {ومن يضلل الله فما له من هاد} .

***

(1) هذا التعبير على حد ((لو لم يخف الله لم يعصمه)) . (ر)

ص: 37

فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

في آية الغار من القرآن

(وأحاديث الهجرة)

قد رأيت رأيت أيها القارئ ما اجترحه أحد علماء الشيعة المعاصرين في جبل عامل من تحريف القرآن غلواً في إطراء علي - كرم الله وجهه - والطعن في جميع الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وخاصة عمر بن الخطاب فاتح الممالك والأمصار، ومقيم دعائم ملك الإسلام على أمتن أساس.

وإنني أذكر لك هنا ما اجترحه سلف هذا الرافضي المتقدمون من تحريف آية الغار - التي فضل الله بها الصديق الأكبر على جميع المؤمنين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَعْلِهِمْ إياها مع أحاديث الهجرة الدالة على تفضيل رسول الله إياه على جميع المؤمنين: دالين على القدح والذم.

بعد أن أنقل لك جل ما كتبته في تفسير الآية من

ص: 38

تفسير المنار لتعلم ما نشأ عليه هؤلاء الغلاة من الجهل والإلحاد في آيات الله، والعبث بكتاب الله وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وتاريخ الإسلام.

وهو:

قال عز وجل {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا} أي إلا تنصروا الرسول الذي استنفركم في سبيل الله على من أرادوا قتاله من أولياء الشيطان فسينصره الله بقدرته وتأييده كما نصره إذ أجمع المشركون على الفتك به، وأخرجوه من داره وبلده، أي: اضطروه إلى الخروج والهجرة ولولا ذلك لم يخرج.

وقد تكرر في التنزيل ذكر إخراج المشركون للرسول وللمؤمنين المهاجرين من ديارهم بغير حق، وليس المراد منه أنهم تولوا طردهم وإخراجهم مجتمعين ولا متفرقين، فإن أكثرهم خرج مستخفياً كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه رضي الله عنه.

أو تقدير الكلام: {إلا تنصروه} فقد أوجب الله له النصر في كل حال وكل وقت، حتى نصره في ذلك الوقت الذي لم يكن معه جيش ولا أنصار منكم، بل حال كونه {ثاني اثنين} أي: أحدهما؛ فإن مثل هذا التعبير لا يعتبر فيه

ص: 39

الأولية الأولوية؛ لأن كل واحد منهما ثان للآخر ومثله ثالث ثلاثة ورابع أربعة، لا معنى له إلا أنه واحد من ثلاثة أو أربعة به تم هذا العدد، على أن الترتيب فيه إنما يكون بالزمان أو المكان وهو لا يدل على تفضيل الأول على الثاني ولا الثالث أو الرابع على من قبله. (1)

وسيأتي في حديث الشيخين (ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟){إذ هما في الغار} أي: في ذلك الوقت الذي كان فيه الاثنان في الغار المعروف عندكم، وهو غار جبل ثور {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} أي: إذ كان يقول لصاحبه الذي هو ثانيه وهو أبو بكر الصديق (رض) حين رأى منه أمارة الحزن والجزع؛ أو كلما سمع منه كلمة تدل على الخوف والفزع {لا تحزن} الحزن انفعال نفسي اضطراري يراد بالنهي عنه مجاهدته وعدم توطين النفس عليه، والنهي عن الحزن - وهو تألم النفس مما وقع - يستلزم النهي عن الخوف مما يتوقع.

وقد عبر عن الماضي بصيغة الاستقبال {يقول} للدلالة على التكرار المستفاد من بعض الروايات، ولاستحضار صورة ما كان في ذلك والمكان ليتمثل المخاطبون

(1) أي أنه عندما يقال: (ثاني اثنين، ثالث ثلاثة، رابع أربعة

) إلخ، فإن المعنى يكون: واحد من اثنين، وواحد من ثلاثة، وواحد من أربعة، وهذا المعنى هو ما نص عليه المفسرون لآية الغار بل نص عليه مفسرون من الشيعة كالطباطبائي في الميزان وغيره، وانظر: لسان العرب لابن منظور 14 / 115، ترتيب إصلاح المنطق لابن السكيت ص 393.

ص: 40

ما كان لها من عظمة الشأن، وعلل هذا النهي بقوله {إن الله معنا} أي: لا تحزن؛ لأن الله معنا بالنصر والمعونة، والحفظ والعظمة، والتأييد والرحمة، ومن كان الله معه بعزته التي لا تغلب، وقدرته التي لا تقهر، ورحمته التي قام ويقوم بها كل شيء، فهو حَقِيقٌ بأن لا يستسلم لحزن ولا خوف.

وهذا النوع من المعية الربانية أعلى من معيته سبحانه للمتقين والمحسنين في قوله {واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (128) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} والفرق بينهما: أن المعية في آية سورة النحل لجماعة المتقين المجتنبين لما يجب تركه والمحسنين لما يجب فعله، فهي معية بوصف مشتق هو مقتضى سنة الله في عالم الأسباب لكل من كان كذلك، وإن كان الخطاب في النهي عن الحزن قبلها للرسول صلى الله عليه وسلم .

وأما المعية هنا فهي لذات الرسول وذات صاحبه غير مقيدة بوصف هو عمل لهما، بل هي خاصة برسوله وصاحبه من حيث هو صاحبه، مكفولة بالتأييد بالآيات وخوارق العادات وكبير العنايات، إذ ليس المقام

ص: 41

بمقام سنن الله في الأسباب والمسببات، التي يُوَفِّقُ لها المتقين والمحسنين المتقنين للأعمال.

يعلم هذا التفاوت بين النوعين من الحق الواقع - إن لم يعلم من اللفظ وحده -، وهي من قبيل قوله تعالى لموسى وهارون إذ أرسلهما إلى فرعون فأظهرا الخوف من بطشه بهما {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} .

وقد كان خاتم النبيين أكمل منهما، إذ لم يخف من قومه الخارجين في طلبه للفتك به كما سنذكره، وكان للصديق الأكبر أسوة حسنة بهما إذ خاف على خليله وصفيه الذي شرفه الله في ذلك اليوم الفذ بصحبته، وإنما نهاه صلى الله عليه وسلم عن الحزن لا عن الخوف، ونهى الله موسى وهارون عن الخوف لا عن الحزن؛ لأن الحزن تألم النفس من أمر واقع وقد كان نهيه صلى الله عليه وسلم إياه عنه في الوقت الذي أدرك المشركون فيه الغار بالفعل.

روى البخاري [3653] ومسلم [2381] وغيرهما من حديث أنس قال: حدثني أبو بكر قال: ((كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه، فقال عليه الصلاة

ص: 42

والسلام: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)) .

وأما الخوف فهو انفعال النفس من أمر متوقع، وقد نهى الله رسوليه عنه قبل وقوع سببه، وهو لقاء فرعون ودعوته إلى ما أمرهما به، والنهى عن الحزن يستلزم النهي عن الخوف كما تقدم.

وقد كان الصديق خائفاً وحزناً كما تدل عليه الروايات، وهو مقتضى طبع الإنسان. (1)

وحاصل المعنى: {إلا تنصروه} بالنفر لما استنفركم له فإن الله تعالى قد ضمن له النصر، فهو ينصره كما نصره في ذلك الوقت الذي اضطره المشركون فيه بتألبهم عليه واجتماع كلمتهم على الفتك به، في ذلك الوقت الذي كان فيه ثاني اثنين في الغار، أَعْزَلَيْن غَيْرَ مستعدَّيْن للدفاع؛ وكان صاحبه فيه قد ساوره الحزن والجزع (2) ، في ذلك الوقت الذي كان يقول له فيه وهو آمن مطمئن بوعد الله وتأييده ومعيته الخاصة {لا تحزن إن الله معنا} فنحن غير مكلفين بشيء من الأسباب أكثر مما فعلنا من استخفائنا هنا.

وقد بينا في الكلام على غزوة بدر من تفسير سورة الأنفال المقارنة بين حالي الرسول

(1) لم يرد في الآية الكريمة أن أبا بكر رضي الله عنه كان خائفاً، وإنما ورد فيها ذكر الحزن - والحزن غير الخوف - ولكن حتى لو افترضنا أنه كان خائفاً كما أشار إليه المؤلف، بل لو فرضنا أن التعبير جاء بلفظ (لا تخف) دون {لا تحزن} فليس في ذلك من عيب أو قدح؛ فإن الخوف انفعال نفسي طبيعي لا عيب فيه لذاته، وإنما يُذم إذا زاد عن حده، أو اقترن به ما يشين، وإلا فكل إنسان يخاف حتى الأنبياء عليهم السلام كما أخبر الله تعالى عن موسى بقوله {ففررت منكم لما خفتكم} ، وقوله {ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون} ، وقوله {يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون} ، وكما خاطبت الملائكة لوطاً {لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك} وغيرها من الآيات، كما أن قول النبي {لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} لا يبقي للخوف قدحاً ما دام أن الله مع الخائف. فيكون كقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام {لا تخافا إنني معكما} كما أشار إلى ذلك المؤلف رحمه الله.

(2)

هذا الوصف - أعني بالجزع - لا يخلو من مبالغة - قد تكون غير مقصودة -؛ إذ أن الجزع في اللغة هو انعدام الصبر وضعف المرء عن تحمل ما ينزل به، وكل ذلك لم يكن، وأبو بكر كان لا يرضى بأن يُقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش هو، بل كان يختار مسارعاً أن يفديه بنفسه وأهله وماله، وكان مشفقاً على النبي صلى الله عليه وسلم أن يشعر به المشركون، فيصيبوه بمضرّة، أو يرجعوه إلى مكة، وقد أخرج الإمام أحمد في فضائل الصحابة (1 / 74 رقم: 22) بسند صحيح إلى ابن أبي مليكة - وهو تابعي فقيه ثقة رأى ثمانين من الصحابة - قال: (لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم خرج معه أبو بكر فأخذ طريق ثور، فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما لك؟)) قال: يا رسول الله أخاف أن تؤتى من خلفك فأتأخر، وأخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم، قال: فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر: يا رسول الله كما أنت حتى أقمه. .) إلخ.

ص: 43

الأعظم والصديق الأكبر هنالك، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستغيث ربه، ويستنجزه وعده، وكان الصديق رضي الله عنه يسليه ويهون الأمر عليه، على خلاف حالهما في الغار، وأثبتنا أن حاله صلى الله عليه وسلم في الموضعين كان الأكمل الأفضل؛ إذ أعطى حال الأخذ بسنن الله في الأسباب والمسببات في بدر حقه، وأعطى حال المتوكل المحض في الغار حقه (1) .

فتكرار الظرف (إذ) في المواضع الثلاثة مبدلاً بعضها من بعض في غاية البلاغة، به يتجلى تأييده تعالى لرسوله أكمل التجلي (2) ، فهو يذكرهم بوقت خروجه صلى الله عليه وسلم مهاجراً مع صاحبه بما كان من قريش من شدة الضغط والاضطهاد، وقد تقدم تفصيله في تفسير {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} من سورة الأنفال، وسيعاد مختصراً في هذا السياق.

ويتلوه تذكيرهم بإيوائه مع صاحبه إلى الغار

(1) راجع تفسير 8: 9 (إذ تستغيثون ربكم) في ص 602 - 605 - 9 تفسير. (ر)

(2)

تأتي (إذ) في القصص القرآني لتجعل السامع في قلب الحدث، وتطوي كثيرا من الأحداث لتقتنص منها حدثا بعينه فتدل أن بين هذه الأحداث المذكورة أحداثا أخرى لكن السياق قصد إلى حدث بعينه لمناسبته سياق السورة أو للتعقيب عليه، وللاستزادة يُراجع ما كتبه الدكتور أحمد مختار البزرة في تحليل سورة الأنفال وانظر تحليله لوظيفة (إذ) في سياق السورة في كتابه (في إعجاز القرآن، دراسة تحليلية لسورة الأنفال المحتوى والبناء) .

ص: 44

لا يملكان من أسباب الدفاع عن أنفسهما شيئاً.

ثم يخص بالذكر وقت قوله لصاحبه {لا تحزن إن الله معنا} أي: أنه كان هو الذي يسلي صاحبه ويثبته، لا أنه كان يتثبت به، وهكذا كان شأنه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في كل وقت يشتد فيه القتال أيضاً.

وكون سبب ذلك وعلته إيمانه الأكمل بمعية الله عز وجل الخاصة، فالعبرة لهم في هذه الذكريات الثلاث أن الله تعالى غني عن نفرهم مع رسوله بقدرته وعزته، وإن رسوله صلى الله عليه وسلم غني عن نصرهم له بنصره عز وجل وتأييده، وبقدرته على تسخير غيرهم له من جنوده وعباده؛ وقد بين تعالى أثر ذلك وعاقبته بقوله {فأنزل الله سكينته عليه} أخرج ابن أبي حاتم [سورة التوبة، رقم: 1096] ، وأبو الشيخ وابن مردويه (1) ، والبيهقي في الدلائل [في الدلائل 2/482]، وابن عساكر في تاريخه [30 / 88] عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {فأنزل الله سكينته عليه} قال:((على أبي بكر (2) ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة معه)) . (3)

وأخرج الخطيب في تاريخه [4 / 345] عن حبيب بن أبي ثابت {فأنزل الله سكينته} قال: ((على أبي بكر (4) ، فأما النبي فقد كانت عليه السكينة)) .

(1) انظر: الدر المنثور 4/207.

(2)

في الطبعة الأولى للكتاب: ((قال علي بن أبي بكر)) وهو خطأ - لعله مطبعي - مخالف لما في مصادر التخريج المذكورة أعلاه.

(3)

إسناد هذا الأثر ضعيف، فيه علي بن مجاهد بن مسلم الكابلي، قال عنه ابن حجر في التقريب:((متروك)) ، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره 4/96 هذا الأثر عن ابن عباس تعليقا بصيغة التمريض.

(4)

تكرر في الطبعة الأولى للكتاب قوله: ((قال علي بن أبي بكر)) وهو خطأ كما في مصادر التخريج المذكورة أعلاه.

ص: 45

وقد أخذ بهذه الرواية بعض مفسري اللغة والمعقول (1) ووضحوا ما فيها من التعليل بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحدث له وقتئذ اضطراب ولا خوف ولا حزن، وقواها بعضهم بأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور وهو الصاحب، وليس هذا بشيء.

وذهب آخرون إلى أن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن إنزال السكينة عليه لا يقتضي أن يكون خائفاً أو مضطرباً أو منزعجاً، وهذا ضعيف لعطف إنزال السكينة على ما قبلها بالفاء الدال على وقوعه بعده وترتيبه عليه، وإن نزولها وقع بعد قوله لصاحبه {لا تحزن} ولكنهم قووه بأن ما عطف عليه من قوله {وأيده بجنود لم تروها} لا يصح إلا للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد بهؤلاء الجنود الملائكة، لأن الأصل في المعطوفات التعانق وعدم التفكك. (2)

وأجاب عنه الآخذون بقول ابن عباس ومجاهد:

أولاً: بأن التأييد بالجنود معطوف على قوله {فقد نصره الله} لا على {فأنزل الله سكينته} .

وثانياً: بأن تفكك الضمائر لا يضر إذا كان المراد من كل منها ظاهراً لا اشتباه فيه.

(1) انظر: زاد المسير لابن الجوزي (3 / 179) ، تفسير الفخر الرازي (ج 16، ص 56) .

(2)

ويمكن التوفيق بين القولين بما اختاره بعض المحققين وهو أن الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى صاحبه تبعا له، فهو الذي أنزلت عليه السكينة وهو الذي أيده الله بالجنود وسرى ذلك إلى صاحبه تبعاً، إذ أنه ما دامت السكينة قد نزلت؛ فلا بد أنها نزلت على قلب أصابه الحزن، كما أن قول النبي صلى الله عليه وسلم {لا تحزن إن الله معنا} يجعل السكينة تنزل على قلب أبي بكر ولا بد، والله أعلم، وهو ظاهر اختيار المؤلف رحمه الله كما سيأتي بعد قليل. وانظر: منهاج السنة 8 / 489 - 492، بدائع الفوائد لابن القيم ص 112.

ص: 46

وثالثاً: بأنه لا مانع من جعل التأييد لأبي بكر، نقله الألوسي [روح المعاني 10 / 98 ط: التراث] وقال: ((كما يدل عليه ما أخرجه ابن مردويه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: ((إن الله تعالى أنزل سكينته عليك وأيدك..)) إلخ. (1)

وقال بعض المفسرين: إن المراد بهذه الجنود ما أيده الله تعالى به يوم بدر والأحزاب وحنين.

وقال بعضهم: بل المراد أنه أيده بملائكة في حال الهجرة يسترونه هو وصاحبه عن أعين الكفار ويصرفونها عنهما فقد خرج من داره والشبان المتواطئون على قتله وقوفٌ ولم ينظروه، وإننا نرجع إلى سائر ما في التنزيل من ذكر إنزال السكينة والتأييد بالملائكة لنستمد منها فهم ما في هذه الآية.

أما إنزال السكينة فذكر في ثلاث آيات فقط:

(أولاها) الآية الرابعة من سورة الفتح.

(والثانية) الآية السادسة والعشرون منها.

وكان نزول السورة بعد صلح الحديبية الذي فتن فيه المؤمنون واضطربت قلوبهم بما ساءهم من شروطه التي عَدُّوها إهانة لهم وفوزاً للمشركين وأمرها مشهور، فكان

(1) لم أقف على حديث أنس رضي الله عنه هذا مُسنداً ولم أقف على كلام لأهل العلم فيه، وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور (4 / 207) عن ابن مردويه ولكن بغير اللفظ الذي نقله المصنف عن الآلوسي وهو قوله:((وأيدك..)) ، وإنما فيه:((وأيدني بجنود لم تروها)) .

ص: 47

من عناية الله تعالى بهم أن ثبت قلوبهم ومكنهم من فتح خيبر وأنزل سورة الفتح مبيناً فيها حكم ذلك الصلح وفوائده وامتن بذلك على رسوله وعليهم بقوله {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} إلى قوله {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليماً حكيما} فهذه سكينة خاصة بالمؤمنين، بَيَّنَ حكمتها العليم الحكيم وفيها إشارة إلى جنود الملائكة لا تصريح.

ثم قال بعد ما تقدمت الإشارة إليه من حِكَم ذلك الصلح، وما أعقبه من الفتح {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما} . (1)

الأشهر في تفسير هذه الحمية أنها ما أباه المشركون في كتاب الصلح من بدئه بكلمة بسم الله الرحمن الرحيم ومن وصف محمد صلى الله عليه وسلم فيه برسول الله (2) وتعصبهم لما كان من عادة الجاهلية، وهو باسمك اللهم، وهذا مما ساء رسول الله

(1) بين الله تعالى في هذه الآية أنه ألزم الصحابة رضي الله عنهم كلمة التقوى، وأكثر المفسرين أن المراد بكلمة التقوى هي (لا إله إلا الله) وبين أنهم أحق بها من كفار قريش، وأنهم كانوا أهلها في علم الله لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير. وانظر: تفسير الطبري (26/103-106) .

(2)

كما في صحيح البخاري (2731 و2732) من حديث عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه ومروان: ((وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت)) .

ص: 48

صلى الله عليه وسلم بلا شك، كما ساءه كراهة جمهور المسلمين الأعظم لهذا الصلح، ولكنه لم يكن ليضيع بذلك صلحاً عظيماً كان أول فتح لباب حرية دعوة الإسلام في المشركين، بوضع الحرب عشر سنين، فأنزل الله سكينته عليه وألهمه قبول شروطهم، وأنزلها على المؤمنين بعد أن هموا بمعارضته صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالتحلل من عمرتهم فتلبثوا حتى خشي عليهم الهلاك واستشار في ذلك زوجه أم سلمة فأشارت عليه بأن يخرج إليهم ويأمر حلاقه بحلق شعره ففعل، فاقتدوا به بما أنزل الله عليهم من سكينته.

والآية الثالثة: هي ما تقدم في هذه السورة في سياق غزوة حنين، إذ راع المسلمين رشق المشركين إياهم بالنبل فانهزم المنافقون والمؤلفة قلوبهم واضطرب جمهور المسلمين بهزيمتهم فولوا مدبرين، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه الكفار مع عدد قليل صار يكثر بعلمهم بموقفه، وقد حزن قلبه لتوليهم {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها} وما العهد بتفسيرها ببعيد.

فهذه سكينة مشتركة

ص: 49

بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، سكن بها ما عرض له صلى الله عليه وسلم من تأثير هزيمتهم، وسكن ما عرض لهم من الاضطراب لهزيمة المنافقين والمؤلفة قلوبهم كما تقدم.

وأما ذكر الجنود التي وصفها تعالى بقوله (لم تروها) فقد جاء في هاتين الآيتين من سورة براءة، أي آية غزوة حنين وآية الغار من سياق الهجرة، وجاء في الكلام على غزوة الأحزاب من السورة التي سميت باسمها وهو {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً} وقد كانت هذه الجنود والجنود التي أرسلت في يوم حنين لتخذيل المشركين وتأييد المؤمنين، وفي معناها قوله تعالى في الكلام على غزوة بدر {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} فهذه الملائكة نزلت لإلقاء الرعب في قلوب المشركين وتأييد المؤمنين وتثبيت قلوبهم، كما بينه تعالى بقوله {وما جعله

ص: 50

الله إلى بشرى لكم ولتطمئن به قلوبكم} إلى قوله {إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} وراجع تفسير السياق (في ص 607 - 614 ج 9 تفسير) وفيه ذكر آيات سورة آل عمران التي نزلت في الكلام على غزوة أحد.

فإذا كانت الملائكة في هذه المواقع كلها نزلت لتأييد المؤمنين على المشركين وتخذيل هؤلاء، وكان النائبُ عن جميع المؤمنين والحالّ محلهم في خدمة رسوله يوم الهجرة هو صاحبه الأول الذي اختاره عليهم كلهم في ذلك اليوم العظيم، فأي بُعْدٍ في أن يكون التأييدُ المرافقُ لإنزال السكينة له لحلوله محلهم كلهم.

ومن المعلوم أنه لم يكن له هذا إلا بالتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن جميع ما أيد به تعالى سائر أصحاب رسوله في جميع المواطن كان تأييداً له وتحقيقاً لما وعده الله تعالى من النصر على جميع أعدائه، وإظهار دينه على الدين كله، ولذلك قال

ص: 51

{وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} .

في الآية احتمالان:

أحدهما: أن يكون المراد بكلمة الذين كفروا كلمة الشرك والكفر. وبكلمة الله كلمة التوحيد، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما (1) وعليه أهل التفسير المأثور.

ووجهه: أن عداوة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت لأجل دعوته إلى التوحيد الخالص من جميع شوائب الشرك وخرافات الوثنية ولذلك قام أبو سفيان عند ظهور المشركين في أحد فقال رافعاً صوته ليسمع المسلمون: (أُعْلُ هُبَل! أُعْلُ هُبَل!) وهبل صنمهم الأكبر، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يجاب:((الله أعلى وأجل)) . (2)

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((سئل عن الرجل يقاتل غضباً وحمية ويقاتل رياء - وفي رواية: للمغنم وللذكر - أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) . (3)

والاحتمال الثاني: أن يكون المراد بكلمة الذين كفروا ما أجمعوه بعد التشاور في دار الندوة من الفتك به صلى الله عليه وسلم والقضاء على دعوته، وهو ما تقدم في سورة الأنفال من قوله تعالى {وإذ يمكر بك الذين كفروا} إلخ، ويكون المراد بكلمة الله: ما قضت

(1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6 / 1801، رقم: 10351) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (1 / 272، رقم: 206) وهو صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري (4043)، وانظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/392)

(3)

أخرجه البخاري (2810) ، ومسلم (1904)

ص: 52

به إرادته ومضت به سنته من نصر رسله وبينه في مثل قوله {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون} وقوله {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} فهذه كلمة الله الإرادية القدرية التي كان من مقتضاها وعده لرسوله الأعظم بالنصر.

وفسر بعضهم كلمته هنا: بما وعده من إحباط كيدهم، ورد مكرهم في نحورهم، وهو قوله في تتمة الآية {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} .

وما قلناه هو الأصل والقول الفصل وهذا مبني عليه. (1)

وقد قرأ الجمهور {وكلمةُ الله} بالرفع (2) لإفادة أنها العليا المرفوعة بذاتها لا بجعل وتصيير، ولا كسب وتدبير، وقرأها يعقوب بالنصب (3) .

والمراد من القراءتين معاً: أنها هي العليا بالذات ثم بما يكون من تأييد الله لأهلها القائمين بحقوقها بجعلهم بها أعلى من غيرهم، كما قال {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} وبجعلها بهم ظاهرة بالعلم والعمل، تعلو كل ما يخالفها عند غيرهم.

فإن كان المراد بها ما تعلقت به إرادته تعالى ومضت به سنته من نصر رسله وإظهار دينه (وهي كلمة التكوين) فالأمر ظاهر؛ لأن

(1) وأما الغلاة فقد أبعدوا النجعة كالعادة، حيث نسبوا إلى أهل البيت أن المراد بكلمة الكفر: هو (أبو بكر) كما في عدة روايات نقلها صاحب كتاب الشهاب الثاقب الشيخ الاثنا عشري عالم سبيط النيلي ص 60 - 63، ولا شك بأن هذا القول من أبطل الباطل؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم {يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا} ، وهؤلاء القوم يجعلون صاحبه هو كلمة الذين كفروا، فهل يقول عاقل بأن الله يكون مع {كلمة الذين كفروا} ، التي جعلها ووصفها بأنها {السفلى} ؟!

(2)

انظر: النشر لابن الجزري (2 / 37) ، التذكرة في القراءات الثمان ص 205.

(3)

قرأها يعقوب الحضرمي {وكلمةَ} منصوبة بخلافٍ عنه، وكذلك قرأها الحسن والأعمش وقتادة وغيرهم. انظر: معجم القراءات لأستاذنا د. عبد اللطيف الخطيب.

ص: 53

ما تتعلق مشيئته تعالى به كائن لا محالة، لا يوجد ما يعارضه فيعلو عليه أو يساويه.

وكذلك إن أريد بها الخبر الإلهي بهذا النصر والوعد به - الذي هو بيان لهذه السنة التي هي من متعلقات صفة الإرادة - بناء على أنه مما أوحاه إليهم، ومنه قوله تعالى {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا..} إلخ {قوله الحق..} ، {ولن يخلف الله وعده} .

والخبر والوعد من متعلقات صفة الكلام، فكلمة التكوين الإرادية وكلمة التكليف الخبرية متحدتان في هذا الموضوع.

وأما على القول بأن المراد بها كلمة التوحيد أو دينه تعالى المبني على أساس توحيده فالنظر فيها من وجهين:

(أحدهما) : مضمون الكلمة في الواقع وهو وحدانيته تعالى، وهذه حقيقة قطعية قامت عليها البراهين، وكذا إن أريد بها هذا الدين عقائده وأحكامه وآدابه - إذ يقال: إنه كلمة التكليف أو كلماته - فهذه من حيث كونها من متعلقات صفة الكلام الإلهية لها صفة (العليا) بياناً وبرهاناً وحكمة ورحمة وفضلاً، ولابد من تمامها صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، كما قال تعالى في سورة الأنعام {وتمت كلمة

ص: 54

ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} .

و (الوجه الثاني) : إقامة المكلفين لها بمعنييها، وهي تختلف باختلاف أحوالهم في العلم والإيمان والأخلاق وما يترتب عليها من الأعمال، فمن هذا الوجه قد تخفى علويتها على الناس في بعض الأحيان؛ إذ ينظرون إليها في صفات المدعين لها وأعمالهم، لا في ذاتها، وقد يكون هؤلاء غير قائمين بها ولا مقيمين لها.

ومن عجائب ما روي لنا من إدراك بعض الإفرنج لعلوية كتاب الله تعالى بسعة علمه وعقله أن عاهل الألمان الأخير قال لشيخ الإسلام في الحكومة العثمانية لما زار الاستانة في أثناء الحرب الكبرى: يجب عليكم - وأنتم دولة الخلافة الإسلامية - أن تفسروا هذا القرآن تفسيراً تظهر به علويته!!

كما أدرك هذه العلوية الوليد بن المغيرة من كبراء مشركي قريش بذكائه ودقة فهمه وبلاغته إذ كان مما قاله فيه: ((وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته)) . (1)

وراجع ما قلناه في تفسير {ليظهره على الدين كله} من هذه السورة وما هو ببعيد.

وأما كلمة الذين كفروا فقد كانت لا مقابل ولا معارض لها قبل الإسلام من حيث القيام بها لتوصف بالوصف اللائق بها

(1) أخرجه الحاكم في المستدرك بسند صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما انظر: صحيح السيرة للألباني ص 158.

ص: 55

وهو السفلية.

سواء أريد بها كلمة الشرك أو كلمة الحكم، فقد كان لأهلها السيادة في بلاد العرب حتى مكة المكرمة، ودنسوا بيت الله بأوثانهم فأذل الله أهلها وأزال سيادتهم بظهور الإسلام بعد كفاح معروف.

وإن أريد بها تقريرهم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فالأمر ظاهر أيضاً، وكل من الأمرين حصل بجعل الله وتدبيره ثم بكسب المؤمنين وجهادهم.

وأما كلمة الكفر في نفسها، وبصرف النظر عن تلبس بعض الشعوب أو القبائل بها، فلا حقيقة لها، أعني أن الشرك لا حقيقة لمضمونه في الوجود وإنما هو دعاوى لفظية صادرة عن وساوس شيطانية خيالية، كما قال تعالى {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} .

وقد ضرب الله المثل للكلمتين وأثرهما في الوجود قوله في سورة إبراهيم عليه السلام {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (28) ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها

ص: 56

من قرار (29) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} .

وقد ختم الله هذه الآية بقوله {والله عزيز حكيم} العزيز الممتنع الغالب والله هو الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، والحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، وقد نصر رسوله بعزته، وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته، وأذل كل من ناوأه وناوأ المتقين من أمته.

وإننا نقفي على تفسير هذه الآيات بكلمات تزيدها بياناً، وتزيد الذين آمنوا بالله ورسوله إيماناً، وتزيد المبتدعين المحرفين لكلام الله تعالى خزياً وخذلاناً، ثلاث كلمات:

1 -

كلمة في خلاصة ما صح من خبر الهجرة وصفة الغار.

2 -

وكلمة فيما تضمنته الآية وأخبار الهجرة من مناقب الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

3 -

وكلمة في دحض شبهات الروافض، بل مفترياتهم في تشويه هذه المناقب، وتحريف كلمات الله وأخبار الرسول عن مواضعها {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} .

***

ص: 57